الأحد ديسمبر 22, 2024

#9 سيدنا محمد رسول الله ﷺ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحبِ الحُسنِ الْمُكَمّل والوجهِ الْمُجَمَّل وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. نتكلم اليوم عن ولادة سيدنا وقائدنا وحبيبنا ونور أبصارنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم.  ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عند طلوع فجر يوم الاثنين ولهذا جاء في السُنّة تفضيلَه بعد يوم الجمعة على أيام الأسبوع وتفضيلُ الصوم فيه، ففي المستدرك أن أعرابيًا سأل المصطفى عن صوم الاثنين فقال: ذاك اليوم الذي ولدت فيه وأنزل علي فيه، وفي الخبر وُلد صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين ونُبِئ يومَ الاثنين وهاجر يومَ الاثنين ودَخَلَ المدينةَ يومَ الاثنين ومات يومَ الاثنين. وَأَمَّا مَكَانُ مَوْلِدِهِ فَالصَّحِيحُ الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَالأَكْثَرُ أَنَّهُ كَانَ فِى الْمَحَلِّ الْمَشْهُورِ بِسُوقِ اللَّيْلِ وَقَدْ جَعَلَتْهُ أُمُّ هَارُونَ الرَّشِيدِ مَسْجِدًا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الأَزْرَقِىُّ «إِنَّهُ ذَلِكَ الْبَيْتُ لا اخْتِلافَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ» اهـ. وَيُعْرَفُ الْمَكَانُ الْيَوْمَ بِمَحَلَّةِ الْمَوْلِدِ. وقد وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل الموافق لسنة 571 رومية، وهو العام الذي غزا فيه أبرهةُ الأشرم عاملُ النجاشي ملك الحبشة على اليمن الكعبةَ فأهلكه الله وجيشَه قبل أن يدخل مكة. وكان أبرهة قد بنى في اليمن  مَعْبَدًا لأهلِ الشِّركِ كبيرًا وتكلَّفَ عليه، ظنَّ أنَّ هذا يَجْذِبُ قلوبَ العربِ إليه، لكنْ لمْ يحصُلْ هذا واسْتَمرَّ العرَبُ في قصْدِ الكعبةِ معَ أنّهمْ كانوا في ذلك الوقتِ على غيرِ الإيمانِ أغلَبُهُمْ، لكنْ كانَ بقيَ فيهمْ شىءٌ مِنْ بقايا ما تناقَلوهُ عنْ سيِّدِنا إبراهيم عليه السلام، منْ ذلك قصْدُ الكعبة في موْسمٍ مُعَيَّنٍ للحجِّ. فقيلَ لهذا الملِك طالَما هذه الكعبةُ موْجودة لا يأتي الناسُ إلى مَعْبَدِك، فغضِبَ وسيَّرَ جيشًا معهُ الأفيال لِتَدْميرِ الكعبة، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على المواشي فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وبعث أحد جنوده إلى مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك بأنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت ثم ينصرف عنكم. فقال عبد المطلب: «ما له عندنا قتال وما لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له». رجع مبعوث أبرهة ومعه عبد المطلب إلى أبرهة، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة عظمه وكرمه ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك إلى الملك، فسأله الترجمان، فقال: «حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها». فقال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت الآن فيك، جئت إلى بيت هو دينك لأهدمه فلم تكلمني فيه وتكلمني في إبل أصبتها.