#8 ما بعد الموت
الحمد لله مقسّم الأرزاق والصلاة والسلام على سيدنا محمد رفيع الأخلاق وعلى آله وأصحابه إلى اليوم الذي يفر فيه الظالم من الأهل والأصدقاء. أما بعد يجب اعتقادُ أَن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عِنِ الله . فَمِنْ ذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ وَنَعِيمُهُ وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ. أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أَنَّ الإِنْسَانَ بَعْدَمَا يُدْفَنُ تَرْجِعُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَسْأَلانه عَنْ رَبِـّهِ وَنَبِيّـِهِ وَدِينِهِ. فَالْمُؤْمِنُ التَّقِىُّ لا يَخَافُ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرْتَاعُ ارْتِيَاعًا شَدِيدًا. ثُمَّ النَّاسُ فِى الْقَبْرِ قِسْمَانِ، قِسْمٌ مُنَعَّمُونَ فِى قُبُورِهِمْ، قُبُورُهُمْ مُنَوَّرَةٌ مُوَسَّعَةٌ، وَقِسْمٌ مُعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ. ثُمَّ هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبُونَ قِسْمَانِ، الْكُفَّارُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فِى الْقَبْرِ حَتَّى إِذَا بَلِىَ الْجَسَدُ تَعَذَّبَتْ أَرْوَاحُهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِى هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُصَاةُ الَّذِينَ لَمْ يُسَامِحْهُمُ اللهُ، فَيُعَذَّبُونَ مُدَّةً فِى القَبْرِ، ثُمَّ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. بَلْ إِذَا بَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ تَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَيُؤَخَّرُ لَهُمْ بَقِيَّةُ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ -أَىْ لِلَّذِينَ لَمْ يُسَامِحْهُمُ اللهُ مِنْهُمْ-. وَالإِيمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَاجِبٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَى الإِطْلاقِ مع علمه أنه واردٌ في دين الله فَهُوَ كَافِرٌ. ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم و يَجِبُ الإِيمَانُ به أَنَّ الله تَعَالَى يُعِيدُ الأَجْسَادَ الَّتِى أَكَلَهَا التُّرَابُ، وَيُعِيدُ الأَرْوَاحَ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ. ويجب اعتقاد أن الإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْبَهَائِمَ بَعْدَمَا يُبْعَثُونَ يومَ القيامة يُحْشَرُونَ كُلُّهُمْ إِلَى مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. وَيوم القيامة طُولُهُ كَخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِينِنَا هَذِهِ. أَوَّلُهُ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ، وَءَاخِرُهُ بِاسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِى النَّارِ. و كُلُّ إِنْسَانٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ، فَمِنْ مَسْرُورٍ يَوْمَئِذٍ وَمِنْ مُسْتَاءٍ، كُلُّ إِنْسَانٍ يُعْطَى كِتَابَهُ الَّذِى فِيهِ مَا عَمِلَ. و أَعْمَالُ الْعِبَادِ تُوْزَنُ فِى الآخِرَةِ، الْحَسَنَاتُ فِى كَفَّةٍ وَالسَّيّـِئَاتُ فِى كَفَّةٍ. فَإِنْ رَجَحَتْ أي مالت كَفَّةُ الْحَسَنَاتِ فَالشَّخْصُ فَائِزٌ نَاجٍ، وَإِنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ السَّيّـِئَاتِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فلا يَكُونُ لَهُ فِى كَفَّةِ الْحَسَنَاتِ شَىْءٌ ويدخل النار ويبقى فيها إلى ما لا نهاية له. فالنار هي مَكَانُ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَقِسْمٍ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِى الآخِرَةِ. وَهِىَ نَارٌ حِسّـِيَّةٌ، شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ، لا تَنْطَفِئُ ولا تَنْتَهِى. يَمْكُثُ الْكُفَّارُ فِيهَا فِى الْعَذَابِ أَبَدًا، لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا يَنْقَطِعُ. أَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا فَإِنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ، لأَنَّ اللهَ مَا جَعَلَ عَذَابَ الْمُسْلِمِ وَ عَذَابَ الْكَافِرِ سَوَاءً. وليعلم أن هناك جسرٌ فوق جهنم يقال له الصراط، أَوَّلُهُ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَءَاخِرُهُ قَبْلَ الْجَنَّةِ، يَرِدُهُ النَّاسُ. قِسْمٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ أَوَّلِهِ يَقَعُونَ فِى النَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَقِسْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَمْشُونَ عَلَى الصّـِرَاطِ ثُمَّ يَقَعُونَ فِى النَّارِ، وَالْبَاقُونَ نَاجُونَ. ثم بعد عبور الصراط وقبل دخول الجنة يشرب كل مؤمن من حوض نبيه وَكُلُّ نَبِىٍّ لَهُ حَوْضٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أُمَّتُهُ. فَتَشْرَبُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِنْ حَوْضِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وحوضُ النبي عليه الصلاة والسلام مَجْمَعُ مَاءٍ كَبِيرٌ، يَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ. والجنة يَجِبُ الإِيمَانُ بها، وَهِىَ مَوْجُودَةٌ الآنَ، فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَسَقْفُهَا الْعَرْشُ (وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا بِكَثِيرٍ). وَفِيهَا دَرَجَاتٌ. والمؤمنون وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ. يُعْطِيهِمُ الله فِى أَعْيُنِهِمْ قُوَّةً يَرَوْنَهُ بِهَا، لا كَمَا يَرَوْنَ الْمَخْلُوقَاتِ. يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِى جِهَةٍ ومكان، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. الله يَجْعَلُ فِى أَعْيُنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُوَّةً يَرَوْنَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَ بِهَا، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ السُّرُورِ بِذَلِكَ مَا لا يُوْصَفُ، وَهَذَا أَعْظَمُ نَعِيمٍ يَتَنَعَّمُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ. أسأل الله تعالى أن يدخلَنا الجنة مع الأولين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والله تعالى أعلم وأحكم.