الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ الهِجْرَةِ) أي هِجرةِ رسولِ الله ﷺ مع أبي بَكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه (إِلَى المَدِينَةِ) المنوَّرةِ

203-        

وَإِذْ فَـشَـا الإِسْـلَامُ بِالْمَدِيـنَـةْ

 

هَـاجَـرَ مَـنْ يَـحْفَظُ فِيهَا دِينَهْ

204-        

وَعَـزمَ الصِّـدِّيـقُ أَنْ يُـهَاجِـرَا

 

فَـرَدَّهُ النَّـبِـيُّ حَـتَّـى هَاجَـرَا

205-        

مَـعًا إِلَـيْـهَا فَـتَـرَافَـقَا إِلَـى

 

غَارٍ بِـثَـوْرٍ بَـعْـدُ ثُـمَّ ارْتَـحَـلَا

206-        

وَمَعْهُمَا عَـامِـرُ مَـوْلَى الصِّـدِّيقْ

 

وَابْـنُ أُرَيْـقِـطٍ دَلِيلٌ لِلطَّـرِيـقْ

 














(وَإِذْ) أي وحِينَ (فَشَا الإِسْلَامُ) أي ظَهَر وانْتَشَرَ (بِالْمَدِينَة) الْمُنوَّرةِ شَكا أصحابُ رسول الله ﷺ إلَيهِ ما وَجَدُوه مِن أذَى المشركِين واستَأْذَنُوه في الهجرة إلى الْمَدِينَةِ الْمُنوَّرةِ فأَذِنَ لَهُم فـ(ـهَاجَرَ) إِلَيها كُلُّ (مَنْ يَحْفَظُ فِيهَا دِينَه) الإسلامَ ويَتَمسَّكُ بِهِ، ولَم يَبْقَ بِمَكّة المكرَّمةِ إلا النَّبِيُّ ﷺ وأبُو بكَرٍ الصِّدِّيقُ وعَلِيٌّ رضيَ الله عنهمُا ومَن هُو مَحْبُوسٌ أو مَرِيضٌ.

(وَعَزمَ) أبُو بكَرٍ (الصِّدِّيقُ) علَى (أَنْ يُهَاجِرَا) – والألف للإطلاق – إلى الْمَدِينَةِ (فَرَدَّهُ

النَّبِيُّ) ﷺ وقال له: «لَا تَعْجَلْ لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا» فلم يَزَلْ أبو بَكرٍ يَهِمُّ بالهِجرةِ والنّبِيُّ يَرُدُّه عَن الْمَسِيرِ (حَتَّى) أَيْقَنَتْ قُرَيشٌ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قد بُويِعَ وأنّه قَد أَمَرَ مَن كانَ بِمَكَّة مِن أَصحابِه أنْ يَلْحَقُوا بإِخْوَانِهم بالْمَدِينةِ فتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهم وقالُوا: “أَجْمِعُوا في أَمْرِ مُحَمَّد فوَاللهِ لكَأَنَّه قد كَرَّ علَيكُم بالرِّجالِ فأَثْبِتُوه أو اقتُلوه أو أَخْرِجُوه”، فاجْتَمَعوا له في دارِ النَّدْوَة([1]) لِيَقتُلوه، فلَمَّا دَخَلُوا الدّارَ اعتَرَضَهُم الشيطانُ في صُورةِ رَجُلٍ جَمِيلٍ في كِساءٍ، فقال: أدخُل؟ فقالوا: مَن أنتَ؟ قال: أنا رَجُلٌ مِن أَهلِ نَجْدٍ سَمِع بالَّذِي اجْتَمَعْتُم له فأرادَ أنْ يَحْضُرَه مَعَكُم فعَسَى أن لا يُعْدِمَكُم مِنهُ رَأيٌ ونُصْحٌ، فقالوا: أَجَل فادْخُل، فلَمَّا دَخَل قالَ بَعضُهم لِبَعضٍ: “قَد كان مِن الأَمْر ما قَد عَلِمْتُم، فأَجْمِعُوا فِي هذا الرَّجُل([2]) رَأْيًا واحِدًا”. وكانَ مِمَّن اجتَمَع له في دار النَّدْوة: شَيْبَةُ وعُتْبةُ ابنَا رَبِيعةَ وأَبُو جَهْلٍ والنَّضْرُ بنُ الحارِث، فقال قائِلٌ مِنهُم: أَرَى أنْ تَحْبِسُوه وتَرَبَّصُوا به رَيْبَ الْمَنُونِ حتى يَهْلِك كما هَلَك مَن كان قَبْلَه مِن الشُّعَراء زُهَيرُ بنُ أَبِي سُلْمَى والنَّابِغةُ وغَيرُهما، فقال النَّجْدِيّ([3]): واللهِ ما هذا لَكُم بِرَأْيٍ، واللهِ لَئِنْ فَعَلتُم لَيَخْرُج رَأْيُه وحَدِيثُه حَيثُ حَبَسْتُموه إلى مَن وَراءَه مِن أَصحابِه فأَوْشَكَ أَنْ يَنْتَزِعُوه مِن أَيدِيكُم ثُمَّ يَغْلِبُوكم علَى ما في أَيْدِيكُم مِن أَمْرِكُم، فقال قائِل مِنهُم: بَل نُخْرِجُه فنَنفيه مِن بِلَادِنا، فإِذَا غَيَّب عَنّا وَجْهَه وَحَدِيثَه فَواللهِ ما نُبَالِي أَيْنَ وَقَع مِن البلاد، ولَئِنْ كانَ أَجْمَعْنا بعدَ ذلِكَ أَمْرَنا وأَصْلَحْنا ذاتَ بَيْنِنَا، قال النَّجْدِيُّ: لَا واللهِ ما هذا لَكُم بِرَأْيٍ، أمَا رَأَيْتُم حَلاوةَ مَنْطِقِه وحُسْنَ حَدِيثِه وغَلَبَتَه علَى مَن يَلْقَاهُ دُونَ مَن خَالَفَه، واللهِ لَكَأَنِّي بِه إنْ فَعَلْتُم ذَلِك قَد دَخَل علَى قَبِيلَةٍ مِن قَبائِلِ العَرَب فأَصْفَقَتْ معَهُ([4]) علَى رَأْيِه ثُمّ سارَ بِهِم إِلَيكم حتَّى يَطَأَكُم بِهِم، فَلا واللهِ ما هذَا لَكُم بِرَأْيٍ، قال أبو جَهْلٍ: واللهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا ما أَراكُم وَقَعْتُم علَيه، قالوا: وما هُو؟ قال: أرَى أنْ تَأْخُذُوا مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ مِن قُرَيشٍ غُلَامًا نَهْدًا جَلَدًا([5]) نَسِيبًا وَسَطًا([6]) ثُمَّ تُعْطُوهُم شِفارًا([7]) صَارِمةً ثُمّ يَجْتَمِعُوا فيَضْرِبُوهُ ضَرْبةَ رَجُلٍ واحِدٍ، فإذَا قَتَلْتُمُوه تَفَرَّق دَمُه في القَبائِل فلَم تَدْرِ بَنُو عَبْدِ مَنافٍ بَعدَ ذَلِكَ مَا تَصْنَعُ ولم يَقْوَوا علَى حَرْبِ قَوْمِهم، فَإِنَّما أَقْصَرُهم عِندَ ذَلِك أنْ يَأْخُذُوا العَقْلَ([8]) فتُأَدُّونَه لَهُم، قال النَّجْدِيّ([9]): للهِ دَرُّ الفَتَى، هذا الرَّأْيُ وإِلَّا فَلَا شىءَ. فتَفَرَّقُوا على ذلك واجتَمَعُوا له.

فَأَتَى جِبرِيلُ عَلَيهِ السِّلَامُ رَسُولَ الله ﷺ، فَقَالَ: لَا تَبِت هَذهِ اللَّيلةَ علَى فِراشِكَ الَّذِي كُنتَ تَبِيتُ علَيهِ. فَلَمَّا كَانَت عَتَمَةٌ مِن اللَّيلِ اجتَمَعَ المشرِكُون علَى بَابِهِ ﷺ يَرصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ([10]) علَيهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ الله ﷺ مَكَانَهُم قَالَ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ: نَم عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجَّ بِبُردِي([11]) هَذَا الحَضْرَمِيَّ الأخضَرَ فنَمْ فِيهِ فإِنَّهُ لَن يَخْلُصَ إِليكَ شَىءٌ تَكْرَهُهُ مِنهُم. وفي إخبارِه عليًّا رضي الله عنه أنّهم لن يخلصوا إليه مُعجِزةٌ للنبيّ ﷺ إذ فيها إخبارٌ عَمَّا يقع في المستقبل وقد حصل، وفي ذلك أيضًا بيان لجرأة سيّدنا عليّ رضي الله عنه، والنبيُّ ﷺ يُفدَى بالروح والوالد والولد، ويا سَعدَ عَلِيًّا ويا هناه فقد نام في فراش مولاه، وهذه بركةٌ عظيمةٌ نالَها عليٌّ رضي الله عنه. وكان رَسُولُ الله ﷺ يَنامُ فِي بُرْدِه ذَلِك إذا نامَ([12]).

وَخَرَج رَسُولُ الله ﷺ على المُشرِكِين فأَخَذ حَفْنَةً مِن تُرابٍ([13]) في يَدِهِ، وأعمَى اللهُ تَعالَى أَبصارَهم عَنهُ ﷺ فلَم يَرَوْا رَسُولَ اللهِ، فجَعَل ﷺ يَنْثُر ذَلِك التُّرابَ علَى رُؤُوسِهم وَهُو يَتْلُو هؤلاءِ الآياتِ: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ إلى قَولِه تَعالَى: ﱡﭐﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ فلَم يَبْقَ مِنهُم رَجُلٌ إِلَّا وَقَد وَضَعَ النَّبِيُّ علَى رَأْسِه تُرابًا ثُمَّ انْصَرَف إِلَى حَيثُ أَرادَ أَنْ يَذْهَبَ.

فأَتاهُم ءَاتٍ مِمَّن لم يَكُن مَعَهُم فقالَ: مَا تَنْتَظِرُون ههُنا؟ قالُوا: مُحَمَّدًا، فقَالَ: خَيَّبَكُمُ اللهُ، قَد وَاللهِ خَرَجَ علَيكُم مُحَمَّدٌ ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنكُم رَجُلًا إِلَّا وَقَد وَضَعَ علَى رَأْسِه تُرَابًا وَانْطَلَق لِحَاجَتِه، أفَمَا تَرَوْنَ ما بِكُم؟! فَوَضَع كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم يَدَهُ علَى رَأْسِه فَإِذَا علَيهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُون فيَرَوْنَ عَلِيًّا علَى الفِراشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ الله ﷺ فيَقُولونَ: واللهِ إِنَّ هذَا لَمُحَمَّدٌ نائِمًا علَيه بُرْدُه، فلَمْ يَبْرَحُوا كذَلِك حتَّى أَصْبَحُوا، فقَام عَلِيٌّ عَنِ الفِراشَ فقالُوا: واللهِ لقَدْ كانَ صَدَقَنَا الَّذِي كانَ حَدَّثَنَا([14]).

وكان أمرُ اللهِ قَد جاءَ لِنَبِيِّه ﷺ بالهِجرة مِن مَكّة إلى المدِينةِ المنوَّرةِ فجاءَ إِلَى بَيتِ أبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ ظُهْرًا فقال: “إِنَّ اللهَ أذِنَ لِي فِي الهِجْرَةِ” فقال أبو بَكرٍ: الصُّحْبةَ، عِندِي ناقَتانِ أُعْطِيكَ إِحْدَاهُما، فقال ﷺ: “بالثَّمَنِ“، فتَجَهَّزا وأَعَدَّتْ لَهُما عائشةُ وأسماءُ بِنْتا أبِي بَكرٍ زَادًا فـ(ـهَاجَرَا مَعًا إِلَيْهَا) أي المدِينةِ المنوَّرِة.

وكان بَدءُ رِحلة الهِجْرةِ بِخُروجِهِما مِن خَوْخةٍ([15]) لِأَبِي بَكْرٍ لَيْلًا (فَتَرَافَقَا إِلَى غَارٍ بِـ)ـجَبَلِ (ثَوْرٍ بَعْدُ) وهو جَبلٌ قُربَ مَكّةَ فَدَخَلا الغارَ فخَيَّم عَنكَبُوتٌ وفَرَّخَتْ حَمامَةٌ علَى بابِه، فتَقَدَّم جمعٌ مِن المشرِكين ورأَوا ذلكَ فقالوا: ليسَ في الغارِ شَىءٌ.

وقد أنكَر شَيخَاْ الوهّابيةّ المُجسِّمةِ المدعُوّانِ “محمّدُ بنُ العثيمين” و”صالحٌ الفوزان” قِصّةَ نَسْجِ العنكبوتِ وحَكَما ببُطلانِها، مع أنّ ابنَ كثيرٍ([16]) – تِلميذَ ابنِ تَيمِيةَ ومحبوبَ الوّهابيّة المُجَسِّمة – أورَدَ الحديثَ في قِصّة نَسْجِ العَنكبوتِ مِن مُسنَدِ أحمَدَ ثُمّ قال في «البداية والنِّهاية»: “وهذا إسنادٌ حسَنٌ وهو مِن أجوَدِ ما رُوِي في قِصّة نَسْجِ العَنكبُوتِ على فَمِ الغار، وذلك مِن حمايةِ اللهِ رَسُولَه ﷺ” اهـ  وكذلك حَسَّن الحافظ العسقلانيّ هذا الحديثَ([17]).

وطَلَبَت قُرَيشٌ النّبِيَّ ﷺ أشَدَّ الطَّلَب وَجَعَلَت لِمَن دَلَّ علَيه مائةَ ناقَةٍ، وأَتَوا إلى الغارِ – وكان مُنْخَفِضًا ضَيِّقَ الفُتْحة – فوَجَدُوا بابَه على تِلكَ الهيَئة مُغطًّى بنَسْج العنكَبوت وبيت الحَمام، فقَال أبو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللهِ لَو نَظَرَ أَحَدُهُم إلى رِجْلِه لَرَءَانَا، فقال: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا” أي اللهُ ناصِرُهُما ومُعِينُهما وليس هذا بمعنَى حلول الله فيهما ولا أنّه معهما بذاته حالًا في الغار إذ الحلول والاتحاد قول عقيدة أهل الإلحاد، يقولُ الله تعالى: ﱡﭐ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ وهذا نفي للماديّة والانحلال، وقد نقل الحافظ السيوطي في «الحاوي» والملّا عليّ القاري في رسالته «الردّ على القائلين بوَحدة الوجود» الإجماعَ على كُفر مَن يقول بالحلول والاتّحاد، وما في الآية ﱡﭐ ﲩ ﲪ  ﲫ فمعناهُ بالحِفظ والتأييد والنُّصرة، ونَظِير ذلك قولُه تعالَى: ﱡﭐ ﱍ ﱎ  ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ  ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ وتفسيرُها: ﱡﭐ ﱍ ﱎ  ﱏ ﱐ أي مِن التَّنَاجِي مِن خَلْقِه ﱡﭐ  ﱔ أي الله يَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْوَاهُم فَلَا يَخْفى علَيه شَىءٌ مِن إِسرارِهم وليس معناه أنّهم حالٌّ فيهم أو في المكان الذي هم فيه  بل هو تعالَى موجودٌ أزلًا وأبدًا بلا جِهةٍ ولا مكانٍ، ليس كميّة ولا مادّة لا يحلّ هو في شيء ول ينحلّ منه شيء لأنه ليس كمثله شىء، وقد نقَلَ الفقيهُ الشَّافعيُّ عبدُ الوهَّابِ الشعرانيُّ في كتابه «اليواقيت والجواهر في عقيدةِ الأكابرِ» عن الشيخِ الفقيهِ محيي الدّين بنِ عربي رحمه الله أنّه قال: ما قال بالاتِّحادِ إلا أهلُ الإلحادِ ومَن قال بالحلولِ فدينُه معلول اهـ  وهذا تكفيرٌ صريحٌ منه رحمه الله للقائلين بعقيدةِ الحلول والاتّحاد، ويَتبيّن بهذا أنّه بريءٌ من عقيدة الحلول والاتحاد.

وأمّا قولُه تعالى: ﱡﭐ يَكُون مِن نَجوَى ﱡﭐ مِن خَلْقِه ﱡﭐ  ﱘ    ﱙ  أي يَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْوَاهم كذَلِك ﱡﭐ أي أقَلّ ﱡﭐ ﱜ ﱝ العدَدِ ﱡﭐ  ﱟ مِن ذَلِك مِن خَلْقِه ﱡﭐ  ﱡ  ﱢ عزّ وجلّ بعِلْمِه أي يَعْلَم ما يَتَناجَوْنَ بِه ولا يَخفَى علَيه ما هُم فيه، وهو تعالى مُنَزَّه عن المكان والجِهة عالِمٌ بما كان وما يكونُ وما سيكونُ وما لا يكونُ أنْ لو كانَ كيفَ يكونُ.

وكان عامرُ بنُ فُهَيرةَ عبدًا مملوكًا لأبي بَكرٍ يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ وأبا بَكرٍ ليلًا يَحْرُسُهما ويَخْدُمُهما ويَبِيتُ عِندَهُما ثمّ يَخرجُ عند السَّحَرِ إلى مكّةَ كأنّه بائتٌ بِها فلا يسمع أمرًا يُكادُ بِه إلا وَعاهُ حتى يأتِيهما بِخَبرِ مَا سَمِعَ مِن القَومِ، فَمَكَثا على تِلكَ الحالِ ثَلاثَ ليالٍ (ثُمَّ ارْتَحَلَا) مِن الغارِ بعدَها إلى المدِينةِ المنوَّرةِ (وَمَعْهُمَا عَامِرُ) بن فُهَيرة بنِ
سَخْبَرةَ (مَوْلَى) أي عبدٌ مَمْلُوكٌ لِأبِي بَكرٍ (الصِّدِّيقِ) رضي الله عنهُ (وَ)معَهُم أيضًا عبدُ اللهِ (بْنُ أُرَيْقِطٍ) من بني عَبدِ بنِ عَدِيٍّ، فقَدِ استَأْجَرَاهُ علَى أنّه (دَلِيلٌ) لهما (لِلطَّرِيقِ) أي لِيَدُلَّهُما علَى الطريق إلى المدِينةِ، وكان ابنُ أُرَيقطٍ كافرًا إذْ ذاك.

207-        

فَأَخَـذُوا نَحْـوَ طَرِيقِ السَّـاحِـلِ

 

وَالحَـقُّ لِلْعَـدُوِّ خَـيْـرُ شَـاغِـلِ

208-        

تَـبِـعَـهُـمْ سُـرَاقَـةُ بْـنُ مَالِـكِ

 

يُـرِيـدُ فَتْكًـا وَهْـوَ غَـيْـرُ فَاتِكِ

209-        

لَمَّا دَعَـا عَلَيهِ سَـاخَـتِ الفَرَسْ

 

نَادَاهُ بِالأَمَـانِ إِذْ عَنْهُ حُـبِـسْ

 










(فَأَخَذُوا) أي النّبِيّ ﷺ وأبو بكرٍ رضي الله عنه وابنُ فُهَيرةَ وابنُ أُرَيقِطٍ متوجِّهِينَ (نَحْوَ طَرِيقِ السَّاحِلِ) أسفَلَ مِن عُسفان، وهي أبعد مِن الطَّريقِ الجادَّة، (وَ)اللهُ (الحَقُّ) أي الثّابِتُ الوجود الَّذِي لا شَكّ في وُجودِهِ هُوَ (لِلْعَدُوِّ) المشرِكين (خَيْرُ شَاغِل) عن أنْ يَتبَعُوا ءاثارَ النّبِيّ ﷺ وأبي بَكرٍ رضي الله عنه ومَن معَهُما.

ثم سَلَك بهِما ابنُ أُرَيقطٍ أعلَى أسفَلِ أَمَجٍ([18])، ثم اجتازَ بِهِما مِن مكانِه ذَلِك فسَلَك بهِما الخَرَّارَ([19])، ثم سَلَك ثَنيَّة الْمُرَّة، ثم سَلَك بهما لَقْفًا ثم أجازَ بِهِما مُدْلِجةَ لقْفٍ([20])، ثمّ استَبْطن بهما([21]) مُدْلِجة مَحَاج([22])، ثم سَلَك بهما مَرْجِح مَحَاج، ثم تَبَطَّن بهِما مَرْجِح مِن ذِي الغَضْوَين([23]) ثم من ذي كَشْر، ثم أخذ بهما على الجَدَاجد، ثم على الأجْرَد، ثم سَلَك بهما ذا سَلَم مِن بَطْنِ أَعْداءِ مُدْلِجة تِعْهِن، ثم على العَبابِيد([24])، ثم أجاز بهما الفاجَّة([25])، ثُمّ هَبطَ بِهما العَرْج([26])، فأَبْطَأ علَيهما الجَمَل قَلِيلًا فحَمَل رسولَ الله ﷺ رَجُلٌ مِن أَسْلَم يُقال له أَوْسُ بنُ حَجَرٍ([27]) علَى جَمَلٍ لَهُ يقال له ابنُ الرَّدّاء، وبَعَث معه غُلامًا له يُقال له مَسعُودُ بنُ هُنَيدة فَخَرَج بهما دَلِيلَهُما مِن العَرْج فسَلَك بهما ثَنِيَّة العائِر([28]) عَن يَمِين رَكُوبة حتى هَبَط بهِما بَطْن رِئْمٍ([29])، ثمّ قَدِم بهما قُباءٍ([30]) على بني عَمرِو بنِ عَوْفٍ.

فَجَعل رُسُل مُشرِكِي قُرَيش يُخبِرُون بأمرِ جائزَةِ مَن يَقتُل أو يأسُرُ النَّبِيَّ وأبا بَكرٍ، فبينما سُراقة بنُ مالِكٍ جالِسٌ في مَجلِسٍ من مجالِس قَوْمِهِ بَنِي مُدْلِج إذْ أقَبَل رَجُلٌ وقال: يا سُراقةُ، إِنِّي قد رَأَيتُ ءانِفًا أَسْوِدَةً([31]) بالسّاحل، أُرَاها مُحَمَّدًا وأَصحابَه، فعَرَفَ سُراقةُ أنَّهُم هُم، فقال: إِنَّهم لَيُسوا بِهُم، ولَكِنَّكَ رأيتَ فُلانًا وفُلانًا انْطَلَقُوا بأَعْيُنِنا يَبْتَغُون ضَالّةً لَهُم([32])، فَلَبِثَ سُراقة في المجلس وقتًا ثُمّ قامَ ودَخَلَ فأَمَرَ جارِيَتَهُ أن تُخْرِجَ فَرَسَه، فأَخَذ رُمْحَهُ فخَرَجت به مِن ظَهْرِ البَيت، فَركِبَ فَرَسَه فخَرَّ عَنها فقامَ فاستَخْرَجَ مِن كِنانَتِه الأَزلام فاسْتَقْسَم بها “أُضِرُّهم أم لا”، فخَرج سَهمُ أن لا يُضِرُّهم وكان هُو يُريد عَكسّ ذلِك، فلَم يَلْتَفِت إلى ما خَرَج على عَكس عادتهِم في الجاهليّة بل (تَبِعَهُم سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ) إلَى طريق السّاحِل (يُرِيدُ فَتْكًا) بهِم أي قَتْلَهُم طَمَعًا مِنهُ بالجائِزة الّتِي أعَدَّتْها قُريشٌ (وَهوَ) في الحَقِيقة (غَيْرُ فَاتِكِ) بهِم ولا ضارٍّ أحَدًا مِنهم.

ولَمَّا لاحَ لَهُما سُراقةُ أنّه يَتبَعُهما صَار أبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ التَّلَفُّتَ والنّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ ولَا يَلْتَفِت، فلَمَّا قَرُب سُراقةُ مِنْهُما قالَ ﷺ: «اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ كَيفَ شِئْتَ وَبِمَا شِئْتَ»، و(لَمَّا دَعَا عَلَيهِ) رسولُ الله ﷺ (سَاخَت) أي غاصَتْ (الفَرَس) التِّي كان يَركَبُها سُراقةُ إلى بطنها في أرض صلبةٍ وخَرَّ عَنِ الدّابّةِ فـ(ـنَادَاهُ) أي نادَى سُراقة النّبِيَّ ﷺ (بِالأَمَانِ) والتّخلِيص لَهُ مِمّا حَلّ بِه (إِذْ) وَجَد أنّه (عَنْهُ) أي عَنِ اللَّحاق بالنّبِيّ ﷺ قد (حُبِسَ) ومُنِعَ وليس مَعُه دابَةٌ مُنطَلِقةٌ يَعودُ بِها من حيث جاءَ إلا دابّة محبوسة بالأرض لا تقدِر على الحِراك([33])، فخاف سُراقةُ الهلاكَ في تِلكَ الأرضِ وقال للنّبِيّ: “يا مُحَمَّد قد عَلِمْتُ أنّ هذا عَمَلُك فادْعُ اللهَ أنْ يُنَجِّيَنِي مِمّا أنا فِيهِ، فوَاللهِ لأُعَمِّيَنَّ علَى مَن وَرائي مِن الطَّلَب، وهذه كِنانَتِي فَخُذْ مِنهَا سَهْمًا فإِنَّك سَتَمُرّ علَى إِبِلِي وغَنَمِي بِمَكانِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنهَا حاجَتَك”، فقال له رسولُ الله ﷺ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ»، ودَعا ﷺ أنْ يَنفَكّ عنهُ ما حَلّ بِدابّتِه فأطَلقَتْها الأرضُ فانْطَلَق سُراقةُ راجِعًا إلى أصحابه لا يَلْقَى أحَدًا مِنهُم إلا قال له: “قَد كُفِيتُم ما ههُنَا”، فَجَعَل لَا يَلْقَى أحَدًا إلا رَدَّه ووَفَى للنّبِيّ ﷺ وأبِي بَكرٍ وابنِ أُرَيقِطٍ بما وعَدَهُم.

ذِكرُ مُرورِه ﷺ بأُمِّ مَعْبَد

بابٌ فِيه (ذِكرُ مُرورِه ﷺ) معَ أبي بَكرٍ رضي الله عنه (بـ)ـخَيمةِ (أُمِّ مَعْبَدٍ) عاتَكةَ الخُزاعِيّةِ

210-        

مَـرُّوا عَلَى خَـيـمَـةِ أمِ مَـعـبَـدِ

 

وَهْيَ عَـلَـى طـريقِهِمْ بمَرْصَـدِ

211-        

وَعِـنْـدَهَـا شَـاةٌ أَضَـرَّ الجَـهْـدُ

 

بِـهَـا وَمَـا بِـهَـا قُـوًى يَشْـتَـدُّ

212-        

فَـمَسَـحَ النَّبِيُّ مِـنْـهَا الضَّـرْعَا

 

فَحَلَبَتْ مَا قَـدْ كَفَاهُـمْ وُسْـعَا

213-        

وَحَـلَـبَـتْ بَـعْـدُ إِنَـاءً ءَاخَـرَا

 

تَـرَكَ ذَاكَ عِـنْـدَهَـا وَسَـافَـرَا

 












(مَرُّوا) أي النَّبِيُّ ﷺ وأبو بَكرٍ وعامِرُ بنُ فُهَيرة وابنُ أُرَيقِطٍ في طريق الهِجرَة (عَلَى خَيمَة) كانت لـ(ـأُمِّ مَعْبَد) عاتكةَ بنتِ خالِدٍ الخُزَاعِيّةِ (وَهْيَ عَلَى طريقِهِم) مُحتَجِبةٌ بفِناءِ خَيمَتِها مِن الحَرّ قاعِدة (بمَرْصَد) أي تَرصُد مَن كانَ يَمُرُّ بِها فتَسقِيه مِن الماءِ واللَّبَن([34])، (وَ)كانَ (عِنْدَهَا شَاةٌ أَضَرَّ الجَهْدُ) أي التَّعَبُ (بِهَا وَمَا) أي ولَيسَ (بِهَا قُوًى يَشْتَدُّ) أي قُوّةٌ تُساعِدُها عَلَى اللَّحاقِ بالغَنمِ لِمَا بِهَا مِن الهُزال. فقال لَها ﷺ: تَأْذَنِين لي أن أَحْلِبَها؟ قالت: بِأبِي أَنتَ وَأُمِّي إنْ رَأَيتَ بِهَا حَلْبًا فاحْلِبْها (فَمَسَحَ النَّبِيُّ)(مِنْهَا) أي مِن الشَّاةِ ظَهْرَها و(الضَرْعَا) أي ثَديَها ثُمَّ سَمَّى اللهَ ودَعَا (فَحَلَبَتْ) الشّاةُ أي دَرَّت مِن اللَّبَن (مَا قَدْ كَفَاهُم) مِن الشُّربِ مِمّا أعطَتْهُم (وُسْعًا) أي بأن شَرِبُوا ما تَحتَمِلُهُ طاقَتُهم مِن الرّيِّ (وَ)حَلَبَها النَّبِيُّ ﷺ مَرّة ثانِيةً فـ(ـحَلَبَتْ) أي دَرَّتْ مِن اللَّبَنِ (بَعْدُ إِنَاءً ءَاخَرَا) غَيَر الأوَّلِ فـ(تَرَكَ)(ذَاكَ) الإناءَ المملُوءَ مِن اللَّبَنِ (عِنْدَهَا) أي عِندَ أُمِّ معْبَدٍ (وَسَافَرَا) بَعد أنْ بايَعَها النَّبِيُّ ﷺ علَى الإِسلامِ واستَمَرَّت تلك البركةُ في الشّاة.

ولَمّا جاء أبو مَعْبَدٍ أكْثَمُ بنُ الجَوْن الخُزاعِيُّ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجافًا هَزْلَى يَتَساوَكْن([35]) رأى اللَّبَن فَعَجِبَ وقال: مِن أَيْنَ لَكِ هذَا اللَّبَنُ يا أُمَّ مَعْبَدٍ والشّاءُ عازِبٌ حِيال([36]) ولا حَلُوبَ في البَيْت؟ قالت: لا واللهِ إلَّا أنّه مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبارَكٌ مِن حَالِه كذَا وكذَا، قال: صِفِيه لِي يا أُمَّ مَعْبَدٍ، فوصَفَتهُ له وسيأتي تفصيل كلامِها في بابِ «وصفِ أُمِّ مَعبدِ النَّبِيَّ ﷺ».

ورَوَى أبو نُعَيمٍ عَن أُمِّ مَعْبدٍ قالت: “بَقِيَتِ الشّاةُ الَّتِي لَمَسَ رَسُولُ الله ﷺ ضَرْعَها عِندَنَا حتَّى كان زَمَانُ الرَّماَدةِ([37]) وهِيَ سَنةُ ثمانِي عَشْرَةَ مِن الهِجْرةِ زَمانَ عُمَرَ بنِ الخَطّاب

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكُنَّا نَحْلِبُها صَبُوحًا([38]) وغَبُوقًا([39]) وما فِي الأَرضِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ”.

ذِكرُ وُصُولِه ﷺ إِلَى قُباءٍ ثُمَّ إِلَى المَدِينَةِ

بابٌ فِيه (ذِكرُ وُصُولِه ﷺ) فِي رِحلةِ الهِجرةِ (إِلَى قُباءٍ) ونُزولِه بِها (ثُمَّ إِلَى المَدِينَةِ) المُنوَّرةِ

214-        

حَـتَّـى إِذَا أَتَـى إِلَـى قُـبَـاءِ

 

نَـزَلَـهـا بِـالسَّــعْـدِ وَالـهَـنَـاءِ

215-        

فِي يَـوْمِ الاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَـشْــرَهْ

 

مِنْ شَـهْـرِ مَوْلِـدٍ فَنِعْمَ الهِجْـرَهْ

216-        

أَقَـامَ أَرْبَـعًا لَـدَيْـهِـمْ وَطَـلَـعْ

 

فِـي يَـوْمِ جُـمْعَةٍ فَصَـلَّى وَجَمَعْ

217-        

فِي مَسْـجِـدِ الجُمْعةِ وَهْـيَ أَوَّلُ

 

مَـا جَـمَّـعَ النَّـبِـيُّ فِيمَا نَقَلُوا

218-        

وَقِـيـلَ بَـلْ أَقَـامَ أَرْبَعْ عَشْــرَهْ

 

فِيهِمْ وَهُـمْ يَنْـتَـحِـلُونَ ذِكْـرَهْ

219-        

وَهْـوَ الَّذِي أَخْرَجَـهُ الشَّـيْخَانِ

 

لَكِـنَّ مَـا مَـرَّ مِـنَ الإِتْـيَـانِ

220-        

لِمَسْـجِـدِ الجُمْعَةِ يَـوْمَ جُـمْعَةِ

 

لَا يَسْـتَـقِـيـمُ مَـعَ هَذِيْ الْمُدَّةِ

221-        

إِلَّا عَلَى القَوْلِ بِكَـوْنِ القَدْمَةِ

 

إِلَـى قُـبَاْ كَانَـتْ بِـيَـوْمِ الجُمْعَةِ

 



























كان المهاجِرُونَ والأنصارُ يَغدُون إلى قُباءٍ يَنْتَظِرُونَ قُدومَهُ ﷺ في أَوَّلِ النَّهارِ، فإِذَا أَحْرَقَتهُم الشَّمسُ رَجَعُوا إلى بُيُوتِهم، فلَمَّا كانَ يَومُ قُدُومِه غَدَوا كعَادَتِهم فَلَمَّا أحْرَقَتْهُم الشَّمْسُ رَجَعُوا فإِذَا بَيَهُودِيٍّ يَصِيحُ علَى أُطُمٍ([40]): يا بَنِي قَيْلَةَ([41]) هذَا صاحِبُكُم قَد جاءَ، فلَبِسُوا السِّلاحَ وتَلَقَّوه فقَدِم ﷺ (حَتَّى إِذَا أَتَى إِلَى) مَوضِع (قُبَاءٍ نَزَلَها بِالسَّعْدِ وَالهَنَاءِ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَة) لَيلةً خَلَتْ (مِنْ شَهْرِ) رَبِيعٍ الأوَّلِ شَهرِ (مَوْلِد)ِ ﷺ (فَنِعْمَ) تِلكَ (الهِجْرَة) المبارَكةُ.

وجاءَ الْمُسلِمُون يُسَلِّمُونَ علَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وهُو جالِسٌ فِي ظِلِّ نَخْلةٍ ومَعَهُ أبُو بَكْرٍ، وكان أكثَرُ الْمُسلِمِينَ لم يَرَ النَّبِيَّ ﷺ قبلَ ذَلِك.

وَنَزَل رَسُولُ الله ﷺ على كُلثُوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف، وكان يَجلِسُ للنّاسِ في بَيتِ سَعدِ بنِ خَيْثَمٍ لأنه كانَ عَزَبًا وكان يقال لِبَيتِه :بَيْت العُزّابِ”، ونزل أَبُو بَكرٍ الصِّدّيقُ رضِيَ الله عنهُ علَى خُبيبِ بن إِسافٍ بالسُّنْحِ([42]) وقيل على خارِجةَ بنِ زَيدٍ، فـ(ـأَقامَ) النَّبِيُّ ﷺ في قُباءٍ (أَرْبعًا) الاثنَينِ والثُّلاثاءَ والأَربِعاءَ والخَمِيسَ (لَدَيْهِم) أي لَدَى بَنِي عَمرِو بنِ عَوفٍ، وأَسَّسَ ﷺ مَسجِدَ قُباءٍ وهو المسجِدُ الَّذِي أُسِّسَ علَى التَّقْوَى، قال تعالى: ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ  ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ  ﱳ ﱴ ﱵ ([43]) وقد جاء في حَدِيث سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رضيَ الله عنهُ عن رسولِ الله ﷺ قال: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً([44]) كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» رواه ابنُ حِبّانَ في «صحِيحِه» وابنُ ماجهُ في «سُنَنِه» واللّفظُ له.

(وَطَلَع) بَعد ذلِكَ النَّبِيُّ ﷺ مِن بَينِ أَظهُرِ أهلِ قُباءٍ (فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ) مُبارَكةٍ، فرَكِب راحِلَتَه ومَشَى النّاسُ حَوْلها وصارَ الواحِدُ مِنهُم يُنازِعُ صَاحِبَه زِمامَ الرّاحلةِ([45]) تسابُقًا للنَّيل مِن بَرَكَةِ مُرافقَتِه ﷺ وخِدمَتِه، فأَدركَتِ النَّبِيَّ الجُمُعةُ في بَنِي سالِم بنِ عَوفٍ (فَصَلَّى) الجُمُعةَ بِمَن مَعَه مِن المسلِمِين (وَجَمَع) النّاسَ لأجلِهَا (فِي مَسْجِدِ الجُمْعةِ) وهو مَسجِدٌ ببطنِ وادي رانُوناءَ([46]) (وَهيَ أَوَّلُ مَا) أي أوَّل صَلاةِ جُمعَةٍ (جَمَّعَ النَّبِيُّ) ﷺ لَها (فِيمَا) بعضُ أهلِ السِّيَرِ (نَقَلُوا) عن غيرِهم.

وكانَت تِلكَ أوَّلُ خُطبةِ جُمعةٍ كما نُقِلَ، فقام النَّبِيُّ ﷺ حامِدًا الله ومُثنِيًا عليه وقال: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمَنَّ وَاللهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ لَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ([47]): أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَءَاتَيْتُكَ مَالًا، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَلَيَنْظُرَنَّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشَرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».

وشُهِرَ عندَ أهل السِّيَر إقامَتُه ﷺ أربعةَ أيّامٍ (وَ)رُوِي عن أنسٍ قولٌ ءاخَرُ فـ(ـقِيلَ بَلْ أَقَامَ) ﷺ في بني عمرو بن عَوف (أَرْبَعْ عَشْرَهْ) لَيلةً (فِيهِمْ وَهُمْ) أهلُ السِّيَرِ (يَنْتَحِلُونَ ذِكْرَهْ) أي يَجنحَون إلى هذا القول الأخير ويميلون إليه في كلامِهم (وَهْوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ) البُخاريُّ ومُسلِمٌ مِن طريقِ أنسٍ رضي الله عنه (لَكِنَّ) هذا القولَ يُعارِضُه (مَا مَرَّ) أوَّلًا (مِنَ الإِتْيَانِ) إلى قُباءٍ (لِمَسْجِدِ الجُمْعَةِ يَوْمَ جُمْعَةِ) فـ(ـلَا يَسْتَقِيمُ) القَولُ بأنّه ﷺ خَرَج مِن الغارِ ليلةَ الاثنَين أوَّل شَهرِ رَبيعٍ الأوَّلِ وقَدِم المدينةَ يومَ الاثنَين لاثنتَيْ عَشْرةَ ليلةً خَلَتْ مِن ربيع الأوَّل (مَعَ) القول ببَقائهِ إلى (هَذِي الْمُدَّةِ) أي مُدَّةَ أربعةَ عشرَ يومًا في بني عمرو بن عَوف إلى أنْ خرَجَ مِن عِندِهم يومَ الجُمعة، ولا يُتصوَّرُ كونُ المُدّةِ أربعةَ عشرَ يومًا (إِلَّا عَلَى القَوْلِ بِكَوْنِ القَدْمَةِ) أي الإتيانِ (إِلَى قُبَاْ)ءٍ لمَسجِد الجمُعةِ (كَانَتْ بِيَوْمِ) أي يومَ (الجُمْعَةِ) لاثنتَيْ عَشْرةَ ليلةً مضَتْ مِن ربيع الأوَّل. وفي ذلك أقوالٌ أُخَر، فقد قيل: قَدِم المدينةَ يومَ الاثنَين لِثَمانٍ خَلَتْ مِن ربيع الأوَّل، وقيل: يومَ الاثنَين مُستَهَلَّه، وقيل: غير ذلك، واللهُ أعلَمُ.

وأقام عَلِيٌّ رضيَ الله عنهُ بمكّةَ بأَمْرِ رسولِ الله ﷺ حتَّى أدَّى ودائِعَ كانت عِندَه ﷺ أمرَه بأدائها إلى أهلها ثم يلحق به، ففعل عليٌّ ذلك ثم لحق بالمدينة فنزل معه ﷺ بقُباءٍ.

222-        

بَـنَـى بِـهَا مَسْـجِـدَهُ وَارْتَحَـلَا

 

لِطَـيْبَةَ الفَيْحَـاءِ طَابَـتْ نُـزُلَا

223-        

فَـبَـرَكَـتْ نَاقَـتُـهُ الْمَـأْمُـورَهْ

 

بِمَوْضِـعِ الْمَسْـجِدِ فِي الظَّـهِيْرَهْ

224-        

فَـحَـلَّ فِـي دَارِ أَبِـي أَيُّـوبَـا

 

………………………………………

 






وقد (بَنَى) النَّبِيُّ ﷺ (بِهَا) أي بقُباءٍ (مَسْجِدَهُ) يعني مَسجِدَ قُباءٍ وهو غيرُ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ الشّريفِ، وحينَ أسَّسَه ﷺ كانَ هو أوَّلَ مَن وَضعَ حجَرًا في قِبْلَتِه، ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه بِحَجرٍ فوَضعه، ثم جاء عُمَر رضي الله عنه بِحَجَرٍ فوَضعه إلى حَجَرِ أبي بَكرٍ ثُمَّ أخَذ النّاسُ في البُنْيانِ، كذلك ذكرَهُ ابنُ أبي خَيْثمةَ في «تاريخه».

فائدة: إنّ لِمَسجِدِ قُباءٍ مَزِيَّةً خاصّةً عند المسلمِين سيّما أنّه أوّلُ مَسجِدٍ بُنِي في المدينة المنوَّرة، فقد جَدَّد سيّدنا عثمان رضي الله عنه عِمارَتَهُ ثم جَدَّدَهُ عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنهُ، وتتابَع الخُلفاء مِن بَعدِهم على توسِعَتِه وتجديدِ عِمارَتِه إلى زمانِ السُّلطان قايتباي المحمودي الأشرفِيّ (ت 901هـ) حيث قام بتوسِعته وتَبِعه على ذلك السُّلطان محمود خان الثاني العثماني (ت 1245هـ) وابنه السلطان عبد المجيد الأول (ت 1277هـ) والِدُ السُّلطان عبد الحميد الثاني رحمهُمُ اللهُ وغَفَرَ لَهُم.

(وَ)بعدَ أنْ أقامَ رسول اللهِ ﷺ أيامًا بقُباءٍ وكان يومُ جُمُعةٍ وارتَفَع النَّهار دعا رسول الله ﷺ براحِلَتِه واحَتَشد المُسلِمونَ ولَبِسُوا السِّلاحَ ورَكِبَ رسولُ اللهِ ﷺ ناقَتَه القَصْواءَ([48]) مُريدًا الخُروجَ مِن قُباءٍ والنّاسُ معه عن يمينه وعن شماله وخَلْفَه منهم الماشي والراكبُ، فاجتمَعَتْ بنُو عمرِو بنِ عوفٍ يسألُونَه ﷺ إنْ كان يُرِيدُ دارًا خيرًا مِن دارِهِم، فقال النّبيُّ ﷺ: «إِنِّي أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ([49]) تَأْكُلُ القُرَى([50]) فَخَلُّوها([51]) فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ».

فلَمَّا أرادَ رسول الله ﷺ الخروجَ مِن قُباءٍ (ارْتَحَلَا) والألف للإطلاق (لِطَيْبَةَ) أي المدِينة المنوَّرةِ (الفَيْحَاءِ) الّتي فاحَ عبيرُها وذِكْرُها في الآفاقِ بنُزولِ النّبِيّ ﷺ فيها، فتلقّاه النّاسُ في الطّريقِ فخرجوا في الطُّرُق وعلى الأباعِر، وصار الخَدَم والصِّبيان يقولون: «الله أكبر، جاءنا رسولُ اللهِ، جاء مُحَمَّد». وقال أنسٌ رضي الله عنهُ: إنِّي لأَسعَى معَ الغِلْمان إذ قالوا: محمَّدٌ جاء، فنَنطَلِقُ([52]) فلا نرى شيئًا، حتى أقبل وصاحِبُه أبو بكر فكَمَنَا في بعض جُدُر([53]) المدينة فـ(ـطَابَتْ) المدينةُ بنُزولِهِ ﷺ وصاحبِهِ بها (نُزُلَا) مُبارَكًا.

فبَعَثا رَجلًا مِن أهل البادية ليُؤْذِنَ بِهِما الأنصارَ، فاستَقبلهما زُهاءُ خَمسِمائةٍ من الأنصار، حتى انتَهَوا إليهما فقالَتِ الأنصار: انْطَلِقا ءَامِنَينِ مُطاعَينِ، فأَقْبَلَ رسول الله ﷺ وصاحِبُه بين أَظْهُرِهم، فخرج أهلُ المدينة حتَّى إنَّ العواتِقَ صَعِدْنَ فَوق البُيوت يَتراءَيْنه مِن بَعيدٍ وهُنَّ يَقُلْن: أَيُّهُم هُوَ؟ أيُّهُم هُو؟، قال أنسٌ: فَما رَأَينا مَنْظَرًا شَبِيهًا بِهِ

يَومَئِذٍ، وهذا الحديثُ رواه البيهقيُّ رحمهُ الله.

ورَوَى أحمد وأبو داود عن أنَسٍ رضي الله عنه أنه قال: «لَمَّا قَدِم رسولُ الله ﷺ المدينةَ لَعِبَتِ الحَبَشةُ بحِرابِها فَرَحًا بِقُدُومه ﷺ».

ورَوَى البخاري عن البراء رَضِي الله عنه أنه قال: «ما رأيتُ أهلَ المدينةِ فَرِحُوا بِشَىءٍ فَرَحَهُم برسول الله ﷺ».

وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: «لَمَّا كان اليومُ الَّذِي دَخَل فيه رسولُ الله ﷺ المدينةَ أضاءَ مِنها كُلُّ شَىءٍ».

وروى ابن أبي خَيْثَمةَ عن أنسٍ رضي الله عنه أيضًا قال: «شَهِدتُ يومَ دخَلَ رَسولُ الله ﷺ المدينةَ فلَم أرَ يومًا أحسَنَ مِنهُ ولا أَضْوَأَ([54])».

فلم يَمُرَّ رسولُ الله ﷺ بدارٍ مِن دُور الأنصار إلَّا قالوا: «هَلُمَّ يا رسول الله إلى العِزّ
والمَنَعةِ والثَّرْوة»، فيقول لهم خيرًا ويدعو أو يقول: «إنَّها مَأْمُورَةٌ خَلُّوا سَبِيلَها»، فمرَّ بِبَنِي سالِمٍ فقام إليه عِتْبان بنُ مالِكٍ ونَوْفلُ بن عبد الله بنِ مالكِ بنِ العَجْلان وهو ﷺ ءاخِذٌ بزِمام راحلته فقالوا: «يا رسولَ الله انْزِلْ فينا فإنَّ فينا العَدَدَ والعَشِيرةَ والحَلْقة([55])، ونحن أصحاب الحدائق والدّرَك، يا رسول الله قد كان الرجل مِن العرب يدخل هذه البُحَيرة([56]) خائفًا فيلجأ إلينا فنقول له: «قَوْقِلْ حَيث شِئتَ([57])»، فجَعَل رسول الله ﷺ يَتَبسّم ويقول: «خَلُّوا سَبِيلَها فإنَّها مَأْمُورَةٌ» فقام إليه عُبادةُ بن الصّامِت والعَبّاسُ بن عُبادة بنِ نَضْلة ابن مالِك بنِ العَجْلانِ فجَعَلا يقولان: «يا رسولَ الله انْزِلْ فِينا»، ورسولُ الله ﷺ يقولُ: «بارَكَ  اللهُ عَلَيكُم إِنَّها مَأْمُورةٌ، فخَلُّوا سَبِيلَها».

فانْطَلَقت حتَّى إذا مَرَّتْ بدار بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّار وهم أخواله ﷺ اعتَرَضهُ سَلِيطُ بنُ قَيسٍ وأبو سَلِيطٍ أُسَيرَةُ بنُ أبي خارِجةَ في رِجالٍ منهم فقالوا: يا رسول الله، هَلُمَّ إلى أخوالِكَ إلى العَدَدِ والعُدَّة والمَنَعة، قال «خَلُّوا سَبِيلَها فإنَّها مَأْمُورَةٌ» حتَّى إذا أتَتْ دارَ بَنِي مالكِ بنِ النَّجَّار وصلَتْ بابَ مَسْجِده([58]) (فَبَرَكَتْ) أي استنَاخَتْ (نَاقَتُهُ) وتُدعَى القَصْواءَ وهي (الْمَأْمُورَهْ بِـ)ـالإناخةِ في (مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فِي) وَقْتِ (الظَّهِيْرَهْ) وكان ذلِكَ المَوضِعُ يومئِذٍ مِرْبَدٌ([59]) لغُلامَين يَتِيمينِ سَهْلٍ وسُهَيلٍ مِن بني مالِك بنِ النَّجَّار كانا في حِجْر معاذِ بن عَفراءَ، فلَمَّا بَرَكت النّاقةُ ورسولُ الله ﷺ علَيها لم يَنْزِل بَعدُ، سارَتْ غيرَ بَعِيدٍ ورَسولُ الله ﷺ واضِعٌ لها زِمامَها لا يَثْنِيها بِه، ثم الْتَفَتَتْ خَلْفها فرَجَعَت إلى مَبْرَكِها أوَّلَ مَرَّةٍ فبَرَكَت فيه، ثم تَحَلْحَلَتْ([60]) ورَزَمَتْ([61]) ووضَعَتْ جِرانَها([62])، فجَعَل جَبّارُ ابن صَخْرٍ السَّلَمِيُّ([63]) يَنْخَسُها رجاءَ أن تقومَ فتنزل في دار بَنِي سَلِمة([64]) فلَم تَفْعَل، فنزل رسول الله ﷺ عنها وقال: «هُنا المَنْزِلُ إنْ شاءَ اللهُ»، فاحتَمَل أبو أيُّوبَ رَحْلَه([65]) فوَضَعه في بَيْتِهِ، وكان هناكَ عَرِيشٌ يَرُشُّونه ويُعَمِّرُونه ويَتَبَرَّدُونَ فيه حتَّى نَزَل رسولُ الله ﷺ عن راحِلَتِه فأَوَى إلى الظّلّ فنَزَل فيهِ فقال ﷺ: «أيُّ بُيوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟» فقال أبُو أيُّوبَ: أنا يا نَبِيَّ اللهِ، هذِه دارِي وهذا بابِي وقد حَطَطْنا رَحْلَك فيها، فكلَّمه بعضُهم في النُّزول عليهم فقال ﷺ: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ حَيْثُ كَانَ»، ثُمّ قال لأبي أيُّوبَ: «فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا([66])»، فذَهَب أبو أيُّوبَ فَهَيّأ لهما مَقِيلًا، (فَحَلَّ)(فِي دَارِ أَبِي أَيَّوبَا) الأنصاريَّ رضيَ اللهُ عنهُ وقَرَّ قرارُه واطْمَأنّت دارُه ونَزَل معه زَيدُ بنُ حارِثةَ رضيَ الله عنهُ.