فقال عبد المطلب: «أنا صاحب هذه الإبل ولهذا البيت رب سيمنعه»، فأمر بإبله فردت عليه فخرج فأخبر قريشا وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورءوس الجبال خوفا من أذى الجيش إذا دخل ففعلوا. أصبح أبرهة بعد أن كلمه عبد المطلب متهيئا لدخول مكة فبرك الفيل، فحركوه للنهوض فأبى، فضربوه فأبى، فوجهوه إلى اليمن راجعا فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى الحرم فأبى وأرسل الله طيرا أبابيل من البحر جماعات جماعات. وكان مع كل طير ثلاثة أحجار من سجّيل، حجران في رجليه وحجر في منقاره، وكان كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص مكتوب على كل حجر اسمُ رجل من جيش أبرهة ينزل على رأسه الحجر ويخرج من دبره، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم وجعلهم ربنا كعصف مأكول أَيْ كَوَرَقِ الزَّرْعِ إِذَا أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فَرَمَتْ بِهِ مِنْ أَسْفَل، مقطّعا ممزقا. وقيل كان العسكرُ أي أصحاب الفيل ستين ألفا. أما عن ولادته صلى الله عليه وسلم فقد قالَ بعضُ العلماءِ ممن ألّف في قصةِ المولدِ الشّريفِ: حملتْ ءامنةُ بنتُ وهبٍ برسولِ الله صلى الله عليه وسلّم عشيةَ الجُمعةِ أولَ ليلةٍ من رجبٍ، وإنّ ءامنةَ لما حملتْ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانت ترى الطيورَ عاكفةً عليها إجلالًا للذي في بطنها، وكانت إذا جاءت تستقي من بئرٍ يصعدُ الماءُ إليها الى رأسِ البئرِ إجلالًا وإعظامًادلرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتْ بذلك زوجَها عبدَ الله فقال: هذه كرامةٌ للمولودِ الذي في بطنِك، قالت: وكنتُ أسمعُ تسبيحَ الملائكةِ حولي وسمعتُ قائلًا يقولُ: هذا نورُ السيّدِ الرسولِ ثم رأيتُ في المنامِ شجرةً وعليها نجومٌ زاهرةٌ بينهن نجمةٌ فاخرةٌ أضاءَ نورُها على الكل، وبينما أنا ناظرةٌ إلى نورِها واشتعالها إذ سقطتْ في حجري وسمعتُ هاتفًا يقولُ هذا النبيُّ السيّدُ الرسولُ، ثم أتاني ملكٌ ومعه ورقةٌ خضراءُ فقال: إنكِ قد حملْتِ بسيّدِ المرسلينَ ونبيّ المؤمنينَ، قالتْ فانتبهتُ من نومي مرعوبةً وحدثتُ بذلك زوجي فقال: قومي إلى خليفةَ بن عتابٍ يفسرُ لكِ هذا المنام، قالت فأتيتُ إليه وقصصتُ عليه هذا المنام فقالَ: الشجرةُ إبراهيم الخليلُ والنجومُ الزاهرةُ همُ الأنبياءُ من أولادهِ والنجمةُ الفاخرةُ التي علا ضوؤها على الكلِّ فهو نبيّ يظهرُ في هذا الزمان يُكسّرُ الأوثانَ ويعبدُ الرحمنَ، وأما سقوطُها في حجرِك فسَوْفَ تلِدينَهُ وسيعْلو مكانُه وينتشرُ في المشرقِ والمغربِ برهانُه، فرجعتُ إلى منزلي فرحةً مسرورةً. ومرِض عبدُ الله ومات بالمدينةِ ولآمنةَ ستةُ أشهرٍ وهي حاملٌ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومات عبدُ الله وكان عمُرُه ُثمانيَ عشرةَ سنةً كما صححهُ الحافظُ صلاحُ الدينِ العلائيُّ، ولما حملتْ ءامنةُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ظهرَ صفاءُ يقينها، وانطوتِ الأحشاءُ على جنْبيها، وسطعَ نورُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على جبينِها. قالت ءامنةُ بنتُ وهبٍ: لما كان أولُ شهرٍ من شهوري شهرِ الله رجَب، فبينما أنا ذاتَ ليلة إذ دخلَ عليَّ رجلٌ حَسنُ الوجهِ طيّبُ الرائحةِ وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقولُ: مرحبًا مرحبًا بك يا محمد، فقلتُ له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا ءادمُ، فقلتُ: ما تريدُ يا أبا البشرِ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ بسيّدِ البشرِ، وفخرِ ربيعةَ ومُضر، ومن ينشقُ له القمرُ، ويُسلّمُ عليه الحجرُ، ويسعى إلى خدمتهِ الشجر. فلما كان في الشهرِ الثاني دخلَ عليَّ رجلٌ جليلُ القدرِ وهو يشيرُ بيدهِ إلى فؤادي ويقولُ: السلامُ عليكَ يا رسولَ الله، السلامُ عليك يا خليلَ الله، السلامُ عليكَ يا صفْوةَ الله،  قلتُ له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا شيثٌ، قلتُ: وما تريدُ يا شيثُ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقدْ حملتِ بالنبيِّ الكريمِ، والسيّدِ العظيمِ، الضبُ لهُ يُكلّمُ، والحجرُ عليه يُسلّمُ، ثم انصرفَ. فلما كان في الشهرِ الثالثِ دخلَ عليَّ رجلٌ لهُ سكينةٌ ووقارٌ، وعليه ضياءٌ وأنوارٌ، وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقولُ: السلامُ عليكَ يا مُزَّمّل، السلامُ عليكَ يا مدَّثّر، قلت له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا النبيُّ إدريس، فقلتُ: وما تريدُ يا إدريسُ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقدْ حملتِ بالنبيّ الرئيسِ، والجوهرِ النفيسِ، صاحبِ التسبيحِ والتقديسِ، ثم انصرفَ. فلما كان في الشهرِ الرابعِ دخلَ عليَّ رجلٌ أسمر، مليحُ المنظرِ، وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقولُ: السلامُ عليك يا صادقُ، السلامُ عليكَ يا صفوةَ الكريمِ الخالقِ، فقلتُ له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا نوحٌ، فقلتُ: وما تريدُ يا نوحُ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقد حملتِ بالنبيِّ الممنوحِ، صاحبِ النصرِ والفتوحِ، الذي ذكاؤهُ في الآفاقِ يفوحُ، ثم انصرف. فلمّا كان في الشهرِ الخامسِ دخل عليَّ رجلٌ حسنُهُ مُكمّلٌ، ووجهُه مجمّلٌ، وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقول: السلامُ عليك يا زينَ المرسلينَ، السلامُ عليك يا إمامَ المتقينَ، قلتُ له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا نبيُّ الله هودٌ، قلتُ وما تريدُ يا هودُ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقد حملتِ بالنبيّ المسعودِ، والرسولِ المحمودِ، صاحبِ الكرمِ والجودِ، واللواءِ المعقودِ، ثم انصرف. فلما كان في الشهرِ السادسِ دخل عليَّ رجلٌ جليلُ المقدارِ كثيرُ الأنوارِ وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقول: السلامُ عليكَ يا حبيبَ المحبوبِ، السلامُ عليك يا بغيةَ المطلوبِ، فقلتُ له: سيّدي من أنت؟ قال انا إبراهيمُ الخليلُ، قلتُ: ما تريدُ يا إبراهيمُ؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقد حملتِ بالنبيّ الجليلِ والرسولِ الفضيل، ثم انصرف. فلما كان في الشهرِ السابعِ دخلَ عليَّ رجُلٌ أملحُ، ووجهُهُ من البدرِ أصبحُ، وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقولُ: السلامُ عليك يا صفوةَ الإلهِ، السلامُ عليكَ يا عظيمَ الجاهِ، فقلتُ له: سيّدي من أنت؟ قال: أنا أبوهُ إسماعيلُ الذبيحُ، فقلتُ له: سيّدي وما تريدُ قال: أبشري يا ءامنةُ فقد حملتِ بالنبيّ المليحِ، صاحبِ النسبِ الصحيحِ، واللسانِ الفصيحِ، ثم انصرف. فلما كان في الشهرِ الثامنِ دخلَ عليَّ رجلٌ طويلُ القامةِ، مليحُ الهامةِ، وهو يشيرُ بيده إلى فؤادي ويقولُ: السلامُ عليك يا إمامَ الأبرارِ، السلامُ عليك يا حبيبَ المَلِكِ الجَبَّارِ، فقلتُ له: سيّدي من أنتَ؟ قال: أنا موسى بنُ عمرانَ، فقلتُ : وما تريدُ يا موسى؟ قال: أبشري يا ءامنةُ فقدْ حملتِ بمن يُنزَّل عليه القرءانُ، ويُكلِّمهُ الرحمنُ، ويُزيَّنُ به الثقلانِ، ثم انصرف. فلما كان في الشهرِ التاسعِ دخلَ عليَّ رجلٌ لابسُ الصوفِ، وهو بالعبادةِ موصوفٌ، فأشارَ بيده إلى فؤادي وهو يقولُ: السلامُ عليك يا زينَ الخلائقِ، السلامُ عليك يا مُظهِرَ الحقائق، فقلتُ له: سيّدي من أنت؟ قال أنا عيسى ابنُ مريم، فقلتُ:ما تريدُ يا عيسى؟ قال أبشري يا ءامنةُ فقد حملتِ بالنبيّ الأكرم، والعطوفِ الأرحم، وفي هذا الشهرِ تضعينَ محمدًا صلى الله عليه وسلم. فلما دخلَ شهرُ ربيع الأول في اثنتي عشرةَ ليلة خلت منه وهي ليلة الاثنين من الليالي البيضِ اللاتي ليس فيهن ظلام، وكان عبدُ المطلب قد خرجَ يطوفُ بالبيتِ هو وأولادُه ولم يبقَ عند ءامنة ذكر ولا أنثى وقد أغلقَ عبدُ المطلب عليها الباب خوفاً عليها من طارقٍ يطرقها، قالتْ ءامنةُ: وبقيتُ في المنزلِ وحيدة إذ سمعتُ حركةً بين السماءِ والأرض ورأيتُ ملَكًا عظيماً بيده ثلاثةُ أعلام، فنشرَ الأولَ على مشرقِ الأرض، والثاني على مغربها، والثالثَ على البيتِ الحرام، قالت ءامنةُ: لما كانت الليلة الثانيةَ عشرة من شهرِ ربيع الأول أحسستُ بالذي في بطني يريد النزول فلحقني البكاءُ لوحدتي في المنزلِ وليس عندي أحدٌ فنظرتُ إلى ركنِ المنزلِ وقد ظهرَ منه أربعُ نساءٍ طوالٍ كأنهن الأقمارُ متزراتٍ بأزرٍ بيضٍ يفوحُ الطيبُ من أعطافِهن، فقلتُ لهن: من أنتن اللاتي منَّ الله عليَّ بكُنَّ في وحدتي، وفرجَّ بكنَّ كُربتي؟ قالت الأولى: أنا مريمُ بنتُ عمران والتي على يسارِك سارةُ زوجةُ إبراهيمَ والتي تناديك من خلفِك هاجرُ أمُ إسماعيلَ الذبيحِ والتي أمامك ءاسيةُ بنتُ مزاحمٍ امرأةُ فرعون، فاستبشرْتُ بهنَّ وفرحْتُ فرحًا عظيمًا. فتقدمَت الأولى وقالت: أبشري يا ءامنةُ مَن مثلُكِ وقد حملتِ بسيّد أهلِ الأرضِ والسماءِ، ومصباحِ الدنيا وخاتَمِ الأنبياء، والحبيبِ المصطفى ثم جلَسَت عن يميني. ثم تقدمَتْ الثانية وقالت: من مثلكِ يا ءامنةُ فقد حملتِ بالحبيبِ الأعلى، والمشفّعِ في الخلْقِ غدًا ، أفضلِ من وطي الثرى والحصى. ثم تقدمتْ الثالثة وقالت: يا ءامنةُ نُهنئك بسيّد البشر، وفخرِ ربيعة ومُضر، ومن ينشقُ لهُ القمر، ويُكلّمهُ الشجرُ والحجرُ ثم تقدمتْ الرابعة وهي أكبرهن هيبة وأكثرهن بهجة ونادتْ: يا ءامنة من مثلُكِ وقد خُصصتِ بالمبعوثِ بالفضائلِ والمفاخرِ، صاحبِ المعجزات والمآثر، ثم جلسَتْ بين يديْ وقالت: ألقي بنفسِك عليّ، وميلي بكليتك إليَّ، قالت ءامنةُ: فجعلتُ أنظرُ إلى أشباحٍ يدخلون عليَّ أفواجًا يُهنئونني وأنا حيرانةٌ وهم يخاطبونني بخطابٍ لم أسمع قط أحلى منه ولا أرق. قالت ءامنةُ: وفي تلكَ الساعةِ رأيتُ الشهبَ تتطايرُ يمينًا وشمالًا ، ورأيتُ المنزلَ قد اعتكرَ عليَّ بأصواتٍ مشتبهاتٍ ولُغاتٍ مختلفاتٍ فأوحى اللهُ تعالى إلى رضوانَ: يا رضوان زيِّن الجنان، وصُفّ على غُرفِها الحورَ والولْدَان، فتبادرت بزينتِها الحورُ الحِسان، وأشرفَت من غُرفِ الجنانِ وأزهرتِ الأوراقُ والأشجارُ والأغصانُ، وقطرَت قَطراتُ الرحمةِ على أوراقِ الأفنانِ، واهتز العرشُ طربًا، ومال الكرسيُّ عجبًا، وخرتِ الملائكةُ سجدًا وماجَ الثقلانِ، وأظهرَ سرَّهُ الملكُ الدَّيَّانُ المنزهُ عن السكونِ والحركةِ والانتقالِ والمكانِ، تعالى ربُّنا ذو الجلال والإكرام. ثم إنَّ الله تعالى أوحى إلى جبريلَ أن صُفَّ أقداحَ راحِ الشرابِ، للكواعب الأترابِ، وانشر نوافحَ المسكِ الذّكيّةِ، وعطّرِ الكونَ بالروائحِ الطيّبةِ الزكيّةِ، وافرش سجادةَ القُربِ والوصالِ، للمصطفى المصلِّي في محرابِ الكمالِ، وقيل يا مالكُ أغلق أبوابَ النيرانِ، وصفَّدِ الشياطينَ لهبوطِ الملآئكةِ المقربين، ونُودي في أقطارِ السماوات فهبطَ الأمينُ إلى الأرض بالملآئكةِ المقربينَ وقد حجبتهُم سحابةٌ من الكافورِ الأبيض، فرجعت برياحِ الرحمةِ من مجاري سحب الكرامةِ تَرْبَض، ورفرفتِ الأطيار، وجاءتِ الوحوشُ من القفارِ، وكلُّ ذلك بأمر الملكِ الجبَّارِ. قالت ءامنةُ ولم يأخذني ما ياخذُ النساء من الطلقِ إلَّا  أنِّي أعرقُ عرقًا شديدًا كالمسكِ الأذفر لم أعهدهُ قبل ذلك من نفسي، فشكوت العطشَ، فإذا بملَكٍ ناولني شَرْبةً من الفضةِ البيضاءِ فيها شرابٌ أحلى من العسلِ وأبردُ من الثلجِ وأذكى رائحةً من المسكِ الأذفر، فتناولتُهَا فشربتُهَا فأضاءَ عليَّ منها نورٌ عظيمٌ، فحِرْتُ لذلك وجعلتُ أنظرُ يمينًا وشِمالا وقد اشتد بي الطلقُ، فبينما أنا كذلك فإذا أنا بطائرٍ عظيمٍ أبيضَ قد دخلَ عليَ وأمرَ بجانِبَةِ جناحيهِ على بطني وقال: انزل يا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فأعانني عالمُ الغيبِ والشهادةِ على تسهيل الولادةِ فوضعتُ الحبيبَ محمدًا صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فانجلى حِنْدِسُ الظُلَمِ ونطق لسان حالِهِ ينشد ويقول: المصْطَفَى خيْرُ العَوالمِ أَحْمَدُ ، يَا سَادَتِي صَلَّوا عَلَيْهِ لِتَسْعَدُوا. صَلَّى عَلَيْكَ الله يَا عَلَمَ الهُدَى، يَامَنْ لهُ اسمهُ أحمَدٌ وَمُحَمَّدُ. وُلِدَ الحَبِيبُ وَخَدُّهُ مُتَورّدُ، وَالنُّورُ مِنْ وَجنَاتِهِ يَتوقَّدُ. جبْرِيلُ نَادَى فِي مَنَصَّةِ حُسْنِهِ، هَذَا مَلِيحُ الوَجْهِ هَذَا الأَوْحَدُ. هَذَا جَمِيْلُ النَّعْتِ هَذَا الْمُرْتَضَى، هَذَا جَلِيلُ الوَصْفِ هَذَا أَحْمَدُ. هَذَا الوَفِيُّ بِعَهْدِهِ هَذَا الذِي، مَنْ قَدَّهُ يَا صَاحِ غُصْنٌ أَمْلَدُ. هَذَا الذِي خُلِعَتْ عَلَيهِ مَلاَبِسٌ، وَنَفَائِسٌ فَنَظِيرُهُ لا يُوجَدُ. قَالَتْ مَلاَئِكَةُ السَّمَاءِ بِأَسرِهمْ، وُلِدَ الحَبِيبُ وَمثلُهُ لا يُوْلَدُ. وُلدَ الذي لَوْلاهُ مَا ذُكِرَتْ قُباَ، أَبَدًا وَلا كَانَ الْمُحَصَّبُ يُقْصَدُ. يَا