الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ تأيِيدِ) ونُصْرةِ اللهِ عزّ وجلّ نَبِيَّـ(ـه) محمَّدًا (ﷺ بمُعجِزة القُرءان) الكريمِ

تَحَدِّي الرَّسُولِ المشركينَ أنْ يَأْتوا بمِثلِ القُرءانِ تَعجِيزًا لَهُم

121-        

وَجَــعَــلَ اللهُ لَــهُ القُــرْءَانَــا

 

ءَايَـةَ حَـقٍّ أَعْـجَـزَتْ بُـرْهَـانَـا

122-        

أَقَـامَ فِيهِمْ فَوْقَ عَشْــرٍ يَطْـلُبُ

 

إِتْـيَـانَـهُـمْ بِـمِـثْـلِـهِ فَـغُـلِـبُـوا

123-        

ثُـمَّ بِـعَـشْــرِ سُـــوَرٍ بِسُـــوْرَةِ

 

فَـلَـمْ يُـطِـيقُـوهَا وَلَـوْ قَصِـيـرَةِ

124-        

وَهُمْ لَعَمْرِيْ الفُصَـحَاءُ اللُّسْـنُ

 

فَانْقَلَبُوا وَهُـمْ حَـيَـارَى لُـكْـنُ

 


















لقَد أيَّد اللهُ تعالَى نَبِيَّه محمَّدًا ﷺ ونصَرَه بالمُعجِزاتِ الباهِراتِ (وَ)مِن ذلكَ أنْ (جَعَلَ اللهُ) عزَّ وجلَّ (لَهُ) أي لِنَبِيِّه محمَّدٍ ﷺ (القُرْءَانَا) الكَرِيمَ المُنزَّلَ عليهِ أعظَمَ مُعجِزاتِه ﷺ فكان القُرءانُ (ءَايَةَ) أي علامةَ (حَقٍّ) وشاهِدًا على صِدْقِ نَبِيِّهِ ﷺ، حتّى (أَعْجَزَتْ) هذه الْمُعجِزةُ فُصحاءَ العَرَب العَرْباءِ (بُرْهَانَا) أي بِبُرهانِيّة المُنزَلِ وقُوّة بَلاغَتِه حيثُ لَم

يَستطِعِ الفُصحاءُ مُضاهاتَهُ.

وقد (أَقَامَ) النّبِيُّ ﷺ (فِيهِمْ) أي قَومِه بِمَكَّة المكرَّمةِ (فَوْقَ) أي أكثَرَ مِن (عَشْرٍ) مِن السِنِينَ يُنْذِرُهم ويُحادُّهم ويَتْلُو عليهم القُرءانَ المُنزلَ عليهِ وهُم يُكَذِّبُونه ويَجْحَدُونَه فكان في بعضِ الأحيانِ (يَطْلُبُ) مِنْهُم علَى وَجْهِ التَّحَدِّي والتَّعْجِيز (إِتْيَانَهُمْ بِمِثْلِهِ) أي اللَّفظِ المُنزَّلِ كُلِّهِ – وهم أهلُ الفصاحة والبلاغة – فكانُوا يَعجِزُون ولا يَستَطِيعون ذلك (فَـ)ـبسَبَبِ عَجزِهم وعدَمِ إطاقَتِهم على الإتيانِ بمِثلِه (غُلِبُوا) وأصبَحوا في حَيرةٍ تائهِينَ صاغرِينَ، وذلكَ مِصداقُ خبَرِ الله عزَّ وجلَّ: ﱡﭐ  ﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ  ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ أي ولَو كانُوا مُتعاوِنِين على ذلك فيما بَينَهم فإنّهُم لا يأْتُونَ بمِثلِه لِعَجزِهِم.