ورَوَى ابْنُ ماجَهْ والحاكِمُ وأبو سعيدٍ النَّيسابُورِيُّ أنَّ رسولَ الله ﷺ لَمَّا نَزَل على أبي أيُّوبَ خَرَج جَوارٍ([67]) مِن بَنِي النَّجَّارِ يَضْرِبْنَ بالدُّفوفِ ويَقُلْنَ [الرَّجَز]:

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ                   يا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ

فقالَ ﷺ: «الله يَعْلَمُ إِنِّي لَأُحِبُّكُنَّ»([68]).

فصلٌ في بيانِ أنّ صوتَ المرأةِ ليس بِعَورةٍ

فصلٌ في بيانِ أنّ صوتَ المرأةِ ليسَ بِعَورةٍ

في الأثرِ السّابِقِ دليلٌ على أنّ صوتَ المرأةِ ليسَ بعَورةٍ إلَّا لِمَن كان يَتلذَّذُ بسماعِ صوتها فيَحرُم عليه هو الاستِماعُ حِينئذٍ.

فإن قيل: أليس في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ  ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ تحريمُ الاستماعِ إلى صوت المرأة؟

فالجواب: أنَّ الأمر ليس كذلك، فقد قال القرطبي في تفسيره: “أمرهنَّ اللهُ([69]) أن يكون قولهُنَّ جَزْلًا وكلامُهنَّ فَصْلًا ولا يكونَ على وجهٍ يَظْهر في القلب عَلاقةٌ بما يَظْهر عليه مِن اللِّين كما كانت الحالُ عليه في نساء العَرَب([70]) مِن مُكالَمة الرِّجال بتَرخِيم الصوت ولِيْنِه مثلَ كلام المُرِبيات والمُومِسات، فنَهاهُنّ عن مِثل هذا” اهـ.

وقال أبو حيان في «البَحر المحيط»: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ  : “قال ابنُ عَبّاس: “لا تَرْخَصن بالقَول”، وقال الحسن: “لا تَكَلَّمْنَ بالرَّفَث”، وقال الكَلْبِيُّ: “لا تَكَلَّمْنَ بما يَهوى المُرِيبُ”، وقال ابن زَيدٍ: “الخضوعُ بالقَول ما يُدخِل في القلبِ الغَزَل([71])“، وقيل لا تُلِنَّ للرِّجالِ القَولَ” اهـ.

وكذلك في الآية: ﱡﭐ  ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ تدُلُّ على حالةٍ خاصّةٍ وهي حالةُ الرِّجال الذين يتلذّذون بسماع صوت المرأة، فهؤلاء يحرم عليهم أن يستمعوا إلى صوت المرأة وليس الأمر على كلِّ الرِّجال.

فيُعلَم مِن ذلك أنّه ليس المرادُ بهذه الآية أنه يَحْرُمُ عليهنّ أن يتَكَلَّمْن بحيث يَسمَعُ الرِّجالُ أصواتَهُنَّ، بلِ النَّهيُ عن أنْ يتَكَلَّمْنَ بِكلامٍ رَخِيمٍ يُشبِهُ كلامَ المُرِيباتِ المُومِسات أي الزّانِياتِ. وصحَّ عن عائشةَ رضي الله عنها أنها كانت تُدَرِّسُ الرِّجالَ مِن وراءِ سِتارٍ، فقد ذَكَر الحافظُ العَسقلانِيُّ في «التَّلْخِيصِ الحَبِير» ما نَصُّه: “فإنّهُ ثابِتٌ في الصَّحِيح أنهم كانوا يَسألونَ عائشةَ عن الأحكامِ والأحاديثِ مُشافَهةً” اهـ.

وروى الحاكم في «المستدرك» عن الأحنف بن قيس قال: “سمعت خطبة أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم والخلفاء هلم جرّا إلى يومي هذا، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه

من في عائشة رضي الله عنها” اهـ. وقد عاش الأحنف إلى عام 72هـ زمان بَنِي أُميّة.

وكَم في كُتبِ السُّنَنِ مِن نَقْلِ الصّحابة عن أُمّهاتِ المُؤمنين مباشرةً لأحوال وأقوال رسول الله ﷺ.

وقال العِمرانيُّ في «البَيان»: وروت عائشةُ رَضِيَ الله عَنْهَا أنّ هِندَ امرأةَ أبي سفيان جاءَتْ إلى النَّبِيّ ﷺ وقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وإنَّهُ لا يُعطِينِي ووَلَدِي إلَّا ما ءاخُذُه مِنهُ سِرًّا ولا يَعْلَمُ فهَلْ عَلَيَّ في ذلك شىءٌ؟ فقال ﷺ: «خُذِيْ ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» قال أصحابنا: وفي هذا الخبر فوائد”، ذكَرَ مِنها سِتَّة عشَرَ بَيَنها “السّابِعةُ: أنَّ صَوتَ المرأةِ ليسَ بِعَورةٍ” ا.هـ.

وبِمثل ذلك صَرَّح مِن الشّافعيّة: النَّوِويُّ في «المَجموع» والبَدر الزَّركشيُّ في «خَبايا الزَّوايا» والمنهاجي الأسيوطي في «جَواهِر العُقود» وزكريّا الأنصاريُّ في «أسنَى المَطالِب» والخطيب الشّربينيّ في «مُغنِي المُحتاج» والشيخ عُمَيرة في «حاشيته على كَنز الرّاغِبِين» والغمراويّ المصريّ في «السِّراج الوَهّاج» والدِّمياطيّ في «إعانةِ الطّالبِينَ» وغيرُهُم.

ومِن الحنفيّة: ابنُ نُجيمٍ في «البَحر الرائق» وبَدر الدّين العَينِيُّ في «عُمدة القاري بشرح

صحيح البُخاري» والطّحْطاوي في حاشيته على «مراقي الفلاح» وابنُ عابدِين في حاشيته «رَدّ المحتار على الدُّرّ المختار» وغيرُهم.

ومِن المالِكِيّة: العَدَوِيُّ في حاشِيته على «شرح الخَرَشِيّ» والدُّسوقيّ في حاشيته على «الشّرح الكبير» واللَّقّاني في «فَتَاويه» وغيرُهم.

ومِن الحَنابِلة: ابنُ أبي هُبَيرة في «الإفصاح» والمَرداويُّ في «الإنصاف» والبُهوتيّ في «شرح منتهَى الإرادات» وغيرُهم.

وقال العِراقيّ في «طرح التّثريب» ما نصُّه: “صَوْت المرأةِ ليسَ بِعَورةٍ إذْ لو كان عَورةً ما سَمِعَهُ النَّبِيُّ ﷺ وأَقَرَّ أصحابَه على سَماعِه”([72]).

 

إقامَةُ النَّبِيّ في دارِ أيُّوبَ الأنصاريّ رضي الله عنه

إقامَةُ النَّبِيّ في دارِ أيُّوبَ الأنصاريّ رضي الله عنه

رَوَى مُسلِم في «صحيحِه» عن أفلَحَ مولَى أبي أيُّوبَ عن أبي أيوبَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نزل عليه([73])، فنزل النَّبِيُّ ﷺ في السُّفْل([74]) وأبو أيُّوبَ في العُلْو، فانتَبَه أبو أيُّوبَ لَيلةً فقال: نَمشِي فوقَ رأسِ رسول الله ﷺ فيَنتثِرُ التُّرابُ مِن وَطءِ أقدامِنا عليه، فتَنَحَّوا فباتُوا في جانِبٍ، ولَم يَزَلْ أبو أيُّوبَ ساهِرًا حتّى أصبَحَ، فأتاهُ فقال: يا رسولَ اللهِ إنّي أخشَى أنّي كنتُ ساكِنًا فوقَ رأسِ النّبِيّ ﷺ فيَنتثِر التُّرابُ مِن وَطءِ أقدامِنا عليكَ، وإنَّه أطيَبُ لِنَفْسِي أنْ أكونَ تحتَك في أسفَلِ البيتِ، فقال النَّبِيُّ ﷺ: «السِّفْلُ([75]) أَرْفَقُ([76])»، فقال أبو أيُّوبَ: لا أعلُو سَقِيفةً أنتَ تَحْتَها، ولم يَزَلْ أبو أيُّوبَ يَتضرَّعُ إليه ﷺ حتّى انْتقَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلى العُلوِ وأبو أيُّوبَ إلى السُّفْل، فكان يَصْنَعُ للنبيِّ ﷺ طعامًا فإذا جِيءَ به إليه سألَ عن موضِعِ أصابِعِه فيَتَتَبَّعُ موضِعَ أصابِعِه([77])، فصَنَع له طعامًا فيه ثُومٌ، فلَمَّا رُدَّ إليه سأل عَن مَوْضِعِ أصابع النبيِّ ﷺ، فقِيل له: لم يَأْكُلْ، ففَزِعَ وصَعِدَ إليه فقال: أحَرامٌ هو؟ فقال
النبيُّ ﷺ: «لا ولَكِنِّي أَكْرَهُهُ»، قال: فإِنِّي أكرَهُ ما تَكْرَهُ، قال: وكان النَّبِيُّ ﷺ يُؤتَى([78]).

قال الحافظُ النوويُّ: “قال العلماءُ: في هذا أنَّهُ يُستَحَبُّ للآكِلِ والشَّارِبِ أنْ يُفْضِلَ مِمَّا يأكلُ ويَشرَبُ فَضْلةً لِيُواسِيَ بها مَن بَعْدَه لا سَيِّمَا إنْ كان مِمَّن يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِه، وكذا إذا كان في الطّعامِ قِلَّةٌ ولهم إليه حاجةٌ، ويتأكَّدُ هذا في حَقِّ الضَّيفِ لا سِيَّما إن كانت عادةُ أهلِ الطَّعامِ أنْ يُخْرِجُوا كُلَّ ما عِنْدَهم وتَنْتَظِر عِيالُهُم الفَضْلةَ كما يَفعَلُه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، ونَقَلُوا أنَّ السَّلَف كانُوا يَسْتَحِبُّون إِفضالَ هذه الفَضْلةِ المذكُورةِ، وهذا الحديثُ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّه” اهـ.

 

بِناؤُه مَسجِدَه الشَّريفَ معَ أصحابِه

بِناؤُه ﷺ مَسجِدَه الشَّريفَ معَ أصحابِه

266-        

………………………………………

 

حَـتَّـى ابْتَنَى مَسْـجِدَهُ الرَّحِيبَا

 



ولَم يَزَل رسولُ الله ﷺ مُقِيمًا عند أبي أيُّوبَ يَنزِلُ عليهِ القُرءانُ ويأتِيهِ فيه جِبريلُ([79]) عليهِ السّلامُ (حَتَّى) أيْ إلى أوانٍ (ابْتَنَى) أي بنَى فيهِ ﷺ والمهاجِرونَ والأنصارُ (مَسْجِدَهُ) الشّرِيفَ (الرَّحِيبَا) أي الواسِعَ ، فطَفِق ﷺ يَنقُل مَعَهُم اللَّبِنَ ترغيبًا لهم في العمَل ويقول: «اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشُ عَيْشُ الآخِرَة، فاغفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَة»، وفي روايةٍ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَة([80])، فَأَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَة»، وفي غيرِهما: «فَأَكْرِمِ

الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَة».

وروى محمد بن الحسَن المخزوميُّ عن أُمِّ سلَمة رضي الله عنها أنها قالت: «بنى رَسولُ الله ﷺ مَسجِدَه فقَرَّبَ اللَّبِنَ وما يحتاجونَ إليه، فقام رسولُ الله ﷺ فوَضَع رداءَه، فلَمَّا رأى ذلك المهاجرُونَ الأوَّلون والأنصارُ ألقَوا أردِيَتَهُم وأكسِيَتَهُم وجعَلُوا يَرتجِزُون([81]) ويعمَلُون ويقُولونَ: [الرَّجَز]

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ

 

لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

وروَى البيهقيُّ عن الحسَن قال: لَمَّا بَنَى رسولُ الله ﷺ المسجدَ أعانَه أصحابُه وهو معهم يتناولُ اللَّبِنَ حتى اغبَرَّ صَدْرُه، وكان عثمانُ بنُ مَظعونٍ رضي الله عنه رَجُلًا مُتنطِّعًا([82]) وكان يحمِلُ اللَّبِنةَ فيُجافِي بها ثوبَه، فإذا وضَعَها نَفَضَ كُمَّه ونظَر إلى ثَوبِه، فإنْ أصابه شىءٌ مِن التُّراب نَفَضَه، فَنَظر إليه عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه وأنشَدَ: [الرَّجَز]

لا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا

 

يَـدْأَبُ فِيهَا قَائِمـًا وَقَاعِـدَا

وَمَنْ يُرَى عَنِ الْغُبَارِ حَائِدَا

فسَمِعَها عَمّارُ بنُ ياسِر فجَعَل يَرتجِزُ بها وهو لا يَدرِي مَن يُعنَى بِها، فمَرّ بعثمانَ بنِ مَظعونٍ فقال عُثمانُ:  يا ابنَ سُميّةَ، ما أعرَفَنِي بِمَن تُعرِّض – وكان عُثمانُ مَعه جَرِيدةُ

نَخْلٍ – فقال: لَتَكُفَّنَّ أو لَأَعْتَرِضَنَّ بها وَجْهَك([83]).

فسَمِعه رسول الله ﷺ فغَضِب، فكفَّ النّاسُ عَن عمّارٍ ثم قالوا لعمّار: إنّ النبيَّ ﷺ قد غَضِبَ فِيك، ونخافُ أنْ يَنزِل فينا قرءانٌ، فقال: أنا أُرضِيهِ كما غَضِب، فقال: يا رسولَ الله ما لي ولأَصحابِك؟ قال: «مَا لَكَ وَلَهُم؟» قال: يُرِيدونَ قَتْلِي، يَحمِلُون لَبِنةً لَبِنةً ويَحمِلُون علَيَّ لَبِنَتَينِ لَبِنَتَينِ، فأخذ بِيَدِه وطافَ به في المسجِدَ وجعَل يمسَحُ وَفْرَته([84]) بِيَدِه مِن التُّراب وكان عمّارٌ رَجُلًا جَعْدًا وهو يقول: «يا ابْنَ سُمَيَّةَ، لَيْسُوا بِالَّذِينَ يَقْتُلُونَكَ، تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، تَدْعُوهُم إِلَى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَكَ إِلَى النَّارِ»، فَقَالَ عَمَّارٌ: أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَن.

فبَنَى رَسولُ الله ﷺ مَسجِدَه وجَعل عُضادَتَيه الحِجارةَ، وسَوارِيه جُذوعَ النَّخْل، وسَقْفَه جَرِيدَها بعدَ أن نَبَش قُبورَ المشركِينَ وَسَوَّاها، وسَوَّى الخَرِبَ([85]) وقَطَع النَّخْل، وجعَل النَّخل قِبلةَ المَسجِد.

وكان بناءُ مَسجِدِه ﷺ بالسَّمِيط([86]) لَبِنةً على لَبِنةٍ، ثم بالسُّعَيد([87]) لَبِنةً ونِصفَ أخرى، ثم

كَثُر الناسُ فقالوا: “يا رسولَ اللهِ، لو زِيدَ فيه”، ففَعَل، فبَنَى بالذَّكَر والأُنثَى وهي لَبِنَتانِ مُختلِفَتان، وكانوا رَفَعوا أساسَ المَسجِدِ قريبًا من ثلاثةِ أذرُعٍ بالحجارةِ وجَعَلوا طُولَه مما يَلِي القِبلةَ إلى مُؤخَّرِه مائةَ ذراعٍ وكذا في العَرْض، وكان مُرَبَّعًا. وَلَم يَكُن له سَطْحٌ فشَكَوُا الحرَّ فجعَلوا خَشَبَهُ وسوارِيَهُ جُذوعًا وظلَّلُوه بالجَرِيدِ ثمّ بالخَصْفِ([88])، فلَمَّا وَكَفَ عليهم([89]) طيَّنُوه بالطِّينِ وجعَلوا وَسَطَه رَحْبَةً([90])، وكان جِدارُه قَبل أنْ يُسقَّفَ قامةً وشيئًا.

وَجَعَل ﷺ قِبلَةَ مَسجِدِه إلى بيتِ المَقدِس، وجَعَل له ثلاثةَ أبوابٍ: بابٌ في مؤخَّره مِن جِهة الجَنوب وهو بابُ أبي بكر وهو في جِهةُ القِبلة اليومَ، وبابُ عاتكةَ ويُقالُ له: بابُ الرَّحمة في جهة المغرب، والبابُ الذي كان يَدخُل منه رَسولُ اللهِ ﷺ وهو باب عُثمانَ ويُسمّى الآنَ بابَ جبريلَ، ولما تحوّلتِ القبلةُ للكعبة في السنة الثّانية مِن الهِجرة سُدَّ البابُ الذي كان في المؤخّرةِ وفُتح بابٌ في مواجهةِ المسجد بالجهةِ الشَّمالية.

أساطِينُ المَسجِدِ النَّبَوِيّ الشَّريفِ

أساطِينُ المَسجِدِ النَّبَوِيّ الشَّريفِ

لَم يَبْنِ النّبيُّ ﷺ وأصحابُه سائرَ الأساطينِ أي الأعمِدةِ الموجودَةِ في المسجِدِ النبويِّ الشريفِ اليومَ، فإنّ بها الآنَ ما يَزيدُ على خمسمائةِ أُسطوانةٍ، وقد بلَغَتْ ثلاثَمائةٍ وسبعةٍ وعشرينَ في عهدِ السُّلطانِ العُثمانيّ عبدِ المَجِيدِ (ت 1277هـ)، عدَدٌ مِنها مُجتمِعٌ إلى بعضِهِ وءَاخَرُ مُتباعِدٌ. أمّا المُجتمِعُ مِنها فلا يُعرَفُ لجميعِها أسماءٌ خاصّةٌ،  لكن أُثِرَ

لبعضِها أسماءٌ هيَ:

       الأُسطُوانةُ المُخلَّقةُ: وأطلقَ بعضُ المؤرِّخِينَ هذه التّسميةَ على عِدّةٍ مِنها، ورجَّحَ السَّمهوديُّ في «خلاصة الوفا» أنّها إذا أُطلِقَتْ فإنّما يُرادُ بها التي هي علَمُ مُصلَّاه ﷺ. ومعنَى المُخَلَّقةِ المُطيَّبةُ، مِن الخَلُوقِ وهو الطِّيبُ. ورُوي أنّ عُثمانَ بنَ مَظعونٍ رضي الله عنه تَفَلَ في القِبلةِ وهو يُصلِّي في المَسجِد فأصبَحَ مكتئِبًا فقالت له زوجَتُه: ما لِي أراكَ مُكْتَئِبًا؟ فقال: لا شىءَ إلّا أَنِّي تَفَلْتُ في القِبلةِ وأنا أُصَلِّي([91])، فعَمَدَتْ إلى القِبْلة فغَسَلَتْها ثُمّ عَمِلَت خَلُوقًا فخَلَّقَتْها([92]) فكانت أوَّلَ مَن خَلَّقَ القِبْلةَ.

ورَوَى ابن شَبَّةَ في «تاريخ المدينة» عَن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضيَ الله عنهُما قال: «أوَّلُ مَن خَلَّقَ المَسجِدَ ورَزَقَ المُؤذِّنِينَ([93]) عُثمانُ بنُ عَفّانَ رضي الله عنهُ».

وقال القاضي عِياضٌ: “وفي «العُتْبِيّة»([94]) يبدأُ بالرُّكوعِ قبلَ السَّلامِ في مَسجِدِ النَّبِيّ ﷺ، وأحَبُّ مواضِعِ التَّنَفُّل فِيهِ مُصَلَّى النَّبِيِّ حيث العَمُودُ المُخَلَّقُ، وأمّا في الفَريضةِ فالتَّقَدُّم إلى الصُّفوفِ”([95]) اهـ. وقال التِّلِمْسانيُّ: “كان مَقعَدُ النَّبِيّ ﷺ عِندَ العَمودِ المُخَلَّق، وكان لأصحابه مواضِعُ فيه معروفةُ الأماكنِ”.

وقد جرَى في إحدَى التَّوْسِعاتِ تقديمُ هذه الأسطوانةِ إلى جهة القِبلة قليلًا وإدخالُ بَعضِها في المِحرابِ النَّبَوِيّ الشَّريفِ.

       وأُسطوانةُ عائشةَ: وتُسمَّى أسطوانةَ القُرعةِ وأُسطوانةَ المهاجرِينَ. روى الزُّبَيرُ بنُ حَبِيبٍ أنّها الأسطوانةُ التي بعدَ أُسطوانةِ التَّوبةِ إلى الرَّوضةِ، وهي الثّالِثةُ مِن المِنبَر ومِن القَبرِ ومِن رَحْبة المسجِد ومِن القِبلة، وهي متوسِّطةٌ في الرَّوضة. ويقالُ إنّ النَّبِيّ ﷺ صلَّى إليها المكتوبةَ بعد تَحويلِ القِبلةِ بِضعَ عَشْرةَ يومًا ثُمّ تقدَّم إلى مُصَلَّاهُ اليومَ، وكان يجعَلُها خَلفَ ظهرِه، وإنّ أبا بكر وعمر والزُّبَير وابنَه عبدَ الله وعامرَ ابنَ عبد الله كانوا يُصَلُّون إليها.

وأمّا تسمِيتُها بأُسطوانةِ القُرعةِ فلِما رَوَى الطَّبرانيُّ في «الأوسط» عَن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ رضيَ الله عنه عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «إِنَّ فِي الْمَسْجِدِ لَبُقْعَةً قِبَلَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا صَلَّوْا فِيهَا إِلَّا أَنْ يُطَيَّرَ لَهُمْ فِيهَا قُرْعَةٌ»، وتُسمَّى أُسطوانةَ عائِشةَ رضي الله عنها لأجلِ ذلكَ أيضًا.

وتُعرَف بأُسْطوانةِ المُهاجرِينَ وذلك لأنّ أكابِرَهم أو القُرشيِّينَ مِنهُم كانوا يَجلِسُون إليها ويُصَلُّون عِندَها.

       وأُسطوانةُ التَّوبةِ: وهي الأسطوانة الرابعة مِن المِنبَر والثانيةُ مِن القَبر والثالثَة مِن القِبْلة، وتُعرَف بأسطوانةِ أبي لُبابةَ رِفاعةَ رضيَ الله عنه أحدِ النُّقَباءِ مِن الصّحابةِ. وسُمِّيَت بذلك لأنّ أبا لُبابةَ ذهب إلى المسجِد ورَبَط نفسَه في جِذعٍ في موضِع تلكَ الأُسطُوانةِ وحلَف لا يَفُكُّ نَفسَه ولا يَفُكُّه أحَدٌ حتى يَفُكَّهُ رسولُ الله ﷺ أو تَنزِلَ توبَتُه مِمّا فعَلَ، فلَمَّا أُوحِيَ إلى النَّبيّ ﷺ أنّه قَد تِيبَ على أبي لُبابةَ مَرَّ عليه وهو خارجٌ إلى صَلاةِ الصُّبح فأَطْلقَهُ.

       وأُسطوانةُ السَّرِير: وهي القائمةُ شَرقِيَّ أسطوانةِ التَّوبةِ وتُلاصِقُ الشُّبّاكَ المُطِلَّ على الرّوضةِ الشّريفةِ. وقد أسنَد ابنُ زَبالةَ([96]) ويَحيَى في بيانِ مُعتَكَفِ النَّبِيّ ﷺ عن ابنِ عِمرانَ محمد بن أيوبَ قال: كانَ للنَّبِّي ﷺ سَرِيرٌ مِن جَرِيدٍ فيه سَعْفةٌ يُوضَعُ بين الأُسطوانةِ التي تُجاهَ القَبْرِ وبينَ القَناديلِ، كانَ يَضْطَجِعُ عليه رسولُ الله ﷺ. وكان السَّرِيرُ يوضَع مرّةً عند أسطوانة التَّوبةِ ومرّة في هذا الموضِعِ، وقالَ بعضُهم: كان يُوضَعُ عند أسطوانة التّوبةِ قبل أن يَزِيدَ النَّبِيُّ ﷺ في المَسجِد ما زادَهُ في مَشرِقِه، فلَمَّا زاد فيه نُقِل السّريرُ إلى هذا المحَلِّ.

       وأُسطوانةُ المَحْرَس (الحَرَس): وهي القائمةُ خَلفَ أُسطوانةِ السَّرِيرِ مِن جِهةِ الشَّمال، وتُقابِلُ الخَوْخةَ التي كان رسولُ الله ﷺ يَخرُج مِنها إذا كان في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها إلى الرَّوضةِ الشَّرِيفةِ للصَّلاةِ، كما تسمى بأسطوانة عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه لأنه كان يجلس عندها يحرُس النبيَّ([97]) ﷺ أو لأنّها كانتْ مُصَلّاهُ([98])،

والأوَّل أوفقَ للتَّسمِيةِ.

       وأُسطوانةُ الوُفودِ: وهي القائمةُ خَلفَ أسطوانةِ التّوبةِ مِن الشَّمالِ، وقد كان النَّبيُّ ﷺ يَجلِس إليها لوفودِ العرَب، وكانَت مِمّا يلي رَحْبَة المسجِد قبل أن يُزادَ في السَّقفِ القِبلِيّ الرُّوَاقانِ، وعُرِفَتْ بِمَجلِس القِلادة أيضًا حيثُ جَلَسَ إليها كِبارُ الصَّحابة وأَفاضِلُهُم. وروَى ابنُ عساكِر في أسطوانةِ الوُفود أنّكَ إذا عَدَدتَ الأُسطوانةَ التي فيها مَقامُ جِبريلَ عليه السَّلامُ كانت هي الثالثةَ.

       وأُسطُوانةُ مُرَبَّعةِ القَبر: وهي المُنتصِبةُ داخلَ الجِدارِ المُحيطِ بالقبرِ النّبويّ الشّريفِ، ويقال لها “مَقام جبريلَ” وهي في حائِزِ الحُجرة عند مُنْحَرَف صَفْحَتِه الغَربِيّة إلى الشَّمال، بينها وبين أسطوانة الوُفود الأسطوانةُ اللاصِقةُ بشُبّاكِ الحُجْرة الشَّريفةِ. ولا يُمكِنُ الزائِرينَ رُؤيتُها لإدارةِ الشُّبّاكِ الدائِر على الحُجرة الشّريفِة وغَلْقِ بابِه.

       وأُسطُوانةُ التَّهَجُّد: روَى يحيَى عن أبيه عِيسَى بنِ عبدِ اللهِ قال: كان رسولُ الله ﷺ يُخْرِجُ حَصِيرًا كلَّ ليلةٍ إذا انْكَفَتَ النّاسُ([99]) فيَطرَحُ وراءَ بَيتِ عَلِيٍّ ثُمّ يُصَلِّي صلاةَ اللَّيلِ، فرَآهُ رجلٌ فصَلَّى بِصَلاتِه، الحديثَ. قال عِيسَى بنُ عبد الله: وذلك موضِعُ الأُسطوانةِ الّتي على طريقِ بابِ النَّبِيّ ﷺ مِمّا يلي الزَّوْراءَ([100]).

بِناءُ النّبِيِّ ﷺ مَساكِنَ لأزواجِه رضي الله عنهُنّ

بِناءُ النّبِيِّ ﷺ مَساكِنَ لأزواجِه رضي الله عنهُنّ

267-        

وَحَـوْلَـهُ مَـنَـازِلًا لِأَهْـلِـهِ

 

وَحَـوْلَـهُ أَصْـحَابُـهُ فِي ظِـلِّـهِ

 





(وَ)بَنَى ﷺ (حَوْلَهُ) أي حولَ مسجِدِه حُجَرًا لتكونَ (مَنَازِلًا) بالتّنوينِ للضَّرورةِ جمعُ مَنزِلٍ (لِأَهْلِهِ) أي أزواجِهِ أُمَّهاتِ المُؤمنِينَ ومَوالِيه.

ولَمَّا رَجَع عبد الله بن أُريقِط إلى مكّةَ بعَثَ معَه رسولُ الله ﷺ وأبو بكرٍ زيدَ بنَ حارثةَ وأبا رافِعٍ مَوْلَيَا رسولِ الله ﷺ ليأتوا بأهالِيهِم مِن مَكّة، وبَعَثا مَعَهُم بحِمْلَينِ وخَمسِمائة درهمٍ ليَشتَرُوا بها إبِلًا مِن قُدَيْدٍ([101])، فذهبوا فجاءوا بِبِنْتَيِ النَّبِيّ ﷺ فاطمةَ وأُمِّ كُلثومٍ وزَوجَتَيهِ سَودةَ وعائشةَ وأُمِّها أُمِّ رُوْمانَ، وَخَرَج عبدُ اللهِ بنُ أبي بكر مَعَهُم بعِيالِ أبيهِ([102]).

وقَد شَرَد بعائِشةَ وأُمِّها الجَمَلُ في أثناءِ الطَّرِيق، فجَعَلَتْ أُمُّ رُومانَ تَقول: وا عَرُوساهُ، وا بِنْتاهُ، قالَتْ عائشةُ: فسَمِعتُ قائِلًا يقول: أَرْسِلي خِطامَه([103])، فأَرسَلتُ خِطامَه فوَقَفَ بإِذْنِ اللهِ وسَلَّمَنَا اللهُ عَزَّ وجَلَّ.

فلَمَّا قَدِمُوا المدينةَ أُنزِلُوا في بَيتِ حارثةَ بنِ النُّعمانِ، كُلُّ ذَلِكَ والنَّبِيُّ ﷺ في بيتِ أبي أيوبَ الأنصاريّ رضي الله عنه.

فانتَقَل ﷺ إلى حُجَرِ أزواجِهِ، وكانَتْ مساكِنَ قَصِيرةَ البِناءِ قَريبةَ الفِناء، قال الحسَن البِصرِيُّ: لقد كُنتُ أَنالُ أَطْولَ سَقْفٍ في حُجرةِ النَّبِيِّ ﷺ بِيَدِي، وقيل: كانَ الحسنُ البِصريُّ ضَخمًا طَوِيلًا. وفي «تاريخ البُخارِيّ» أنّ بابَهُ ﷺ كان يُقْرَعُ بالأظافير، قال أهل السِّيَرِ: فدَلَّ على أنَّه لم يَكُن لأبوابِه حِلَقٌ.

(وَ)سَكَنَ (حَوْلَهُ)(أَصْحَابُهُ فِي ظِلِّهِ) أي في كَنَفِهِ حتَّى إنَّ مِنَ الأنصارِ مَن تَرَكَ مسكَنَهُ البعِيدَ وسكَنَ بِقُربِه ﷺ.

 

نَقلُ الحُمَّى مِن المدِينةِ إلى الجُحْفةِ

نَقلُ الحُمَّى مِن المدِينةِ إلى الجُحْفةِ

268-        

طَابَـتْ بِهِ طَيْبَةُ مِنْ بَعْدِ الرَّدَى

 

أَشْـرَقَ مَا قَدْ كَانَ مِنْهَا أَسْـوَدَا

269-        

كَانَـتْ لَـمِـنْ أَوْبَـإِ أَرْضِ اللهِ

 

فَـزَالَ دَاؤُهَا بِـهَـذَا الـجَـاهِ

270-        

وَنَـقَـلَ اللهُ بِفَضْــلِ رَحْـمَـةِ

 

مَا كَانَ مِـنْ حُمَّى بِهَا لِلْجُحْفَةِ

 










(طَابَتْ) أي حَسُنَتْ (بِهِ) أي بالنَّبِيّ ﷺ (طَيْبَةُ) أي المدينةُ المنوَّرةُ وزالَتْ مَكارِهُها (مِنْ بَعْدِ) أنْ كانَ بِها (الرَّدَى) أي كانتْ رَدِيّةً وَ(أَشْرَقَ) أي أضاءَ كُلُّ (مَا قَدْ كَانَ مِنْهَا أَسْوَدَا) مُنذُ دُخولِه إلَيها ﷺ.