عَاشِقينَ تَوَلّهُوا فِي حُسْنِهِ، فَبِحُبّهِ مِنْ نَارِ مَالِكِ تُنْقَذُ. يَا مَوْلِدَ المخْتَارِ كَمْ لَكَ مِنْ ثَنَا،  ومدائحٍ تَعْلُو وَذِكْر مُوْجَدُ. قالت ءامنةُ: لقد عَلَقتُ بهِ فما وَجدتُ لهُ مشقةٌ حتى وضعتُهُ فلما خرجَ مني خرجَ معه نورٌ أضاء له المشرقُ والمغربُ. ووُلدَ صلى اللهُ عليهِ وسلم مكحولا مدهونًا مسرُورًا مختونًا، وحين وُلدَ سارعت إلى طلعتِهِ المباركةِ ثلاثةٌ من الملائكةِ مع أحدهِم طستٌ من الذّهبِ ومع الثاني إبريقٌ من الذّهب ومع الثالثِ منديلٌ من السندسِ الأخضر وغسلُوهُ بماء الرحيقِ وأنشدَ لسانُ الحالِ: يَا رَبَّنا يَا إلهي خَالِقَ البَشَرِ، صَلّ وسلّمْ عَلَى المخْتَارِ مِن مُضَرِ. يَا لَيْلَةَ المَوْلِدِ الزَّهْرَاءَ كَم شَرَفًا، حَوَيْتِ بِالمصْطَفَى المخْتَارِ مِن مُضَرِ. يَا لَيْلَةً مَا تُجَارى فِي فَضَائِلِهَا، لأَنَّهَا فِي الليالي غُرّةُ القَمَرِ. يَا لَيْلَةً مَا لَهاَ فِي الدَّهْرِ ثَانِيَةٌ، لأَنَّ جَوْهَرهَا فَرْدٌ لِذِي النَّظَرِ. يَا لَيْلَةً مِنْ سَنَاها قَدْ حَوَتْ شَرَفًا، بِالمصْطَفَى سَيّدِ الأَمْلاَكِ وَالبَشَرِ. إنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ، فَإنَّ فِي الكَفّ مَعْنىً لَيْسَ فِي الحَجَرِ. إنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ، فَكَمْ بتَفْلَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ. صَلَّى عَلَيْكَ إلهُ العَرْشِ مَا صَدَحَتْ، وُرْقُ الحَمَامِ وَهَبَّتْ نَسْمَةُ السَّحَرِ. قالت ءامنةُ بنتُ وهبٍ: فلمّا وضعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم رأيتُهُ رافعًا رأسَهُ إلى السَّماءِ مُشيرًا بإصبَعِهِ، فاحْتَمَلَهُ جبريلُ وطارت به الملائكةُ، ولفَّهُ ميكائيلُ في ثوبٍ أبيضَ من الجنةِ، وأعطَاهُ إلى رضوانَ يزقُّهُ كما يزقُّ الطيرُ فرخَهُ، وكنتُ أنظرُ إليهِ كأنهُ يقول زدني، فقالَ له رضوانُ: يكفيكَ يا حبيبَ اللهِ، فما بقي لنبيٍّ علمٌ وحلمٌ إلا أُوتِيتهُ، فاستَمسَك بالعُروةِ الوُثقى من قال مقالتكَ واتَّبعَ شريعتَكَ، يُحشرُ غدا في زمرتِكَ، وإذا منادٍ يُنادي: طوفوا به مشارقَ الأرضِ ومغاربهَا، واعرضوهُ على موالد الأنبياءِ أي الأماكن التي وُلِدَ فيها الأنبياء، وأعطوهُ صفوةَ آدمَ، ومعرفةَ شيثٍ، ورِقَّةَ نوحٍ، وخُلَّةَ إبراهيمَ، ورضا إسحاقَ، وفصاحةَ إسماعيلَ، وحكمةَ لقمانَ، وصبر أيوبَ، ونغمةَ داود، وقوة موسى، وزهدَ عيسى، وفهمَ سليمانَ، وطبَّ دانيال، ووقارَ إلياسَ، وعصمةَ يحيى وقبَولَ زكريَا، واغمسُوهُ في أخلاقِ النبيينَ كلّهم وأخفوهُ عن أعينِ العالمينَ، فهو حبيبُ ربِّ العالمينَ، فطوبى لحِجرٍ ضمَهُ، وطوبى لثديٍ أرضعَهُ، وطوبى لبيوتٍ سكنهَا، فقالت الطيرُ نحن نكفلُهُ، وقالت الملائكةُ نحن أحقُّ بهِ وقالت الوحوشُ نحن نرضعُهُ. قال الله تعالى:  أنا أولى بحبيبي ونبِّيي محمّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلم فإنِّي قد كتبتُ أنْ لا تُرضِعَهُ إلا أمتي حليمة. عَطّرِ اللّهُمَّ قَبْرَهُ الكَرِيمْ، بِعَرْفٍ شَذِيّ مِنْ صَلاَةٍ وَتَسْلِيمْ. والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين