الجمعة أكتوبر 18, 2024

ذِكرُ أحداثِ السَّنَةِ الخامِسةِ للهِجرةِ

285-        

………………………… وَفِيهِ نَزَلَتْ

 

ءَايُ الحِجَابِ وَالخُسُوفُ صُلِّيَتْ

281-        

لِقَـمَـرٍ وَفِـيـهِ غَـزْوُ الخَـنْـدَقِ

 

مَـعَ قُرَيْظَـةٍ مَـعَ الْمُصْـطَـلِـقِ

282-        

عَلَى الصَّـحِـيـحِ وَبِهَا جُـوَيْـرِيَـهْ

 

بَـنَـى بِهَا وَالإِفْـكُ أَوْ فِي الآتِـيَـهْ

 
















(وَفِيهِ) أي العامِ الخامِسِ مِن الهِجرةِ (نَزَلَتْ ءَايُ) أي ءاياتُ (الحِجَابِ) فقَد روَى البخاري في «صحيحه» عَن أَبِي قِلاَبَة عَن أَنَسٍ رضي الله عنه قال: أَنَا أَعلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ ءايَةِ الحِجَابِ: «لَمَّا أُهدِيَت زَينَبُ بِنتُ جَحشٍ رَضِيَ الله عَنهَا إِلَى رَسُولِ الله ﷺ كَانَت مَعَهُ فِي البَيتِ، صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا القَومَ فَقَعَدُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَخرُجُ ثُمَّ يَرجِعُ وَهُم قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ، فَأَنزَلَ الله تَعَالَى: ﱡﭐ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ إلَى قَولِه: ﲲ ﲳ ﲴ فَضُرِبَ الحِجَابُ وَقَامَ القَومُ». وَلا نِزاع في أنّ الحُكم النازل في ءاية الحِجاب بتَغطيةِ الوَجه كان خاصًّا بنساء النبيّ

ﷺ وليس عامًّا في جميع النِّساء، وفي وقتِ نُزولِها قَولانِ ءاخَران: كانَ سنة  أربعٍ، وقيل: سنةَ ثلاثٍ أيضًا، وليس فوق الخمسِ شىءٌ على ما ذكره الحافظ في «الفتح» بعد الكلامِ على غزوةِ ذاتِ الرِّقاع([1])، فسَبَق نزولُ فرضِيّة تغطية الوجه على نساء النبيّ خاصَّةً حَجَّةَ الوداع بخَمسِ سنين تقريبًا على أقلّ تقدير في ذلك، وفي حَجّةِ الوداعِ ظَهَرَتِ المرأةُ الخثعَمِيّةُ الجميلةُ كاشفةَ الوَجهِ بمِنًى يومَ النّحرِ تسألُ النّبِيَّ ﷺ عن بعضِ أحكامِ الدِّينِ فطَفِق الفَضلُ بنُ العبّاس ينظر إليها وأعجَبَهُ حُسنُها فعَدَل النَّبِيُّ ﷺ وَجْه الفَضلِ عن النَّظرِ إليها ولم يأمُرْها ﷺ بتغطيةِ وجهِها.

قالَ الحافِظانِ ابنُ بَطّالٍ([2]) والعسقلانيُّ([3]): “وفيه دليلٌ على أنّ نساء المؤمنين ليس عليهِنَّ من الحجاب ما يَلزمُ أزواجَ النَّبِيّ ﷺ، إذ لو لَزِم ذلك جميع النِّساء لأَمَر النبِيُّ ﷺ الخثعمِيّةَ بالاستِتار ولَمَا صرَف وَجهَ الفَضلِ. وفيه دليلٌ على أنّ سَتْر المرأة وجهَها ليس فرضًا لإجماعهم على أنّ لِلمرأةِ أنْ تُبْدِيَ وَجْهَها في الصلاة ويراهُ منها الغُرَباء، وأنَّ قولَه: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ على الفَرضِ في غيرِ الوجه، وأنّ غَضَّ البَصَر عن جميع المحرَّمات وكلِّ ما يُخشى منه الفِتنةُ واجِبٌ” اهـ . فبَطَل بذلكَ قول القائل: “سكوتُ النبيّ على كشفِ الخَثْعَمِيَّةِ وَجْهَها كان إمّا لأجل الإحرامِ أو لأنَّ ءاية الحجاب كانت ما نَزَلَتْ بَعدُ”.

قال أبو حيّان الأندلسيُّ في «البحر المُحيط» ما نصُّه: “وﱡﭐ في ﱱ ﱲ عندَ

الأخفَشِ زائِدةٌ([4]) أي يَغُضُّوا أبصارَهم عَمَّا يَحرُم، وعند غَيرِه للتّبعيضِ وذلك أنَّ أَوَّل نَظرةٍ لا يَملِكُها الإنسانُ وإنَّما يَغُضُّ فيما بَعد ذَلِك”([5]) اهـ.

والنّظرةُ الأُولى هيَ الّتي يَقَع نظُرُها فيها مِن غيرِ قَصدٍ بغيرِ شَهوةٍ على موضِعٍ لا يَحِلُّ نظَرُه إليهِ فيَصرِفُ نظرَه وُجوبًا ولا يَجوزُ له إدامةُ النَّظَرِ، أمّا إنْ وقَعَ نظَرُه على غيرِ العَورةِ فإنْ كان بلا شَهوةٍ جازَ له النظَرُ وإلّا لَم يَجُزْ، فإنْ تغَيَّرَتْ نِيّتُه إلى الحَرامِ وجَبَ عليه صَرفُ نظَره فورًا.

ذِكرُ أحداثِ السَّنَةِ الخامِسةِ للهِجرةِ

(وَ)كانَ أيضًا في العامِ الخامسِ مِن الهِجرةِ (الخُسُوفُ) أي خسوفٌ (لِقَمَرٍ) فنزلَتْ مشروعيّةُ الصّلاةِ للخُسوفِ فـ(ـصُلِّيَتْ) أي صلَّاها رسولُ الله ﷺ بأصحابه حتَّى انجَلَى القَمَرُ، وصارتِ اليهودُ تَضْرِبُ بالطِّساس([6]) ويقولونَ: “سُحِرَ القَمَرُ”([7]). والمشهورُ

في استعمالِ الفقهاء أنّ الكسوفَ للشَّمْس والخُسوف للقَمر إلّا أنّه يجوزُ تقارُضُهُما فيقال: كسوفُ القمر وخسوفُ الشّمس، كما يجوزُ تغليبُ أحدِهما على الآخَر في التّثنيةِ فيُقالُ: الكُسوفان أو الخُسوفانِ.

(وَفِيهِ) أيِ العامِ الخامسِ مِنهُ كانَ (غَزْوُ الخَنْدَقِ) وهوَ غزوةُ الأحزابِ وذلكَ لاجتِماعِ أحزابِ المُشركِينَ واليَهودِ بها حولَ المدينةِ فأَمَر النبيُّ ﷺ بحَفْرِ خَنْدَقٍ. وهذه الغَزوةُ هي الَّتي ابتَلَى اللهُ فيها عبادَه المؤمنينَ وأظهَر ما كان يُبطِنُه أهلُ النِّفاقِ وفضَحهم وفزَّعَهُم، ثم أنزل الله تبارك وتعالى نَصْرَه ونَصْرَ عَبْدِه وأعَزَّ جُندَه، وهَزمَ الأحزابَ وَحدَه([8])، وردّ الكَفَرة بِغَيظِهم، ووَقَى المؤمنِين شرَّ كَيدِهم، وجعَلَ اللهُ حِزبَ الشيطانِ هم المغلوبِينَ، وجعلَ اللهُ حِزبَه همُ الغالبِين، وسيأتي تفصيلُها في باب الغَزواتِ إن شاء اللهُ تعالَى.

وكانَ وقوعُ غَزوِ الخندَقِ في ذِي القَعدةِ([9]) (مَعَ) وقوعِ غزوةِ (قُرَيْظَةَ) في نَفسِ الشَّهرِ وذلك أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا دَخل المدينةَ في اليوم الذي انصَرَفَ فيه مِن الخندَقِ وضعَ السّلاحَ هو والمؤمنون، فلَمَّا كانَ الظُّهر أتَى جبريلُ النَّبِيَّ ﷺ مُعتَجِرًا([10]) بعِمامةٍ مِن إستَبرَقٍ على بغلة عليها قَطِيفةُ دِيباجٍ([11]) فقال: غَفَرَ اللهُ لكَ أَوَ قَدْ وضعتَ السِّلاحَ يا رسول الله؟ قال: «نَعَم»، فقال جبريلُ: ما وَضعتِ الملائكةُ السِّلاح بَعدُ، إنّ اللهَ يأمرُك يا محمَّد بالمسِير إلى بني قريظةَ، وسيأتي الكلامُ عليها في باب الغَزواتِ إن شاء اللهُ تعالَى.

ووقعَتْ غَزْوتَا الخندقِ وبَنِي قُريظةَ (مَعَ) غَزوةِ بَنِي (الْمُصْطَلِقِ) في نَفسِ العامِ (عَلَى الصَّحِيحِ) وتُسمَّى غَزوةَ المُرَيسِيعِ أيضًا، وبنو المُصطلِقِ حَيٌّ مِن خُزاعةَ، وسببُها أنّهُ بلَغ رسولَ الله ﷺ أنَّ بَنِي المُصطَلِق يُجَمِّعُون له، فلَمَّا سَمِعَ بذلكَ خَرَج إليهم حتى لَقِيَهم على ماءٍ مِن مِياهِهم يُقال له المُرَيسِيعُ مِن ناحية قُدَيدٍ([12]) إلى السّاحِل، فتزاحَفَ النّاسُ واقتَتلوا، فهَزَم اللهُ بَنِي المُصطَلِق وقُتِلَ مَن قُتِل مِنُهم، وسبَى رَسولُ الله ﷺ أبناءَهم ونساءَهم وغَنِمَ أموالَهم، وفي «صحِيحِ البُخاريّ» أنّ النَّبِيَّ ﷺ أغارَ عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ وَهُم غارُّونَ([13])، وَأنْعامُهُم تُسْقَى عَلَى الماءِ، فَقَتَلَ مُقاتِلَتَهُم، وَسَبَى ذَرارِيَّهُم، وسيأتي الكلامُ على ذلكَ في باب الغَزواتِ إن شاء اللهُ تعالَى.      

(وَبِهَا) أي العامِ الخامِس كانَتْ بَرَّةُ ابنةُ الحارثِ بنِ أبي ضِرار مِن خُزاعةَ سيّدِ بَنِي المُصطَلِقِ قد أُسِرَتْ وكُوتِبَتْ مُكاتَبةً، فجاءَتْ إلى النَّبِيّ ﷺ لتَستَعِينَ به على كِتابَتِها فقالت: يا رسولَ الله أنا جُوَيرِيةُ بنتُ الحارثِ وإنه كان مِن أمرِي ما لا يَخفَى عليكَ وإنّي وقعتُ في سهمِ ثابتِ بن قيس وإنّي كاتبتُ على نفسِي وجِئتُك تُعِينُني – وكانت امرأةً مُلّاحةً([14]) تأخذُها العينُ – فأسلَمَتْ فأَدَّى عنها النَّبِيُّ ﷺ وأعتقَها وسمَّاها (جُوَيْرِيَهْ) و(بَنَى بِهَا) وجَعل عِتقَها صَداقَها وهي ابنةُ عِشرينَ سَنةً وقتَئِذٍ، وكانت قبلَ ذلِكَ تحتَ مالِك بن صفوانَ وقيل: مُسافِع بن صفوان فقُتِل يوم الْمُرَيسِيع. توُفِّيَت رضيَ الله عنها وهي ابنة خَمسٍ وسِتّينَ سنةً في شهر ربيعٍ الأول مِن سنةِ سَبعٍ وخمسينَ في خلافة معاوية، وقيل: سنةَ سِتِّين.

خبَرُ حادثةِ الإفْكِ

خبَرُ حادثةِ الإفْكِ

(وَ)كانَ (الإِفْكُ) أي حادثةُ الكَذِبِ والافتِراءِ على السيّدة عائشةَ رضي الله عنها في العامِ الخامِسِ أيضًا (أَوْ) كانَ ذلِكَ (فِي) السَّنةِ (الآتِيَةِ) أي اللّاحِقةِ. وَحادثةُ الإفكِ المشهورةُ هيَ التّي اتَّهَم فيها بعضُ النّاسِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنهَا بالفاحِشةِ وهي مِن ذلِكَ بَراءٌ فأنزَلَ اللهُ تَعالَى بَراءتَها في القُرءانِ الكِريمِ. وقد وَرَد في قِصّة الإفكِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ رواه البُخارِيُّ ومُسلِمٌ وابنُ حِبّانَ في الصِّحاحِ والنَّسائِيُّ في سُنَنه وأحمدُ في المسنَد وغيُرهم، واللَّفظُ للبُخَارِيّ ممزوجًا بشَرحِنا نصُّه:

(قالَت) أُمُّ المُؤمِنِينَ (عائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنها (كانَ رَسُولُ الله ﷺ إِذا أرادَ سَفَرًا أقرَعَ) بِاللَّفظِ (بَينَ أزواجِهِ) فَهُوَ لَم يَكُن يَكتُبُ (فَأيُّهُنَّ) أي مِن نِسائِهِ، وَيُروَى أيضًا “فَأيَّتُهُنَّ” (خَرَجَ سَهمُها) لِلخُرُوجِ (خَرَجَ بِها رَسُولُ الله ﷺ مَعَهُ) وَلَم يَكُن يَقضِي لِلمُقِيماتِ إِذا عادَ، وَلِأنَّهُ لَو كانَ يَقضِي الزَّوجُ لِلمُقِيماتِ دُونَ المُسافِراتِ لَتَوَفَّرَ حَظُّ المُقِيماتِ لِأنَّ المُسافِرَةَ تَحَمَّلَت مَشاقَّ بِإِزاءِ مُقامِ الزَّوجِ مَعَها (قالَت عائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنها (فَأقرَعَ بَينَنا) لِلخُرُوجِ (فِي غَزوَةٍ غَزاها) بِنَفسِهِ وَهِيَ غَزوَةُ بَنِي المُصطَلِقِ وتُسَمَّى غَزوَةَ المُرَيسِيعِ وَكانَت سَنَةَ سِتٍّ مِن الهِجرَةِ (فَخَرَجَ فِيها) أي فِي الخُرُوجِ مَعَهُ فِي هَذِهِ الغَزوَةِ (سَهمِي) عَلَيهِنَّ (فَخَرَجتُ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ بَعدَ ما أُنزِلَ الحِجابُ) أيِ الأمرُ بِالحِجابِ أي حِجابُ نِساءِ النَّبِيِّ عَن رُؤيَةِ الرِّجالِ لَهُنَّ، قالَ تَعالَى: ﱡﭐ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ  ﲕ ﲖ ﲗ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ   وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ السّادِسَةِ أوِ الخامِسَةِ مِنَ الهِجرَةِ، فَأزواجُ الرَّسُولِ كانَ قَبلَ ذَلِكَ يَجُوزُ لَهُنَّ أن يَكشِفنَ وُجُوهَهُنَّ، فَنَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ الوَحيُ بِإِيجابِ فَرضِيَّةِ سَترِ وُجُوهِهِنَّ وَهَذا لِأزواجِهِ فَقَط، وَأمّا غَيرُهُنَّ فَلَم يَفرِضِ اللهُ عَلَيهِنَّ هَذا، فَتَغطِيَةُ الوَجهِ لَيسَ فَرضًا إِلّا عَلَى أزواجِ الرَّسُولِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أنَّهُ قَبلَ أن يُتَوَفَّى الرَّسُولُ بِنَحوِ ثَمانِينَ يَومًا كانَت جاءَتِ امرَأةٌ شابَّةٌ جَمِيلَةٌ مِن مِنًى وَءالافٌ مِنَ المُسلِمِينَ مِنَ الحُجّاجِ كانُوا حاضِرِينَ هُناكَ، فَوَقَفَت أمامَ الرَّسُولِ عَلَيهِ السَّلامُ وَسَألَتهُ عَن مَسألَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالحَجِّ، والرَّسُولُ ما قالَ لَها شَيئًا، فَلَو كانَ كَشفُها لِوَجهِها حَرامًا لَكانَ أنكَرَ عَلَيها. وَقَد حَكَى القاضِي عِياضٌ الإِجماعَ عَلَى أنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى المَرأةِ سَترُ وَجهِها (فَكُنتُ أُحمَلُ فِي هَودَجِي وَأُنزَلُ فِيهِ) والهَودَجُ مَحمِلٌ لَهُ قُبَّةٌ تُستَرُ بالقُماشِ يُوضَعُ عَلَى ظَهرِ البَعِيرِ ويَركَبُ عَلَيهِ النِّساءُ لِيَكُونَ أستَرَ لَهُنَّ مِن كُلِّ الجَوانِبِ (فَسِرنا حَتَّى إِذا فَرَغَ رَسُولُ الله ﷺ مِن غَزوَتِهِ تِلكَ) أي بَنِي المُصطَلِقِ (وَقَفَلَ) أي رَجَعَ مِن غَزوَتِهِ (دَنَونا) أي قَرَبنا (مِنَ المَدِينَةِ) المُنَوَّرَةِ حالَ كَونِنا (قافِلِينَ) أي راجِعِينَ، نَزَلَ مَنزِلًا فَباتَ بِهِ بَعضَ اللَّيلِ ثُمَّ (ءاذَنَ) أي أعلَمَ (لَيلَةً) أي فِي تِلكَ اللَّيلَةِ (بِالرَّحِيلِ) قُدُمًا إِلَى المَدِينَةِ (فَقُمتُ حِينَ ءاذَنُوا) أي أعلَمَ السّامِعُونَ مِن مُنادِي رَسُولِ اللهِ غَيرَهُم (بِالرَّحِيلِ فَمَشَيتُ) مُنفَرِدَةً لِقَضاءِ حاجَةٍ لِي (حَتَّى جاوَزتُ الجَيشَ، فَلَمّا قَضَيتُ شَأنِي) الَّذِي تَوَجَّهتُ بِسَبَبِهِ (أقبَلتُ) راجِعَةً (إِلَى رَحلِي) حَيثُ أُنزِلتُ (فَلَمَستُ صَدرِي، فَإِذا عِقدٌ لِي) أي قِلادَةٌ كانَت فِي عُنُقِي مَصنُوعَةٌ (مِن جَزعِ) أي خَرَزٍ مَنسُوبٍ إِلَى ناحِيَةِ (ظَفارٍ) بِاليَمَنِ، والجَزعُ الظِّفارِيُّ خَرَزٌ مَعرُوفٌ وَفِي سَوادِهِ بَياضٌ كالعُرُوقِ، وَكانَت أُمُّها أُمُّ رُومانَ قَد أدخَلَتها بِهِ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ، تَقُولُ عائِشَةُ: فَإِذا بِهَذا العِقدِ (قَدِ) انسَلَّ مِن عُنُقِي وَ(انقَطَعَ) وَأنا لا أدرِي (فَرَجَعتُ) عَودِي عَلَى بَدئِي إِلَى المَكانِ الَّذِي ذَهَبتُ إِلَيهِ (فالتَمَستُ) أي فَطَلَبتُ (عِقدِي) أبحَثُ عَنهُ (فَحَبَسَنِي ابتِغاؤُهُ) أي مَكَثتُ فِي طَلبِهِ.

(قالَت) عائِشَةُ (وَأقبَلَ الرَّهطُ) وهُو عَدَدٌ مِن ثَلاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ القَومِ وَفِيهِم رَجُلٌ يُقالُ لَهُ أبُو مُوَيهِبَةُ، وَهُمُ (الَّذِينَ كانُوا يُرَحِّلُونِي) أي يَرحَلُونَ بِي (فاحتَمَلُوا هَودَجِي) أي حَمَلُوهُ (فَرَحَلُوهُ) أي وَضَعُوهُ (عَلَى) ظَهرِ (بَعِيرِي الَّذِي كُنتُ أركَبُ عَلَيهِ) فِي هَودَجِي (وَهُم يَحسِبُونَ) أي يَظُنُّونَ (أنِّي فِيهِ) أي فِي الهَودَجِ (وَكانَ النِّساءُ) إِجمالًا (إِذ ذاكَ) أي فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ (خِفافًا) لَسنَ ثَقِيلاتِ الوَزنِ لأنَّهُنَّ (لَم يَهبُلنَ) أي لم يَثقُلنَ مِن سِمَنٍ (وَلَم يَغشَهُنَّ) أي ولَم يَكثُر عَلَيهِنَّ (اللَّحمُ) فَيَركَبَ بَعضُهُ بَعضًا و(إِنَّما) كُنَّ (يَأكُلنَ العُلقَةَ) أيِ القَلِيلَ (مِنَ الطَّعامِ) الَّذِي يُسَكِّنُ الرَّمَقَ (فَلَم يَستَنكِرِ القَومُ) الَّذِينَ يَحمِلُونَ الهَودَجَ (خِفَّةَ الهَودَجِ حِينَ رَفَعُوهُ) عَنِ الأرضِ (وَحَمَلُوهُ) لِيَضَعُوهُ عَلَى ظَهرِ البَعِيرِ مَعَ أنَّ عائِشَةَ لَيسَت فِيهِ، وَذَلِكَ أنَّها لِخِفَّةِ جِسمِها فَإِنَّ الَّذِينَ يَحمِلُونَ هَودَجَها لا يُفَرِّقُون بَينَ وُجُودِها فِيهِ وَعَدَمِها (وَ)هِيَ مَعَ نَحافَتِها قالَت: (كُنتُ جارِيَةً) أي بِنتًا (حَدِيثَةَ السِّنِّ) أي صَغِيرَةً، فَكانَ ذَلِكَ أبلَغُ فِي خِفَّتِها وأبعَدُ عَن أن يَستَنكِرُوا الثِّقَلَ الَّذِي اعتادُوهُ (فَبَعَثُوا الجَمَلَ) أي أثارُوهُ لِلرَّحِيلِ (فَسارُوا) بِهِ مَعَ الجَيشِ (وَوَجَدتُ) حِينَها (عِقدِي) لَكِن كانَ ذَلِكَ (بَعدَما استَمَرَّ الجَيشُ) أي ذَهَبَ ماضِيًا وَأنا لا أعلَمُ بِذَهابِهِم (فَجِئتُ مَنازِلَهُم) أي حَيثُ كانُوا يَنزِلُونَ (وَلَيسَ بِها) أي وَلَم يَكُن بَقِيَ (مِنهُم) فِي مَكانِ نُزُولِهِم أحَدٌ، لا (داعٍ ولا مُجِيبٌ) فَإِن قِيلَ: لِمَ لَم تَستَصحِب عائِشَةُ مَعَها غَيرَها فَكانَ أدعَى لِأمنِها مِمّا يَقَعُ لِلمُنفَرِدِ وَلَكانَت لَمّا تَأخَّرَت لِلبَحثِ عَنِ العِقدِ تُرسِلُ مَن رافَقَها لِيَنتَظِرُوها إِن أرادُوا الرَّحِيلَ، فالجَوابُ: أنَّ هَذا مِن جُملَةِ ما يُستَفادُ مِن قَولِها “حَدِيثَةُ السِّنِّ” أي أنَّها لَم يَقَع لَها تَجرُبَةٌ فِي مِثلِ ذَلِكَ، وَقَد صارَت بَعدَ ذَلِكَ إِذا خَرَجَت لِحاجَتِها تَستَصحِبُ.

قالَت عائِشَةُ: (فَتَيَمَّمتُ) أي قَصَدتُ (مَنزِلِي) أي مَكانَ نُزُولِي (الَّذِي كُنتُ بِهِ) فِي هَودَجِي (وَظَنَنتُ) أي عَلِمتُ (أنَّهُم سَيَفقِدُونِي) وَفِي رِوايَةٍ “سَيَفقِدُونَنِي” (فَيَرجِعُونَ إِلَيَّ) لِيَأخُذُونِي (فَبَينا) بِغَيرِ مِيمٍ (أنا جالِسَةٌ فِي مَنزِلِي) أي مَكانِ نُزُولِي فِي اللَّيلِ مُنفَرِدَةً (غَلَبَتنِي عَينِي) بِالإِفرادِ (فَنِمتُ) وَيُحتَمَلُ أن يَكُونَ سَبَبُ نَومِها شِدَّةُ الغَمِّ الَّذِي حَصَلَ لَها فِي تِلكَ الحالَةِ بِخِلافِ الهَمِّ فَإِنَّهُ يَقتَضِي السَّهَرَ، أو أنَّها نامَت بِسَبَبِ ما وَقَعَ لَها مِن بَردِ السَّحَرِ مَعَ رُطُوبَة بَدَنِها وَصِغَرِ سِنِّها، وَقِيلَ أيضًا: إِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وَتَعالَى لَطَفَ بِها فَألقَى عَلَيها النَّومَ لِتَستَرِيحَ مِن وَحشَةِ الِانفِرادِ فِي البَرِّيَّةِ بِاللَّيلِ.

قالَت عائِشَةُ: (وَكانَ) الصَّحابِيُّ أبُو عَمرٍو (صَفوانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ) مِن بَنِي سُلَيمٍ (ثُمَّ الذَّكوانِيُّ) مَنسُوبٌ إِلَى ذَكوانَ بنِ ثَعلَبَةَ بنِ بُهثَةَ، يَتَخَلَّفُ (مِن وَراءِ الجَيشِ) أي يَتَأخَّرُ عَنهُم وَيَأتِي ءاخِرَهُم، فَإِذا رَحَلُوا تَأخَّرَ عَنهُم ثُمَّ لَحِقَ بِهِم لِأجلِ أنَّ وَظِيفَتَهُ كانَت أن يَلتَقِطَ ما يَسقُطُ مِن مَتاعِ الجَيشِ لِيَرُدَّهُ إِلَيهِم. قالَت عائِشَةُ: (فَـ)ـمَشَى صَفوانُ يَتبَعُ الجَيشَ فِي طَرِيقِهِم (أصبَح عِندَ مَنزِلِي) أي حَيثُ أنا قاعِدَةٌ وَقَد غَلَبَنِي النَّومُ (فَرَأى سَوادَ إِنسانٍ نائِمٍ) أي شَخصَ ءادَمِيٍّ نائِمٍ لا يَظهَرُ مَن هُوَ، لَكِنَّهُ يَحتَمِلُ أنَّ وَجهَها انكَشَفَ لَمّا نامَت وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَولُها: (فَعَرَفَنِي حِينَ رَءانِي) لِأنَّها لَو كانَت لَم تَزَل عَلَى هَيئَتِها مُتَلفِّفَةً بِجِلبابِها حِينَ نامَت لَم يَكُن لِيَعرِفَها بِمُجَرَّدِ رُؤيَةِ شَخصٍ مُغَطًّى بِجِلبابٍ، وَلا يَكفِي رُؤيَتُهُ وَجهَها لِيَعرِفَ مَن هِيَ تِلكَ الشّابَّةُ إِن لَم يَكُن عَرَفَها مِن قَبلُ. وَلِذَلِكَ قالَت: (وَكانَ رَءانِي قَبلَ) نُزُولِ الأمرِ بـ(الحِجابِ) فَلِذَلِكَ عَرَفَنِي لَمّا رَءانِي الآنَ عِندَ مَنزِلِي نائِمَةً، (فاستَيقَظتُ) مِن نَومِي (بِاستِرجاعِهِ) أي عِندَ سَماعِي لِقَولِهِ: إِنّا للِه وَإِنّا إِلَيهِ راجِعُونَ (حِينَ عَرَفَنِي) مَن أكُونُ، وَهُوَ بَعدُ عَلَى راحِلَتِهِ، (فَخَمَّرتُ) أي غَطَّيتُ (وَجهِي) عَلَى الفَورِ (بِجِلبابِي) أيِ الثَّوبُ الَّذِي كانَ عَلَيَّ (وَوالله ما تَكَلَّمنا بِكَلِمَةٍ، ولا سَمِعتُ مِنهُ كَلِمَةً غَيرَ استِرجاعِهِ) أوَّلَ ما استَيقَظتُ، وَكانَ ذَلِكَ مُبالَغَةً مِنهُ فِي الأدَبِ وَإِعظامًا لَها وَإِجلالًا. فَقالَت: (وَهَوَى) أي نَزَلَ عَن بَعِيرِهِ وَأسرَعَ (حَتَّى أناخَ راحِلَتَهُ) أي برَكَها (فَوَطِئَ عَلَى يَدِها) أي يَدِ الرّاحِلَةِ بَعدَ أن بَرَكَت لِيَسهُلَ رُكُوبِي عَلَيها فَلا أحتاجُ إِلَى مُساعِدٍ يُمسِكُ بِي (فَقُمتُ إِلَيها) أي إِلَى الرّاحِلَةِ (فَرَكِبتُها، فانطَلَقَ) صَفوانُ حالَ كَونِهِ (يَقُودُ بِي الرّاحِلَةَ حَتَّى أتَينا الجَيشَ) حالَ كَونِنا (مُوغِرِينَ) أي داخِلِينَ فِي الوَغرَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الحَرِّ أوَّلَ الظَّهِيرَةِ، وَأكَّدَت ذَلِكَ عائِشَةُ بِقَولِها: (فِي نَحرِ الظَّهِيرَةِ) وَنَحرُ كُلِّ شَىءٍ أوَّلُهُ، فَكَأنَّ الشَّمسَ لَمّا بَلَغَت غايَتَها فِي الِارتِفاعِ كَأنَّها وَصَلَت إِلَى النَّحرِ أي أعلَى الصَّدرِ، فَكَأنَّها قالَت: فَوَصَلنا أوَّلَ الظَّهِيرَةِ (وَهُم) أيِ الجَيشُ وَقتَئِذٍ (نُزُولٌ) أي نازِلُونَ فِي مَكانٍ يَستَرِيحُونَ فِيهِ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَهَلَكَ) فِي شَأنِي (مَن هَلَكَ) بِقَولِ البُهتانِ والقَذفِ (وَكانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبرَ) أي باشَرَ مُعظَمَ (الإِفكِ) أيِ الإِثمِ (عَبدُ الله بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ) فِي رِجالٍ مِنَ الخَزرَجِ، و”ابنُ سَلُولَ” بِرَفعِ “ابنُ” لأنَّهُ لَيسَ صِفَةً لـ”أُبَيٍّ” وَإِنَّما هُوَ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِعَبدِ الله فَـ”أُبَيٌّ” أبُوهُ وَ”سَلُولُ” أُمُّهُ وَلِهَذا يُكتَبُ “ابنُ” بِالألِفِ.

 (قالَ عُروَةُ) بنُ الزُّبَيرِ بنِ العَوّامِ أحَدُ رُواةِ هَذا الحَدِيثِ: (أُخبِرتُ) بِضَمِّ الهَمزَةِ مَبنِيًّا لِلمَفعُولِ (أنَّهُ) أي حَدِيثَ الإِفكِ (كانَ يُشاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِندَهُ) أي فِي بَيتِ عَبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ (فَيُقِرُّهُ) هُوَ أي يُقِرُّ الكَلامَ الَّذِي يُشاعُ وَيُتَحَدَّثُ بِهِ عِندَهُ (وَيَستَمِعُهُ) وَلا يُنكِرُهُ وَلا يَنهَى عَنهُ بَل (وَيَستَوشِيهِ) أي وَيَطلُبُ الزِّيادَةَ مِنَ المُتَحَدِّثِ فِيهِ لِيُفشِيَهِ.

