الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ يُذكَرُ فيه (اجتماعُ المُسلمِينَ) معَ النّبيّ ﷺ (بدارِ) الصّحابِيّ الجَليلِ (الأرقَم) بنِ أبِي الأرقَم بنِ عَبدِ مَنافٍ المَخزومِيِّ

رَوَى ابنُ عساكِرَ في «تاريخِه»([1]) أنّه لَمَّا دعا رَسولُ الله ﷺ إلى الإسلام دَخَل في الدِّين جَماعةٌ قَلِيلةٌ خافوا مِن المشرِكِينَ، ثُمّ ظَهَر رسولُ الله ﷺ مع أصحابِه علانِيةً بمكّة وتَفرَّقُوا في نواحي المسجِد الحَرامِ كلُّ رَجلٍ في عَشِيرته، ثُمّ قام أبو بكرٍ في النّاسِ خَطِيبًا ورسولُ الله ﷺ جالِسٌ فكانَ أوَّلَ خَطِيبٍ دَعا إلى اللهِ وإلى رَسولِه، فثارَ المُشرِكونَ على أبي بَكرٍ وعلى المُسلمِينَ فضَرَبوا مَن في نواحِي المسجِد ضَربًا شدِيدًا، ووُطِئ أبو بَكرٍ وضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، ودَنا مِنه عُتبةُ بنُ رَبِيعةَ فجَعل يَضرِبُه بنَعْلَين مَخصُوفَين ويُحَرِّقُهما لِوَجهِه مِن على بَطنِ أبي بَكرٍ حتّى ما يُعرَفُ وَجهُه مِن أَنْفِه.

ثمّ جاءتْ بَنُو تَيْمٍ([2]) يَتعادَون، فأَجْلَتِ المُشركِينَ عن أبي بَكرٍ وحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أبا بَكرٍ في ثَوبٍ حتَّى أدخَلُوه مَنزِلَه ولا يَشُكُّونَ في مَوتِه، ثمّ رَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فدَخلوا المسجِدَ وقالوا: واللهِ لَئِنْ مات أبو بَكرٍ لَنَقتُلَنَّ عُتبةَ بنَ رَبِيعةَ، فرَجَعوا إلى أبي بَكرٍ فجَعَل أبو قحافةَ وبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمونَ أبا بَكرٍ حتّى أجاب فتَكَلَّم في ءاخِر النّهارِ فقال: ما فَعَلَ رسولُ الله ﷺ؟ فمَسُّوا منه بأَلْسِنَتِهم وعَذَلُوه([3]) وقالوا لأُمِّهِ أُمِّ الخَير: انظُرِي أنْ تُطْعِمِيهِ شيئًا أو تَسْقِيه إيّاهُ، فلَمَّا خَلَتْ به أَلَحَّتْ عليه وجَعَل يقول: ما فعَلَ رَسولُ الله ﷺ؟ فقالت: واللهِ ما لي عِلمٌ بصاحِبِكَ، فقال: اذْهَبِي إلى أُمِّ جَمِيلٍ بِنتِ الخَطّابِ فاسْأَلِيها عَنهُ، فخرَجَتْ حتى جاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فقالَتْ: إنَّ أبا بَكرٍ يَسألُكِ عَن مُحمَّدِ بنِ عبدِ الله، فقالَتْ: ما أعرِفُ أبا بكرٍ ولا محمَّدَ بنَ عبدِ اللهِ، وإنْ كُنتِ تُحِبِّينَ أنْ أذهَبَ معَكِ إلى ابْنِكِ، فقالت: نعَم، فمَضَتْ معها حتى وَجَدَتْ أبا بَكرٍ صَرِيعًا دَنِفًا([4])، فدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وأَعْلَنَتْ بالصِّياحِ وقالَتْ: واللهِ إنَّ قومًا نالوا هذا مِنكَ لَأَهلُ فِسْقٍ، وإِنِّي لأَرجُو أنْ يَنْتَقِمَ اللهُ مِنهُم، قال: فما فَعَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ؟ قالتْ: هذه أُمُّكَ تَسمَعُ، قال: فلا شىءَ عَلَيكِ، قال: فلا عَينَ علَيكِ مِنها، قالتْ: سالِمٌ صالِحٌ، قال: فأينَ هُو؟ قالت: في دارِ الأرقَمِ.

121-        

واتَّـخَــذَ النَّـبِـيُّ دارَ الأرْقَــمِ

 

لِلصَّحْبِ مُسْتَخْفِينَ عَنْ قَوْمِهِمِ

122-        

وَقِـيـلَ كَـانُـوا يَخـْرُجُـونَ تَتْرَى

 

إِلَى الشِّــعَـابِ لِلـصَّــلَاةِ سِــرَّا

 







(و)كانَ قَد (اتَّخَذَ النَّبِيُّ) ﷺ في ذلكَ الوَقتِ (دارَ) الصَّحابِيّ (الأرْقَمِ) بنِ أبِي الأَرْقَمِ عبدِ مَنافٍ المَخزومِيِّ مَلْجَأ ومُجتمَعًا (لِلصَّحْبِ) أي أصحابِه لِيتجَمَّعُوا فيها (مُسْتَخْفِينَ) أي خُفْيَةً (عَنْ قَوْمِهِم) مِن المُشركِينَ.

فلَمّا سَمِعُ أبو بكرٍ ذلك قالَ: واللهِ لا أذُوقُ طعامًا أو شَرابًا حتَّى ءاتِيَ رسولَ اللهِ ﷺ، فخَرَجَتا بهِ مُتّكِئًا حتَّى أدخلتاهُ على رَسولِ اللهِ ﷺ، فأَكَبَّ عليهِ رسولُ الله يُقَبِّلُه وأَكَبَّ علَيهِ المُسلِمُونَ، ورَقَّ له رسولُ اللهِ ﷺ رِقّةً شَدِيدةً فقالَ أبو بَكرٍ: بِأَبِي وأُمِّي يا رسولَ اللهِ، ليسَ بِي بَأْسٌ إلّا ما نالَ النّاسُ مِن وَجْهِي، وهذِه أُمِّي بَرَّةٌ بوَلَدِها وأنتَ مُبارَكٌ فعسَى اللهُ أنْ يَسْتَنْقِذَها بكَ مِن النّار، فدَعا لها رسولُ اللهِ ﷺ ودَعاها إلى اللهِ فأَسْلَمَتْ. وأسلَم في هذا اليومِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِب عَمُّ النّبيّ ﷺ([5]).

واجتمَعَ في دارِ الأرقَمِ تِسعةٌ وثلاثونَ رَجُلًا يَتعبَّدون فيها شهرًا، (وَقِيلَ كَانُوا يَخْرُجُونَ) مِن الدّارِ أفرادًا متفرِّقينَ (تَتْرَى) أي يَتْبَعُ بَعضُهم بَعضًا غير مُتواصِلِينَ خَوْفًا مِن كُفّار مَكَّة مُتَّجهِينَ (إِلَى الشِّعَابِ) شِعابِ مَكَّة، والشِّعابُ جَمعُ شِعْبٍ وهو الطَّرِيقُ في الجَبَل، وكان خروجُهم (لِلصَّلَاةِ) أي لأجلِ أدائِها (سِرًّا) لِئَلَّا يَشعُرَ بِهم المُشرِكونَ، ثُمّ تكامَلوا أَربَعِينَ نَفْسًا ءاخِرُهُم عُمَرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه.

وكانَتِ الصّلاةُ المفروضةُ وقتَئذٍ ركعتَين غُدُوًّا وركعتَين عَشِيًّا كما ذَكَر بعضُهُم، ولَم يَزَلْ فَرضُ الصّلاةِ على ذَلِكَ الحالِ تِسعَ سنِينَ والنّبيُّ ﷺ والمُسلِمُونَ بمكّةَ حتّى فُرِضَتِ الصَّلواتُ الخمسُ ليلةَ الإسراءِ([6]).

123-        

حَتَّى مَـضَـتْ ثَـلَاثـةٌ سِـنِـيـنَا

 

وَأَظْـهَـرَ الرَّحــمـنُ بَـعْـدُ الـدِّينَا

124-        

وَصَـدَعَ النَّـبِـيُّ جَـهْـرًا مُعْلِنَا

 

إِذْ نَزلَـتْ ﱎ ﱏ فَمَا وَنَى

 











واستَمَرُّوا على ذلك (حَتَّى مَضَتْ) علَيهِم (ثَلَاثةٌ سِنِينَا) أي مِن السِّنِينَ وهُم في دارِ الأرقَمِ؟ ومعنَى قولِ الفُقهاءِ وأهلِ السِّيَرِ: “كان رَسُولُ الله ﷺ في تِلك السَّنواتِ يَدعُو النّاسَ إلى الإسلام سِرًّا” أي كان يَقْتَصِرُ على قَدْرٍ مُعَيَّن في أماكِنَ مُعيَّنةٍ مِن غَيرِ أن يَذهَب إلى مواسِم اجتِماعِ النّاس، فكان يَدعُو علَى حسَب المصلَحة، وقد تَمَكَّن بهذه الطَّرِيقة مِن أنْ يُدْخِل أناسًا كَثِيرينَ في الإسلامِ، وكان الذِين يُسْلِمُون يَكْتُمون إسلامَهُم عن المشرِكين مَخافةَ أنْ يُقْتَلُوا إنْ أَظْهَرُوا ذلكَ.

(وَأَظْهَرَ الرَّحمنُ بَعْدُ) أي بعدَ تِلكَ المُدّةِ الّتي مَضَتِ (الدِّينَا) أي الإسلامَ (وَ)ذلكَ بِسَبَبِ أنْ (صَدَعَ) أي أَظْهَرَ (النَّبِيُّ) ﷺ الدَّعوةَ إلى الإسلامِ (جَهْرًا) بأنْ صارَ يَدعُو النّاس إلى دِين الإسلامِ (مُعْلِنًا) أي علانِيةً في مَواسِم اجتِماعِهم، وذلك لَمّا جاءهُ الأمرُ مِن اللهِ (إِذْ نَزلَتْ) الآيةُ: (ﱡﭐ   ) أي أَظهِرْهُ واجْهَرْ بِه يا محمَّدُ ﱑ  ﱒ  أي لا تَلْتَفِتْ إلى المُشرِكينَ الّذين يُريدُونَ أنْ يَصُدُّوكَ عن ءاياتِ اللهِ، وذَهبَ كثيرٌ إلى أنّ المعنَى: لا تُقاتِلْهُم، وأكثرُ المفسِّرِين على أنَّ هذا القَدْرَ مِن الآيةِ مَنسُوخٌ بآيةِ السَّيفِ([7]).

(فَـ)ـبَادَرَ النَّبِيُّ ﷺ إلى دَعوةِ النّاس إلى الإسلامِ في مواسِمِ اجتماعِهِم عَلانيةً بِجِدٍّ وعَزْمٍ و(مَا وَنَى) أي وما ضَعُف ولا تَراخَى عَمَّا أُمِرَ به، فدَعا الرسولُ ﷺ النّاسَ كافّةً إلى الإسلامِ وصَدَع بالدَّعوةِ كما أُمِرَ.

125-        

وَأَنْـذَرَ العَـشَــائِـرَ الَّتِي ذُكِـرْ

 

بِجَـمْـعِـهِمْ إِذْ نَــزَلَـتْ  ﱡﭐ

 






(وَأَنْذَرَ) النَّبِيُّ ﷺ (العَشَائِرَ) جَمعُ عَشِيرَةٍ وهي القَبِيلَة وهي (الَّتِي ذُكِرَ) في الآية الكريمةِ الأمرُ (بِـ)ـإنذارِها، والإنذار هو التَّخوِيفُ بالنّار والعُقوبةِ على الْمُخالَفةِ والمعصيةِ، فكان مِنهُ ﷺ الامتثالُ لأمرِ الله تعالَى بإنذارِ (جَمْعِهِمْ) أي أَجْمَعِهم (إِذْ) أي حِينَ (نَزَلَت) الآيةُ (ﱡﭐ      ) يا محمَّدُ ﱡﭐ ﱰ ﱱ أي حَذِّرْهُم الكُفرَ وعاقبتَهُ. فصَنَع النبيُّ ﷺ طَعامًا وجمَع بني عبدِ الْمُطَّلِب حتى أنْذَرَهم، ومِن حِينِئذٍ اشتَدَّ الأمرُ بينه وبين أَهْلِه، فمِنهُم مَن اتَّبَعه ومنهم مَن أعْرَض عنه واستَهْزَأَ بِه ومِنهُم مَن ءاذاهُ.

وفي ذلكَ روَى الشَّيخانِ في «الصّحِيحَين» عَن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ: ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ  قالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا».

فإنْ قِيلَ: ما الحِكمةُ مِن الأمرِ بالبَدءِ بإنذارِ الأقرِباءِ قبل غيرِهم؟

فالجوابَ كما قال شيخُنا الهرريُّ رحمهُ اللهُ: الحِكمةُ تَقتَضِي ذلكَ الدَّاعِيَ، إذا بدَأَ بعَشِيرَتِه يكونُ أقرَبَ للقَبولِ عِندَ النّاسِ لأنّه لو بَدَأَ بِغَيرِهم لقالُوا له: كَلِّمْ عَشِيرَتَك قبلَ أنْ تُكَلِّمَنا.



([1])  تاريخ دمشق، أبو القاسم بن عساكرَ، (30/47).

([2])  وأبو بكرٍ رضي الله عنه مِن تَيْمِ بنِ مُرّةَ.

([3])  أي خشُّنوا لهُ الكلامَ ولامُوه.

([4])  أي أشفَى على المَوتِ.

([5])  سُبل الهُدى والرَّشاد في سِيرةِ خَيرِ العِبادِ، محمد الصّالحِي الشّامي، (2/320).

([6])  قال الحافظُ العَسقلانيُّ: “ذهبَ جماعةٌ إلى أنه لم يَكُن قبلَ الإسراءِ صَلاةٌ مَفروضةٌ إلّا ما كانَ وقَعَ الأمرُ به مِن صَلاةِ اللَّيلِ مِن غَيرِ تَحديدٍ، وذهَبَ الحَرْبِيُّ إلى أنَّ الصّلاةَ كانَتْ مَفرُوضةً ركعتَينِ بالغَداةِ وركعتَينِ بالعَشِيّ. وذَكَرَ الشافعِيُّ عن بعضِ أهلِ العِلمِ أنّ صلاةَ اللَّيلِ كانَتْ مَفروضةً ثُمّ نُسِخَتْ بِقَولِه تعالَى: ﱡﭐ  فصارَ الفَرْضُ قِيامَ بعضِ اللَّيلِ ثُمّ نُسِخَ ذلك بالصَّلَواتِ الخَمسِ”.  يُنظر: فتح الباري، ابن حجر العَسقلانيّ، (1/465).