الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ قصَّةِ) مُعجِزةِ (الإسراءِ) والمِعرِاجِ

203-        

وَبَعْدَ عَـامٍ مَـعَ نِصْـفٍ أُسْـرِيَا

 

بِـهِ إِلَى السَّــمَاءِ حَـتَّـى حَظِـيَا

204-        

مِنْ مَكَّـةَ الغَرَّاْ إِلَى القُدْسِ عَلَى

 

ظَـهْـرِ البُرَاقِ رَاكِـبًا ثُـمَّ عَـلَا

205-        

إِلَى السَّـمَـاءِ مَـعَـهُ جِـبْـرِيلُ

 

فَاسْـتَـفْـتَـحَ البَابَ لَـهُ يَـقُـولُ

206-        

مُجِـيْـبًا اذْ قِيلَ لَهُ مَنْ ذَا مَعَكْ

 

مُـحَـمَّـدٌ مَعِيْ فَـرَحَّـبَ الْمَلَكْ

 













(وَبَعْدَ عَامٍ مَعَ نِصْفٍ) مِن الهِجْرةِ النَّبَوِيّة (أُسْرِيَا بِهِ) أي بالنَّبِيّ ﷺ إلى الْمَسجِدِ الأقصَى وسُمِّيَ بالأقصى لبُعدِ مسافتِه عن مكَّةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ (إِلَى السَّمَاءِ) في نَفْسِ اللَّيلةِ، وقد اختُلِفَ في الإسراءِ متى كان، فقيل: في ربيعٍ الأولِ، وقيل: في الآخِرِ، وقيل: في رجَبٍ، وقيل: في رمضانَ، وروى البيهقيُّ عن الزُّهرِيّ أنه كان قبلَ خروجِه إلى المدينةِ بِسَنَةٍ، وكذا رواه ابن لَهِيعة فيكون في ربيع الأول، وروى الحاكمُ عن السُّديِّ أنه قبلَ الهجرةِ بسِتَّةَ عشَرَ شهرًا فيكونُ في ذي القَعْدة، والذي جرى عليه الناظمُ أنه كان بعدما بلَغَ النّبيُّ ﷺ إحدى وخَمِسينَ سَنةً ونِصفَ سَنَةٍ.

فأُسرِي بجسَدِه ورُوحِه ﷺ وَعُرِجَ بِه إلى السَّماءِ (حَتَّى حَظِيَا) بالمنزلة الرَّفِيعة عِندَ رَبِّه، والعِندِيّة هُنا عِندِيّةُ اختِصاصٍ واصطِفاءٍ واختِيارٍ وتَشرِيفٍ لا عِندِيّةُ مَكانٍ لأنه تعالَى مُنَزَّهٌ عن المكانِ والزَّمانِ وسائِرِ سِمَاتِ الحَدَثانِ([1]) والنُّقْصان.

واتُّفِقَ على كَونِ الإسراءِ (مِنْ مَكَّةَ) المكَرَّمةِ (الغَرَّاْ)ءِ أي الْمُضِيئةِ الْمُشْرِقِ نُورُها، لَكِن اختُلِف في الموضِعِ الذي أُسرِيَ به من مِكَّة، فقيل: مِن شِعْبِ أبي طالِب، وقيل: مِن بَيتِ أُمِّ هانِئ، وقيل: مِن الحِجْر بالمسجدِ الحرامِ فِي مَكَّة، لكن اتَّفَقُوا على كَوِن ذلك الإسراءِ (إِلَى) بَيت المقْدِسِ بـ(ـالقُدْسِ) راكِبًا (عَلَى ظَهْرِ البُرَاقِ) وهو دابّةٌ مِن الجَنّة أبيَضُ فَوق الحِمارِ ودُونَ البَغْل يَضعُ حافِرَه عِندَ مُنْتَهَى بَصَرِه، جاءَ به جبريلُ تلك الليلةَ منَ الجنَّةِ ورَدَّه إلى الجنَّةِ بعد أن عادَ النبيُّ إلى مكَّةَ، والبراقُ ليس ملَكًا ولا جنيًّا ولا إنسيًّا إنما هو دابّةٌ، ومع ذلك فمَن سَبَّه كفَرَ لأنَّ شأنَه عظيمٌ وقد جِيءَ به إكرامًا للنبيِّ إذ هو من الجنَّةِ وقد عظَّمَ القرءانُ شأنها فسابُّه مُحتَقِرٌ لِمَا عُظِّم النّبِيُّ به.