(ثُمَّ) لَمَّا عَجَزَ الكُفّارُ عَنِ الإتيانِ بمِثلِ القرءانِ تَحَدَّاهُم النَّبِيُّ ﷺ بأمرٍ مِن اللهِ تعالَى بأنْ يأتُوا (بِعَشْرِ سُوَرٍ) مِثلِ القُرءانِ فِي الفَصاحةِ والبَلاغةِ، فقال عزَّ مِن قائِل: ﱡﭐ  أي بَلِ الكُفّارُ ﱡﭐ ﭐ أي اختَلَقَ محمَّدٌ هذا القُرءانَ مِن قِبَلِ نَفْسِه وليسَ هو مِن عِندِ اللهِ كما يَزعُمُ، ﱡﭐ لَهُم يا محمَّدُ مُتحَدِّيًا لَهُم ومُعجِّزًا ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ في الفَصاحةِ والبَلاغةِ ﱡﭐ أي مُختَلَقاتٍ إنْ كانَ ما أتيتُكم بِه مِن القُرءَان مُفتَرًى على زَعمِكُم، فعَجَزُوا عَن الإتيانِ بشىءٍ مِن ذلكَ وغُلِبُوا مرّةً ثانِيةً وانقلَبوا صاغرِينَ.

وقد تمسَّكَتِ المُعتزلِةُ بالآية المذكورةِ ءانِفًا لتأييد مذهبهم بأنّ القُرءانَ مَخلوقٌ فقالوا: “إنّه علَيه السَّلامُ تَحدَّى العرَبَ بالقُرءانِ، والمُرادُ مِن التَّحَدِّي أنّه طلَبَ مِنهُم الإتيانَ بمِثْلِه، فإذا عَجَزُوا عنه ظَهَر كَونُهُ حُجّةً مِن عِندِ الله على صِدْقِه، وهذا إنَّما يُمْكِنُ لو كان الإتيانُ بمِثْلِه صَحِيحَ الوُجودِ في الجُمْلةِ، فلَو كان قَدِيمًا لكانَ الإتيانُ بمِثلِ القَدِيمِ مُحالًا في نَفْسِ الأَمرِ، فوَجَب أنْ لا يَصِحَّ التَّحَدِّي”.

والجوابُ عَن ذلكَ أنَّ القُرءانَ لَفظٌ لَهُ إطلاقانِ، فإنّه يُطلَقُ على الكلامِ الذّاتيّ للهِ عزَّ وجلَّ وهو الكلامُ الّذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا ولا مَبدأ لَهُ ولا مُنتَهًى ولا يُشبِهُ كلامَ أحَدٍ مِن العالَمِينَ، ويُطلَقُ كذلكَ على الألفاظِ المُنزَّلةِ المُركَّبةِ مِن الحُروفِ المَتلُوّةُ بالأَصواتِ، ولا شَكَّ أنّ الحرفَ والصَّوتَ مَخلُوقانِ غيرُ قَدِيمَينِ، والتَّحَدِّي المذكورُ في هذهِ الآيةِ إنَّما وَقَع بالألفاظِ المُنزَّلةِ لا بكلامِ اللهِ الذّاتيّ الأزليّ، قالَهُ الرّازيُّ([1]).