(وَقالَ عُروَةُ) بنُ الزُّبَيرِ (أيضًا) قالَت عائِشَةُ (لَم يُسَمَّ مِن أهلِ الإِفكِ) عِندِي (أيضًا إِلّا) ثَلاثَةٌ هُم (حَسّانُ بنُ ثابِتٍ) الشّاعِرُ (وَمِسطَحُ بنُ أُثاثَةَ) القُرَشِيُّ المُطَّلِبِيُّ واسمُهُ عَوفٌ، وَقَد شَهِدَ بَدرًا ثمَّ خاضَ فِي الإِفكِ، وَبَينَهُ وَبَينَ عائِشَةَ قَرابَةٌ، فَأُمُّهُ بِنتُ خالَةِ أبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ (وَ)ثالِثَةٌ هِيَ (حَمنَةُ بِنتُ جَحشٍ) أُختُ أُمِّ المُؤمِنِينَ زَينَبَ بِنتِ جَحشٍ، وَكانَت عِندَ مُصعَبِ بنِ عُمَيرٍ فَقُتِلَ عَنها يَومَ أُحُدٍ فَتَزَوَّجَها طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، وَكانَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ سُمُّوا لِعائِشَةَ ثَلاثَةً (فِي ناسٍ ءاخَرِينَ) غَيرِهِم، قالَت عائِشَةُ (لاَ عِلمَ لِي بِهِم) أي بِأسماءِ غَيرِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ المُتَقَدِّمَةِ (غَيرَ) أنِّي أعلَمُ (أنَّهُم) أي أهلَ الإِفكِ أكثَرُ مِن ذَلِكَ، فَإِنَّهُم (عُصبَةٌ) أي جَماعَةٌ، والعُصبَةُ عَشَرَةٌ إِلَى أربَعِينَ (كَما قالَ الله تَعالَى) فِي شَأنِ أهلِ الإِفكِ: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ (وَإِنَّ) مُتَوَلِّي وَمُباشِرَ مُعظَمِ الإِفكِ أي (كِبرَ ذَلِكَ يُقالُ لَهُ: عَبدُ الله بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ).

(قالَ عُروَةُ) بِسَنَدِهِ (كانَت عائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنها (تَكرَهُ أن يُسَبَّ عِندَها حَسّانُ) بنُ ثابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ (وَتَقُولُ: إِنَّهُ) أي حَسّانُ هُوَ (الَّذِي قالَ) وَهُوَ يُخاطِبُ بِذَلِكَ مَن كانَ يَهجُو النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الكُفّارِ [الوافِر]:

فَإِنَّ أبِي وَوالِدَهُ وَعِرضِي

¯¯

لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ

وَمَعناهُ (فَإِنَّ أبِي) أي حَسّانَ (وَوالِدَهُ) واسمُهُ المُنذِرُ بنُ حَرامِ بنِ عَمرِو بنِ زَيدِ مَناةَ بنِ عَدِيِّ بنِ مالِكِ بنِ النَّجّارِ النَّجارِيُّ الأنصارِيُّ، وَقِيلَ: عاشَ كُلُّ واحِدٍ مِن حَسّانَ وَأبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أبِيهِ مِائَةً وَعِشرِينَ سَنَةً (وَعِرضِي) والعِرضُ هُوَ مَوضِعُ المَدحِ والذَّمِّ مِنَ الإِنسانِ، سَواءٌ كانَ فِي نَفسِهِ أو فِي سَلَفِهِ أو مَن يُنسَبُ إِلَيهِ (لِعِرضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ) أي أقِي عِرضَ مُحَمَّدٍ وَأحفَظُهُ حِفظًا بِأبِي وَجَدِّي وعِرضِي، والقَصِيدَةُ [الوافر]:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ

¯¯

وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ

هَجَـوْتَ مُبَارَكًـا بَـرًّا حَـنِـيْـفًـا([15])

¯¯

رَسُـــوْلَ اللهِ شِـــيْمَتُهُ الوَفَـاءُ ([16])

فَإِنَّ أَبِـي وَوَالِـدَهُ وَعِـرْضِـيْ

¯¯

لِـعِـرْضِ مُحَـمَّـدٍ مِـنْـكُـمْ وِقَـاءُ

ثَكِلْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَم تَرَوْهَا

¯¯

تُثِيْرُ النَّقْعَ([17]) مِـنْ كَنَفِي([18]) كَـدَاءُ([19])

يُبَارِيْـنَ الأَعِنَّةَ([20]) مُصْـعِـدَاتٍ([21])

¯¯

عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسَــلُ([22]) الظِّمَاءُ([23])

تَـظَــلُّ جِـيَادُنَـا مُتَمَـطِّــرَاتٍ([24])

¯¯

تُـلَـطِّـمُهُنَّ بِالخُـمُـرِ الـنِّسَــاءُ([25])

فَإِنْ أَعْرَضْـتُـمُ عَنَّا اعْـتَـمَـرْنَا([26])

¯¯

وَكَانَ الفَتْحُ([27]) وَانْكَشَفَ الغِطَاءُ([28])

وَإِلَّا فَاصْـبِـرُوا لِـضِـرَابِ([29]) يَـوْمٍ

¯¯

يُـعِـزُّ اللهُ فِـيْـهِ مَـنْ يَـشَــاءُ

وَقَالَ اللهُ قَـدْ أَرْسَــلْتُ عَبْدًا

¯¯

يَقُوْلُ الحَـقَّ لَـيْـسَ بِهِ خَـفَـاءُ([30])

وَقَالَ اللهُ قَـدْ يَسَّـرْتُ([31]) جُنْدًا([32])

¯¯

هُمُ الأَنْـصَـارُ عُرْضَـتُـهَا اللِّقَاءُ([33])

لَنَا([34]) فِي كُـلِّ يَـوْمٍ مِـنْ مَـعَـدٍّ([35])

¯¯

سِـــبَـابٌ أَوْ قِـتْـالٌ أَوْ هِـجَـاءُ

فَمَنْ يَهْجُوْ رَسُـوْلَ اللهِ مِنْكُمْ

¯¯

وَيَمْدَحُـهُ وَيَـنْـصُــرُهُ سَــوَاءُ

وَجِـبْـرِيْـلٌ رَسُــوْلُ اللهِ فِيْنَا

¯¯

وَرُوْحُ القُدْسِ لَـيْـسَ لَهُ كِفَاءُ([36])

قالَت عائِشَةُ: فَسَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ لِحَسّانَ: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيِّدُكَ، ما نافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ» أَي دافَعتَ وَخاصَمتَ، والمُرادُ بِمُنافَحَتِهِ هِجاءُ المُشرِكِينَ وَمُحارَبَتُهُم عَلَى أَشعارِهِم، وَقالَت: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «هَجاهُم حَسّانُ فَشَفَى واشتَفَى» أَي شَفَى المُؤمِنِينَ واشتَفَى هُوَ بِما نالَهُ مِن أَعراضِ الكُفّارِ وَمَزَّقَها وَنافَحَ عَنِ الإِسلامِ والمُسلِمِينَ، وَرَوَى القَصِيدَةَ وَحَدِيثَ عائِشَةَ هَذا مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

(قالَت عائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنها (فَقَدِمنا المَدِينَةَ، فاشتَكَيتُ) أَي مَرِضتُ (حِينَ قَدِمتُ) المَدِينَةَ (شَهرًا، والنّاسُ يُفِيضُونَ) أَي يَخُوضُونَ (فِي قَولِ أَصحابِ الإِفكِ) وَيُكثِرُونَ مِنَ القَولِ فِيهِ وَأَنا (لاَ أَشعُرُ بِشَيءٍ مِن ذَلِكَ، وَهُوَ) أَي والأَمرُ الَّذِي كانَ (يَرِيبُنِي) أَي يُوهِمُنِي وَيُشَكِّكُنِي (فِي) حالِ (وَجَعِي) أَي مَرَضِي بِوُجُودٍ شَىءٍ ما (أَنِّي لا أَعرِفُ) أَي لا أَرَى (مِن رَسُولِ الله ﷺ اللُّطفَ) أَيِ الرِّفقَ (الَّذِي كُنتُ أَرَى مِنهُ حِينَ أَشتَكِي) الوَجَعَ عادَةً أَي كُنتُ أَرَى مِنهُ حِينَ أَمرَضُ لُطفًا غَيرَ الَّذِي رَأَيتُهُ فِي وَجَعِي هَذا (إِنَّما) كانَ فِي مَرَضِي هَذا (يَدخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ الله ﷺ) وَأُمِّي تُمَرِّضُنِي (فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ) لِأُمِّي (كَيفَ تِيكُم) إِشارَةً إِلَى المُؤنَّثِ، مِثلُ “ذاكُم” لِلمُذَكَّرِ. قالَت عائِشَةُ: (ثُمَّ يَنصَرِفُ) ﷺ مِن عِندِي وَلا يُكَلِّمُنِي وَلا يَقعُدُ عِندِي (فَذَلِكَ) كانَ (يَرِيبُنِي) أَي يُقلِقُنِي. هُوَ الرَّسُولُ لَم يَشُكَّ فِي عائِشَةَ مِن أَوَّلِ الأَمرِ أَنَّها زَنَت، بَل كانَ يَعتَقِدُ أَنَّها بَرِيئَةٌ، وَأَرادَ أَن يَقُولَ إِنَّها بَرِيئَةٌ، وَإِنَّما حَتَّى لا يَقُولَ بَعضُ ضُعَفاءِ العُقُولِ إِنَّهُ مِن شِدَّةِ حُبِّهِ بِها كانَ يَقُولُ إِنَّها بَرِيئَةٌ، فَلَمّا كانَ يَقولُ كَيفَ تِيكُم كانَ لِكَفِّ هَؤُلاءِ ضُعَفاءِ العُقُولِ، لِقَطعِ الطَّرِيقِ عَلَيهِم وَلَيسَ فِي ذَلِكَ إِيذاءٌ لَها.

قالَت عائِشَةُ: (وَلاَ أَشعُرُ بِالشَّرِّ) الَّذِي حاكَهُ أَهلُ الإِفكِ وَأَشاعُوهُ بَينَ النّاسِ (حَتَّى

خَرَجتُ حِينَ نَقَهتُ) أَي أَفَقتُ مِنَ المَرَضِ (فَخَرَجتُ مَعَ أُمِّ مِسطَحٍ قِبَلَ المَناصِعِ) وَهِيَ مَواضِعُ خارِجَ المَدِينَةِ يُتَخَلَّى فِيها لِقَضاءِ الحاجَةِ، وَأُمُّ مِسطَحٍ اسمُها سَلمَى بِنتُ أَبِي رُهمٍ (وَكانَ) هُناكَ (مُتَبَرَّزَنا) أَي مَوضِعَ قَضاءِ حاجَتِنا (وَكُنّا لا نَخرُجُ) إِلَى المَناصِعِ (إِلّا لَيلًا إِلَى لَيلٍ وَذَلِكَ قَبلَ أَن نَتَّخِذَ الكُنُفَ) جَمعُ كَنِيفٍ أَيِ المَكانَ المُتَّخَذَ لِقَضاءِ الحاجَةِ (قَرِيبًا مِن بُيُوتِنا، قالَت) عائِشَةُ (وَأَمرُنا) فِي قَضاءِ الحاجَةِ قَبلَ اتِّخاذِ الكُنُفِ هُوَ (أَمرُ العَرَبِ الأُوَلِ) فِي قَضاءِ الحاجَةِ (فِي البَرِّيَّةِ) خارِجَ المَدِينَةِ (قِبَلَ) أَي ناحِيَةَ (الغائِطِ) وَهُوَ المَكانُ المُنخَفِضُ مِنَ الأَرضِ الَّذِي يَحجُبُ مَن يَقضِي حاجَتَهُ عَن أَعيُنِ النّاسِ، وَجَمعُهُ الغِيطان، فَقَد كانَتِ العَرَبُ تَذهَبُ عِندَ قَضاءِ الحاجَةِ إِلَى مَكانٍ مُنخَفِضٍ مِن جِهَةِ الحَيِّ بَعِيدٍ عَن بُيُوتِ سُكناهُم وَذَلِكَ هُوَ الغائِطُ، ثُمَّ سُمِّيَ الخارِجُ غائِطًا باسمِ المَكانِ الَّذِي يُجاوِرُهُ، وَقالَت عائِشَة (وَكُنّا نَتَأَذَّى بِالكُنُفِ أَن نَتَّخِذَها عِندَ بُيُوتِنا) فَلِذَلِكَ كُنّا نَتَّخِذُها خارِجَ المَدِينَةِ.

(قالَت فانطَلَقتُ أَنا وَأُمُّ مِسطَحٍ) واسمُها سَلمَى (وَهِيَ ابنَةُ أَبِي رُهمِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ عَبدِ مَنافٍ) واسمُ أَبِي رُهمٍ أَنِيسٌ (وَأُمُّها بِنتُ صَخرِ بنِ عامِرٍ خالَةُ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُها مِسطَحُ بنُ أُثاثَةَ بنِ عَبّادِ بنِ المُطَّلِبِ، فَأَقبَلتُ أَنا وَأُمُّ مِسطَحٍ قِبَلَ بَيتِي) أَي جِهَتَهُ (حِينَ فَرَغنا مِن شَأنِنا) أَي مِن شَأنِ المَسِيرِ لِقَضاءِ الحاجَةِ (فَعَثَرَت) أَي تَعَثَّرَت (أُمُّ مِسطَحٍ فِي مِرطِها) أَي كِسائِها (فَقالَت) أُمُّ مِسطَحٍ (تَعِسَ مِسطَحٌ) أَي انكَبَّ وَعَثَرَ، وَكَأَنَّها انشَغَلَ فِكرُها بِما فَعَلَهُ مِسطَحٌ مَعَ أَهلِ الإِفكِ فِي شَأنِ عائِشَةَ، فَلَمّا حَصَلَ لَها ما حَصَلَ فِي تَعَثُّرِها مِن جِهَةِ مِسطَحٍ دَعَت عَلَيهِ بِأَن يَنكَبَّ بِوَجهِهِ. قالَت عائِشَةُ (فَقُلتُ لَها: بِئسَ ما قُلتِ) يا أُمَّ مِسطَحٍ (أَتَسُبِّينَ) مِسطَحًا (رَجُلًا شَهِدَ بَدرًا) أَي كَيفَ تَسُبِّينَ رَجُلًا مِن أَهلِ بَدرٍ وَهُمُ الَّذِينَ أَثنَى عَلَيهِم رَسُولُ اللهِ ﷺ وَبَشَّرَهُم بِالجَنَّةِ فَقالَ: «لا يَدخُل أَحَدٌ مِمَّن شَهِدَ بَدرًا والحُدَيبِيَةَ النّارَ»، وَمِسطَحٌ أَيضًا مِنَ المُهاجِرِينَ الأَوَّلِينَ (فَقالَت) أُمُّ مِسطَحٍ (أَي هَنتاه) كَأَنَّها قالَت: يا هَذِهِ إِنَّكِ لَغافِلَةٌ عَمّا يَقُولُ النّاسُ وَعَن مَعرِفَةِ ما يَحصُلُ مِن مَكايِدَ وَشُرُورٍ (وَلَم تَسمَعِي ما قالَ) مِسطَحٌ (قالَت) عائِشَةُ (وَقُلتُ: ما قالَ؟ فَأَخبَرَتنِي) أُمُّ مِسطَحٍ (بِقَولِ أَهلِ الإِفكِ) وَهُوَ أَنَّ مِسطَحًا وَفُلانًا وَفُلانًا يَجتَمِعُونَ فِي بَيتِ ابنِ أُبَيٍّ يَتَحَدَّثُونَ عَنِّي وَعَن صَفوانَ بنِ المُعَطَّلِ وَيَرمُونَنِي بِهِ.

(قالَت) عائِشَةُ (فازدَدتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمّا رَجَعتُ إِلَى بَيتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله ﷺ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: “كَيفَ تِيكُم”، فَقُلتُ لَهُ: أَتَأذَنُ لِي أَن ءاتِيَ) إِلَى (أَبَوَيَّ؟ قالَت) عائِشَةُ (وَ)أَنا حِينَئِذٍ (أُرِيدُ أَن أَستَيقِنَ الخَبَرَ) الَّذِي سَمِعتُهُ (مِن قِبَلِهِما) أَي مِن جِهَتِهِما (قالَت: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله ﷺ) فِي ذَلِكَ فَأَتَيتُهُما (فَقُلتُ لِأُمِّي: يا أُمَّتاهُ، ماذا يَتَحَدَّثُ النّاسُ) بِهِ أَي فِي شَأنِي (قالَت) أُمُّ رُومانَ (يا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيكِ) الأَمرَ (فَوالله لَقَلَّما كانَتِ امرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً) أي حَسَنَةً جَمِيلَةً (عِندَ رَجُلٍ يُحِبُّها لَها ضَرائِرُ) أَي زَوجاتٌ لِزَوجِها  (إِلّا كَثَّرنَ) بَعضُ نِساءِ ذَلِكَ الزَّمَنِ القَولَ (عَلَيها) فِي عَيبِها وَنَقصِها، فَلَيسَ قَصدُ أُمِّ رُومانَ أَنَّ أُمَّهاتِ المُؤمِنِينَ زَوجاتِ النَّبِيِّ هُنَّ اللَّواتِي كُنَّ يَعِبنَها وَيُكَثِّرنَ عَلَيها القَولَ السَّيِّءَ فَذَلِكَ لَم يَحصُل مِنهُنَّ، وَإِنَّما قَصَدَت أنّ ذلك يَحصل مِن بعض نساءِ ذلك الزَّمن لمن كان لها ضَرائر.

(قالَت) عائِشَةُ رضي الله عنها (فَقُلتُ) مُتَعَجِّبَةً مِن حُصُولِ هَذا (سُبحانَ اللَّهِ، أَوَ لَقَد تَحَدَّثَ النّاسُ بِهَذا). ورَجَعَت عائِشَةُ إِلَى بَيتِ رَسُولِ اللهِ، (قالَت: فَبَكَيتُ تِلكَ اللَّيلَةَ حَتَّى أَصبَحتُ لا يَرقَأُ) أَي لا يَنقَطِعُ (لِي دَمعٌ ولا أَكتَحِلُ بِنَومٍ) أَي لا أَنامُ (ثُمَّ أَصبَحتُ أَبكِي، قالَت: وَدَعا رَسُولُ الله ﷺ عَلِيَّ بنَ أَبِي طالِبٍ) رَضِيَ اللهُ عَنهُ (وَأُسامَةَ بنَ زَيدٍ حِينَ استَلبَثَ الوَحيُ) أَي طالَ لُبثُ نُزُولِهِ (يَسأَلُهُما) عَن ذَلِكَ (وَيَستَشِيرُهُما فِي فِراقِ أَهلِهِ) أَي زَوجَتِهِ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَأَمّا أُسامَةُ فَأَشارَ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ بِالَّذِي يَعلَمُ مِن بَراءَةِ أَهلِهِ وَبِالَّذِي يَعلَمُ لَهُم فِي نَفسِهِ) مِنَ الوُدِّ (فَقالَ أُسامَةُ) أَمسِك (أَهلَكَ، ولا نَعلَمُ) عَلَيهِم (إِلّا خَيرًا) فَأَشارَ أُسامَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِاَلَّذِي يَعلَمُ مِن بَراءَةِ أَهلِهِ (وَأَمّا عَلِيٌّ) فَلَم يَشُكَّ فِي عائِشَةَ وَلا اتَّهَمَها، قالَ الحافِظُ الزَّينُ العِراقِيُّ: رَأَى انزِعاجَ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذا الأَمرِ وَقَلَقَهُ فَأَرادَ إراحَةَ خاطِرَهُ (فَقالَ) لَهُ (يا رَسُولَ اللَّهِ، لَم يُضَيِّقِ الله عَلَيكَ، والنِّساءُ سِواها كَثِيرٌ، وَسَلِ الجارِيَةَ) بَرِيرَةَ، مَولاةَ عائِشَةَ، عَن أَمرِ عائِشَةَ (تَصدُقكَ) الخَبَرَ، وَلَم يَقُل عَلِيٌّ هَذا الَّذِي قالَهُ بُغضًا وَلا عَداوَةً لِعائِشَةَ.

قال البدرُ الزَّركشِيُّ: إنّ تَسمِيةَ الجارِيةِ بَرِيرةَ مُدْرَجةٌ مِن بَعضِ الرُّواةِ وإنهّا جارِيةٌ أُخرَى، وأجابَ التقيُّ السُّبكِيُّ بأجوِبةٍ أحسَنُها: احتِمالُ أنّها كانَتْ تَخدُم عائشةَ قبلَ شِرائِها وهذا أَولَى مِن دَعوَى الإدراجِ وتَغلِيطِ الحُفّاظِ([37]).

 (قالَت) عائِشَةُ (فَدَعا رَسُولُ الله ﷺ بَرِيرَةَ، فَقالَ: أَي بَرِيرَةُ) يَعنِي يا بَرِيرَةُ، أَتَشهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قالَت: نَعَم، قالَ: فَإِنِّي سائِلُكِ عَن شَىءٍ فَلا تَكتُمِينَهُ، قالَت: نَعَم. وَهُوَ ﷺ يَعتَقِدُ أَنَّ عائِشَةَ بَرِيئَةٌ، قالَ (هَل رَأَيتِ) مِن عائِشَةَ (مِن شَىءٍ يَرِيبُكِ) أَي مِن جِنسِ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهلُ الإِفكِ، وَلَيسَ ذَلِكَ السُّؤالُ شَكًّا مِنهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فِي عائِشَةَ بَل هُوَ يَعتَقِدُ أَنَّها بَرِيئَةٌ (قالَت لَهُ بَرِيرَةُ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، ما رَأَيتُ عَلَيها أَمرًا قَطُّ أَغمِصُهُ) أَي أَعِيبُها وَأَنتَقِصُها بِهِ وَأَطعَنُ عَلَيها (غَيرَ أَنَّها جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ) أَي أَنَّها شابَّةٌ، وَما كُنتُ أَعِيبُ عَلَيها إِلّا أَنِّي كُنتُ أَعجِنُ عَجِينِي وَءامُرُها أَن تَحفَظَهُ لِأَقتَبِسَ نارًا فَأَخبِزَهُ فَكانَت (تَنامُ) عَنهُ أَي (عَن عَجِينِ أَهلِها، فَتَأتِي الدّاجِنُ فَتَأكُلُهُ) والدّاجِنُ الشّاةُ الَّتِي تَألَفُ البَيتَ وَلا تَخرُجُ إِلَى المَرعَى.

(قالَت) عائِشَةُ (فَقامَ رَسُولُ الله ﷺ مِن يَومِهِ فاستَعذَرَ مِن عَبدِ الله بنِ أُبَيٍّ) الَّذِي ءاذاهُ فِي أَهلِهِ مَعناهُ: مَن يَنصُرُنِي فِيمَن ءاذانِي فِي أَهلِي إِن أَرَدتُ أَن أُؤَدِّبَهُ (وَهُوَ) ﷺ فِي ذَلِكَ (عَلَى المِنبَرِ) وَقِيلَ مَعناهُ مَن يَنتَقِمُ لِي مِمَّن ءاذانِي فِي أَهلِي (فَقالَ) فِي استِعذارِهِ ﷺ (يا مَعشَرَ المُسلِمِينَ، مَن يَعذِرُنِي مِن رَجُلٍ) هُوَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ (قَد بَلَغَنِي عَنهُ أَذاهُ فِي أَهلِي) أَي زَوجَتِي فِي تُهَمَتِهِ وَسَبِّهِ إِيّاها (واللهِ ما عَلِمتُ عَلَى أَهلِي إِلّا خَيرًا، وَلَقَد ذَكَرُوا) فِي تُهَمَتِهِم (رَجُلًا) هُوَ صَفوانُ بنُ المُعَطَّلِ (ما عَلِمتُ عَلَيهِ إِلّا خَيرًا، وَما يَدخُلُ عَلَى أَهلِي إِلّا مَعِي) فَلا يَدخُلُ فِي بَيتِي قَطُّ إِلّا وَأَنا حاضِرٌ، وَلا غِبتُ فِي سَفَرٍ إِلّا غابَ مَعِي (قالَت) عائِشَةُ (فَقامَ سَعدُ بنُ مُعاذٍ) وَهُوَ سَيِّدُ الأَوسِ وَ(أَخُو بَنِي عَبدِ الأَشهَلِ، فَقالَ أَنا يا رَسُولَ الله أَعذِرُكَ) مِنهُ أَي أَنصُرُكَ وَلا أَلُومُكَ عَلَى ما تَفعَلُ بِمَن ءاذاكَ فِي أَهلِكَ (فَإِن كانَ) هَذا الرَّجُلُ الَّذِي ءاذاكَ فِي أَهلِكَ (مِنَ) قَومِي أَي قَبِيلَةِ (الأَوسِ ضَرَبتُ عُنُقَهُ) أَي قَتَلتُهُ (وَإِن كانَ) ذاكَ (مِن إِخوانِنا مِنَ) قَبِيلَةِ (الخَزرَجِ أَمَرتَنا فَفَعَلنا أَمرَكَ) فِيهِ، وَكانَت أُمُّ حَسّانَ بنِ ثابِتٍ مِنَ الخَزرَجِ. (قالَت) عائِشَةُ (فَقامَ رَجُلٌ مِنَ الخَزرَجِ) لَمّا سَمِعَ كَلامَ سَعدٍ سَيِّدَ الأَوسِ (وَكانَت أُمُّ حَسّانَ) بنِ ثابِتٍ واسمُها الفُرَيعَةُ بِنتُ خالِدِ (بِنتَ عَمِّهِ) أَي بِنتَ عَمِّ هَذا الرَّجُلِ الخَزرَجِيِّ الَّذِي قامَ رَدًّا عَلَى كَلامِ سَيِّدِ الأَوسِ، وَهِيَ لَيسَت بِنتَ عَمِّهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّها مِن جُملَةِ أَقارِبِهِ (مِن فَخِذِهِ) أَي مِن عَشِيرَتِهِ (وَ)هَذا الرَّجُلُ الَّذِي قامَ مِنَ الخَزرَجِ (هُوَ سَعدُ بنُ عُبادَةَ وَهُوَ) سَيِّدُ الأَنصارِ وَ(سَيِّدُ الخَزرَجِ) فَصارَ الأَمرُ بَين سَيِّدِ الأَوسِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ وَسَيِّدِ الخَزرَجِ سَعدِ بنِ عُبادَةَ. (قالَت) عائِشَةُ (وَكانَ) سَعدُ بنُ عُبادَةَ سَيِّدُ الخَزرَجِ (قَبلَ ذَلِكَ) الَّذِي حَصَلَ (رَجُلًا صالِحًا) أَي كامِلًا لَم يَظهَر مِنهُ قَبلَ ذَلِكَ تَعَصُّبٌ بِالحَمِيَّةِ لِقَومِهِ (وَلَكِنِ احتَمَلَتهُ الحَمِيَّةُ) أَي أَغضَبَهُ التَّعَصُّبُ لِقَومِهِ (فَقالَ لِسَعدٍ) سَيِّدِ الأَوسِ (كَذَبتَ) فَإِنَّهُ لَو كانَ مِن قَومِهِ لَم تُرِد قَتلَهُ وَإِن كانَ مِن قَومِنا أَرَدتَ قَتلَهُ، (لَعَمرُ اللَّهِ) أَي أَحلِفُ بِبَقاءِ اللهِ أَنَّكَ يا سَيِّدَ الأَوسِ إِن كانَ مِن قَومِنا (لاَ تَقتُلُهُ) أَي لا تَقتُلُ مِنّا أَحَدًا (وَلاَ تَقدِرُ عَلَى قَتلِهِ) لِأَنَّنا نَمنَعُكَ مِن قَتلِهِ (وَ)أَنتَ كاذِبٌ فِيما تَدَّعِيهِ لِأَنَّهُ (لَو كانَ) الرَّجُلُ الَّذِي ءاذَى النَّبِيَّ (مِن رَهطِكَ) أَي مِن قَومِكَ (ما أَحبَبتَ) أَي ما أَرَدتَ (أَن يُقتَلَ) وَأَمّا إِن كانَ مِن غَيرِ قَومِكَ فَأَنتَ تُحِبُّ أَن يُقتَلَ. ثُمَّ سَعدُ ب بنُ عُبادَةَ قالَ هَذا بِحَسَبِ ما ظَهَرَ لَهُ فِي تِلكَ الحالَةِ وَلِأَنَّهُ كانَ أَخَذَهُ التَّعَصُّبُ لِقَومِهِ الخَزرَجِ، وَكانَ فِي الجاهِلِيَّةِ بَينَ الأَوسِ والخَزرَجِ تَشاحُنٌ (فَقامَ أُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ) مِنَ الأَوسِ (وَهُوَ ابنُ عَمِّ سَعدٍ) بنِ مُعاذٍ مُنتَصِرًا لِكَلامِ سَيِّدِهِم (فَقالَ لِسَعدِ بنِ عُبادَةَ) سَيِّدِ الخَزرَجِ رَدًّا عَلَيهِ (كَذَبتَ لَعَمرُ الله لَنَقتُلَنَّهُ) وَلَو كانَ مِنَ الخَزرَجِ إِذا أَمَرَنا النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ وَلَيسَت لَكُم قُدرَةٌ عَلَى مَنعِنا مِن ذَلِكَ (فَإِنَّكَ مُنافِقٌ تُجادِلُ عَنِ المُنافِقِينَ) أي تَفعَلُ فِعلَ المُنافِقِينَ وَلَم يُرِد النِّفاقَ الحَقِيقِيَّ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَثارَ الحَيّانِ الأَوسُ والخَزرَجُ) أَيِ اشتَعَلُوا غَضَبًا وتَناهَضُوا للعَصَبِيَّةِ (حَتَّى هَمُّوا) أَي قَصَدُوا المُحارَبَةَ وَكادُوا (أَن يَقتَتِلُوا) أَي تَناهَضُوا لِلنِّزاعِ والِاقتِتالِ حَقِيقَةً (وَ)كُلُّ ذَلِكَ حاصِلٌ مِنهُم وَ(رَسُولُ الله ﷺ قائِمٌ عَلَى المِنبَرِ) أَمامَهُم (قالَت) عائِشَةُ (فَلَم يَزَل رَسُولُ الله ﷺ يُخَفِّضُهُم) أَي يُسَكِّتُهُم، وَفِي رِوايَةٍ أَنَّهُ صارَ يُومِئُ بِيَدِهِ إِلَى النّاسِ هَهُنا وَهَهُنا (حَتَّى) هَدَأَ الصَّوتُ، فَلَمّا سَكَّتَهُم (سَكَتُوا) جَمِيعًا (وَسَكَتَ) ﷺ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَبَكَيتُ يَومِي ذَلِكَ كُلَّهُ لا يَرقَأُ لِي دَمعٌ وَلا أَكتَحِلُ بِنَومٍ، قالَت: وَأَصبَحَ أَبَوايَ) أَبُو بَكرٍ وَأُمُّ رُومانَ (عِندِي، وَقَد بَكَيتُ لَيلَتَينِ وَيَومًا، لا يَرقَأُ لِي دَمعٌ ولا أَكتَحِلُ بِنَومٍ) لَيلَتَينِ وَيَومًا، وهِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي أَخبَرَتها فِيها أُمُّ مِسطَحٍ الخَبَرَ واليَومُ الَّذِي خَطَبَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ النّاسَ واللَّيلَةُ الَّتِي تَلِي يَومَ خُطبَةِ النَّبِيِّ (حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ البُكاءَ فالِقٌ كَبِدِي) أَي سَيَشُقُّهُ.

قالَت عائِشَةُ: (فَبَينا أَبَوايَ جالِسانِ عِندِي وَأَنا) حالِي وَقتَئِذٍ أَنِّي (أَبكِي، فاستَأذَنَت عَلَيَّ امرَأَةٌ مِنَ الأَنصارِ فَأَذِنتُ لَها) بِالدُّخُولِ (فَجَلَسَت تَبكِي مَعِي) تَفَجُّعًا لِمَا حَلَّ بِي وَتَحَزُّنًا عَلَيَّ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَبَينا نَحنُ عَلَى ذَلِكَ) الحالِ وَأَهلِي عِندِي إِذ (دَخَلَ رَسُولُ الله ﷺ عَلَينا) وَقَد صَلَّى العَصرَ فِي المَسجِدِ وَقَدِ اكتَنَفَنِي أَي أَحاطَ بِي أَبَوايَ عَن يَمِينِي وَعَن شِمالي (فَسَلَّمَ) ﷺ (ثُمَّ جَلَسَ) عِندِي (قالَت: وَلَم يَجلِس عِندِي مُنذُ قِيلَ) فِيَّ (ما قِيلَ قَبلَها، وَقَد لَبِثَ) ﷺ (شَهرًا لا يُوحَى إِلَيهِ فِي شَأنِي بِشَىءٍ) قُرءانٍ أَو غَيرِهِ (قالَت: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله ﷺ حِينَ جَلَسَ) بَعدَ حَمدِ الله تَعالَى والثَّناءِ عَلَيهِ (ثُمَّ قالَ: أَمّا بَعدُ يا عائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنكِ كَذا وَكَذا) أَي مِمّا رَماكَ بِهِ أَهلُ الإِفكِ (فَإِن كُنتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ) أَي بِوَحيٍ يُنَزِّلُهُ بِذَلِكَ قُرءانٍ أَو غَيرِه.

 (وَإِن كُنتِ أَلمَمتِ بِذَنبٍ) أَي إِن كانَ وَقَعَ مِنكِ ذَنبٌ غيرَ الزِّنا عَلَى خِلافِ العادَةِ (فاستَغفِرِي الله وَتُوبِي إِلَيهِ) وَلَيسَ الاستِغفارُ شَرطٌ لِصِحَّةِ التَّوبَةِ، ثُمَّ قالَ (فَإِنَّ العَبدَ إِذا اعتَرَفَ) بِذَنبِهِ (ثُمَّ تابَ) إِلَى اللهِ تَعالَى التَّوبَةَ المَقبُولَةَ شَرعًا (تابَ الله عَلَيهِ) أَي قَبِلَ تَوبَتَهُ.

(قالَت) عائِشَةُ (فَلَمّا قَضَى رَسُولُ الله ﷺ مَقالَتَهُ) أَي فَرَغَ مِن حَدِيثِهِ (قَلَصَ) أَي انقَطَعَ (دَمعِي) واستَمسَكَ نُزُولُهُ لِما بَغَتَنِي مِنَ الكَلامِ (حَتَّى ما أُحِسُّ مِنهُ) أَي ما أَجِدُ مِن دَمعِي (قَطرَةً) لِفَرطِ حَرارَةِ المُصِيبَةِ (فَقُلتُ لِأَبِي: أَجِب رَسُولَ الله ﷺ عَنِّي فِيما قالَ) وَذَلِكَ مِن بابِ تَفوِيضِ الكَلامِ إِلَى الكِبارِ لِأَنَّهُم أَعرَفُ بِمَقاصِدِهِ وَبِاللّائِقِ بِالمَواطِنِ مِنهُ، وَأَبَواها يَعرِفانِ حالَها. قالَت (فَقالَ أَبِي: واللهِ ما أَدرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ الله ﷺ) أَي لِأَنَّ الأَمرَ الَّذِي سَأَلَكِ عَنهُ لَيسَ لَنا فِيهِ أَمرٌ زائِدٌ عَلَى ما عِندَ رَسُولِ الله ﷺ قَبلَ نُزُولِ الوَحيِ مِن حُسنِ الظَّنِّ بِكِ (فَقُلتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ الله ﷺ فِيما قالَ: قالَت أُمِّي: واللهِ ما أَدرِي ما أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلتُ: وَأَنا جارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقرَأُ مِنَ القُرءانِ كَثِيرًا) أَرادَت بِذَلِكَ التَّمهِيدَ لِما سَيَأتِي مِن أَنَّها لَم تَستَحضِرِ اسمَ يَعقُوبَ عَلَيهِ السَّلامُ إِلّا أَنَّها تَذَكَّرَت أَنَّهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَيهِما السَّلامُ، فَقالَت: (إِنِّي واللهِ لَقَد عَلِمتُ: لَقَد سَمِعتُم هَذا الحَدِيثَ حَتَّى استَقَرَّ فِي أَنفُسِكُم) بِأَنَّكُم عَرَفتُمُوهُ (وَصَدَّقتُم بِهِ) وَلا تَقصِدُ بِذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوها أَو ظَنُّوا بِها سُوءًا وَإِنَّما أَنَّهُم سَمِعُوا ما قِيلَ فِي شَأنِها مِنَ الإِفكِ وَأَنَّ غَيرَهُم صَدَّقُوهُ، فَقالَت لَهُم (فَلَئِن قُلتُ لَكُم إِنِّي بَرِيئَةٌ، لا تُصَدِّقُونِي) أَي أَنتُم تَعتَقِدُونَ فِي باطِنِكُم أَنِّي صادِقَةٌ لَكِن لَيسَ عِندَكُم مِن دَلِيلٍ تَقطَعُونَ بِهِ أَهلَ الإِفكِ عَن قَولِهِم حَتَّى يَقطَعَ النّاسُ بِصِدقِي (وَلَئِنِ اعتَرَفتُ لَكُم بِأَمرٍ) ما، وَلَيسَ أَنَّها تَقصِدُ أَن تَقُولَ عَن نَفسِها إِنَّها زَنَت (والله يَعلَمُ أَنِّي مِنهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُنِّي) بِناءً عَلَى الظّاهِرِ مِنَ اعتِرافِي (فَوالله لا أَجِدُ لِي وَلَكُم مَثَلًا إِلّا أَبا يُوسُفَ) أَي يَعقُوبَ وَقَد نَسِيَت اسمَهُ وَقتَئِذٍ (حِينَ قالَ) يَعقُوبُ فِي مِحنَتِهِ (ﱡﭐﱺ ﱻﱼ  ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ثُمَّ تَحَوَّلتُ) عَن مَكانِي (واضطَجَعتُ عَلَى فِراشِي، والله يَعلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ) مِمّا يَقُولُ فِيَّ أَهلُ الإِفكِ (وَ)أَنا أُقَدِّرُ فِي نَفسِي (أَنَّ الله مُبَرِّئِي) أَي سَيُظهِرُ لِلنّاسِ أَنِّي بَرِيئَةٌ (بِـ)سَبَبِ (بَراءَتِي) فِي الحَقِيقَةِ (وَلَكِن واللهِ ما كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ الله مُنزِلٌ فِي شَأنِي وَحيًا يُتلَى) أَي قُرءانًا (لَشَأنِي فِي نَفسِي كانَ أَحقَرَ مِن أَن يَتَكَلَّمَ الله فِيَّ بِأَمرٍ) أَي أَن يَنزِلَ قُرءانٌ فِي شَأنِي (وَلَكِن كُنتُ أَرجُو أَن يَرَى رَسُولُ الله ﷺ فِي النَّومِ رُؤيا يُبَرِّئُنِي الله بِها) وَرُؤيا الأَنبِياءِ وَحيٌ أَي لَيسَت مِن تَلاعُبِ الشَّيطانِ وَإِنَّما هِيَ لِأَمرٍ يُرادُ بِها وَلَيسَ مَعناهُ أَنَّ رُؤياهُم كُلُّها عَلَى الظّاهِرِ.

قالَت عائِشَةُ (فَواللهِ ما رامَ) أَي ما فارَقَ (رَسُولُ الله ﷺ مَجلِسَهُ ولا خَرَجَ أَحَدٌ مِن أَهلِ البَيتِ) الَّذِينَ كانُوا فِيهِ حِينَئِذٍ حُضُورًا (حَتَّى أُنزِلَ عَلَيهِ) الوَحيُ (فَأَخَذَهُ) عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (ما كانَ يَأخُذُهُ مِنَ البُرَحاءِ) مِن شِدَّةِ الحالِ عِندَ نُزُولِ الوَحيِ عَلَيهِ (حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ) أَي يَنزِلُ وَيَقطُرُ (مِنهُ مِنَ العَرَقِ مِثلُ الجُمانِ) أَيِ اللُّؤلُؤِ الأَبيَضِ (وَهُوَ فِي يَومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القَولِ) أَيِ الوَحيِ (الَّذِي أُنزِلَ عَلَيهِ).

(قالَت) عائِشَةُ (فَسُرِّيَ) أَي كُشِفَ وَأُزِيلَ (عَن رَسُولِ الله ﷺ) ما هُوَ فِيهِ (وَهُوَ يَضحَكُ) سُرُورًا (فَكانَت أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها أَن قالَ) لِي (يا عائِشَةُ) “احمَدِي اللهَ”، كَما جاءَ ذَلِكَ فِي رِوايَةٍ (أَمّا الله فَقَد بَرَّأَكِ) أَي مِمّا نَسَبَهُ أَهلُ الإِفكِ إِلَيكِ بِما أَنزَلَ مِنَ القُرءانِ. (قالَت: فَقالَت لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيهِ) أَي إِلَى رَسُولِ اللهِ وَقَد بَشَّرَكِ بِما بَشَّرَكِ بِهِ، (فَقُلتُ: والله لا أَقُومُ إِلَيهِ) وَهَذا مِنها مِن بابِ حُبِّها لَهُ والدَّلالِ، قالَ ابنُ الجَوزِيِّ: إِنَّما قالَت ذَلِكَ إِدلالًا كَما يَدِلُّ الحَبِيبُ عَلَى حَبِيبِهِ، فَقالَت (فَإِنِّي لا أَحمَدُ إِلّا الله عَزَّ وَجَلَّ) الَّذِي أَنعَمَ عَلَيَّ وَأَنزَلَ بَراءَتِي (قالَت: وَأَنزَلَ الله تَعالَى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ العَشرَ الآياتِ، ثُمَّ أَنزَلَ الله هَذا فِي بَراءَتِي) فَطابَت نُفُوسُ المُؤمِنِينَ وَتابَ إِلَى اللهِ تَعالَى مَن كانَ تَكَلَّمَ مِنَ المُسلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَأُقِيمَ الحَدُّ عَلَى مَن أُقِيمَ عَلَيهِ.

وَ(قالَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ) بَعدَ ذَلِكَ (وَكانَ) مِن قَبلُ (يُنفِقُ عَلَى مِسطَحِ بنِ أُثاثَةَ لِقَرابَتِهِ مِنهُ) أَي لِأَجلِ قَرابَتِهِ (وَفَقرِهِ) وَمِنَ الصِّلَةِ لِلقُربَى أَن يُبذَلَ المالُ لِفُقَرائِهِم، قَولَهُ: (والله لا أُنفِقُ عَلَى مِسطَحٍ شَيئًا أَبَدًا، بَعدَ الَّذِي قالَ لِعائِشَةَ) أَي عَنها (ما قالَ) مِنَ الإِفكِ (فَأَنزَلَ اللَّهُ: ﱡﭐ ﱨ ﱩ) أَي وَلا يَحلِف ( ﱪ ﱫ ﱬ ﱩ) فِي الدِّينِ () فِي الدُّنيا ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ  أَي لا يَحلِف أَن لا يُحسِنَ إِلَيهِم، فَنَزَلَ ذَلِكَ (إِلَى قَولِهِ ﱡﭐﲂ ﲃ ﲄ ) وَفِي نَفسِ الآيَةِ قَولُهُ تَعالَى: ﱡﭐ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ  فَـ(قالَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ) رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِندَ ذَلِكَ (بَلَى واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَن يَغفِرَ الله لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كانَ يُنفِقُ عَلَيهِ) قَبلَ ذَلِكَ (وَقالَ: والله لا أَنزِعُها مِنهُ أَبَدًا).

(قالَت عائِشَةُ) رَضِيَ اللهُ عَنها (وَكانَ رَسُولُ الله ﷺ سَأَلَ زَينَبَ بِنتَ جَحشٍ) أُمَّ المُؤمِنِينَ (عَن أَمرِي، فَقالَ لِزَينَبَ: ماذا عَلِمتِ) عَلَى عائِشَةَ (أَو رَأَيتِ) مِنها (فَقالَت: يا رَسُولَ الله أَحمِي سَمعِي وَبَصَرِي) أَي أَصُونُها فَلا أَقُولُ سَمِعتُ ما لَم أَسمَعهُ وَرَأَيتُ ما لَم أَرَهُ (واللهِ ما عَلِمتُ) عَلَى عائِشَةَ (إِلّا خَيرًا. قالَت عائِشَةُ: وَهِيَ) زَينَبُ (الَّتِي كانَت تُسامِينِي مِن) بَينِ (أَزواجِ النَّبِيِّ ﷺ) الأُخرَياتِ أَي تُضاهِينِي بِجَمالِها وَمَكانِها عِندَ النَّبِيِّ ﷺ (فَعَصَمَها) أَي حَفِظَها (الله بِالوَرَعِ) أَي بِالمُحافَظَةِ عَلَى دِينِها أَن تَقُولَ بِقَولِ أَهلِ الإِفكِ، (قالَت) عائِشَةُ (وَطَفِقَت) أَي جَعَلَت (أُختُها حَمنَةُ تُحارِبُ لَها) أَي تَتَعَصَّبُ فَتَحكِي ما يَقُولُهُ أَهلُ الإِفكِ (فَهَلَكَت) حَمنَةُ بِالإِثمِ أَي أَثِمَت (فِيمَن هَلَكَ) مِن أَهلِ الإِفكِ.

قال الحافظُ النّوويُّ بعدَ ذِكرِه فوائدَ في حديثِ قِصّةِ الإفكِ: “الحاديةُ والأربعونَ بَراءةُ عائشةَ رضي الله عنها مِن الإفكِ وهي براءةٌ قَطْعيّةٌ بِنَصّ القرءانِ العَزِيزِ، فلَو تَشكَّكَ فيها إنسانٌ والعياذُ بالله صارَ كافِرًا مُرْتدًّا بإجماعِ المُسلمِينَ. قال ابنُ عبّاسٍ وغَيرُه: لَم تَزْنِ امرأةُ نَبِيٍّ مِن الأنبياءِ صلَواتُ اللهِ وسَلامُه علَيهِم أجمَعِينَ”([38]).



([1])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (9/285).

([2])  شرح صحيح البخاري، أبو الحسن بن بطّال، (9/11).

([3])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (11/10).

([4])  أي تُفيدُ التّوكيد.

([5])  البحر المحيط، أبو حيّان الأندلسيّ، (8/32).

([6])  جَمعُ طَسٍّ وطَسْتٍ وهو إناءٌ نُحاسيٌّ مُستديرٌ.

([7])  السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، أبو حاتِم بنُ حِبّان، (1/251).

([8])  أي بقُدرَتِه ومَشِيئَتِه، وأما فِعلُ النّبِيّ ﷺ والصحابةِ رضي الله عنهم فهو كَسبٌ منهُم واللهُ خالِقُهُ، وهذا دليلٌ لأهل السُّنّة على أنّ الله خالِقُ كلّ شىء وليس العبدُ يَخلُق فِعلَه كما تقولُ المعتزلةِ، فإنّه بقولهم: “إنّ العَبدَ يَخْلُق فِعْلَه الاختيارِيَّ وليسَ اللهُ يَخلُقُه” قد جَعَلُوا للهِ شُركاءَ لا يُحصَون وهذا كُفرٌ صُراحٌ. ومِن أوضحِ الأدِلّةِ على مَذهبِ أهلِ الحقّ أي على أنَّ العبادَ لا يَخلُقونَ شيئًا مِن أفعالهم قولُه تعالى ﱡﭐ   [سورة الأنفال/17] فإنّ القَتلَ للكُفّارِ حصلَ منهم ونسَبَهُ الله إليهم معنًى مِن حيثُ الظاهرُ أي الكَسبُ ونَفاهُ عنهم مِن حيثُ التكوينُ كذلك رميُ الرسولِ الكافرِينَ بالحصَى الذي ملأ أعينهُم فانهزموا حصلَ منَ الرسولِ ﷺ كسبًا فنَسَبه اللهُ تعالَى إلى نَبِيِّهِ مِن حيثُ كَسبُ النّبيّ لهذا الفِعلِ ونفَى عن النّبِيّ أن يكونَ هو خالقًا لِرَمْيِه.

([9])  عُيون الأثَر، ابن سيّد النّاس، (2/83).

([10])  الاعتِجارُ لَفُّ العِمامة على الرأْسِ، والمراد لفُّها مِن غَيرِ أنْ يُدِيرَها تحتَ لِحيْتَهِ.

([11])  نوعٌ مِن الحريرِ غلِيظٌ.

([12])  بضمّ القاف وفتح المهمَلة قريةٌ جامِعةٌ بينَ مكّةَ والمدينةِ كثيرةُ المِياهِ.

([13])  أي غافِلُونَ.

([14])  أي بارعةَ الجمال.

([15]) وفي نسخة: “تَقِيًّا” رَوَاها النووي في شرحه على مسلم وغيرُه.

([16]) أَي مِن خُلُقِهِ الوَفَاءُ.

([17]) أي تَرفَعُ الغُبَارَ.

([18]) أَي جَانِبِي.

([19]) وَفِي رِوَايَةٍ: “غَايَتُهَا كَدَاءُ” وَأُخرَى: “مَوعِدُهَا كَدَاءُ”، وَكَدَاءُ ثَنِيَّةٌ عَلَى بَابِ مَكَّةَ دَخَلَ الرَّسُولُ مَكَّةَ عَامَ الفَتحِ مِنهَا.

([20]) أَي يُسَابِقنَ وَيُضَاهِينَ الفُرسَانَ فِي قَوَامِهَا وَاعتِدَالِهَا وَفِي رِوَايَةٍ: “يُبَارِعنَ” وأخرى: “يُنَازِعنَ”.

([21]) أَي مُقبِلَاتٍ وَمُتَوَجِّهَاتٍ نَحوَكُم.

([22]) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرحِهِ عَلَى مُسلِمٍ: بِفَتحِ الهَمزَةِ وَالسِّينِ المُهمَلَةِ وَبَعدَهَا لَامٌ هَذِهِ رِوَايَةُ الجُمهُورِ.

([23]) الأَسَلُ: الرِّمَاحُ، وَالظِّمَاءُ: الرِّقَاقُ، فَكَأَنَّهَا لِقِلَّةِ مَائِهَا عِطَاشٌ، وَقِيلَ: المُرَادُ العِطَاشُ لِدِمَاءِ الأَعدَاءِ.

([24]) أَي مُسرِعَاتٍ يَسبِقُ بَعضُهَا بَعضًا.

([25]) أَي تَمسَحُهُنَّ النِّسَاءُ بِخُمُرِهِنَّ، جَمعُ خِمَارٍ، أَي يُزِلنَ عَنهُنَّ الغُبَارَ وَهَذَا لِعَزَّتِهَا وَكَرَامَتِهَا عِندَهُم.

([26]) أَي أَدَّينَا العُمرَةَ.

([27]) أَي فَتحُ مَكَّةَ.

([28]) أَي ظَهَرَ مَا كَانَ خَافِيًا وَأَنجَزَ اللهُ وَعدَهُ لِنَبِيِّهِ بِفَتحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ غَيرُ ذَلِكَ.

([29]) وَفِي رِوَايَةٍ: “لِجِلَادِ” أَي قِتَال.

([30]) يَحرُمُ رِوَايَةُ القُرءَانِ بِالمَعنَى عَلَى وَجهٍ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا تَرجَمَةُ أَلفَاظِه، أَمَّا إِذَا قَالَ: “اللهُ يَقُولُ إِنَّنِي لَا أُشبِهُ شَيئًا” عَلَى وَجهٍ لَا يُوهِمُ أَنَّ هَذَا تَرجَمَةُ أَلفَاظِ القُرءَانِ فَيَجُوزُ، وَمِنه قَولِ حَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ هُنا ومَا بَعدَه.

([31]) وَفِي رِوَايَةٍ: “أَرسَلتُ” وَأُخرَى”: سَيَّرتُ”.

([32]) أَي هَيَّأتُهُم.

([33]) أَي عَادَتُهَا أَن تَتَعَرَّضَ لِلِّقَاءِ، فَهِيَ قَوِيَّةٌ عَلَيهِ، أَو مَقصُودُهَا وَمَطلُوبُهَا اللِّقَاءُ.

([34]) أَي مَعشَرَ الأَنصَارِ.

([35]) يُرِيدُ قُرَيشًا.

([36]) أَي مُمَاثِلٌ وَلَا مُقَاوِمٌ مِنكُم.

([37])  إرشاد السّاري لشرح صحيح البُخاريّ، شهاب الدين القَسْطلّانيّ، (7/261).

([38])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (17/118).