وقد رافَق جِبريلُ عليه السَّلامُ سيِّدَنا محمَّدًا ﷺ في هذه الرحلةِ وكان كُلٌّ مِنهُما (رَاكِبًا) ظَهْرَ هذَا البُراقِ في رِحلةِ الإسراءِ إلى بَيتِ الْمَقدِس، كما دَلَّ على ذلك رِوايةُ الطَّيالِسِيِّ مِن حَدِيثِ حُذَيفةَ: “فَلَمْ يُزَايِلَا ظَهْرَهُ هُوَ وَجِبْرِيلُ“.

وَلَمَّا وَصَلَا بيتَ المقدِس ربطَ جبريلُ البُراقَ بالحَلْقةِ التي يَرْبِطُ بها الأنبياءُ دَواَبَّهُم، ثم دخلَ النَّبِيُّ الْمَسْجِدَ فصَلَّى ركعتَين بالأَنبياءِ (ثُمَّ) خَرَجَ ﷺ مِن المسجِد الأقصَى وَ(عَلَا) أي ارتَفَع صاعِدًا (إِلَى السَّمَاءِ) على الْمِرقاةِ وكانَ (مَعَهُ جِبْرِيلُ) عليه السَّلامُ، والْمِرقاةٌ سُلَّمٌ دَرجةٌ منها مِن فِضّة والأُخرَى مِن ذَهَبٍ (فَاسْتَفْتَحَ) جِبرِيلُ أي طَلَبَ مِن خازِنِ السَّماءِ الأُولَى أن يَفتَح له (البَابَ)، فإنّ للسَّماواتِ أبوابًا، وقد جاء في الأثرِ أنّ خازِنَ السّماءِ الأولى مَلَكٌ يُقال له إسماعِيلُ تحت يَدِه اثْنَا عشَرَ ألْفَ مَلَكٍ، تَحت يَد كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، وهي كذلك عِند البيهقِيّ، وأمّا عِند الطبرانيّ في «المعجَم الأوسَط» فهي بِلَفْظِ: «وَبين يَدَيه سَبعُون ألْفَ مَلَكٍ، معَ كُلِّ مَلَكٍ جُنْدُه مائةُ أَلْفٍ».

وكان كُلَّمَا اسْتَفتَحَ جِبريلُ بابًا مِن أبوابِ السَّماواتِ (لَهُ) أي لِخازِنِ السَّماءِ (يَقُولُ) جِبرِيلُ (مُجِيْبًا) الخازِنَ (إذْ قِيلَ لَهُ) أي إذْ سألَهُ الخازِنُ مِنْ خَلْفِ البابِ (مَنْ ذَا) الَّذِي

(مَعَكْ؟) فيُجيبُه جِبريلُ (مُحَمَّدٌ)(مَعِيْ) ورسولُ الله ﷺ يَسمَعُ ذلكَ.

رَوَى الشَّيخانِ وغَيرُهما مِن أصحابِ الصِّحاحِ والسُّنَنِ مَرفُوعًا أنّ رسولَ الله ﷺ قالَ: «انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا([2])، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ([3]) فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْه؟» أي هل طُلِبَ إليه للعُروجِ([4]) «قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحَ لَنَا» وَفرِحَ بِقُدُوم محمَّدٍ ﷺ (فَرَحَّبَ) بِه (الْمَلَك) قائِلًا: «مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ».

207-        

ثُـمَّ تَـلَاقَـى مَـعَ الَانْــبِــيَاءِ

 

وَكُـلُّ وَاحِـدٍ لَـدَى سَــمَـاءِ

 





(ثُمَّ تَلَاقَى) مِن المُلاقاةِ النَّبِيُّ محمَّدٌ (مَعَ) أي التَقى بسبْعةٍ مِنَ (الانْبِيَاءِ) في السَّماواتِ السَّبْعِ، والتّسهيلُ في “الانْبِياءِ” للوَزن، (وَ)كَانَ (كُلُّ وَاحِدٍ) مِنَ السَّبْعةِ (لَدَى سَمَاء) مِن السَّماواتِ السَّبْعِ يُرحِّبُ به.

رَوَى مُسلِمٌ في صِحيحِه مَرفُوعًا: «فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟([5])؟، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ ، إِذَا هُوَ قَدِ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ([6])، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ([7])، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ([8])» الحديثَ.

 

208-        

ثُـمَّ عَلَا لِمُسْـتَوًى قَـدْ سَـمِـعَا

 

صَـرِيفَ الَاقْـلَامِ بِمَا قَـدْ وَقَعَا

 




(ثُمَّ عَلَا) أي ارَتَفَع النَّبِيُّ ﷺ حِسًّا صاعِدًا (لِمُسْتَوًى قَدْ سَمِعَا) النّبِيّ ﷺ فيه (صَرِيفَ الاقْلَام) أي صوتَ حَركَتِها وجَريانها عَلَى المخطُوطِ فيه مِمَّا تَكتُبه الملائكةُ مِن أَقْضِية الله تعالى (بِمَا قَدْ وَقَعَا) أي ثَبَت وُقُوعُه بِمَشِيئةِ اللهُ لَهُ أنّ ذلك يَحصُلُ في الدُّنيا، فَتَنْسَخُ الملائكةُ القَدْرَ الَّذِي أُطْلِعَتْ عَلَيْهِ وأُذِنَ لَها في نَسْخِهِ مِن اللَّوحِ المحفُوظ، وقد جاء فِي الحديث الَّذِي رَواهُ  الشَّيخانِ في الصَّحِيحَين مرفوعًا: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ». والألِف في قولِ النّاظم “سَمِعَا” للإطلاقِ لا التّثنية، لأنّ جبريلَ عليه السّلامُ لَم يَصِل إلى هذا المُستَوى الّذي يُسمَع عِندَه صريفُ الأقلامِ، وما رُوِي مِن أنّ جبريلَ إذا تَجاوَز ذلكَ المَكانَ احتَرَقَ فإنّه مردودٌ لا يَصِحُّ، كما حقّقَهُ شَيخُنا الهرَريُّ وسبَقَ إليه بعضُ المحدِّثِينَ كما نقلَ عنهُم المُلّا عليّ القاري ذلكَ([9]).

209-        

ثُـمَّ دَنَــا حَـتَّـى رَأَى الإِلَـٰهَ

 

بِـعَـيْـنِـهِ مُـخَـاطِـبًا شِـفَـاهَا

 




(ثُمَّ دَنَا) جِبريلُ عليه السَّلامُ مِن النَّبِيّ ﷺ حتَّى صار قريبًا جِدًّا مِنهُ بالْمسافة الحِسِّيّةِ بمِقدَارِ ذِراعَين بل أَقْرَب، وليس الأَمْرُ كما يَفْتَرِي بعضُ النّاسِ أنّ الله تعالى دَنَا بِذاتِه دُنُوّ حِسٍّ مِن مُحَمَّدٍ حتى صارَ بَينَ مُحَمَّدٍ وبينَ اللهِ كما بَينَ الحاجِبِ والحاجِبِ أو قَدْرَ ذِراعَين، بل هذا فاسِدٌ مردودٌ كفرٌ صُراحٌ بَوَاحٌ مكذِّبٌ للقرءان والإجماعِ والأحاديثِ الصِّحاحِ لأنَّ إثباتَ مَسافةٍ للهِ تَعالَى إِثباتٌ لِلْمكانِ وهَذَا مِن صِفاتِ الخَلْقِ تَعَالَى اللُه عن ذَلِك كله.

وقَد صَحَّ في الحديثِ عَن عَبدِ الرَّحمنِ بنِ يَزِيدَ عَن ابنِ مَسعُودٍ فِي قَولِهِ تَعالَى: ﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ  قَالَ: «رَأَى رَسُولُ الله ﷺ جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ يَاقُوتٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، رواهُ ابنُ حِبّانَ في «صحِيحِه» وقال: “قَدْ أَمَرَ الله تَعَالَى جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَنْ يُعَلِّمَ مُحَمَّدًا ﷺ مَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ كَمَا قَالَ: ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ  ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ  يُرِيدُ بِهِ جِبْرِيلَ ﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ  يُرِيدُ بِهِ جِبْرِيلَ ﱡﭐ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ يُرِيدُ بِهِ جِبْرِيلَ([10]) ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ بِجِبْرِيلَ ﱡﭐ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ  يُرِيدُ بِهِ أنّه رأى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ حالَ كونِ النّبِيّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ”، واللهُ موجودٌ أزلًا وأبدًا بلا مكانٍ، وكان رؤيةُ محمّد ﷺ رَبَّه مِن غيرِ أنْ يَحُلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ في قلبِ النّبيِّ ﷺ، لأنَّ اللهَ منزَّهٌ عن الحلولِ والاتّحادِ وسائِر صِفاتِ الخَلْقِ.

وقد أَكْرَم اللهُ تعالَى نَبِيَّه ﷺ بكراماتٍ مُتتابِعةٍ (حَتَّى) إنّه ﷺ أُكرِمَ بأَنْ (رَأَى) اللهَ (الإِلَهَ) الَّذِي ليسَ كَمِثلِهِ شىءٌ بِلا جِهةٍ ولَا مَكانٍ، فقَد رَوَى الطَّبرانيُّ في «الْمُعْجَمِ الأَوْسطِ» بإسْنادٍ قَوِيّ – كما قالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ – عن ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنْهما: «رأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ»، ورَوَى ابنُ خُزَيْمةَ بإسْنادٍ قَوِيّ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ» وذلك بأنْ أزالَ اللهُ عن قلبِ النَّبي ﷺ الحِجابَ الْمَعنَوِيَّ فرأَى اللهَ تعالَى بِقَلبِهِ أي جَعَلَ اللهُ له قوّةَ الرّؤيةِ والنَّظرِ بِقَلبِهِ فرَأَى ﷺ ربَّهُ بِقَلبِهِ ولم يَرَهُ بِعَينَيْ رأسِهِ لأنَّ اللهَ لا يُرَى في الدُّنيا بالعَينِ الفانيةِ، ولذلك قال رَسُولُ الله ﷺ: «إِنَّكُم لَنْ تَرَوا رَبَّكُم حَتَّى تَمُوتُوا» رواه مُسلِم، كما يُفهَمُ ذلكَ أيضًا مِن قَولِهِ تعالى لِسَيِّدنا موسى: ﱡﭐ  ﲬ.

وقد رُوِيَ أنّهُ قيلَ لِرَسُولِ الله ﷺ: هل رأيتَ ربَّكَ لَيلةَ المعراجِ؟ فقال: «سُبْحانَ اللهِ، سُبْحانَ اللهِ، رَأَيتُهُ بِفُؤادِي وَما رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي»، لَكِنّهُ حَدِيثٌ ضَعِيف لم يَثْبُت([11]). ورَوَى ابنُ حِبّانَ في «صحِيحِه» عن مالكٍ رَضِيَ الله عنه قال: “لَا يُرَى البَاقِي بِالعَيْنِ الفَانِيَةِ وَإِنَّما يُرَى بِالعَيْنِ البَاقِيةِ في الآخِرَةِ” أي بِعُيون أهلِ الجنةِ التي لا يَلْحَقُهَا الفَناءُ لِأَنّهم لا يَمُوتونَ أبَدَ الآبِدِينَ.

وأمّا قولُ بعضِ أهلِ السّنةِ إنّه ﷺ رَأَى ربَّهُ ليلةَ المعراجِ بِعَيْنَي رَأْسِهِ فهذا قولٌ ضَعِيفٌ، وَمَن قالَ بِه لا يُبَدَّعُ ولا يُفَسَّقُ، بل وإلى هذا القولِ ذهَبٌ جَمعٌ مِن السَّلَفِ الصّالِحينَ، فمَن قالَ بِذَلكَ يُقالُ له: هذَا القَولُ مَرجُوحٌ والقَولُ الرَّاجِحُ أنَّهُ رَءَاهُ بِفُؤادِهِ أي بِقَلبِهِ لا بِعَينَيْهِ كما ثَبتَ ذلك عن أَبِي ذَرٍّ الغِفَاريّ رَضِي الله عنه قال: «رَءاهُ بِقَلبِهِ ولم يَرَهُ بِعَيْنِهِ»، ونَحنُ على هذا القَولِ.

وأمّا القَولُ الذي جَرَى عليهِ النّاظِم بأنّ النَّبِيّ رَأى رَبَّهُ (بِعَيْنِهِ) فلم يثبُتْ في حديثٍ

صحيح بل الذي ثبت هو القول  الأوّل كما أسلفْنا، وأمّا قول النَّاظِم عن النَّبِيِّ إنّه رأى رَبَّه (مُخَاطِبًا شِفَاهَا) فهو كَلامٌ فيهِ مَا يُوهِم معنًى فاسِدًا مِن حيثُ الظاهِرُ ويُخشَى مَعَهُ علَى الجاهِلين مِن أن يتَوَهَّمُوا خِلافَ عقيدةِ أهلِ السُّنّةِ، مَعَ أنّ مُرادَ النّاظِم مِن ذَلِكَ أنّه حَصَلَ لسيّدنا محمَّد ﷺ سماعُ كلام الله الذاتي الأزليّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً بلا واسِطةِ مَلَكٍ أي ليس جِبريلُ عليه السلام أو غيرُه مِن الملائكةُ هو الَّذِي بَلَّغَه أمرَ الله تعالَى في تِلكَ المرَّةِ وإنّما سَمِعَ النبيُّ كلامَ اللهِ الذاتيَّ الأزليَّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً بعدَ أنْ أُزيلَ الحِجابُ الْمَعْنَوِيُّ عن سَمْعِ النبيِّ كما أنّه قد أُزِيلَ الحِجابُ قبلَ ذلِكَ عن سَمْعِ نبيِّ اللهِ مُوسَى عليه الصَّلاة والسّلام فَسَمِعَ مُوسى كَلامَ اللهِ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً.

وهذا اللفظُ في النّظمِ “شِفاهًا” غيرُ مستحسَنٍ ولم يَرِدْ مضافًا إلى اللهِ لا في الكتابِ ولا في السُّنّةِ الثابتةِ ولا في الإجماعِ لأنَّ اللهَ تعالى كلامُه بلا فَمٍ ولا شِفاهٍ ولا لسانٍ ولا أسنانٍ ولا أضراسٍ ولا لَهَاةٍ ولا اصطكاكِ أجرامٍ ولا انسلالِ هواءٍ ولا مخارجِ حروفٍ ولا هو مبتدَأٌ ولا مُختَتَمٌ ولا يتخلَّلُه انقطاعٌ وليس باللُّغةِ العربيةِ أو العِبريَّةِ أو السُّريانيةِ ولا يُشبِه كلامَ المخلوقينَ بأيّ وَجهٍ مِن الوجوه.

210-        

أَوْحَـى لَـهُ سُـبْـحَـانَهُ مَا أَوْحَى

 

فَـلَا تَـسَــلْ عَمَّا جَرَى تَصْرِيحَا

211-        

وَفَـرَضَ الصَّـلَاةَ خَـمْسِـينَ عَلَى

 

أُمَّـتِـهِ حَـتَّـى لِـخَـمْـسٍ نَـزَلَا

212-        

وَالأَجْـرُ خَـمْسُـونَ كَمَا قَدْ كَانَا

 

وَزَادَهُ مِـنْ فَـضْـلِـهِ إِحْـسَـانَا

 











ثُمَّ (أَوْحَى لَهُ) أي إِلَيهِ اللهُ (سُبْحَانَهُ) وتعالَى (مَا أَوْحَى) إليهِ مِن الوَحيِ، وفي ذَلِكَ إشارةٌ

إلى الآيةِ: ﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ، وفي تفسيرها أقوالٌ، منها:

       ﱡﭐ  الله إلى عَبْدِه مُحَمَّدٍ ﷺ ﱡﭐ ﱯ ﱰ .

       ﱡﭐ  الله إلى عَبْدِه جِبريلَ عليه السَّلامُ ﱡﭐ  ﱰ .

       ﱡﭐ جِبريلُ عليه السَّلامُ إلى “عَبدِ اللهِ” مُحَمَّدٍ ﱡﭐ  ﱰ .

وقد جاءَت تَسمِيةُ النَّبِيّ ﷺ بِعَبْدِ اللهِ في القرءان: ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ  ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ، وذِكرُ العبدِ في هذا المقام تشريفٌ، ولذلك وصفَ اللهُ رسولَه بالعبوديَّةِ في أَشرفِ المقاماتِ:

       في مقامِ التَّنزيلِ: قال تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ.

       ومقامِ الدَّعوةِ: قال تعالى: ﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ  ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ .

       ومقامِ التَّحدّي: قال تعالى: ﱡﭐ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ  ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ.

       وفي مقامِ الإسراءِ: قال تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ .

وقد أوحَى الله تعالَى إلى نَبِيِّه أُمورًا عَظِيمةً تِلكَ اللَّيلةَ، إلا أنّ النّاظِم مالَ إلى السُّكوت عن تعيِين جَمِيع ما أُوحِيَ إلى النّبِيّ بِه في تِلكَ اللَّيلةِ فقال: (فَلَا تَسَلْ عَمَّا جَرَى) أي عَن جَمِيع ما أُوحِي إلى النَّبِيّ بِه (تَصْرِيحا) بمعنَى أنْ لا تُعَيِّن جميعَ ما أُوحِي إلى النَّبِيّ به في تِلكَ اللَّيلة على سَبِيل الجَزم وإلا فقد جَزَموا بِفَرْضِ الصَّلَوات الخمس في ليلةِ المعراجِ وهو الذي يُصِرّح به النّاظم فيما بَعدُ.

(وَفَرَضَ) اللهُ تعالَى (الصَّلَاةَ خَمْسِينَ) صلاةً (عَلَى أُمَّتِهِ) أي أُمَّةِ محمَّدٍ ﷺ ثُمّ خَفَّفَ الله عَنهُم بسؤال النَّبِيّ رَبَّهُ ذلك (حَتَّى) ثَبَتَتْ فرضيّةٌ (لِخَمْسٍ) من الصلوات في اليَّوم واللَّيلة فـ(ـنَزَلَا) العَدَدُ إلى خَمسِ صلواتٍ بعدَ أن كانَتْ خَمسِينَ (وَ)جُعِلَ (الأَجْرُ خَمْسُونَ) أي أَجْرَ الخَمسِينَ (كَمَا قَدْ كَانَا) أي كما لو كانت خمسينَ، فلم ينقص منه شىءٌ (وَزَادَهُ) اللهُ تعالَى (مِنْ فَضْلِهِ) لَهُ ولأُمّتِه (إِحْسَانَا) وتشريفًا.

رَوَى ابنُ حِبّانَ فِي «صحيحِه» في حديث الإسراء عن مالِكِ بنِ صَعصَعة عن النبيّ ﷺ قال: «فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ» أي مِن المكان الذي كُنتُ فيه حِين أُوحِيَ إِلَيَّ ذلك «فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ» أي مارَسْتُهم ولَقِيتُ الشِّدَّة فيما أرَدْتُ مِنهم مِن الطاعةِ «فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ» أَي إِلَى الْموضع الَّذِي نَاجَيْتَ رَبَّك فِيهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنّ الله تعالَى فِي مَكَانٍ، وَالْمُنَاجَاةُ للهِ  والتَّضرُّعُ إِلَيهِ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ فِي السَّمَاءِ كَمَا كَانَتْ مِنهُ فِي الأَرْضِ والله تعالَى موجودٌ أزلًا وأبدًا بلا مكانٍ ولا جِهةٍ، قال: «فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فقال مِثْلَهُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ: قُلْتُ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ» أي تَكَرَّرَ مِنِّي سُؤالُ التَّخفِيفِ فلا أَرجِعُ إلى طَلَبِ التَّخفِيف في ذلك مَرَّةً أُخرَى «لَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ» أي مُوسَى وتَرَكْتُ الْمُرَاجَعَةَ “نَادَانِي مُنَادٍ” أَيْ بِأَمْرِ اللهِ مبلِّغًا عنِ اللهِ «أَمْضَيْتُ» أي أَنْفَذْتُ «فَرِيضَتِي

وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي»، الحديثَ.

213-        

فَـصَـدَّقَ الصِّـدِّيـقُ ذُو الـوَفَاءِ

 

وَكَـذَّبَ الكُـفَّـارُ بِالإِسْــرَاءِ

214-        

وَسَـأَلُـوهُ عَـنْ صِـفَاتِ القُـدْسِ

 

رَفَـعَـهُ إِلَـيْـهِ رُوْحُ القُـدْسِ

215-        

جِبْرِيلُ حَتَّى حَـقَّـقَ الأَوْصَـافَا

 

لَـهُ فَـمَـا طَـاقُـوا لَـهُ خِـلَافَا

216-        

لَكِنَّهُمْ قَـدْ كَـذَّبُـوا وَجَـحَـدُوا

 

فأُهْلِكُوا وَفِي العَـذَابِ أُخْلِـدُوا

 














ولَمَّا أصبَحَ ﷺ غدَا على قريش فانتَهَى إلى نَفَرٍ مِنهُم في الحَطِيم فِيهم الْمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ والولِيدُ بن الْمُغِيرة مِن المشرِكين، فقال ﷺ: «صَلَّيْتُ اللَّيْلَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّيْتُ بِهِ الغَدَاةَ وَأَتَيْتُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ عُرِجَ بِي» وَذَكَرَ القِصَّةَ، فأَعْظَمُوا ذلك وقالوا: “هذَا واللهِ الأَمْرُ الْمُبِينُ، إنّ العِيرَ لَتُطْرَدُ([12]) شهرًا مِن مَكّة إلى الشّام مُدْبِرةً وشهرًا مُقْبِلةً فيَذهَبُ ذلك مُحَمَّدٌ في ليلةٍ واحِدةٍ ويَرجِعُ إلى مَكَّةَ”، فارتَدَّ كثيرٌ مِمَّن كان أَسْلَم، وقال الْمُطْعِم: “كُلُّ أَمْرِكَ قبلَ اليومِ كان أَمَمًا([13]) غيرَ قَولِك اليومَ، أنا أشهَدُ أنّكَ كاذِبٌ”
 وكان لِلمُطْعِم حَوْضٌ علَى زَمْزَمَ فهَدَمَه وأَقْسَمَ باللَّاتِ والعُزَّى لا يَسْقِي مِنهُ قَطْرةً أبدًا.

وذَهَب النّاسُ إلى أَبِي بَكْرٍ فقَالُوا: “هَل لَكَ في صَاحِبِك يَزْعُم أنّه جاءَ فِي هَذِهِ اللَّيلةِ بَيتَ الْمَقْدِس وصَلَّى فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكَّةَ، فقال أبو بَكرٍ: إنّكُم تَكْذِبُون علَيه، قالوا: هَا هُوَ ذاكَ بالْمَسْجِد يُحَدِّثُ بِه النّاسَ (فَصَدَّقَـ)ـهُ أبو بَكرٍ (الصِّدِّيقُ) وهو رَضِيَ الله عَنهُ (ذُو الوَفَاءِ) للنَّبِيّ ﷺ ولِدِينِ اللهِ عَزّ وجَلّ، ثُمّ قَالَ لَهُم: “لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ”، (وَ)لَكِنّهم أَبَوا وَ(كَذَّبَ الكُفَّارُ بِـ)خَبَرِ (الإِسْرَاءِ) وأَصَرُّوا على العِنادِ وقَالُوا لأَبِي بَكرٍ: أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ أبو بَكرٍ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِي مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ” أي أنّ الملَك يَنزِلُ إليه بالوَحيِ مِن السّماءِ “فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ”، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله عَنْهُ، وهذا حَدِيثٌ رَوَاه الحاكِمُ في «المستَدرَك» عن عائشةَ رضي الله عنها.

(وَ)تَحَّدَى المشرِكُونَ النَّبِيَّ ﷺ أن يَصِفَ لهم المسجِدَ الأقصَى فـ(ـسَأَلُوهُ عَنْ صِفَاتِ القُدْس) أي بَيتِ الْمَقْدِس فـ(ـرَفَعَهُ إِلَيْهِ) أي رَفَعَ له المسجِدَ الأقصَى في الهواءِ (رُوْحُ القُدْسِ) أي رُوحُ الطُّهْر (جِبْرِيلُ) عَلَيه السّلامُ فَجَعَل ﷺ يَصِفُه لهم وصفًا دَقِيقًا (حَتَّى حَقَّقَ) النَّبِيُّ (الأَوْصَافَا لَهُ) أي لِلمَسجِدِ الأقصَى على ما هيَ علَيه في الواقِع([14]).

وقد رَوَى الشَّيخان في صَحِيحَيهِما، واللَّفُظ لِمُسِلم، مِن حديث أبي هُرَيرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله ﷺ قال: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللهُ لِي  أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَىءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ»، الحديثَ.

(فَمَا طَاقُوا) أي لَم يَقدِرِ الكُفّارُ (لَهُ خِلَافا) أي إنكارًا لصِحّة الوَصْفِ الذي وَصَفَ ﷺ به بيتَ المقْدِس وعَجَزوا، و(لَكِنَّهُمْ) معَ أنّه ﷺ وصَفَ لهم المسجِدَ كما طَلَبوا إلا أنّهُم (قَدْ كَذَّبُوا) النَّبِيَّ عِنادًا (وَجَحَدُوا) ما وَضَح لهم، وكان قد ارَتَدَّ بعضُ مَن ءامَن بالنبيّ بسبب ذلك كما ذَكَرنا قبلُ (فأُهْلِكُوا) أي بسببِ تكذيبهِم للنَّبِيّ وكُفرِهم (وَ)الذين ماتُوا مِنهُم على الكُفر فـ(ـفِي العَذَابِ) الأُخرَوِيِّ قَد (أُخْلِدُوا) أي إلى ما
لا نِهايَةَ له، ومِصداقُ ذلِكَ ءاياتٌ كثيرةٌ مِنها قولُ الله تعالَى:
ﱡﭐﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ،  فإن قال مُنازِعٌ: لا يَخرُجُون مِنها لَكِنّهُم يَفْنَون بعدَ مُدَّةٍ، فيكفي في الرَّدِّ عليه قولُ الله تعالَى: ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ  ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ  ﲣ  فلا فَناءَ لهُم فيها ولا تخفيفَ للعذابِ عن أحَدٍ مِنهُم بَعدَ أن دَخَلُوا النّار لا بِشفاعةٍ ولا بِغَيرها، قال اللهُ عزّ وجلّ: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ أي لا تَكُون لَهُم شفاعةٌ مِن شافِعٍ مِن الشّافعِين لأنّهم ليسُوا مِن أَهلِها.



