#75 – سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام
الحمد لله مكوّن الأكوان الموجود أزلا وأبدا بلا مكان أما بعد كلامنا اليوم إن شاء الله عن سيدنا يحيى عليه السلام. هو يحيى بنُ زكريا وينتهي نسبُه إلى يعقوبَ عليه السلام، وهو من أنبياءِ بني إسرائيل كأبيهِ زكريا عليهما السلام. وذُكر اسمُ يحيى عليه السلام في القرءانِ الكريمِ في أربعِ ءاياتٍ، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على نبيِه يَحيى عليه السلام بالثناءِ الحسن ووصفَه بالبِرِ والتقوى والصلاحِ والاستِقامة، وأعطاهُ الله تعالى النبوةَ في صباهُ وجعلَه سيدًا. وُلد نبي الله يحيى عليه السلام قبل مولدِ عيسى بثلاثةِ أشهر، وقيل بثلاثِ سنين، وكان ابنَ خالتِهِ وقد عاصرَه وعاشَ معه فترةً طويلةً وآمن به ورافقَ مراحلَ دعوتِه عليهما الصلاة والسلام. وكان يحيى عليه السلام بعيدًا عن مَظاهِرِ التَرَفِ والنَعيم، وكانَ في شبابِه يأوي إلى القِفارِ والبَراري ويَكتَفي بما يُسَهِلُهُ الله له من الرِزق، وكانَ عليه السلام كثيرَ العبادةِ والتَضَرُعِ إلى الله، وكانَ كثيرَ العُزلةِ عن الناس، يَرِدُ ماءَ الأنهار وكان عيسى ابنُ مريم يَلبَسُ الصوفَ ويَحيى يلبَسُ الوَبر ولم يكن لواحدٍ منهما دينارٌ ولا درهمٌ ولا عبدٌ ولا أمةٌ ولا مأوًى يأويانِ إليه، فأين ما جَنّ عليهما الليلُ أوَيا، فإذا أرادا الافتِراق أوصى بعضُهما بعضًا بطاعةِ الله تبارك وتعالى. ءاتى الله تبارك وتعالى يحيى عليه السلام الحكمَ والنبوةَ والعلمَ صبيًا وعلّمَه الله عزّ وجلّ الكتابَ وهو التوراة التي كانوا يتدارسونَها فيما بينهم وقد كان سِنُه ءانذاكَ صغيرًا، و كانت صفةُ الحنانِ والرحمةِ من صِفاتِ نبي الله يحيى عليه السلام لتَحَنُّنِهِ عليه السلام على الناس ولا سيّما على أبويهِ والشَفقةِ عليهما وبِرِّه بهما. واعلم رحمك الله بتوفيقه أنّ معنى قولِه تعالى في حقِ يَحيى بنِ زكريا عليهما السلام: {وَسَيِّدًا} معناه إنه الحليمُ التقي، وقيل: هو الشريف، وأما قولُه تعالى في وصفِ يَحيى عليه السلام: {وَحَصُورًا} معناه أنّه كانَ لا يأتي النساء ليس عجزًا بل تركَ ذلكَ عن اختيارٍ منهُ ولو أرادَ لاستطاع. وكانَ سيدُنا يحيى بنُ زكريا عليهما السلام يدعو بني إسرائيلَ إلى عبادةِ الله تعالى وحدَه بالحِكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وقد مات عليه السلام مقتولًا، فقد قتلَه بنو إسرائيل ظلمًا وعُدوانًا بأمرِ ملِكهم حاكمِ فلسطين ءانذاك هيرودوس. وقيل في سببِ قتلِه: إن هذا الملك “هيرودُوس” كان يُكرم يحيى بنَ زكريا ويدنيه من مجلسِه ويستشيرُه في أمرِه وكان هذا الملِك متزوجًا من امرأة كانت قد كَبِرَت وذهبَ جمالها وكانت لها بنتٌ بارعةُ الجمال يقال لها “هيروديا” وكانت ربيبةَ هذا الملِك وليست بنتَه من صُلبه، ثم إنّ هذا الملكَ وقعَ في غرامِ هذه البنتِ وأرادَ أن يتزوجَها، فقالت له أمُها: تزوج بنتي هذه، وهذا لكي لا تكونَ بعيدةً من النعمةِ التي تتَقلب فيها، فقال لها الملك: حتى أستفتيَ يحيى أيجوزُ أم لا، فلمّا استفتى الملِكُ يحيى عليه السلام نهاهُ عن زِواجِها وأخبَرَه بأنّ ذلكَ حرامٌ في شريعتهم، فلما بلغَ ذلكَ أمّ الفتاةِ حقَدت على يحيى عليه السلام ودبّرَت له مَكيدةَ قتلٍ، فقد زينَتِ ابنتها “هيروديا” أحسنَ زينة وعطّرتها وألبسَتها أفخرَ لباس وأدخلتها على “هيرودوس” ، فأخذت ترقُصُ أمامه حتى ملَكت عليه مشاعرَهُ وأمرتها أمُها أن تسقِيَه الخمرَ وأن تتعرّضَ له فإن أرادَها على نفسِها أبَت عليه حتى يُعطيَها ما سألته، فلما فعلت ما أمرتها أمُّها قال لها هذا الملك: تَمَنَّي عليّ فسألته أن يُؤتى برأسِ يحيى في طَستٍ فقال لها الملك: ويحك! سليني غيرَ هذا؟ فقالت له: لا أريدُ غيرَ هذا، فلما أبَت عليه زيّنَ له الشيطانُ سوء عملِها وطلبِها واستجابَ لطلبِها فأمرَ بِقتلِ يحيى عليه السلام والإتيانِ برأسِه، فقُتِلَ يحيى عليه السلام على أيدي هذه الفئةِ الظالمة وهو في الصلاةِ فذُبِح ذبحًا، ثم قُدّم رأسُه إلى الملكِ في الطَبَقِ والدمُ يَنزُفُ منه، فلما رأت المرأةُ الرأسَ قالت: اليومَ قَرّت عيني، وانتقمَ الله تعالى لنبيِه يحيى عليه السلام فلما صَعِدَت هذه المرأةُ إلى سطحِ قصرِها سقطت منه إلى الأرضِ وكانَ هناكَ كلابٌ ضارية فوثَبتِ الكلابُ عليها فأكلَتها وهي تنظرُ إليهم وكان ءاخِرَ ما أُكِلَ منها عيناها. وكان نبيُ الله يحيى عليه السلام لما ذُبِح في الصلاة وقُطِعَ رأسُه قد تَقَطَّرَ دمُه وسالَ على الأرض، ولم يزل دمُه يغلي ويفورُ حتى سلّطَ الله تعالى عليهم بُخْتَنَصَر أحدَ ملوك بابل من دمشق فجاءته امرأةٌ فدلته على دمِ “يحيى بن زكريا” وهو يغلي فسألَ عنه فأخبروه بقصتِه، فألقى الله تعالى في قلبِه أن يَقتُلَ منهم عددًا على ذلكَ الدم حتى يَسكُنَ فقتلَ سبعينَ ألفًا حتى سَكَنَ دمُ يحيى عليه الصلاة والسلام، والله عزيزٌ ذو انتقام. ويَذكُرُ أهلُ التَواريخِ أنه بعدَ مَقتلِ يَحيى عليه السلام جاءَ تلاميذُهُ وأَخذوهُ ودَفنوه، ثم جاءوا إلى المسيحِ عيسى ابنِ مريم عليه السلام وأخبَروهُ بمقتلِ نبيِ الله يحيى عليه السلام، فحَزِنَ حُزنًا شديدًا لقتله. وفي مكانِ دَفنِ يحيى اختلافٌ كثير، فيقالُ إنَّ رأسَه دُفِنَ في دمشق في المكانِ المعروف اليوم داخلَ المسجد الأموي، وقيلَ في حلب، وقيل يدُه دُفنت في صيدا، ويقال إن قِسمًا من جسدِه دُفِنَ في بيروت في المكان المعروف اليوم داخلَ المسجِدِ العُمَرِيّ، والله تبارك وتعالى أعلم. وهكذا ينتهي كلامُنا عن سيدِنا يحيى عليه السلام لنبدأ في الحلقةِ المقبلةِ بإذنِ الله الكلامَ عن سيدِنا عيسى ابنِ مريم فتابعونا وإلى اللقاء.