الأحد ديسمبر 7, 2025

 الـفقـه الأكـبـر

أعلى العلوم وأوجبها وأفضلها هو علم التوحيد، ذلك أن شرف العلم بشرف المعلوم ، ولما كان علم التوحيد يفيد معرفة الله على ما يليق به وتنـزيه الله عما لا يجوز عليه وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم كان أفضل من علم الأحكام، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ… *} [(69)].

وقال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأبسط: «اعلم أن الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام» [(70)] اهـ، لأن أفضل العلم العلم بالله ورسوله، ويسمى علم التوحيد وسماه الإمام أبو حنيفة الفقه الأكبر كما في بعض رسائله، ونصه: «أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر» [(71)] اهـ لأنه أهم أمور الدين، هو أساس علم الدين، أساس الإسلام، لا يحصل الإسلام بدونه، فمن مزاياه أن من عرف الله على مذهب أهل السنة والجماعة، وعرف نبيه صلى الله عليه وسلم، ومات على هذا الاعتقاد يدخل جنة الله مهما كان عليه من الذنوب، فبعض هؤلاء الذين يموتون على التوحيد إن كان عليهم ذنوب كثيرة بعضهم يسامحهم الله ولا يعذبهم والبعض يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة، هذا مزية علم التوحيد، أما سائر العلوم علم الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من علوم الأحكام فليس له هذه المزية، فكم من أناس حفظوا القرءان ويكثرون الصلاة والصيام ماتوا من غير أن يعرفوا التوحيد على مذهب أهل السنة ماتوا وهم يعتقدون أن الله جسم، هؤلاء ما عرفوا الله ولا ينفعهم قول لا إلـه إلا الله باللفظ ولا حفظ القرءان، كل أعمالهم غير مقبولة عند الله قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ… *} [(72)]، ذلك أن الإيمان بالله ورسوله على الوجه الصحيح شرط لقبول الأعمال الصالحة أي لصحتها ونيل ثوابها في الآخرة.

قال العلامة الحبيب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي ما نصه: «فعلى العامي الملازم لطاعة الله تعالى والمداوم عليها، أن يتعلم ما لا بد له منه من العلم الذي لا يصح ولا تتم طاعته إلا به من العلوم الظاهرة: مثل أحكام الطهارة والصلاة والصيام وما في معنى ذلك. وعليه أيضًا أن يعرف من علوم الإيمان الاعتقادية ما يحصن به معتقده من العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، والعلم باليوم الآخر من البعث والحشر والميزان، والصراط والجنة والنار، فيحصل من العلوم الإيمانية، والعلوم الإسلامية ما يصح به إيمانه وإسلامه، ويتمان ويكملان به، فذلك مقدم على اشتغاله بالعبادات ومواظبته عليها، فإن العلم كالأساس، والعبادة كالبنيان، وما لا أساس له لا ثبات له . وربما اشتغل المتعبد بطاعات وعبادات يستغرق بها أوقاته، ويتعب فيها نفسه وهو فيها غير محمود ولا مأجور، بل ربما كان ملومًا ومأزورًا إذا كان لم يعلم بما لا بد له من علمه في إقامة عباداته وصحتها، وكمالها من العلوم الإيمانية والإسلامية، فليكن المتعبد في نهاية الاعتناء بذلك والاهتمام به، والتفرغ له »[(73)] اهـ.

فهذا العلم علم التوحيد كان المسلمون في العصر الأول يعتنون به أكثر ممن بعدهم، أبو حنيفة رضي الله عنه مات سنة مائة وخمسين هجرية ومع ذلك ألف خمس رسائل في علم التوحيد وهي: الفقه الأكبر والفقه الأبسط والوصية والعالم والمتعلم ورسالة إلى عثمان البتي.

قال التفتازاني: «علم التوحيد الذي هو أساس الشرائع والأحكام ومقياس قواعد عقائد الإسلام أعز ما يرغب فيه ويعرج عليه، وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه، لكونه أوثق العلوم بنيانا وأصدقها تبيانا، وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا، وأصحها حجة ودليلا وأوضحها محجة وسبيلا، حاموا جميعا حول طلابه وراموا طريقا إلى جنابه، والتمسوا مصباحا على قبابه ومفتاحا إلى فتح بابه»[(74)] اهـ. بتصرف لطيف.

وقال الحافظ ابن الجوزي: «اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد لا خلل فيه ولا دخل وكذلك جميع الشرائع، إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال، مثل ما فعل النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، فإنهم تأملوا الفعل الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية، ولو تأملوا ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات، وهذا القدر يكفي في عدم صلاح الإلهية ويعلم حينئذ أن الذي جرى على يديه إنما هو فعل غيره»[(75)] اهـ.

فهذا العلم علم التوحيد كان المسلمون في العصر الأول يعتنون به أكثر ممن بعدهم، فألف الإمام أبو حنيفة رسائل في التوحيد[(76)]، من اطلع عليها يعرف منها عظيم حرصه رضي الله عنه في المنافحة عن العقيدة الحقة، وللشافعي كتابان في الكلام، أحدهما: في تصحيح النبوة والرد على البراهمة الذين ينكرون بعثة الأنبياء، والثاني: في الرد على أهل الأهواء. وذكر طرفا من هذا النوع في كتاب القياس[(77)].

وهذا الإمام مالك بن أنس يشدد في رواية الأخبار المتشابهة، قال ابن القاسم : سألت مالكًا عمّن حدّث بالحديث الذين قالوا: «إنّ الله خلق آدم على صورته»[(78)] والحديث الذي جاء: «إنّ الله يكشف عن ساقه» [(79)]، وأنّه: «يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد» [(80)]، فأنكر مالك ذلك إنكارًا شديدًا، ونهى أن يحدّث بها أحد»[(81)] اهـ.

(وهو ما قاله سيدنا عليٌّ رضي الله عنه: «حدّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله» ، والمراد بقوله: «بما يعرفون» أي: يفهمون، وفي رواية: «ودعوا ما ينكرون» أي: يشتبه عليهم فهمه. وفيه دليل على أنّ المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامّة. ومثله قول ابن مسعود: «ما أنت محدّثًا قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» وممّن كره التّحديث ببعضٍ دون بعض أحمد في الأحاديث الّتي ظاهرها الخروج على السّلطان، ومالك في أحاديث الصّفات، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوّي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب)[(82)].

وهكذا مضى أهل العلم يعلمون طلابهم، ويزرعون فيهم الحرص على العقيدة الحقة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قد جاء بعقيدة واحدة لا لبس فيها ولا دخل، إلا أن الأهواء سرعان ما بدأت بالدخول على الناس لأسباب مختلفة.

قال أبو المظفر الأسفرايني: «لأهل السنة والجماعة التفرد بأكثر من ألف تصنيف في أصول الدين، منها ما هو مبسوط يكثر علمه، ومنها ما هو لطيف يصغر حجمه، في أعصار مختلفة، من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، في نصرة الدين، والرد على الملحدين، والكشف عن أسرار بدع المبتدعين»[(83)] اهـ.

ثم شرع يعدد أئمة أعلاما اعتنوا بوضع تآليف في هذا المعنى الذي ذكره، وأسهب في ذلك، وقد اقتصرت هنا على الإشارة لذلك، وهذا يؤكد ما نبه إليه الشيخ الكوثري فيما مر بنا في التمهيد.

وجل مقصود أعلام الأمة هو أن يبينوا العقيدة التي بعث الله تعالى بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، على الوجه الصحيح الصافي، وأن يحصنوا الناس من شبه المبتدعة على اختلاف أصنافهم ومشاربهم، أعاذنا الله منهم.

ولذلك ألف العلماء رسائل في التوحيد ليبينوا العقيدة التي بعث الله بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولتحصين الناس من شبه المبتدعة على اختلاف أصنافهم ومشاربهم، أعاذنا الله منهم.

وجوب تعلم الفقه الأكبر

قال الحافظ الكبير البيهقي المتوفى سنة (458هـ) ما نصه: «(باب أول ما يجب على العاقل البالغ معرفته والإقرار به) قال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ… *} [(84)]، وقال له ولأمته: {…فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [(85)]، وقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا… *} [(86)] الآية، فوجب بالآيات قبلها معرفة الله تعالى وعلمه، ووجب بهذه الآية الاعتراف به والشهادة له بما عرفه ودلت السنة على مثل ما دل عليه الكتاب»[(87)] اهـ.

وروى الحافظ البيهقي والطبراني وابن ماجه عن جندبٍ قال: «كنا غلمانا حزاورة[(88)] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم يعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا، وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان » [(89)]. قال الحافظ البوصيري عن هذا الحديث: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات»[(90)].

ولذلك فأنا أؤكد هذا المعنى بهذه النقول الجليلة فتأملها:

– قال الشافعي رضي الله عنه: «سألت مالكا عن التوحيد فقال: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» [(91)] الحديث[(92)] اهـ.

– قال الإمام الشافعي: «أحكمنا ذاك قبل هذا» [(93)]، أي أتقنا علم التوحيد قبل فروع الفقه.

– وقال الإمام أبو الحسن الأشعري: «أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه» [(94)] اهـ.

– وقال الإمام الجنيد البغدادي : «أول ما يحتاج إليه العبد من اعتقاد الحكمة معرفة المصنوع صانعه، والمحدث كيف كان إحداثه فيعرف صفة الخالق من المخلوق وصفة القديم من المحدث ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته فإن لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه» [(95)] اهـ.

– وقال أبو القاسم القشيري: «سمعت الأستاذ أبا علي يقول: «فتجب البداية بتصحيح اعتقاد بينه وبين الله تعالى، صاف عن الظنون والشبه، خال من الضلالة والبدع، صادر عن البراهين والحجج» [(96)] اهـ.

– وقال أبو حامد الغزالي: «لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود» [(97)] اهـ.

– وقال ما نصه: «اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوئه ليحفظه حفظًا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا» [(98)] اهـ. – وقال الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي: «المقصد الأول في بيان عقائد الإسلام وأصول الأحكام -أول واجب على المكلف معرفة الله تعالى ، وهي: أن تؤمن بأن الله تعالى موجود ليس بمعدوم. قديم ليس بحادث. باق لا يطرأ عليه العدم. مخالف للحوادث لا شىء يماثله. قائم بنفسه لا يحتاج إلى محل ولا مخصص. واحد لا مشارك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله»[(99)] اهـ.

– وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدرا من مجرد العبادة البدنية»[(100)] اهـ.

– وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسيني: «ويجب على كل مكلف شرعًا أن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز، وما يستحيل وما يجوز، وكذا يجب عليه أن يعرف مثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام» [(101)] اهـ.

– وقال العلامة صالح عبد السميع الآبي الأزهري المالكي ما نصه: «معرفة ما يجب لله عز وجل، وما يجوز وما يستحيل تستلزم معرفة مثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام» [(102)] اهـ. يشرح كلام العلامة الأخضري: «أول ما يجب على المكلف تصحيح إيمانه ، ثم معرفة ما يصلح به فرض عينه، كأحكام الصلاة والطهارة والصيام» اهـ.

– وقال أحمد بن غنيم بن سالمٍ النّفراويّ بلدًا المالكيّ مذهبًا: «من واجب أمور الدّيانات على كلّ مكلّفٍ اعتقاد أنّه تعالى (لا شبيه له ولا نظير له) في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والنّظير بمعنى الشّبيه فهما لفظان مترادفان، وإنّما وجب تنـزّهه عن الشّبيه، لأنّه تعالى لو أشبهه شىءٌ من المخلوقات لكان مشبهًا له، وجائزًا عليه الفناء الجائز على المخلوقات، ولزم كونه خالقًا ومخلوقًا وقديمًا وحادثًا وكلّ ذلك محالٌ، قال تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [(103)] فأوّل هذه الآية تنـزيهٌ، ففيه ردٌّ على المجسّمة وآخرها إثباتٌ، ففيه ردٌّ على المعطّلة النّافين لزيادة جميع الصّفات، وقدّم فيها النّفي على الإثبات، وإن كان الأولى العكس في أماكن كثيرةٍ، لأنّه لو قدّم الإثبات فيها لأوهم[(104)] التّشبيه بالمخلوق الّذي سمعه بأذنٍ وبصره بحدقةٍ، فقدّم التّنـزيه ليعرف السّامع ابتداءً أنّه ليس مشابهًا لشىءٍ من الحوادث، وهذه الآية دليلٌ قاطعٌ على مخالفته تعالى لسائر الحوادث، وهي أقمع آيةٍ للشّيطان عند تعرّضه للإنسان في مقام البحث عن ذات البارئ وصفاته» [(105)] اهـ.

وقال: «مما يجب اعتقاده أنّه (لا يبلغ) أي لا يدرك (كنه) أي حقيقة (صفته) تعالى (الواصفون) أي العارفون بطريق معرفة الصّفات، والصّفة لا بقيدٍ صفة الله تعالى هي المعنى القائم بالموصوف، وتفسير الكنه بالحقيقة هو الظّاهر»[(106)] اهـ.

– قال الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي في كفاية الغلام في أركان الإسلام:

«معرفـة الله عليك تفترض

بأنه لا جوهر ولا عرض

وليس يحـويه مكان لا

تدركه العقول جل وعلا

لا ذاتـه يشـبه الـذوات

لا حكـت صفـاته الصفات» [(107)]

قال العلامة أبو محمد عبد الواحد بن عاشر ما نصه:

«أول واجب على من كلفا الله والـرسـل بالصـفـات

ممكنًا من نظر أن يعرفا مما علـيـه نصب الآيـات»[(108)]

– قال العلامة محمد أمين أفندي الشهير بابن عابدين ما نصه: «(اتفق الفقهاء) أي المجتهدون (على فرضية علم الحال) أي العلم بحكم ما يحتاج إليه في وقت احتياجه إليه ، قال في التتارخانية: اختلف الناس في أي علم طلبه فرض فحكى أقوالاً، ثم قال: والذي ينبغي أن يقطع بأنه المراد هو العلم بما كلف الله تعالى عباده، فإذا بلغ الإنسان ضحوة النهار مثلاً يجب عليه معرفة الله تعالى بصفاته بالنظر والاستدلال وتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما ، ثم إن عاش إلى الظهر يجب تعلم الطهارة ثم تعلم الصلاة وهلم جرًا، فإن عاش إلى رمضان يجب تعلم علم الصوم، فإن استفاد مالاً تعلم علم الزكاة والحج إن استطاعه وعاش إلى أشهره، وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال المفروضة عينًا»[(109)] اهـ.

الحق أنه لا بد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة

قال الشيخ أحمد بن غنيم بن سالمٍ النّفراويّ بلدًا المالكيّ مذهبًا: «وذكر بعض العلماء أنّ ابن الجوزيّ جلس يومًا على كرسيّ وعظه يقرّر في تفسير: {…كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} [(110)] فوقف رجلٌ على رأسه، وقال له: فما يفعل ربّك الآن؟ فسكت وبات مهمومًا، فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له: إنّ السّائل هو الخضر وإنّه سيعود إليك فقل له: شؤونٌ يبديها ولا يبتديها يخفض أقوامًا ويرفع آخرين، فأتاه فأجابه، فقال له: صلّ على من علّمك .

وذكر صاحب الكشّاف في تفسيره أنّ عبد الله بن طاهرٍ سأل الحسين بن الفضل، وقال له: أشكل عليّ قوله تعالى: {…كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} وقد صحّ أنّ القلم جفّ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، فقال الحسين في الجواب: إنّ معنى: {…كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} شؤونٌ يبديها أي يظهرها لا شؤونٌ يبتديها أي يقدّرها أي لأنّ التّقدير في سابق علمه، فقام عبد الله وقبّل رأسه» [(111)] اهـ.

وإنما قدمت هذا النقل لإظهار أهمية هذا المعنى… وهذا من جهة ولا تخفى الحاجة لتفهم المعاني للإجابة عند الحاجة… فكيف إذا وقعت الفتن:

قال الشيخ تقي الدين الحصني عند كلامه على حديث الفتن التي تموج موج البحر ما نصه: «والفتن كل أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء، وأصله في اللغة الاختبار، وشبهت بموج البحر لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدة عظمها وشيوعها، وقوله: تعرض الفتن على القلوب أي تلصق بعرض القلوب أي بجانبها، كالحصير تلصق بجنب النائم وتؤثر فيه لشدة إلتصاقها، وهذا شأن المشبهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثر وتحسن لعقولهم ذلك، حتى يعتقدوا ذلك دينا وقربانا من الله عز وجل، وما يقنع أحدهم حتى يبقى داعية وحريصا على إفتان من يقدر على إفتانه كما هو مشاهد منهم، وإلى مثل ذلك قوله: ( أُشرِبَها ) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: {…وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ…} [(112)] أي حبه»[(113)] اهـ.

ثم تكلم عن الملحد المنجم المغيرة بن سعيد الذي طارت فتنته وافترى على الله ورسوله وعلى الصحابة وعلى أهل البيت إضافة لخبائث أخر، إلى أن قال: «فلما كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبد الله القسري فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه، فهذا شأن أهل الزيغ، واستمر الأمر على ذلك إلا أنهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الانكباب على سماع الحديث، ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس العوام .

ثم كثرت المقالات في زمن الإمام أحمد، وكثر القصاص وتوجع هو وابن عيينة وغيرهما منهم، وكان الإمام أحمد يقول: «كنت أود لو كان قصاصا صادقا نصوحا طيب السريرة»، ونبغ في زمنه محمد بن كرام السجستاني، وترافق مع الإمام أحمد، وأظهر حسن الطريقة حتى وثقه هو وابن عيينة، وسمع الحديث الكثير ووقف على التفاسير وأظهر التقشف مع العفة ولين الجانب، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء، ثم أخذ حانوتا يبيع فيه لبنا، واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويذكر ويحدث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفا، وكان من غلاة المشبهة وصار يلقي على العوام الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوام وما ألفوه ، ففطن الحذاق من العلماء فأخذوه ووضعوه في السجن ، فلبث في سجن نيسابور ثمان سنين، ثم لم يزل أتباعه يسعون فيه حتى خرج من السجن، وارتحل إلى الشام ومات بها في زعر، ولم يعلم به إلا خاصة من أصحابه فحملوه ودفنوه في القدس الشريف، وكان أتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفا على التعبد والتقشف، وقد زين لهم الشيطان ما هم عليه، وهم من الهالكين وهم لا يشعرون ، واستمر على ما هم عليه خلق، شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً…} [(114)]، قال سعيد بن جبير: هذه الآية نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ، المعنى أنه ركض في ميادين الباطل وهو يظنها حقا ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول عند هذه الآية: إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها» [(115)] اهـ.

ثم تكلم في صفات أهل البدع فذكر أمورا إلى أن قال: «ومنها أن يتعرض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار ويجمعها ويسردها، ويكرر الآية والخبر مرارا لأنه يوقع العامي فيما اعتاده وألفه ، فيجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه ويزينه الشيطان له بغروره… فمن أراد الله به خيرا حماه من مجالسة هؤلاء لأن القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه، فإذا علقت به الشبهة والريبه فبعيد أن يرتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه، وأقل ما ينال القلب التردد والحيرة، وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان، فإن كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميا، والمبتدع أدخلها عليه بقال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعيد أن يرجع وتنقشع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة، لتحكم الشبهة بالدليل (أي التلبيس)، وهذا من الهالكين إلا أن يتداركه الله برحمته، لأن عمدة الناس الكتاب والسنة والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضي، فمن حق العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم، وأن لا يغتر بتقشفهم وكثرة تعبدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم، فإن ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها، وبها تتشرب القلوب لبدعتهم لا سيما من قلبه مشغوف بحب الدنيا»[(116)] اهـ. [وهذا يوضح سبب قلة ما نقل عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يعرف عنهم كثرة المناظرة في علم التوحيد لأن مثلهم كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلم يحتاجوا لإبراز السلاح، ونحن قد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا، ويستطيلون علينا لشيوع بدعتهم ونصرة من يقويهم بالمال وغيره، فلا يسعنا أن لا نعلم بإقامة البراهين اليقينية من المخطئ منا ومن المصيب، وأن لا نذب ونمنع المخالفين بإقامة الحجج عليهم وإبطال نحلهم لأنهم استطالوا على أنفسنا وحرمنا باستحلال الدماء، فقد ابتلينا بمن يقاتلنا من أهل الأهواء بإظهار الشبه والإغراء الذي هو القتال المعنوي، فلا بد لنا في دفعهم وإزالة شبههم بإقامة الحجج الساطعة والبراهين القاطعة التي في معنى السلاح، وفي ذلك إشارة إلى أن البحث في هذا العلم والمحاجة لرد المغرر بهم إلى الجادة صارت من الفروض على الكفاية دون البدع المنهية، وفيه إشارة أيضا إلى أن ذلك مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم[(117)]، حيث حمل على العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، المقاتلين مقاتلة معنوية.

مع أن الرجل إذا كف لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك لم يطق أن يكف قلبه، لأنه لا بد للقلب أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعا، فأما أن يحبهما جميعا وهما مختلفان فهذا لا يكون.

قال مشايخنا رحمهم الله تعالى: تعليم صفة الإيمان للناس وبيان خصائل أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وألف السلف فيها تآليف كثيرة، وأشار إليه بقوله: إذا مال إلى الحق وعرف أهله كان لهم وليا.

وإذا لم تعرف المخطئ من المصيب لا يضرك في خصلة، ويضرك بعد في خصال غير واحدة، فأما الخصلة التي لا تضرك فإنها أنك لا تؤاخذ بعمل المخطئ، وأما الخصال التي تضرك مع اتصافك بحال المخطئ فواحدة منها: اسم الجهالة فيما يجب عليك معرفة حقيقته من الاعتقاديات لوقوعه عليك لأنك لا تعرف الخطأ من الصواب، وعسى أن ينـزل بك من الشبهة ما نزل بغيرك ممن تشبث بها من أهل الأهواء ولا تدري ما المخرج والمخلص منها، لأنك لا تدري ولا تستيقن لعدم جزمك بخطأ المخالف أمصيب أنت أم مخطئ في الخلافيات الاعتقادية فلا تنـزع ولا تتخلص عن الشبهة التي يوردها المخالفون على أهل الحق، مما يذكرونه لإثبات مذهبهم فإنها شبهة[(118)] في نفس الأمر وإن كانت دليلا عندهم][(119)].

قال أبو حامد الغزالي : «والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها (مراده عقيدة أهل السنة والتي لخصها في إحياء علوم الدين)، إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم، وأجمع السلف الصالح عليها والعلماء يتعبدون بحفظها على العوام من تلبيسات المبتدعة ، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الظلمة والغصاب، وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر، إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة»[(120)] اهـ.

وقال في الاقتصاد في الاعتقاد : «التمهيد الثالث في بيان الاشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات: اعلم أن التبحر في هذا العلم والاشتغال بمجامعه ليس من فروض الأعيان وهو من فروض الكفايات… إذ تبين أنه ليس يجب على كافة الخلق إلا التصديق الجازم، وتطهير القلب عن الريب والشك في الإيمان. وإنما تصير إزالة الشك فرض عين في حق من اعتراه الشك.

فإن قلت: فلم صار من فروض الكفايات وقد ذكرت أن أكثر الفرق يضرهم ذلك ولا ينفعهم؟

فاعلم أنه قد سبق أن إزالة الشكوك في أصول العقائد واجبة، واعتوار الشك غير مستحيل وإن كان لا يقع إلا في الأقل، ثم الدعوة إلى الحق بالبرهان مهمة في الدين .

ثم لا يبعد أن يثور مبتدع ويتصدى لإغواء أهل الحق بإفاضة الشبهة فيهم فلا بد ممن يقاوم شبهته بالكشف ويعارض إغواءه بالتقبيح ، ولا يمكن ذلك إلا بهذا العلم. ولا تنفك البلاد عن أمثال هذه الوقائع، فوجب أن يكون في كل قطر من الأقطار، وصقع من الأصقاع قائم بالحق مشتغل بهذا العلم يقاوم دعاة المبتدعة ، ويستميل المائلين عن الحق ويصفي قلوب أهل السنة عن عوارض الشبهة، فلو خلا عنه القطر خرج به أهل القطر كافة، كما لو خلا عن الطبيب والفقيه» [(121)] اهـ. بتصرف.

وفي الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ما نصه: «والذي صرح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوبا عينيا أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده ، ولا يشترط فيه علمه بقوانين أهل الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو آلاته فيجب عينا على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين» [(122)] اهـ.

والناظر في واقعنا اليوم يعلم بما لا يتطرق إليه شك أو تردد أهمية القيام بهذا الواجب بهمة عالية مع النية الخالصة الصادقة ، وهو حري بأهل السنة والجماعة الذين أخلصوا معنى التوحيد ولم يشركوا بالله شيئا، ليقع تأثر العوام بكلامهم فإن خير ما يستعان به على نشر كلمة الإخلاص بالإخلاص والحكمة والموعظة الحسنة.

ولا يخفى أن الحكمة في علاج من وقع في بلية التشبيه شىء مطلوب، ولذلك أؤكد هذا المعنى من كلام بعض الأعلام:

قال الحافظ ابن الجوزي: «التلطف في محادثة العوام: من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده، مثاله أن قوما قد رسخ في قلوبهم التشبيه وأن ذات الخالق سبحانه ملاصقة للعرش وهي بقدر العرش ويفضل من العرش أربعة أصابع، وسمعوا مثل هذا من أشياخهم، وثبت عندهم أنه إذا نزل وانتقل إلى السماء الدنيا فخلت منه ست سموات.

فإذا دعى أحدهم إلى التنـزيه وقيل له: ليس كما خطر لك إنما ينبغي أن تمر الأحاديث كما جاءت من غير مساكنة ما توهمته، صعُب هذا عليه لوجهين :

أحدهما: لغلبة الحس عليه والحس على العوام أغلب.

والثاني: لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ الذين كانوا أجهل منه.

فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه، ولقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئا من التنـزيه فقال: والله لو قدرت عليه لقتلته.

فالله الله أن تحدث مخلوقا من العوام بما لا يحتمله دون احتيال[(123)] وتلطف، فإنه لا يزول ما في نفسه ويخاطر المحدث له بنفسه فكذلك كل ما يتعلق بالأصول»[(124)] اهـ.

وقال أبو حامد الغزالي : «وأما العامي المعتقد للبدعة فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب، وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث، الممزوج بفن من الوعظ والتحذير، فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين ، إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده…، إذ يجب إزالته باللطف والوعظ والأدلة القريبة المقبولة البعيدة عن تعمق الكلام، واستقصاء الجدل إنما ينفع في موضع واحد، وهو أن يفرض عامي اعتقد البدعة بنوع جدل سمعه فيقابل ذلك الجدل بمثله فيعود إلى اعتقاد الحق، وذلك فيمن ظهر له من الأنس بالمجادلة ما يمنعه عن القناعة بالمواعظ والتحذيرات العامية فقد انتهى هذا إلى حالة لا يشفيه منها إلا دواء الجدل فجاز أن يلقى إليه، وأما في بلاد تقل فيها البدعة ولا تختلف فيها المذاهب فيقتصر فيها على ترجمة الاعتقاد الذي ذكرناه ولا يتعرض للأدلة ويتربص وقوع شبهة فإن وقعت ذكر بقدر الحاجة، فإن كانت البدعة شائعة وكان يخاف على الصبيان أن يخدعوا فلا بأس أن يعلموا القدر الذي أودعناه كتاب الرسالة القدسية ليكون ذلك سببا لدفع تأثير مجادلات المبتدعة إن وقعت إليهم» اهـ.

.. إلى أن قال: «فإن قلت مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدعة والآن قد ثارت البدع وعمت البلوى، وأرهقت الحاجة فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم من فروض الكفايات، كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق كالقضاء والولاية وغيرهما وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك والتدريس فيه والبحث عنه لا يدوم ولو ترك بالكلية لاندرس وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم، فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضا من فروض الكفايات بخلاف زمن الصحابة رضي الله عنهم، فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه، فاعلم أن الحق أنه لا بد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة التي ثارت في تلك البلدة وذلك يدوم بالتعليم» [(125)] اهـ.

وقد ظهرت الحاجة اليوم مع ظهور بدعة المشبهة المغلفة بنوع حيلة لإيصال بدعتهم إلى العوام بشتى الوسائل المتقدمة اليوم، وصارت الحاجة ملحة لوجود عدد ممن يتقن الرد على أهل الزيغ والبدع خاصة مع انتشارهم في المساجد والمجتمع والجامعات وعبر الانترنت والفضائيات حتى غلبوا عليها، حيث يلبسون على الجاهل وحتى على من تلقى في الجامعات قدرا ما من علم العقيدة خاصة أمام التلبيس الحاصل من خلال بعض القائمين على التدريس والمشهورين إما بسبب تقصيرهم أو بسبب تواطؤهم مع مشبهة العصر، وهذا يتطلب شرحا واستفاضة لكن المجال لا يسع له هنا. ومن ادعى أن الأمر ليس على ما نصف فهو مكابرة لما في ذلك من الدلالة على بعده عن التبصر بأحوال زمانه وضعف غيرته على الدين والله حسيب من قصّر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال في الاقتصاد في الاعتقاد : «اعلم أن الأدلة التي نحررها في هذا العلم تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلوب، والطبيب المستعمل لها إن لم يكن حاذقًا ثاقب العقل رصين الرأي كان ما يفسده بدوائه أكثر مما يصلحه»[(126)].

ثم عدّ أصناف فرق العوام إلى أن قال: «الفرقة الثالثة: طائفة اعتقدوا الحق تقليدًا وسماعًا ولكن خصوا في الفطرة بذكاء وفطنة فتنبهوا من أنفسهم لإشكالات تشككهم في عقائدهم وزلزلت عليهم طمأنينتهم، أو قرع سمعهم شبهة من الشبهات وحاكت في صدورهم. فهؤلاء يجب التلطف بهم في معالجتهم بإعادة طمأنينتهم وإماطة شكوكهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم، ولو بمجرد استبعاد وتقبيح أو تلاوة آية أو رواية حديث أو نقل كلام من شخص مشهور عندهم بالفضل .

فإذا زال شكه بذلك القدر فلا ينبغي أن يشافه بالأدلة المحررة على مراسم الجدال، فإن ذلك ربما يفتح عليه أبوابًا أخر من الإشكالات. فإن كان ذكيًا فطنًا لم يقنعه إلا كلام يسير على محك التحقيق…

الفرقة الرابعة: طائفة من أهل الضلال يتفرس فيهم مخائل الذكاء والفطنة ويتوقع منهم قبول الحق بما اعتراهم في عقائدهم من الريبة أو بما يلين قلوبهم لقبول التشكيك بالجبلة والفطرة، فهؤلاء يجب التلطف بهم في استمالتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الاعتقاد الصحيح لا في معرض المحاجة والتعصب، فإن ذلك يزيد في دواعي الضلال ويهيج بواعث التمادي والإصرار. وأكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحري والادلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزراء. فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في نفوسهم الاعتقادات الباطلة وعسر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نظروا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة. ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرًا في قلب مجنون فضلاً عمن له قلب عاقل . والمجادلة والمعاندة داء محض لا دواء له، فليتحرز المتدين منه جهده وليترك الحقد والضغينة وينظر إلى كافة خلق الله بعين الرحمة، وليستعن بالرفق واللطف في إرشاد من ضل من هذه الأمة، وليتحفظ من النكد الذي يحرك داعية الضلال، وليتحقق أن مهيج داعية الإصرار بالعناد والتعصب معين على الإصرار على البدعة»[(127)] اهـ. بتصرف واختصار.

وهو ما نحتاجه اليوم في بيان الحق وإخراج من وقع في ورطة التشبيه وما يتبعها من لوث وفساد وتزييف أو قل تحريف ودس خطير ، وهذا البيان لإصول العقيدة عقيدة أهل السنة والجماعة على ما قرره علماء أهل السنة والجماعة شىء حسن ممدوح، أي على ما يوافق ما جاء في القرآن والحديث وسلف الأُمّه، وهو من المهمّات لكي يميز الإنسان بين عقيدة أهل السنه وأهل البِدع، وذلك لأن أهل البدع موجودون في هذه الأمّة بلا تردد أو شك . فكيف إذا سمع المسلم ما ورد في فتاوى الرملي : «سئل عن فرق المسلمين غير أهل السّنّة من المعتزلة والجبريّة وغيرهما هل يعاقبون على عقائدهم المخالفين فيها أهل السّنّة أم لا؟

فأجاب: بأنّه يترتّب العقاب على فرق الإسلام غير أهل السّنّة الاثنتين وسبعين فرقةً بسبب عقائدهم المخالفة لعقيدة أهل السّنّة لقوله صلى الله عليه وسلم: « ستفترق أمّتي ثلاثًا وسبعين فرقةً كلّها في النّار إلا واحدةً وهي ما أنا عليه وأصحابي» [(128)]، وكان ذلك من معجزاته حيث وقع ما أخبر به.

قال الآمديّ: وكان المسلمون عند وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على عقيدةٍ واحدةٍ وطريقةٍ واحدةٍ إلا من كان يبطن النّفاق ويظهر الإسلام، ولم يزل الخلاف يتشعّب والآراء تتفرّق حتّى تفرّق أهل الإسلام، وأرباب المقالات إلى ثلاثٍ وسبعين فرقةً»[(129)] اهـ.

وسواد الأُمّة على مذهب أهل السنه والجماعة نصرهم الله ، لكنّ الذي لا يتعلم علم الدين يُخشى عليه أن يدخل إلى قلبه بِدع من عقائد أهل البِدع، يشوّش عليه بعضهم اعتقاده فإذا لم يكن تعلّم يكون ضعيفًا أمامهم، قد يأخذ بكلامه فيضل والعياذ بالله تعالى .

وقد وصف رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل البدع بقوله: «تتجارى بهم تلك الأهواءُ كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبِهِ لا يبقى منه عِرقٌ ولا مِفصَلٌ إلا دخله» [(130)] معنى هذا أنّ هذه البِدع تتمكن منه فيصير حالهم كحال الكلب الذي أصابه مرض الكلَب فتمكّن منه لا يبقى فيه عِرق ولا مفصل إلا ويدخل هذا المرض فيه فيصيرون مولعين بهذه البِدع ومولعين بذكرها، هذا مرض شديد[(131)].

وقال صاحب بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية: «(في تصحيح الاعتقاد وتطبيقه لمذهب أهل السّنّة) أي أصحاب سنّة رسول الله أي التّمسّك بها (والجماعة) أي جماعة رسول الله وهم الأصحاب والتّابعون وهم الفرقة النّاجية المشار إليها في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم «ستفترق أمّتي ثلاثًا وسبعين فرقةً كلّها في النّار إلا واحدةً، قيل: ومن هم قال الّذين هم على ما أنا عليه وأصحابي» .

قال العلامة العضد: الفرقة النّاجية وهم الأشاعرة، لعلّ مراده إمّا تغليب أو عموم مجازٍ أو ادّعاء اتّحادهم مع الماتريديّة الّذين تابعوا في الأصول كالحنفيّة إلى علم الهدى الشّيخ أبي منصورٍ الماتريديّ، وجه كونهم فرقةً ناجيةً التزامهم كمال متابعة النّبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأصحابه في معتقداتهم بلا تجاوزٍ عن ظاهر نصٍّ بلا ضرورةٍ ولا استرسالٍ إلى عقلٍ خلافًا لمخالفيهم ، كما ذكره العلامة الدّوانيّ. وفي أوائل كتاب الاستحسان من التتارخانية عن المضمرات روي عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: «المؤمن إذا أحبّ السّنّة والجماعة استجاب الله تعالى دعاءه وقضى حوائجه وغفر له الذّنوب وكتب الله تعالى له براءةً من النّار وبراءةً من النّفاق» اهـ.

ـ[69] سورة محمد: جزء من الآية 19.

ـ[70] انظر إشارات المرام للبياضي (ص/28).

ـ[71] إشارات المرام للبياضي (ص/29).

ـ[72] إبراهيم: جزء من الآية 18 .

ـ[73] الدعوة التامة والتذكرة العامة (ص/225).

ـ[74] شرح المقاصد في علم الكلام (ص/3).

ـ[75] صيد الخاطر: (ص/116).

ـ[76] قال في هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين (6/495): «من تصانيفه رسالته الى عثمان البتـي قاضي البصرة، الفقه الاكبر مشهور، وعليه شروح، كتاب الرد على القدرية،كتاب العالم والمتعلم» اهـ.

ـ[77] أصول الدين للإمام الأستاذ أبي منصور عبد القاهر التميمي البغدادي (ص/334) المسألة العاشرة في ترتيب أئمة الدين في علم الكلام.

ـ[78] أخرجه البخاري في صحيحه (5873): كتاب الاستئذان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وابن حبان في مسنده (5605): كتاب الحظر والإباحة فصل في التعذيب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ـ[79] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9763): من حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه البخاري في صحيحه (4635): كتاب التفسير، باب يوم يكشف عن ساق، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ـ[80] لم أجده إلا عند الطبراني في الأحاديث الطوال (36): حديث الصور، مع اختلاف في الألفاظ.

ـ[81] سير أعلام النبلاء (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425هـ، الجزء السادس ص329)، والتمهيد لابن عيد البر (7/150).

ـ[82] فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/199): (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموه)، بتصرف.

ـ[83] التبصير في الدين لأبي المظفر الأسفرايني (ص/ 192).

ـ[84] سورة محمد: جزء من الآية 19.

ـ[85] سورة هود: جزء من الآية 14.

ـ[86] سورة البقرة: جزء من الآية 136.

ـ[87] في كتابه الاعتقاد (ص/19).

ـ[88] قال في النهاية في غريب الحديث،باب الحاء مع الزاي، (2/290): حزاورة: هو جمع حَزْوَرٍ وحَزَوَّرٍ، وهو الذي قارب البلوغ، والتاء لتأنيث الجمع.

ـ[89] رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/120)، (5075)، جماع أبواب صلاة الإمام وصفة الأئمة، باب البيان أنه إنما قيل يؤمهم أقرؤهم، وابن ماجه في سننه: (1/23)، (61)، باب في الإيمان، والمعجم الكبير للطبراني (2/165)، (1679)، جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي.

ـ[90] انظر مصباح الزجاجة (1/12)، (22)، كتاب اتباع السنة، باب في الإيمان.

ـ[91] رواه البخاري في صحيحه: (1/ 153)، (385)، أبواب القبلة، باب فضل استقبال القبلة.

ـ[92] أنظر طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي (9/40)، خلال رسالة أحمد بن يحيى بن إسماعيل الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الكلابي الحلبي الأصل والتي أولها في (9/34).

ـ[93] تبيين كذب المفتري للحافظ الكبير ابن عساكر (ص/341)، ونصه: قال الحافظ البيهقي: وقرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب= = ابن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحق أنه قال: قال أبي: كلم الشافعي يوما بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق وطالب وضيق فقلت: يا أبا عبد الله هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام فقال: « أحكمنا ذلك قبل هذا » اهـ.

ـ[94] الدليل القويم على الصراط المستقيم لشيخنا الحافظ عبد الله بن محمد الهرري رحمات الله عليه (ص/22).

ـ[95] الرسالة القشيرية (ص/6).

ـ[96] الرسالة القشيرية (ص/313)، باب الوصية للمريدين.

ـ[97] الشرح القوبم في حل ألفاظ الصراط المستقيم لشيخنا العبدري رحمه الله (ص/90).

ـ[98] إحياء علوم الدين (ص/27)، كتاب قواعد العقائد، في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد.

ـ[99] المقاصد (ص/10).

ـ[100]   فتح الباري (9/106)، كتاب النكاح.

ـ[101]   متن السنوسية في علم التوحيد (ص/2).

ـ[102]   هداية المتعبد السالك في مذهب الإمام مالك شرح مختصر العلامة الأخضري المالكي (ص/12).

ـ[103]   سورة الشورى: جزء من الآية 11.

ـ[104]   الإيهام ويقال له التخييل أيضا، وهو أن يذكر لفظ له معنيان قريب وغريب ، فإذا سمعه الإنسان سبق إلى فهمه القريب، ومراد المتكلم الغريب ، وأكثر المتشابهات من هذا الجنس، ومنه قوله تعالى: «والسموات مطويات بيمينه» [الزمر:67]، أنظر التعريفات للجرجاني (ص/6)، والمراد بقدرته.

ـ[105]   الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/40)، باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة.

ـ[106]   الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/42).

ـ[107]   حكت أي شابهت.

ـ[108]   متن ابن عاشر المسمى بالمرشد المعين على الضروري من علوم الدين (ص/4). هو من أشهر المتون في الاعتقاد عن المالكية.

ـ[109]   منهل الواردين من بحار الفيض على ذخر المتأهلين في مسائل الحيض (ص/21).

ـ[110]   سورة الرحمـن: جزء من الآية 29.

ـ[111]   الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/43).

ـ[112]   سورة البقرة: جزء من الآية 93.

ـ[113]   دفع شبه من شبه وتمرد (ص/25).

ـ[114]   سورة فاطر: جزء من الآية 8.

ـ[115]   دفع شبه من شبه وتمرد (ص26-27).

ـ[116]   دفع شبه من شبه وتمرد (ص30-31)، بتصرف.

ـ[117]   رواه البخاري في صحيحه (6/ 2667)، (6881)، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» وهم أهل العلم، ومسلم في صحيحه: (3/ 1524)، (1923)، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» .

ـ[118]   الشبهة الظن المشتبه بالعلم ذكره أبو البقاء، وقال بعضهم: الشبهة مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه إذا حقق النظر فيه ذهب، انظر التعاريف (ص/422). وقال في مختار الصحاح (ص/354): والشُّبْهةُ الالتباس والمُشْتَبِهاتُ من الأمور المشكلات والمُتَشَابِهاتُ المتماثلات.

ـ[119]   بتصرف واختصار من إشارات المرام للبياضي: (32 – 41).

ـ[120]   إحياء علوم الدين (1/97)، كتاب قواعد العقائد، الفصل الثاني في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد.

ـ[121]   الاقتصاد في الاعتقاد (ص/33)، التمهيد الثالث في بيان الاشتغال بهذا العلم من فروض الكفايات.

ـ[122]   الفتاوى الحديثية (ص/207).

ـ[123]   قال القونوي في أنيس الفقهاء (ص/304): «الحيل جمع حيلة وهي ما يتلطف به لدفع المكروه أو لجلب المحبوب أي يترفق به» اهـ.

ـ[124]   صيد الخاطر (ص/427).

ـ[125]   إحياء علوم الدين (1/98)، كتاب قواعد العقائد، الفصل الثاني في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد.

ـ[126]   الاقتصاد في الاعتقاد (ص/29)، التمهيد الثاني في بيان الخوض في هذا العلم.

ـ[127]   الاقتصاد في الاعتقاد (ص/30 – 31) التمهيد الثاني في بيان الخوض في هذا العلم.

ـ[128]   رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 208)، (20690)، كتاب الشهادات، باب ما ترد به شهادة أهل الأهواء والحاكم في المستدرك (4/ 477)، (8325)، كتاب الفتن و الملاحم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ـ[129]   فتاوى العلامة شمس الدين محمد الرملي بهامش الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/246-247)، طبعة دار الفكر.

ـ[130]   قال الحافظ السيوطي في الدر المنثور (2/288): «وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ويخرج في أمتي أقوام تتجارى تلك الأهواء بهم كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله » اهـ. رواه الحاكم في المستدرك (1/ 218)، (443)، كتاب العلم، فصل في توفير العالم، وقال: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث.

ـ[131]   قال ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح، باب الاعتصام بالكتاب والسنة (1/397): (وإنه سيخرج) وفي المصابيح: وزاد في رواية: «وإنه سيخرج» أي يظهر (في أمتي) وفي نسخة: «من أمتي» (أقوام) أي جماعات (تتجارى) بالتاءين، أي تدخل وتجري وتسري (بهم) أي في مفاصلهم (تلك الأهواء) جمع هوى وهو ميل النفس إلى ما تشتهيه، والمراد هنا البدعة فوضعها موضعها وضعًا للسبب موضع المسبب لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على إبداع الرأي الفاسد أو العمل به وذكر الأهواء بصيغة الجمع تنبيهًا على اختلاف أنواع الهوى وأصناف البدع يقال: تجاروا في الحديث إذا جرى كل منهم مع صاحبه. (كما يتجارى الكلب) بفتحتين، داء مخوف يحصل من عض الكلب المجنون ويتفرق أثره (بصاحبه) أي مع صاحبه إلى جميع أعضائه، أي مثل جري الكلب في العروق (لا يبقى منه عرق) بكسر العين (ولا مفصل إلا دخله») فكذلك تدخل البدع فيهم وتؤثر في أعضائهم، قيل: الكلب داء يعرض للإنسان من عضة الكلب الكِلب، أي المكلوب وهو المجنون فيصيبه شبه الجنون ولا يعض المجنون أحدًا إلا كلِب، أي جن ويعرض له أعراض رديئة تشبه الماليخوليا مهلكة غالبًا ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا، وأجمعت العرب أن دواءه قطرة من دم يخلط بماء فيسقاه» اهـ.