وقد (كَانَت) المدِينةُ قبل ذلِكَ (لَمِنْ أَوْبَإِ) أي أكثرِ المُدنِ وَباءً مِن بينِ (أَرْضِ اللهِ) أي التّي هي خَلقٌ للهِ ومِلكٌ له، والوباءُ مقصورٌ بهَمزٍ وغيرِه هو المرَضُ العامُّ، واقتبَس ذلك النّاظِمُ مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنه في «صحيح البُخاريّ»: «وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ». وهذا مِمّا يُؤيِّدُ أنّ الوَباءَ أعَمُّ مِن الطّاعُونِ([104])، فإنّ وَباءَ المدينةِ ما كانَ إلّا بالحُمَّى (فَزَالَ دَاؤُهَا) هذا (بِـ)ـبَركَةِ (هَذَا) النَّبِيّ العظيمِ (الجَاهِ) أي القَدرِ والمَنزِلةِ عِندَ اللهِ (وَنَقَلَ اللهُ) تَعالَى (بِفَضْلٍ) مِنهُ و(رَحْمَةٍ) عَمِيمةٍ (مَا كَانَ مِنْ حُمَّى بِهَا) أي بالمَدينةِ (لِلْجُحْفَةِ) بِدَعوةٍ مِنَ النّبِيّ ﷺ، فقد ثَبَت في الصَّحِيحِ أنّه قال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كحُبِّنَا مَكةَ أَو أَشَدَّ، اللهُمَّ بارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وفي مُدِّنا، وَصَحِّحْها لَنَا وانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ» أي انقُلِ اللهُمَّ الحُمَّى الّتي بالمدينةِ إلى الجُحفةِ وهِي مِيقاتُ أهلِ مِصرَ والشَّامِ والمغرِبِ الآنَ، وكان اسمُ الجُحفةِ “مَهِيعةَ”([105]) فجاءها سَيلٌ اجتَحَفَ مَنْ كانَ بِها وَخَرَّبَ أبنيتَهَا فلَم يُبقِ مِنها شيئًا فسُمِّيت الجُحفةَ.

وفي الحَدِيثِ بَيانُ جَوازِ الدُّعاءِ على الكُفّارِ بالأسقامِ والجُوعِ والجَهْدِ والهَلاكِ([106])، والدُّعاءِ

للمُسلمِينَ بالصِّحّةِ وطِيبِ بِلادِهم والبرَكةِ فيها وكَشْفِ الضُرّ والشّدائِدِ عَنهُم.

ولَمّا استَجابَ اللهُ دُعاءَ نَبِيِّه ﷺ بِنَقلِ الحُمَّى إلى الجُحفةِ كانَ إذا شَرِبَ مِن مائِها أحَدٌ حُمَّ، بلْ لو مَرَّ الطيرُ في هوائِها حُمَّ([107]).

وقِيلَ: إِنَّما خَصَّ الجُحفةَ لأنّها كانتْ يومَئذٍ دارَ شِركٍ، وقال الخَطّابِيُّ: “وكان أهلُ الجُحْفة إذْ ذاكَ يَهُودًا، وكان ﷺ كثيرًا ما يدعُو على مَن لم يُجِبْهُ إلى دارِ الإسلام إذا خافَ مِنهُم مَعُونةَ أهلِ الكُفر، ويسألُ اللهَ أنْ يَبْتَلِيَهُم بما يَشغَلُهم عَنهُ، وقَد دعا على قَومِه أهلِ مَكّةَ حِينَ يَئِسَ مِنهُم” اهـ.

 

أمانُ المدينةِ المُنوَّرةِ من الطَّاعُون والمَسِيحِ الدَّجَّالِ

أمانُ المدينةِ المُنوَّرةِ من الطَّاعُونِ والمَسِيحِ الدَّجَّالِ

271-        

وَلَيْـسَ دَجَّـالٌ وَلَا طَـاعُـونُ

 

يَدْخُـلُـهَا فَـحِـرْزُهَا حَـصِـينُ

 



(وَلَيْسَ دَجَّالٌ) أيِ الأَعورُ (وَلَا طَاعُونٌ يَدْخُلُهَا) فقَدْ جاءَ في الحديثِ الصّحيحِ عَن

أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ الله ﷺ قالَ: «عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ، لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ» صدَقَ رسول اللهِ ﷺ (فـَ)ـإنّ المدينةَ ءامِنةٌ وَلَهَا مِنَ الدّجالِ والطّاعونِ (حِرْزُهَا) الـ(ـحَصِينُ) الّذي يَمنَعُ عَنها ذلكَ بمشيئةِ الله تعالَى.

 

نُزولُ إتمامِ الصّلاةِ وهو ﷺ مُقِيمٌ عِندَ أبي أيُّوبَ الأَنصاريّ

نُزولُ إتمامِ الصّلاةِ وهو مُقِيمٌ عِندَ أبي أيُّوبَ الأنصاريّ رضي الله عنه

272-        

أَقَـامَ شَـهْرًا ثُـمَّ بَعْدُ نَزَلَـتْ

 

عَلَيْهِ إِتْـمَـامُ الصَّـلَاةِ أُكْمِلَـتْ

273-        

أَقَـامَ مِـنْ شَـهْرِ رَبِيعٍ لِصَـفَرْ

 

يُبْنَى لَـهُ مَسْـجِـدُهُ وَالْمُسْـتَقَرّْ

 







وقَد (أَقَامَ)(شَهْرًا) عند أبي أيُّوبَ (ثُمَّ بَعْدُ) أي بَعدَ هذِه الفَترةَ مِن إقامَتِهِ ﷺ (نَزَلَتْ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ) المَكتوبةِ فِي الحَضَرِ فـ(ـأُكْمِلَتِ) الظُّهرُ والعَصرُ والعِشاءُ أربعًا، وتُرِكَت صلاةُ الفَجر اثنتَينِ لِطُولِ القِراءةِ والمغربُ ثلاثةً لأنَّها وِتْرُ النَّهارِ.

ولَم يَزَلْ رسولُ الله ﷺ ساكِنًا سبعةَ أشهُرٍ عند أبي أيُّوبَ، وقيل: (أَقَامَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ لِصَفَرْ) مِن السَّنة الثّانيةِ وهوَ (يُبْنَى لَهُ مَسْجِدُهُ) النَّبوِيُّ الشّريفُ (وَالْمُسْتَقَرّْ) أي مَساكِنُهُ الَّتِي استَقَرَّ فيها حولَ مَسجِدِهِ.

فائدة: لَم تَكُن المدينةُ المنوَّرةُ تُسَمَّى بهذا الاسمِ قبل وُصولِ النّبِيّ إليها بل كنت تُدعَى يَثرِبَ وغيرَ ذلك، فعَن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: «كانوا يُسَمُّون المدينةَ يَثْرِبَ فسَمَّاها رسولُ الله ﷺ طَيْبةَ». وقد رَوَى ابن أبي شَيبة في «تاريخ المدينة» مرفوعًا: «للمَدِينةِ عشَرةُ أسماءٍ هي: المَدِينَةُ وَطَيبَةُ وَطَابَةُ وَالمُطَيَّبَةُ وَالمِسكِينَةُ وَالمِدرَى وَالجَابِرَةُ وَالمَجبُورَةُ وَالمُحَبَّبَةُ وَالمَحبُوبَةُ»، ورَواه الزُّبَير في «أخبار المَدِينة» مِن طريق ابنِ أبي يحيى مِثلَه وزاد «وَالقَاصِمَةُ»، وكذَلِكَ «القَريةُ».

وقد اختُلِفَ في سببِ تسمِيَتِها بيَثِرَب قبل ذلك، فقيل: سُمِّيت بيثرِبَ بنِ قابِل بن إرَم ابن سامِ بنِ نُوحٍ لأنّه أوَّلُ مَن نَزَلها، وقيل: سُمِّيت بيَثرِبَ بنِ قانِيةَ بنِ مَهْلايِيل بنِ إِرَمِ ابنِ عَبِيلِ بنِ عَوصِ بنِ إرَمِ بنِ سامٍ لأنّه أوّلُ مَن سكَنَها وبَناها ونزَل أخُوه خَيْبَرُ بنُ قانِيةَ بِخَيْبَر، ونقَلَ كثِيرٌ أنّ تَسمِيتَها بيثرِبَ هو الذي كان سائِدًا عند المشركِين في الجاهلية مُشتقًّا مِن التّثريبِ أي المَلامة والتّوبيخ فغيَّرَها رسولُ الله ﷺ إلى طَيبةَ وسَمَّاها اللهُ في كِتابِه المُبينِ المدينةَ. وأمّا النّهيُ الوارِدُ عن تَسْميِتها بيَثرِبَ فمفيدٌ للكراهة التّنزيهيّة ولا يَفِيدُ التّحريمَ.

قال الحافظ العسقلانيُّ: “وسببُ هذه الكراهةِ لأنّ يَثرِبَ إمّا مِن التّثرِيبِ الّذي هو التّوبيخُ والمَلامةُ أو مِن الثَّرْبِ وهو الفَساد، وكِلاهُما مُستقبَحٌ، وكان ﷺ يُحِبُّ الاسمَ الحسَن ويَكرَه الاسمَ القَبِيحَ”([108]).

فإنْ قيل: قد ذكرَها الله تعالَى في القُرءان بهذا ﱡﭐ ﲛ ﲜ ﲝ  ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ، فالجوابُ أنّ ذلك باعتبارِ أنّه إخبارٌ عن مقالةِ الكُفّارِ.

مُوادَعةُ النَّبِيّ ﷺ اليَهودَ

مُوادَعةُ النَّبِيّ ﷺ اليَهودَ

274-        

وَوَادَعَ اليَـهُـودَ فِـي كِـتَـابِـهِ

 

مَا بَـيْـنَـهُـم وَبَيْنَ مَا أَصْـحَابِهِ

 




(وَوَادَعَ) النّبِيُّ ﷺ (اليَهُودَ) أي أجرَى معَهُم صُلحًا وُمعاهَدةً إلى مُدّةٍ، وأمَّا معنَى قولِ الفقهاءِ: “وأقَرَّهُم علَى دِينِهم” فليسَ معناهُ أنَّهُ رضيَ لَهُم بالكُفرِ أو أذِنَ لَهُم فيه أو أشارَ لَهُم بالبَقاءِ على دِينهِمُ الباطلِ، إنمّا الإقرار هنُا معناه أنّهُ لم يُجبِرْهُم على تَركِ دِينِهم بالقُوّةِ ولمْ يُقاتِلْهُم لأنَّهم التَزَموا دَفْعَ الجِزيةِ مع تطبيقِ شرُوط الصُّلحِ الّتي وضَعَها عليهِم إلى مُدّةٍ، وحاشا لرسولِ الله ﷺ أن يكونَ قد رضيَ لَهُم البقاءَ على دِينهِم أو أشارَ لهم بذلكَ أو سمَحَ لَهُم بالكُفر، بل مَن اعتقدَ ذلك فهو كافِرٌ بالله العظيم مُكَذِّبٌ لقولِ الله تعالى: ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ [الزُّمَر: 7] ولقوله عزّ وجلّ: ﳁ ﳂ  ﳃ ﳄ ﳅ [المائدةِ: 2] ومناقضٌ لمعنَى الدّعوةِ التي جاء بها الرسولُ ﷺ  وهي إخراجُ النّاسِ مِن الكُفر إلى الإيمانِ.

وقد شرَط لهم ﷺ شُروطًا واشتَرَط علَيهم (فِي كِتَابِهِ) الّذي كَتَبَه فِيـ(ـمَا بَيْنَهُم وَبَيْنَ مَا أَصْحَابِهِ) مِن المهاجرِينَ والأنصارِ:

«هَذا الكِتابُ مِن مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ الله بَينَ المُؤمِنِينَ والمُسلِمِينَ مِن قُرَيشٍ وَأَهلِ يَثرِبَ وَمَن تَبِعَهُم فَلَحِقَ بِهِم فَحَلَّ مَعَهُم وَجاهَدَ مَعَهُم:

1)         إِنَّهُم أُمَّةٌ واحِدَةٌ دُونَ النّاسِ.

2)         والمُهاجِرُونَ مِن قُرَيشٍ عَلَى رَباعَتِهِم([109]) يَتَعاقَلُونَ([110]) بَينَهُم مَعاقِلَهُمُ الأُولَى.

3)         وَبَنُو عَوفٍ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها([111]) بِالمَعرُوفِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

4)         وَبَنُو الحارِثِ بنُ الخَزرَجِ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ رَباعَتُهُم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

5)         وَبَنُو ساعِدَةَ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

6)         وَبَنُو جُشَمَ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

7)         وَبَنُو النَّجّارِ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالقِسطِ والمَعرُوفِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

8)         وَبَنُو عَمرِو بنِ عَوفٍ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

9)         وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

10)     وَبَنُو الأَوسِ عَلَى رَباعَتِهِم يَتَعاقَلُونَ مَعاقِلَهُمُ الأُولَى، وَكُلُّ طائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عانِيَها بِالمَعرُوفِ والقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.

11)     وَأَنَّ المُؤمِنِينَ لا يَترُكُونَ مُفرَحًا([112]) مِنهُم أَن يُعِينُوهُ بِالمَعرُوفِ فِي فِداءٍ أَو عَقلٍ([113]).

12)     وَأَنَّ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ أَيدِيهِم عَلَى كُلِّ مَن بَغَى وابتَغَى مِنهُم دَسِيَعَةَ ظُلمٍ([114]) أَو إِثمٍ أَو عُدوانٍ أَو فَسادٍ بَينَ المُؤمِنِينَ، وَأَنَّ أَيدِيَهُم عَلَيهِ جَمِيعِهِ وَلَو كانَ وَلَدَ أَحَدِهِم.

13)     لا يَقتُلُ مُؤمِنٌ مُؤمِنًا فِي كافِرٍ، وَلا يَنصُرُ كافِرًا عَلَى مُؤمِنٍ.

14)     والمُؤمِنُونَ بَعضُهُم مَوالِي بَعضٍ دُونَ النّاسِ.

15)     وَأَنَّهُ مَن تَبِعَنا مِنَ اليَهُودِ فَإِنَّ لَهُ المَعرُوفَ والأُسوَةَ غَيرَ مَظلُومِينَ وَلا مُتَناصَرٍ عَلَيهِم.

16)     وَأَنَّ سِلمَ المُؤمِنِينَ واحِدٌ، وَلا يُسالَمُ مُؤمِنٌ دُونَ مُؤمِنٍ فِي قِتالٍ فِي سَبِيلِ الله إِلا عَلَى سَواءٍ وَعَدلٍ بَينَهُم.

17)     وَأَنَّ كُلَّ غازِيَةٍ([115]) غَزَت يُعقِبُ بَعضُهُم بَعضًا.

18)     وَأَنَّ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ عَلَى أَحسَنِ هَذا وَأَقوَمِهِ.

19)     وَأَنَّهُ لا يُجِيرُ مُشرِكٌ مالًا لِقُرَيشٍ وَلا يُعِينُها عَلَى مُؤمِنٍ.

20)     وَأَنَّهُ مَنِ اعتَبَطَ مُؤمِنًا قَتلًا([116]) فَإِنَّهُ قَوَدٌ([117]) إِلا أَن يَرضَى وَلِيُّ المَقتُولِ بِالعَقلِ وَإِنَّ المُؤمِنِينَ عَلَيها كافَّةً.

21)     وَأَنَّهُ لا يَحِلُّ([118]) لِمُؤمِنٍ أَقَرَّ بِما فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَآمَنَ بِالله واليَومِ الآخِرِ أَن يَنصُرَ مُحدِثًا([119]) أَو يُؤوِيَهُ، فَمَن نَصَرَهُ أَو آواهُ فَإِنَّ عَلَيهِ لَعنَةَ الله وَغَضَبَهُ إِلَى يَومِ القِيامَةِ، لا يُقبَلُ مِنهُ صَرفٌ وَلا عَدلٌ.

22)     وَأَنَّكُم ما اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَىءٍ فَإِنَّ حُكمَهُ إِلَى الله وَإِلَى الرَّسُولِ.

23)     وَأَنَّ اليَهُودَ يُنفِقُونَ مَعَ المُؤمِنِينَ ما دامُوا مُحارِبِينَ.