ثُمَّ لَمَّا عَجَزَ الكُفّارُ عَنِ الإتيانِ بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِ سُوَرِ القرءانِ تَحَدَّى النَّبِيُّ ﷺ المُشركِينَ ثالِثةً بأَمْرِ اللهِ تعالَى بأنْ يأتُوا (بِسُوْرَة) واحِدةٍ مِثلِ سُورةٍ من سُوَرِ القُرءانِ فِي الفَصاحةِ والبَلاغةِ (فَلَمْ يُطِيقُوا) أي فَعَجَزوا عن الإتيانِ بمِثلـ(ـهَا) أي بمِثلِ سُورةٍ مِن سُوَرِ القُرءانِ (وَلَوْ قَصِيرَة) جِدًّا كسُورةِ الكوثَر وغيرِها فقال تعالَى لِنَبِيِّه ﷺ: ﱡﭐ لَهُم يا محمَّدُ مُتحَدِّيًا لَهُم ومُعجِّزًا ﲧ  ﲨ ، فعَجَزوا ثالِثًا (وَ)الحالُ أنّـ(ـهُمْ) كُلَّهم (لَعَمْرِيْ) هو قسَمٌ صُورةً وتأكِيدٌ حَقِيقةٌ، فكأنّه قال: أُؤكِّدُ على وُقوعِ العَجزِ مِن المُشركِينَ بأنْ يأتُوا بسُورةٍ مِثلِ أقصَرِ سُورةٍ مِن القُرءانِ في الفَصاحةِ والبَلاغةِ حال كَونِهِم مَعرُوفِين بأنّهُم (الفُصَحَاءُ) في العَرَبِيّة (اللُّسْنُ) جَمْعُ أَلْسَنَ أي البُلَغاءُ (فَانْقَلَبُوا) أي رجَعَوا بعدَ ذلكَ صاغرِينَ (وَهُمْ حَيَارَى) أي مُحتارِينَ بأمرِهم مَبهوتِينَ مِمّا حصَلَ لَهُم وهُم (لُكْنٌ) عاجِزُون عن الكلامِ، واللُّكْنُ جَمْع أَلْكَنَ وهو

مَن بِلِسانِه عِيٌّ وثِقَلٌ([2]).

125-        

وَأُسْـمِـعُوا التَّوبِيخَ وَالتَّـقْـرِيعَا

 

لَـدَى الْمَـلَا مُفْـتَـرِقًا مَجْمُوعَـا

126-        

فَلَمْ يَـفُـهْ مِنْهُمْ فَصِـيحٌ بِشَـفَةْ

 

مُعَارِضًـا بَـلِ الإِلَـهُ صَـرَفَـهْ

 











(وَأُسْمِعُوا) أي أَسْمَعَ اللهُ تعالى المُشرِكِينَ فيما أَنْزَلَ مِن مُحْكَم كِتابِه (التَّوبِيخَ) الباِلغَ (وَالتَّقْرِيعَا) الشَّدِيدَ، وقد حَصلَ لهم ذلك (لَدَى) أي بَين يَدَيِ الجَمِّ الغَفِيرِ مِن (الْمَلَا) أيِ النّاس (مُفْتَرِقًا) أي حالَ افتِراقِهم عنِ النّاسِ و(مَجْمُوعًا) أي وحالَ اجتِماعِهم في الْمَحافِل كذلك (فَلَمْ يَفُهْ) أي يَنْطِقْ (مِنْهُمْ فَصِيحٌ) واحدٌ (بِشَفَةٍ) أي بِكَلِمةٍ واحِدةٍ (مُعَارِضًا) بِهَا للقُرءانِ، ولَم يَكُن فِيهِم أحَدٌ قادِرٌ على أن يأتِيَ بمِثله. وأمّا قَولُ النّاظِم: (بَلِ الإِلَهُ صَرَفَه) ظاهرهُ يَدُلّ على أنّهم كانوا يستَطِيعون المعارَضة بفصِيح كَلامِهم لكنّ الله صَرَفهم عن ذلك مع قُدرَتِهم على ذلك، وهذا القول خِلاف المعتَمَد بل قَبِيحٌ.

قال محمد عبد الرؤوف المناويّ: “وهذا الختام مِن الناظم يُؤْذِن بِمَيلِه إلى القول بالصَّرَفة وهو رأيٌ مَرجُوحٌ أطالَ الْمُحَقِّقُون في تَقرِيرِ رَدِّه” اهـ.

مسألةٌ استِطراديّةٌ: إبطالُ القَولِ بالصَّرَفةِ

مسألةٌ استِطراديّةٌ: إبطالُ القَولِ بالصَّرَفةِ

ذَكَر الآمِدِيُّ في «أبكار الأفكار»([3]) وُجوهًا في إبطالِ القَولِ بأَنّ وَجْهَ الإعجازِ فِي القُرءانِ هو الصَّرَفَةُ:

أَحَدُها: أنّ إجماع المسلمِين قبل وجود القائلين بهذه المقالةِ قائمٌ على أنّ القرءانَ مُعجِزةُ الرَّسُولِ الدَّالَّةُ علَى صِدْقِه، فالقولُ بأنّه لا إِعجازَ في القُرءانِ بل الإعجازُ في الصَّرَفَةِ يكون خَرْقًا لإجماع المسلِمِين قبل وُجُود الْمُخَالِفِين.

الثّانِي: أنّه تَحَدَّى بالقُرءانِ على كُلِّ العَرَب، فلَو كان الإعجازُ في نَفْسِ الصَّرَفة لكانَت الصَّرَفةُ على خلاف المعتادِ بالنِّسبة إلى كُلِّ واحِدٍ ضَرُورةَ تَحَقُّقِ الصَّرَفة بالنِّسبةِ إليه. ولو كانَ مُعتادًا بالنِّسبة إلى كُلِّ أَحَدٍ فالمعتادُ كَذَلِك ليس هو الكَلام الفَصِيحَ إذ هو غَير مُعتادٍ لِكُلِّ أَحَدٍ، بلِ المعتادُ لِكُلِّ أَحَدٍ إنّما هو الكلامُ الرّكِيكُ المستَغَثّ، ويَلْزَم أن يكون على ذلك كلامُ القرءانِ رَكِيكًا مُسْتَغَثًّا، وليس كذلك باتِّفاق أهلِ الأَدَب.

الثّالِث: أنّه لَو كان الإعجازُ في الصَّرَفة، فكَلامُ القُرءانِ قَبل الصَّرَفة يَجِبُ أن يَكُونَ مُعتادًا، وإلّا لَمَا كَانَتِ الصَّرَفةُ مُعْجِزةً لأنّها لا تكون على خِلافِ العَادةِ. ولو كان مِثلُ كلامِ القُرءان مُعتادًا قبل الصَّرَفة لَمَا ثَبَت صِدْقُه لإمكان مُعارَضة القُرءانِ بما وُجِد مِن كلامهم مِثلَ القُرءان قبل الصَّرَفَة لأنّ التَّحَدِّيَ لم يكن بشىءٍ مِن الكلام مِثلَ القرءان بَعد التَّحَدِّي بل الإتيانُ بمِثله، وسَواءٌ كان مَوجُودًا قبل التَّحَدِّي أو بَعْدَه.

اختِلافُ المُشركِينَ فِيما بينَهُم أنَّ القُرءانَ سِحْرٌ أو غَيرُه

اختِلافُ المُشركِينَ فِيما بينَهُم أنَّ القُرءانَ سِحْرٌ أو غَيرُه

127-        

فَقَائِلٌ يَقُولُ: «هَـذَا سِــحْـرُ»

 

وَقَــائِــلٌ: «فِــيْ أُذُنَــيَّ وَقْـرُ»

128-        

وَقَـائِـلٌ يَقُولُ مِمَّنْ قَـدْ طَـغَـوا

 

«لَا تَسْـمَـعُـوا لَهُ وَفِيهِ فَالْغَوْا»

129-        

وَهُـمْ إِذَا بَعْضٌ بِبَعْضٍ قَدْ خَـلَا

 

اعْـتَـرَفُـوا بِـأَنَّ حَـقًّـا مَـا تَـلَا

130-        

وَأَنَّـهُ لَـيْــسَ كَـلَامَ البَشَــرِ

 

وَأَنَّـهُ لَـيْـسَ لَـهُ بِـمُـفْـتَـرِيْ

131-        

اعْـتَـرَفَ الوَلِيدُ ثُـمَّ النَّـضْـــرُ

 

وَعُـتْـبَـةٌ بِـذَاكَ وَاسْــتَـقَـرُّوا

132-        

وَابْنُ شَـرِيقٍ بَاءَ وَهْوَ الأَخْنَـسُ

 

كَـذَا أَبُو جَهْلٍ وَلَكِنْ أُبْلِسُـوا

 




























وَلَمَّا عَجَز الكُفّار عن معارَضَةِ القُرءان بأنْ يأتُوا بِسُورةٍ مِن مِثلِه وتَحَيَّرُوا في أَمْرِهم شَرَعُوا يَخْتَلِقُون عليه أقاويل (فَقَائِلٌ) مِنهُم (يَقُولُ هَذَا) الذي يَقُوله محمَّدٌ (سِحْرٌ) فَرَدَّ علَيه الوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرةِ وهو عِندَهُم مِن أَعْظَمِهم قَدْرًا: “قَد رَأَيْنا السَّحَرة فمَا هُو بِنَفثِهم([4])“، (وَ)قال (قَائِلٌ) ءاخَرُ مِنهُم: “أنَا (فِيْ أُذُنَيَّ وَقْرٌ) أيْ صَمَمٌ فَلا أسمَعُ ما يَقُوله مُحَمَّد”، (وَ)كانَ (قَائِلٌ) ءاخَرُ مِنهُم وهُوَ أبو جَهْلٍ وَحِزْبُه (يَقُولُ) – وَهُوَ (مِمَّنْ) أي مِن المشرِكِين الّذِين (قَدْ طَغَوا) أي استَكْبَروا وتمَرَّدُوا – مقالَتَه الشَّهيرةَ: (لَا تَسْمَعُوا لَهُ) أي لِهذا القرءانِ (وَفِيهِ فَالْغَوْا) أي وعَارِضُوه باللَّغْو والباطِل، وقد أنزَلَ اللهُ تعالَى في ذلكَ حكايةً عَنُهم: ﱡﭐﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ .

(وَ)كانوا (هُمْ) في الحَقِيقةِ (إِذَا بَعْضٌ) مِنهُم (بِبَعْضٍ قَدْ خَلَا) أي انْفَرَدَ (اعْتَرَفُوا)
وأذْعَنُوا وأقَرُّوا (بِأَنَّ حَقًّا) وصِدْقًا (مَا) أي هذا الذي (تَلَا)هُ علَيهِم النَّبيُّ ﷺ مِن القُرءانِ أي (وَ)صَدَّقُوا فِيما بينَهم إذا خَلا بعضُهم بِبَعضٍ (أَنَّهُ) أي القُرءانَ (لَيْسَ كَلَامَ البَشَرِ) أي اعتَبَرُوا أنّه لو كان مِن تألِيف بَشَرٍ لَمَا أعْجَزَهُم، (وَ)قالوا بـ(ـأَنَّهُ لَيْسَ) مُحَمَّدٌ (لَهُ) أي للقُرانِ (بِمُفْتَرِي) بتألِيفِه لهُ، لأنّه ليسَ هو الذِي أَعْجَزَنا بِه – ونحن أفصَحُ البُلَغاءِ – وإنّما هُو كَلامٌ أنْزَلَه اللهُ علَى رَسُولِه.

و(اعْتَرَفَ الوَلِيدُ) بنُ المغِيرةِ بِصِدْقِ القُرءان حِينَ اجتَمَعَ به نَفَرٌ مِن قُريشٍ، وكان ذا سِنٍّ عالِية فِيهِم، فقال: “واللهِ إنّ له لحَلاوةً([5])، وإنّ عليه لَطَلاوةً([6])، وإنّ أَصْلَه لَغَدِقٌ([7])، وإنّ فَرْعَه لجَنَاةٌ([8])(ثُمَّ) اعتَرَفَ (النَّضْرُ) بنُ الحارِث بِذلِكَ أيضًا وكانَ مِن رُؤوسِ بَنِي عَبدِ الدّار (وَ)كذلِكَ (عُتْبَة) بنُ رَبِيعةَ مِن أَشرافِ بَنِي عَبدِ شَمْسٍ اعترَفَ (بِذَاكَ) للقُرءانِ الكريمِ (وَ)لَكِنّ الله طَمَسَ على قُلوبِهم وطَبَع عليها فـ(ـاسْتَقَرُّوا) وبَقُوا على ضلالَتِهم (وَ)لَكِن الأخنَسُ (بْنُ شَرِيقٍ) الثَّقَفِيُّ (بَاءَ) أي رَجَعَ عَن مُعَارَضَتِه للقُرءانِ وأسلَم، (وَ)شَرِيقٌ هذا (هْوَ) أبو ثَعْلَبةَ (الأَخْنَسُ) بنُ شَرِيقِ بنِ عَمرٍو، (كَذَا أَبُو جَهْلٍ) مِثلُهم قد عَلِمَ أنّ القُرءان هُو الحَقُّ مِن عِندِ الله (وَلَكِنْ) كان في جُملةِ مَن أصَرُّوا على طُغيانِهم وضلالِهم و(أُبْلِسُوا) أي أُسكِتُوا حُزْنًا وَحَيرَةً.

فصلٌ في معنَى قولِ أهلِ السُّنّةِ «القُرءانُ كَلامُ اللهِ»

فصلٌ في معنَى قولِ أهلِ السُّنّةِ «القُرءانُ كَلامُ اللهِ»

133-        

وَكَـيْــفَ لَا وَهْــوَ كَـلَامُ اللهِ

 

……………………………………..

 






(وَكَيْفَ لَا) يَعتَرِفُ المُشرِكُونَ ويُذْعِنُون ويَعْجَزون عن الإتيان بمِثل شىءٍ مِنَ القُرءانِ (وَهْوَ كَلَامُ اللهِ) عزَّ وجلَّ بمعنَى اللَّفظِ المنزَّل، فقَولُ أهل السُّنّة “القرءانُ كلامُ الله” هو إطلاقٌ له وجهانِ:

أحدهما: كلام الله الذَّاتِيُّ الذي هو مُنَزَّه عن الكيفية أي الهَيئةِ كالحَرف والصوت، إذ يَستحيل عقلًا وشرعًا أن يكون ذات الله الأزلِيُّ الأبدِيُّ مُتَّصِفًا بصفة حادثة، فالحرفُ والصوت لا يكونان إلا حادِثَين، فيجب تنزيهُ ذاتِ الله المقدَّسُ عن الاتّصاف بذلك.

والثاني: اللَّفظُ الْمُنَزَّل الَّذِي هو عبارة عن الكلام الذاتي الذي هو صفةُ الذَّاتِ المقَدَّسِ عن الحدوثِ والانقِضاء والانقِطاع والتَّعاقُب، أمّا اللَّفظ المنزَّل فإنّه مُتعاقِب ومتتابِعٌ، ويَدُلُّ على هذا الوجه الثاني قوله تعالى: ﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ، حيث أضافَهُ إلى جِبريل عليه السلام، وجِبريلُ حادِثٌ مخلوقٌ، فلو كان المرادُ هنا كلامَ الله الذاتِيَّ لم يُضِفْهُ الله تبارك وتعالى إلى جِبريلِ الَّذِي هو المرادُ بالرَّسُولِ الكريم، لكن لَمَّا كان يَصِحُّ إطلاقُ القرءان على الوجهين جازَ ذَلِكَ. وتقرِيب ذلك أنّنا إذا كَتَبْنا على لوح أو جدار “الله” فقيل: هذا الله، فهل معنى هذا أنّ أشكال الحروف المرسومة هي ذاتُ الله؟! فلا يتوهم هذا عاقِلٌ، إنما يُفهَم من ذلك أنّ هذه الحروف هي عِبارة عن الإله الَّذِي هو موجود مَعبُودٌ بِحَقٍّ خالِقٌ لِكُلِّ شىء، ومع هذا لا يُطلَق القول: “القرءان وغيره من الكتب المنَزَّلة مخلوق” لكن يُبَيَّن في مقام التَّعلِيم مُقَيَّدًا أنّ اللَّفظ المنَزَّل ليس هو صفةَ الله الأزليّة بل اللفظ مخلوق للهِ لأنه حُرُوف يَسْبِقُ بَعضُها بَعضًا، وما كان كذلك فهو حادث مخلوق قَطعًا، لكنّه ليس من تصنيف مَلَك ولا بَشَرٍ بل هو عبارة عن الكلام الذاتيّ الأزليّ الذي لا يُوصَف بأنّه عَرَبِيّ ولا بأنه عِبْرانِيٌّ ولا بأنه سُرْيانِيٌّ، وكلُّ ذلك يُطْلَق عليه كلام الله بدليل قولِه تعالى: ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ  ﲻ ﲼ ،  وليس أحدٌ مِن الكُفّار في الدُّنيا يَسمَعُ كلام الله في الأزليّ، ولم يَسمع كلام الله الأزليّ إلا جبريل عليه السلام ومحمَّد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وقيل: ءادَمُ أيضًا، فَدَلّ كُلُّ ذلك على أنّ صِفةَ الكلام الثابتة لله يقال لها كلامُ الله، واللَّفظ المنَزَّل الذي هو عِبارة عنه يقال له كلام الله، فهذا بيانٌ وافٍ كافٍ شافٍ.

فصل: في هَدْيِ القُرءانِ الكريمِ والتَّمسُّكِ بِه

فصلٌ في مَدحِ القُرءانِ العَظِيمِ

فصلٌ في مَدحِ القُرءانِ العَظِيمِ

152-        

……………………………………..

 

مُـنَـزَّهٌ عَـنْ نِـحْـلَـةِ اشْــتـِبَاهِ

153-        

يَـهْـدِيْ إِلَـى الَّتِي هُـدَاهَا أَقْـوَمُ

 

بِـهِ يُـطَـاعُ وَبِـهِ يُـعْـتَـصَــمُ

154-        

وَهْـوَ لَـدَيْنَا حَـبْـلُـهُ الْمَـتِـيـنُ

 

نَـعْـبُـدُهُ بِــهِ وَنَسْــتَــعِــيــنُ

155-        

وَهْـوَ الَّذِي لَا تَنْقَضـِي عَجَائِبُهْ

 

وَلَا يَضِـلُّ أَبَـدًا مُـصَـاحِـبُـهْ  

156-        

مُـعْـجِـزَةً بَـاقِـيَـةً عَلَى الْمَـدَى

 

حَتَّى إِلَى الوَقْـتِ الَّذِي قَدْ وُعِـدَا  

 

























والقُرءانُ الذي هو اللَّفظُ المنزَّلُ على سيّدنا محمَّد ﷺ (مُنَزَّهٌ) أي مَحفوظٌ (عَنْ نِحْلَةِ اشْتِبَاهٍ) أي عن الإتيان بِشِبْهِه أو بِشِبْه سُورةٍ أو بَعْضِ سُورةٍ مِنهُ، وهو (يَهْدِيْ) مَنِ اقتَدَى به (إِلَى) الصِّراط المستَقِيم والطَّريق (الَّتِي هُدَاهَا) أي الاهتداءُ بها وإليها (أَقْوَمُ) وأسلَمُ وبذلك النّجاةُ، و(بِهِ) أي بِما في القُرءانِ (يُطَاعُ) أي يُعمَلُ (وَ)كذلِكَ (بِهِ يُعْتَصَمُ) أي يُتَمَسَّك، إذْ هو العُرْوَة الوُثْقَى لِمَن تَمَسَّك به وعَمِلَ بِما فِيه (وَ)القُرءانُ (هْوَ لَدَيْنَا) أي في اعتِقادِنا أنّ مَن تَمسَّك به عقيِدةً وَعَمَلًا فقد نَجَا، فمَثَلُه كَمَثَلِ الذي تَمَسَّك بالحَبل المتينِ للنّجاةِ، فهو (حَبْلُهُ) أي حَبلُ اللهِ (الْمَتِينُ) أي السَّبَبُ الذي يَسَّرَهُ اللهُ لَنا لِتكُون به نَجاتُنا إنْ تَمَسَّكْنا به وعَمِلنا بمُقتضاه، ونحنُ بِتلاوة القرءانِ والعَمَلِ بما فيه نُطِيعُ اللهَ و(نَعْبُدُهُ) ونتَقرَّبُ إليه (بِهِ) أي بالقُرءانِ تلاوَةً لهُ وعَمَلًا بما فيه.

(وَ)إنّنا بهذا القُرءانِ (نَسْتَعِينُ) على قَضاء مُهِمّاتِ الدارَين، كَيف لا (وَهْوَ) الكِتابُ (الَّذِي لَا تَنْقَضِيْ) أي لا تَنْتَهِي ولا تَنْقَطِع مَدَى الأيّامِ (عَجَائِبُه) إلى أنْ يَأتِيَ أمْرُ اللهِ، وكَيف لا يكونُ كذلكَ (وَ)هُوَ الَّذِي (لَا يَضِلُّ) عن الهُدَى والطَّرِيقِ المستَقِيم (أَبَدًا) امرُؤٌ (مُصَاحِبٌ) لـ(ـهْ) أي مُتمسِّكٌ به وبالعَمَلِ بما فيه وَالوَقُوفِ عِندَ حُدُودِه، ولا يَزال فِينا القُرءانُ (مُعْجِزَةً بَاقِيَةً) مُستَمِرَّةً (عَلَى) طُولِ (الْمَدَى) والأيّامِ (حَتَّى) يَصِلَ (إِلَى الوَقْتِ) المعلومِ بقاؤُهُ إلَيها قبَيلَ قِيامِ السّاعةِ (الَّذِي قَدْ وُعِدَا) أي وَعَد اللهُ أن يَرْتَفِع فيه القرءانُ، وعلى ذلك حمَل بعضُ المفسِّرينَ([9]) قولَه تعالَى: ﱡﭐ  ﱶ  ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ  ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ  ﲅ . وقد جاء في حديثٍ صحيحٍ موقوفٍ رواهُ الدّارِميُّ عنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: «لَيُسْرَيَنَّ عَلَى الْقُرْءانِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَا يُتْرَكُ ءايَةٌ فِي مُصْحَفٍ وَلَا فِي قَلْبِ أَحَدٍ إِلَّا رُفِعَتْ»، وهو مَروِيٌّ بلَفظٍ قريبٍ من ذلكَ عند الطّبرانيّ في «المُعجَم الكبِير»([10]).



([1])  التفسير الكبير، فخر الدِّين الرّازي، (17/254).

([2])  المصباح المنير، أبو العباس الفَيُّومي، (2/558).

([3])  أبكار الأفكار، سيف الدِّين الآمدِيّ، (4/103).

([4])  لأنّ شأنَ الساحِر أنْ يَقرأَ كلِماتٍ على الخَيطِ ويَنْفُثَ علَيها، قال تعالى: ﱡﭐ    .

([5])  أي لَذّةٌ عَظِيمةٌ يُدْرِكُها مَن له سَجِيّةٌ سَلِيمةٌ.

([6])  بفتح الطاء وقد تُضَمُّ أي رَوْنقًا وحُسْنًا فائِقًا.

([7])  مِن الغَدَقِ وهو كَثرةُ المَاءِ تَلوِيحًا بِغَزارةِ مَعانِيه في قوالِبِ مَبانِيهِ.

([8])  أي فيهِ ثمَرٌ يُجْنَى.

([9])  الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، (6/377).

([10])  لَفُظه عند الطّبرانيّ: «يُسْرَى عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِ عَبْدٍ وَلَا مُصْحَفٍ مِنْهُ شَىءٌ» الحديثَ.