([1])  بفَتح الدّال.

([2])  وهي السّماء الأُولَى.

([3])  أي طَلَب أنْ يُفتَح له.

([4])  وهو التّفسيرُ الّذي اعتمَدَه شيخُنا الإمامُ الهرريّ رحمه اللهُ تبَعًا في ذلكَ للنّوويّ والشَّرَفِ الطِّيبيّ والبَدرِ العينيّ والسُّيوطيّ وغيرِهم، وقال النّوويّ في «شرح مُسلِم» (2/212): “وأمّا قَولُ بَوّابِ السَّماءِ: «وَقَد بُعِثَ إلَيهِ» فمُرادُه وقد بُعِثَ إليه للإسراءِ وصُعودِ السَّماواتِ، وليسَ مُرادُه الاستفهامَ عَن أصلِ البِعثةِ والرِّسالةِ فإنّ ذلكَ لا يَخفَى علَيه إلى هذِه المُدّة، فهذا هو الصّحِيحُ واللهُ أعلم”.

([5])  أي هل طُلِبَ للعُروجِ.

([6])  وقد أُعطِي نَبِيُّنا محمّدٌ ﷺ الحُسنَ كُلَّه، وكان جَمالُ محمّدٍ ﷺ مُكللَّاً بالهَيبةِ والوَقارِ، كما أنّ  جميعَ الأنبياءِ جَمِيلُو الشَّكلِ مَلِيحُو الهَيئةِ ذَوُو وَفارٍ وهَيبةٍ، ومعَ ذلك فلَم يَحصُل مِن أيّ نَبِيّ مِنهُم رَذِيلةٌ واحِدةٌ، فمَن نَسَبَ الرّذِيلةَ إلى نبيّ اللهِ يُوسُفَ ﷺ أو غيرِه مِن الأنبياءِ عليهِم السّلامُ فقَد كَفرَ باللهِ العظيم، قال تعالى: ﱡﭐ    فالنّصُّ في يوسفَ والحُكمُ عامٌّ في سائِر الأنبياء.

([7])  الصّحيحُ أنّ إدريسَ ﷺ بَقِي فيه السّماءِ مُدّةً ثُمّ نزَلَ إلى الأرضِ وماتَ فيها ودُفِن فيها وليسَ بصَحِيحٍ أنّه بَقِي فيها وماتَ فيها، قال اللهُ تعالى: ﱡﭐ    والمكانُ العَلِيُّ هو السّماءُ حيثُ رُفِع إدريسُ عليه السّلامُ.

([8])  مِن كَثرَتِهم ليَدخُل غَيرُهم.

([9])  مرقاة المفاتيح، الملّا عليّ القاري، (2/620).

([10])  وقد جاء مصرَّحًا به في بعضِ كتبِ الصّحيح.

([11])  قال الحافظ السُّيوطي: “أخرَجه ابنُ أبي حاتِمٍ مُرسَلًا وأخرجَه ابنُ جَرِيرٍ عن محمّدِ بنِ كَعبٍ عن بعضِ أصحابِ النّبِيّ ﷺ قال: قُلْنا يا رسول الله، فذكَرَه مَوصُولًا”. يُنظَر: مَناهِل الصَّفا في تَخرِيج أحادِيث الشِّفا، جلال الدّين السُّيوطيّ، (ص/99).

([12])  أي تَسَيَّرُ بِلَا انْقِطاعٍ.

([13])  أي يَسِيرًا خَفِيفًا.

([14])  سُمِّي برُوحِ القُدسِ أي رُوحِ الطُّهر لأنَّ بِه يَحيَا الدِّينُ في الأرضِ كما أنّ بالرُّوحِ حَياةَ الجسَدِ.