24)    وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوفٍ وَمَوالِيَهُم وَأَنفُسَهُم أُمَّةٌ مَعَ المُؤمِنِينَ([120])، لِليَهُودِ دِينُهُم([121])

وَلِلمُؤمِنِينَ دِينُهُم، إِلا مَن ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لا يُوتِغُ([122]) إِلا نَفسَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ.

25)    وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجّارِ مِثلَ ما لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.

26)    وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي الحارِثِ مِثلَ ما لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.

27)    وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمَ مِثلَ ما لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.

28)    وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي ساعِدَةَ مِثلَ ما لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.

29)    وَأَنَّ لِيَهُودِ الأَوسِ مِثلَ ما لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ إِلا مَن ظَلَمَ فَإِنَّهُ لا يُوتِغُ إِلا نَفسَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ.

30)    وَأَنَّهُ لا يَخرُجُ أَحَدٌ مِنهُم إِلا بِإِذنِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

31)    وَأَنَّ بَينَهُمُ النَّصرَ عَلَى مَن حارَبَ أَهلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.

32)    وَأَنَّ بَينَهُمُ النَّصِيحَةَ والنَّصرَ لِلمَظلُومِ.

33)    وَأَنَّ المَدِينَةَ جَوفُها حَرَمٌ لأَهلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.

34)    وَأَنَّهُ ما كانَ بَينَ أَهلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِن حَدَثٍ يُخِيفُ فَسادُهُ، فَإِنَّ أَمرَهُ إِلَى الله وَإِلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ.

35)    وَأَنَّ بَينَهُمُ النَّصرَ عَلَى مَن دَهَمَ يَثرِبَ، وَأَنَّهُم إِذا دَعُوا اليَهُودَ إِلَى صُلحِ حَلِيفٍ لَهُم فَإِنَّهُم يُصالِحُونَهُ، وَإِن دَعَونا إِلَى مِثلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُم عَلَى المُؤمِنِينَ إِلا مَن حارَبَ الدِّينَ([123]).

36)    وَعَلَى كُلِّ أُناسٍ حِصَّتُهُم مِنَ النَّفَقَةِ.

37)    وَأَنَّ يَهُودَ الأَوسِ وَمَوالِيَهُم وَأَنفُسَهُم مَعَ البَرِّ المُحسِنِ مِن أَهلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.

38)    وَأَنَّ بَنِي الشّطبَةِ بَطنٌ مِن جَفنَةَ.

39)    وَأَنَّ البِرَّ دُونَ الإِثمِ فَلا يَكسِب كاسِبٌ إِلا عَلَى نَفسِهِ.

40)    وَأَنَّ الله عَلَى أَصدَقِ ما فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ لا يَحُولُ الكِتابُ دُونَ ظالِمٍ وَلا آثَمٍ.

41)    وَأَنَّهُ مَن خَرَجَ ءَامِنٌ وَمَن قَعَدَ آمِنٌ إِلا مَن ظَلَمَ وَأَثِمَ.

42)    وَإِنَّ أَولاهُم بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ البَرُّ المُحسِنُ».

خبَرُ بَدءِ الأمرِ بالأذانِ

خبَرُ بَدءِ الأمرِ بالأذانِ

275-        

وَكَـانَ بَــدْءُ الأَمــْرِ بِالأَذَانِ

 

رُؤْيَـا ابْـنِ زَيْـدٍ أَوْ لِـعَـامٍ ثَانِ

 




(وَ)فِي هذا العامِ الّذي حصلَتْ فِيهِ مُوادَعةُ اليَهودِ (كَانَ بَدْءُ الأَمْرِ بِالأَذَانِ) للصَّلاةِ، وسببُ ذلكَ (رُؤْيَا) عبدِ الله أيِ (ابْنِ زَيْدٍ) ابنِ عَبدِ رَبِّه أحدِ بَنِي الحارِثِ بنِ الخَزرَجِ، فقَد رَوَى ابنُ خُزَيمةَ في «صَحيحِه» قال: كَانَ رَسُولُ الله ﷺ حِينَ قَدِمَهَا إِنَّمَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ بِحِينِ مَوَاقِيتِهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، فَهَمَّ رَسُولُ الله ﷺ أَنْ يَجْعَلَ بُوقًا كَبُوقِ الْيَهُودِ الَّذِي يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَوَاتِهِمْ ثُمَّ كَرِهَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالنَّاقُوسِ([124]) فَنُحِتَ لَيَضْرِبَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ الله بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ أَخُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ النِّدَاءَ([125])، فَأَتَى رَسُولَ الله ﷺ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ طَائِفٌ مَرَّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ الله أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَقُولُ الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، وَجَعَلَهَا وِتْرًا([126]) إِلَّا “قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، الله أَكْبَرُ الله أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”. فَلَمَّا خَبَّرْتُهَا رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»، فَلَمَّا أَذَّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «فَلِلّهِ الْحَمْدُ فَذَاكَ أَثْبَتُ».

(أَوْ) كانَ بَدءُ الأذانِ (لِعَامٍ ثَانٍ) مِنَ الهِجرِة المُبارَكةِ، وذَلِكَ مِن بَعدِما كانوا يجَتمِعون إلى الصّلاة بِنداءِ مُنادٍ «الصَّلاةُ جامعةٌ».

فائدة: قالَ الشيخُ مُحمَّد بن يوسف الصالِحِيّ في «سُبُل الهُدَى»: “استُشكِل إثباتُ حُكمِ الأذان برُؤيا عبدِ الله بنِ زَيدٍ، ورُؤيا غَيرِ الأنبياءِ لا يَنْبَنِي علَيها حُكمٌ شَرعِيٌّ، وأُجِيبَ باحتِمالِ مُقارَنةِ الوَحْيِ لِذَلِك وَيُؤَيِّدُهُ حديثُ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ أحدِ كِبارِ التّابِعِينَ أَنَّ عُمَر لَمَّا رأَى الأذان جاء لِيُخبِرَ النَّبِيَّ ﷺ فَوَجَدَ الوَحيَ قَد وَرَد بذَلِك، فمَا رَاعَهُ إِلَّا أَذانُ بِلالٍ، فقَال له النَّبِيُّ ﷺ: «سَبَقَكَ بِذَلِكَ الوَحْيُ»”([127]).

ثُمَّ إنّه لا حُجّةَ إلى تكلُّف تأويلٍ في ذلك لأنّ النبيّ ﷺ أقرَّ ذلك وأمَرَ  بهِ، واللهُ عزّ وجلّ يقول: ﱡﭐ ﱁ ﱂ  ﱃ ﱄ ﱅ [النُّور: 54]. وللأفعالِ الّتي ابتَدأها الصّحابةُ ثُمّ أقرَّها النّبيُّ ﷺ أمثلةٌ كثيرةٌ، منها: قولُ الصّحابيّ رافِعِ بِن عفْراء في الصّلاةِ: “ربَّنا لكَ الحَمدُ” حينَ رفَع النّبِيُّ ﷺ مِن الرُّكوع، وكسَنِّ خُبَيبٍ ركْعتَينِ عِندَ القَتلِ، فلمّا بلغَ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّ فِعلَه، وسَنُّ بِلالٍ الحبَشِيّ صلاةَ ركعتَين عَقِبَ الوضوءِ مِن حدَثٍ فإنّه ﷺ بشَّره بالجنّة وأقرَّه على ذلك، وكذلك أقرَّه ﷺ على زيادةِ “الصَّلاةُ خيرٌ مِن النَّوم”، والأمثلةُ في ذلك كثيرةٌ جِدًّا، وكلُّ ذلكَ دليلٌ على أنَّه ليسَ كُلُّ إحداثٍ في الدِّينِ ضلالةً ومَردودًا بل ما وافقَ الشَّرعَ مِمّا سُنَّ فيهِ فمقبولٌ، ودليلُه قولُه ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىءٌ»، وأمّا حديثُ: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» فقد قال الحافظ النوويُّ: “هذا عامٌّ مَخصوصٌ، والمرادُ غالِبُ البِدَع”([128]).

ومِمّن نصَّ على ذلك أيْضًا الطِّيبيُّ في «شرح المشكاة»([129]) والسُّيوطيّ الشافعيُّ في «شرح سُنَنِ النَّسائيّ»([130]) وشرحه على «صحيح مُسلِم»([131]) وشرحه على «سُنَن ابن ماجه»([132]) وزكريّا الأنصاريّ الشافعيُّ في «فَتح العَلّام»([133]) وعبد الرّؤوف المُناويّ الشافعيُّ في شرح «الجامع الصغير»([134]) وعبد الحقّ الدّهلوي الحنفيُّ في «شرح المشكاة»([135]) وابن عَلّان البَكريّ الشافعيُّ([136]) وقاضي صنعاءَ الحُسَين المغرِبيُّ اللّاعي([137]) وعبدُ الباقي الزّرقانيّ المالكيُّ في «شرح الموطّأ»([138]) وغيرُهم.



([1])  وهي دار قُصَيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تَقضِي أمرًا إلا فيها.

([2])  يعنون النبيَّ ﷺ.

([3])  أي إبليس.

([4])  أي اتَّفَقتْ.

([5])  أي قَوِيًّا.

([6])  أي حَسِيبًا فِي قَومِه.

([7])  جَمْع شَفرة وهي السِّكِّين العريض.

([8])  أي الدِّيةَ.

([9])  أي إبليس.

([10])  أي يَضرِبُونه ضربةً واحِدةً مُجتَمِعِينَ.

([11])  أي غَطِّ وَجْهَكَ وجَسَدَك بِرِدائي.

([12])  ومَن أراد التوسُّع في أخبار الهِجرة فلينظر كتابنا «تُحفة الأبرار في هِجرة الْمُختار».

([13])  أي مِلءُ الكَفِّ مِنهُ.

([14])  أي حَدَّثَنا حَدِيثَ صِدْقٍ.

([15])  وهِي بابٌ صَغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ، قاله ابنُ الأَثِير.

([16])  ابن كَثِيرٌ لا يُعتمَد عليه، فقد أُشرِبَ حُبَّ ابنِ تيميةَ في قَلبِه واتَّبَعه في بعضِ الأصولِ الّتي خالفَ فيها ابنُ تيميةَ الأُمّةَ وإنْ خالفَه في مسألةِ التّبرُّك بالنّبيّ ﷺ وفي مسائلَ أُخرَى، إلّا أنّه كما قال المحدِّث عبد الله الغُماري في كتابه «بِدَع التّفاسير»: “حكَى الإجماع على أنّ الله في السَّماءِ، ووَسَم مَن قال بخِلافِ ذلكَ بأنّه مِن الحَشويّة، وهو متأثّر بابنِ تيميةَ”.

([17])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلانيّ، (7/236).

([18])  بفَتح أوّلِه وثانِيه مِن نواحِي المدِينة، قاله في «مُعجَم البلدان» (1/249).

([19])  بفَتح الخاء وتشدِيد الرّاء الأُولَى وادٍ بالحجازِ يَصُبّ على الجُحفةِ، قاله في «مُعجَم البلدان» (2/350).

([20])  بفَتح أوّلِه وسُكون ثانِيه موضِعٌ فيه ءابارٌ كثِيرةٌ بأعلَى قَوْرانَ وادٍ مِن ناحيةِ السَّوارِقِيّةِ، قاله في «مُعجَم البلدان» (5/21). والسَّوارِقِيّةِ تقع جنوبَ شرقِ المدينة المنوّرةِ على نحوِ مائةِ مِيلٍ مِنها.

([21])  أي دَخَلَ بِهما جَوفَ كَذَا.

([22])  ويُقال: “مِجاج” بكَسر الميم وجِيمَيْن.

([23])  ويقال: “ذِي العَصَوَين” بالعين والصاد المهمَلَتَين المفتوحَتَين.

([24])  ويقال: “العَبَاعِيب”.

([25])  ويقال: “القاحّة” بالقاف والحاء.

([26])  قَريةٌ جامِعةٌ على طرِيق مكّةَ مِن المدينةِ، بينَها وبينَ الرُّوَيثةِ أربعةَ عشَرَ مِيلًا، وبين الرُّوَيثة والمدينةِ أحَدٌ وعِشرُون فَرسَخًا. يُنظَر: مُعجَم ما استَعجَم، أبو عُبَيد البَكري، (3/930).

([27])  انفَرَد الطّبرانيّ بضبطِها بضمّ الحاء المهملة وسُكون الجِيم.

([28])  وقيل: “الغائِر” بالغَين المعجَمة.

([29])  وهو وادٍ بالمدِينةِ.

([30])  قال الحافظ النَّوَوِيُّ في «شرحِه على مُسلِم»: “فالصَّحِيحُ المشهُورُ فيهِ الْمَدُّ والتَّذكِيرُ والصَّرْفُ وفي لُغةٍ مَقصورٌ، وفي لُغَةٍ مُؤَنَّثٌ، وفي لُغةٍ مُذَكَّرٌ غَيرُ مَصرُوفٍ” اهـ.

([31])  جمع سَوَادٍ، قال النَّوَوِيّ: “قال أهل اللغة: السَّوادُ الشَّخصُ، وقيل: السَّوَادُ الجماعة” اهـ، وقال في «التقريب»: “السَّوادُ نَقِيض البَياضُ وكُلُّ شَخْصٍ مِن مَتاعٍ أو حَيَوانٍ، والجَمْعُ أَسْوِدَة ثم أَسَاوِدُ” اهـ.

([32])  أي يَبْحَثُون عن بَهِيمةٍ ضاعَت مِنهُم.

([33])  وهذه معجزة للنبي ﷺ.

([34])  كان هذا مِن شأنها أن تفعله من الشياه التي كان زوجها يُسيمها، إلّا أنّ هذه الشياه كانت في المرعى حين وصل النبيّ إلى أمّ معبد.

([35])  أي يَسِرْنَ سَيرًا ضَعِيفًا.

([36])  جَمْعُ حائِل أي لَيسَت حامِلًا.

([37])  هو عامُ الرَّمادةِ العامُ الّذي أصاب الناسَ فيه مجاعةٌ شديدةٌ وجَدْب وقَحْط في خلافة عُمرَ ابن الخطّاب رضي الله عنه، فكانت الرِّيح تُسفِي تُرابًا كالرَّماد فسُمِّي عامَ الرَّمادة. وقد اشتَدَّ فيه الجوع حتى جَعَلَتِ الوحوش تأوي إلى الإِنْس، وجَعَل الرَّجُل يذبح الشاة فيَعافُها مِن قَيحِها. وفي هذا العامِ استَسقَى عُمرُ بالعبّاس عَمِّ النبيّ ﷺ أي توسَّلَ بِهِ وبِعِظَمِ شأنِه إلى الله أنْ يرحَمَهُم ويُنزل عليهم المَطَر ويرفع عنهم ما حَلَّ بهِم مِن القَحْط، وأراد سيّدنا عمر بفِعله ذلك أنْ يُبَيِّنَ جواز التوسُّل بغير النبي ﷺ من أهل الصلاح مِمَّن تُرجَى بركَتُه، ولذا قال الحافظ في «الفتح» عَقِب هذه القصة ما نَصُّه: “يُستفادُ مِن قصة العبّاس استِحبابُ الاستِشفاع بأهل الخير والصَّلاح وأهل بَيتِ النُّبُوّة” ا.هـ.

أمَّا ادِّعاءُ الوهّابيّة المُجَسِّمة المُشَبِّهةِ أعداءِ أهلِ السُّنّةِ تَبَعًا لمَرجِعِهم ابنِ تَيمِيةَ وابنِ عبد الوهّاب =
= أنَّ فِعلَ عُمَر وقَولَه “نتوسَّلُ إليكَ بِعَمِّك العَبّاس” أنّه “تَوَسُّل إلى الله تعالى بِدُعاء النَّبِيِّ لا بالعبّاس نَفْسِهِ” فهوُ إخراجٌ لكلامِ عُمر عن ظاهرِه بلا دليلٍ وتأوُّلٌ له على ما يوافق هواهُم وأصولَهُم وذلك كُلُّه مردودٌ منقوضٌ بأدِلَّةٍ كثيرةٍ مِنها تصريح الحافظ العسقلانيّ الذي هو أعلَمُ بالصَّريح والمؤوَّل مِنَ الوهّابيّة المُجَسِّمة، ويكفي في الرَّدِّ عليهم حديثُ الأعمَى المشهورُ الذي فيه صريحُ التّوسُّلِّ بالنَّبِيّ ﷺ بعدَ وفاتِهِ.

وللتوسُّع في ذلكَ يُنظَر كِتابُ شَيخِنا الإمامِ الهررّي رحمه الله: «المَقالات السُّنّية في كَشفِ ضَلالاتِ أحمدَ ابنِ تَيمِيّة»، وكُتُبنا: «بَحر الدّلائِل والأسرار في التّبَرُّك بآثارِ المصطفَى المختارِ ﷺ» و«عُمْدة الكَلامِ في إثباتِ التّوسُّل والتّبرُّك بخيرِ الأنام» و«الحُجَج النَّيِّراتُ في إثباتِ تصَرُّف النّبِيّ والوَلِيّ بَعدَ المَماتِ» «السُّقوط الكَبِير المُدَوِّي للمُجَسِّم ابنِ تَيميةَ الحرّاني» لشيخنا الإمام الهررِيّ.

([38])  أي صَبَاحًا لشُربِ لَبَنِها.

([39])  أي بالعَشِيّ.

([40])  أي بِناءٍ مُرتَفِع.

([41])  هم الأَوْس والخَزْرَج، وقَيلَةُ اسمُ أُمٍّ مِن أُمَّهَاتِ الأَنصار فنُسِبَتِ الأَنصارُ إِلَيها.

([42])  بِضَمّ السِّين المهملة وسُكُون النُّون وبعدَها حاءٌ مُهملة، موضِعٌ بِعَوالِي المدينة المنوَّرَة وهو على بُعدِ مِيلٍ تَقرِيبًا مِن المسجِدِ النَّبَوِيّ الشَّرِيفِ.

([43]) وفي هذه الآية مَدحٌ للصّحابةِ الّذِين كانوا فيه يَستنجُون ويتَطهّرون مِن النَّجاساتِ، بل وكانوا يَجمَعُون بينَ الماءِ والحجَر، فمَدَحَهُم الله على ذلكَ. وفيها أيضًا رَدٌّ على سيّد قطُب المِصري مُفَكِّر حِزبِ الإخوانِ المتطرّف التّكفيريّ الذي يَذُمّ عُلومَ الفِقهِ فيَقول في تفسيره المسمَّى “في ظِلالِ القُرءانِ” عن الاشتغالِ بالفِقه: “فأَحسِبُ واللهُ أعلَمُ أنّه مَضْيَعةٌ للعُمر وللأَجرِ أيضًا”، والعياذُ بالله مِن عَمَى القَلبِ.

([44])  أي ولو نافِلةً.

([45])  أي مِقْوَدَها.

([46])  قال القَسْطَلّانِيُّ في «الْمَواهِب اللَّدُنِيّة»: “بِرَاءٍ مُهمَلةٍ وَنُونَينِ مَمدُودًا كَعَاشُوراءَ وتَاسُوعاءَ” اهـ.

([47])  مَعناهُ يَسمَع كُلُّ واحِدٍ يومَ القِيامةِ كَلامَ اللهِ الَّذِي لَيسَ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا فَيَفْهَم كُلٌّ عَن أَيِّ شىءٍ =
 = يَسْأَلُه ويَنْتَهِي حِسَابُ النّاسِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ إلّا أنّ مواقِفَ القِيامةِ كثيرةٌ.

([48])  وهي الّتي اشتراها مِن أبي بكرٍ رضي الله عنه.

([49])  أي أُمِرتُ بالهِجرة إليها واستِيطانِها.

([50])  قال الحافظُ النَّوويُّ: “وذَكَروا في معنى أكلِها القُرَى وَجْهَين: أحدُهما أنّها مَركَزُ جُيوش الإسلام في أوَّلِ الأمر، فمِنها فُتِحَتِ القُرَى وغُنِمَت أموالُها وسَباياها، والثّانِي: معناه أنَّ أَكْلَها ومِيرَتَها تكون مِن القُرَى المُفْتَتَحةِ وإليها تُساقُ غنائِمُها” اهـ. وهي أي المدينة المنوّرة مِن ءاخِرِ بلاد الدُّنيا خرابًا”.

([51])  يعني النّاقةَ.

([52])  أي مُستَقبلِينَ لَهُ عِند مَدخلِ المدينةِ.

([53])  أي بَساتِينِ.

([54])  أي أحسَن وأجمَل، والوَضِيءُ الوَسِيمُ الحسَنُ.

([55])  أي السِّلاحَ.

([56])  البَحْرةُ والبُحَيرةُ مِن أسماءِ المدينةِ قَدِيمًا.

([57])  أي سِرْ حيثُ شِئتَ فإنّكَ ءامِنٌ، قاله الصّالِحِيّ في «سُبُل الهُدَى».

([58])  أي حيث أقيم وبني فيما بَعدُ.

([59])  المرادُ بهِ هُنا الموضِع الَّذي يُبسَط فيه التَّمر ليُجَفَّف.

([60])  أي ثَبَتَتْ مَكانَها ولَم تَبْرَح.

([61])  أَي صَوَّتَت، والإرزامُ الصَّوتُ الّذي لا يُفْتَحُ بهِ الفَمُ، قاله ابنُ الأثير.

([62])  هُوَ مُقدَّم عُنُق البَعِير مِن مَذْبَحِه إلى مَنْحَرِه، فإذا بَرَك البَعِيرُ ومَدَّ عُنُقَه على الأرضِ يُقالُ: ألقَى جِرانَهُ بالأَرْضِ.

([63])  بفَتح السّين واللّام لأنّه مِن الأنصارِ لا مِن بَنِي سُلَيمٍ، قاله الحافظ في «الإصابة» (2/187).

([64])  وقيل غيرُ ذلكَ.

([65])  أي متاعَ النّبِيّ.

([66])  أي مَكانًا نستريح فيه.

([67])  أي فَتَياتٌ.

([68])  قال الحافظ البُوصِيرِيُّ: “هذا إسنادٌ صَحِيحٌ رِجالُه ثِقاتٌ”.

([69])  يعني نِساءَ النَّبِيّ.

([70])  أي في الجاهليّة.

([71])  أي ما يجرّ إلى التلذّذ المحرَّم.

([72])  طَرح التّثرِيب في شَرح التّقريب، زين الدّين العراقي، (6/57).

([73])  أي في بَيتِه.

([74])  أي مِنَ البَيت.

([75])  بكسرِ السِّين وضَمِّها.

([76])  أي بأصحابِه وقاصدِيه أو بصاحبِ الدّار.

([77])  وهذا دليلٌ صريحٌ على جواز التبرُّك بآثار الأنبياءِ والأولياءِ والصّالحين.

([78])  أي تأتيه الملائكةُ بالوَحي ولغير لذلك.

([79])  دلائل النُّبوّة، أبو بكر البيهقيّ، (2/501).

([80])  أي لا عَيشَ باقٍ أو لا عَيشَ مَطلُوبٌ. يُنظر: شرح صحيح مُسلِم، محيي الدّين النّووي، (12/172).

([81])  أَي يُنشِدُونَ الرَّجَزَ تَنشِيطًا لِنُفُوسِهِم لِيَسهُلَ عَلَيهِمُ العَمَلُ. والرَّجَزُ ضَربٌ مَوزُونٌ مِنَ الكَلامِ قَصِيرُ الفُصُولِ، اختَلَفَ أَهلُ اللِّسانِ هَل هُوَ مِن ضُرُوبِ الشّعرِ أَو مِن ضُرُوبِ السَّجَعِ وَلَيسَ بِشِعرٍ، وَقالَ الخَلِيلُ: الَّذِي لَيسَ بِشِعرٍ مِنهُ ضَربانِ المَشطُورُ والمَنهُوك.

([82])  أي مُتَأَنِّقًا.

([83])  لكنّ عثمان بنَ مظعونٍ رضي الله عنه نالَ في حَياتِه الدَّرجاتِ العاليةَ والمقاماتِ الرَّفِيعةَ وكانَ مِن الصّالحِين، وقد ءاخَى النَّبِيُّ ﷺ بينَ عُثمانَ وعَمّارٍ رضي الله عنهُما. ولَمّا ماتَتْ رُقيّةُ بِنتُ النّبيّ ﷺ قال ﷺ: «الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ».

([84])  أي ما نزَلَ مِن شَعَرِه على الأُذُنَين.

([85])  قَالَ الحافِظُ النَّوَوِيُّ: “وَخَرِبٌ هَكَذا ضَبَطناهُ بِفَتحِ الخاءِ المُعجَمَةِ وَكَسرِ الرّاءِ. قالَ القاضِي عِياضٌ: رُوِّيناهُ هَكَذا وَرُوِّيناهُ بِكَسرِ الخاءِ وَفَتحِ الرّاءِ، وَكِلاهُما صَحِيحٌ، وَهُوَ ما تَخَرَّبَ مِنَ البِناءِ”.

([86])  أي على لَبِنةٍ واحدةٍ أي طاقٍ واحِدٍ.

([87])  علَى وَزنِ فُعَيل، وهو كيفيّةٌ للبِناءِ.

([88])  أصلُ الخَصْف الضَّمُّ والجَمعُ، والمرادُ هُنا جَعلُه مَنسوجًا واحِدًا.

([89])  أي سالَ ماؤُهُ.

([90])  أي ساحةً.

([91])  قال شَيخُنا الحافظُ الهرريُّ رحمه الله: “وأَمَّا حديثُ: «البُصَاقُ فِي المَسجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفنُهَا» فَمَحمُولٌ عَلَى مَا إِذَا بَصَقَ في المسجِد المفروشِ بالحصَى لا السّجاجيدِ وَلَم يَكُن فِي نِيَّتِهِ دَفنُهَا. ويختلف الحال بين المسجد المفروشِ بالحصَى ونحوِه وبين المسجدِ المفروش بالحِجارة المملَّسَة التي عليها بُسُطٌ ونحوُها، فالأُولَى يَجوزُ البَصْقُ عليها بِنِيّة أن يَدفِنها فيما بَعدُ” اهـ . أي بِحَيثُ إذا دَفَنها لا يبقى منها شىءٌ ظاهِرُ ولا يؤذِي ذلك المُصَلِّينَ، أمّا المفروشُ بالحُصر أو السَّجاجِيدِ ونحوِها فلا يَجوزُ البَصقُ فيهِ فوقَها”.

([92])  أي طَيَّبَتْها.

([93])  أي أكْسَبَهُم.

([94])  يَعنِي عن الإمامِ مالِكٍ رضيَ الله عنهُ.

([95])  وفي ذلك دليلٌ لأهلِ السُّنّةِ والجماعةِ على جوازِ التّبرُّكِ بآثارِ الأنبياءِ والأولياءِ والصّالحِينَ.

([96])  بفَتح الزاي وتخفيف الباءِ وهو محمَّد بن الحسَنِ بن زَبالةَ (ت 199هـ) المؤرِّخُ صاحبُ كِتابِ «أخبارِ المدينة» مِن أقدمِ ما أُلِّف في تاريخ المدينة المنوَّرةِ.

([97])  وكانَ هذا الأمرُ قبلَ نُزولِ قولِه تعالَى:  ﱡﭐ   ، فقَد روَى الترمذيُّ في «السُّنَن» والحاكمُ في «المُستَدرَك» والبيهقيُّ في «الكُبرى» عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ: ﱡﭐ   فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنَ القُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ».

([98])  أي مُصلَّى عَلِيّ.

([99])  أي انصَرَفوا.

([100])  هي محلَّةٌ في ناحيةٍ تُعرَفُ اليومَ ببابِ المِصريّ وهو طريقٌ فَسِيحٌ يَبدأُ مِن المَناخةِ غَربِيَّ المسجِدِ النَّبويّ، وهو بعيدٌ نحوَ ثلاثمائةِ مترٍ مِن بابِ السَّلامِ. ويُقالُ إنّه سُمِّي بذلكَ نِسبةً إلى الوالي محمّد عليّ باشا الّذي أعاد إعمارَ الطّريقِ وما فيهِ.

([101])  هُوَ مَوضِعٌ بينَ مَكَّةَ والمدِينةِ.

([102])  أي مَن يَعُولُهم ويُنفِقُ علَيهم.

([103])  أي خِطامَ الجَمَلِ.

([104])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (10/133).

([105])  بفَتحِ المِيمِ وسُكونِ الهاءِ، وقيل: بكَسرِ الهاءِ. يُنظر: إحكام الأحكام، ابن دقيق العيد، (2/47).

([106])  شرح صحيح البخاري، ابن بَطّال المالكي، (3/6).

([107])  مرقاة المفاتيح، الملّا علي القاري، (5/1878).

([108])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلانيّ، (4/87).

([109])  أي علَى شأنِهم وعادَتِهم مِن أحكامِ الدِّيَاتِ.

([110])  مِنَ العَقْلِ وهو الدِّيةُ.

([111])  أي أسِيرَها.

([112])  هُوَ الَّذِي أَفرَحَهُ الدَّينُ أيْ أَثقَلَهُ.

([113])  أي دِيَةٍ.

([114])  أيِ ابتَغَى دَفْعًا بِظُلمٍ، والدَّسِيعةُ في الأصل الشّىءُ الضَّخمُ.

([115])  أيْ فِئةٍ غازِيةٍ.

([116])  أَيْ قَتَلَه ظُلْمًا لا عَن قِصَاصٍ.

([117])  أَيْ عَليه القِصاص.

([118])  أَيْ جَانِيًا.

([119])  أي يَحرُم علَيه.

([120])  أي أنّهم للعهد الّذي بَينَهم لا يَقتُلُون أحدًا مِن المعاهَدِينَ ما دامَ مُنْصاعًا مُلتزِمًا بِشُروطِ العَهد ولا يُؤْذُونَهم أذًى ظاهًرا، قال تعالى: ﱡﭐ    [التّوبة: 4] وليس معنَى ذلك أنّهم في حُكم الإيمان وحُرمةِ الدِّين والأحكام سواءٌ، فاليهود كُفّارٌ بِنَصّ القُرءانِ والحديثِ والإجماعِ.

([121])  وهذا كقَولِه تعالَى في سورة الكافرُون: ﱡﭐ ، مع كونِه سَمَّاهم كُفّارًا، وهذا تصريحٌ بأنّهُم غيرُ مؤمنِين بل مِن أهل النّار يُخلَّدون فيها إنْ ماتُوا على ذلك ولا عُذرَ لهُم إنْ لم يُسْلِموا، ومعنَى قولِه: ﱡﭐ أي الباطلُ الفاسِدُ الّذي إنْ بَقِيتُم عليه إلى المَمات فأنتُم حَطَبُ ووَقودُ النّارِ، ومعنَى قولِه: أي الحَقُّ الصّحِيحُ السَّماويُّ المُقَدَّسُ المُعَظَّم المُبارَكُ المَقبولُ وهو الإسلامُ دِينُ جَميعِ الأنبِياءِ الّذي لا يَصِحُّ غَيرُه.

([122])  أَيْ لا يُهلِكُ.

([123])  مع كونهم على عقيدةِ كُفرِيّة تُكذِّب اللهَ والقرآنَ والأنبياءَ والإسلامَ فإنّهم لا يُقتَلون ولا يُؤذَون أذًى ظاهرًا ما دامُوا على هذه الشُّروط، فقَوله: «إلّا مَن حارَبَ الدِّين» أي إلّا مَن نقَضَ العَهدَ وخالَفَ فلَيسَ له تِلكَ الذِّمَّةُ.

([124])  ءالَةٌ مِنَ النُّحاسِ يُضرَبُ فيُصَوِّت.

([125])  أي رُؤيا في كيفيّة الأذانِ والإقامةِ.

([126])  أي مَرَّةً مَرَّةً.

([127])  سُبل الهُدى والرَّشاد، محمد الصّالحِي الشّامي، (3/361)، مُختصَرًا.

([128])  شرح صحيح مسلم، محيي الدّين النّووي، (7/104).

([129])  الكاشف عن حقائق السُّنَن، شرف الدّين الطِّيبيّ، (2/605).

([130])  شرح سُنَن النَّسائيّ، جلال الدّين السُّيوطيّ، (3/189).

([131])  الدِّيباج على صحيح مسلم بنِ الحجّاج، جلال الدّين السُّيوطيّ، (2/445).

([132])  مِصباح الزُّجاجة، جلال الدّين السُّيوطيّ، (ص/6).

([133])  فَتح العَلّام بشَرحِ الإعلام بأحاديثِ الأحكام، زكريّا الأنصاريّ، (ص/266).

([134])  فيض القدير، عبد الرّؤوف المُناويّ، (2/171).

([135])  لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح، عبد الحقّ الدّهلويّ، (1/446).

([136])  دليل الفالحين لطُرق رياض الصالحين، ابن عَلّان البَكريّ، (2/442).

([137])  البدر التَّمام شرح بلوغ المرام، الحسين اللاعيّ المَغرِبي، (3/416).

([138])  شرح مختصَر خليل، عبدُ الباقي الزّرقانيّ، (1/418).