#70 -3-5 سيدنا سليمان عليه الصلاة والسلام
قصَّ الله تبارك وتعالى علينا في القرءانِ الكريمِ قِصةَ نبيِه سليمانَ عليهِ السلامُ معَ “بَلقيس” مَلِكةِ سبأ في اليَمَن، وهي قِصةٌ رائعةٌ فيها حِكَمٌ كثيرةٌ وفيها مَغزًى دقيقٌ للملوكِ والعُظماء، وفيها بيانٌ لِسَعَةِ مُلْكِ سليمانَ عليه الصلاة والسلام حيثُ امتَدَّ من بيتِ المقدِس إلى أقاصي اليَمَن ودانَت لهُ الملوكُ والأُمراءُ، وقدِ اتَّخَذَ نبيُ الله سليمانُ عليه السلام الْمُلْكَ وسيلةً للدعوةِ إلى دينِ الإسلامِ العظيم والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ، فلم يَترُك مَلِكًا كافِرًا ظالِمًا إلا وَدَعاهُ إلى الدخولِ في دينِ اللهِ الإسلام وعبادةِ الله تعالى وحدَه، وهكذا انتشرَ دينُ الله في أقطارِ المعمورةِ وعَمَّ أرجاءَ الدنيا. وتبدأُ قِصةُ سليمانَ عليه السلام مع مَلِكَةِ سَبأ عندَما وقعَ سليمانُ عليه السلام مع جنوده في أرضٍ جدباءَ لا ماءَ فيها فعَطِشَ الجيشُ فسألوهُ الماء، وكانت وظيفةُ الهدهُدِ في جَيشِه أنهم كانوا إذا أُعْوِزوا الماءَ واحتاجوا إليه في القِفارِ والصَحاري في حالِ الأسفارِ أن يَجيءَ الهدهُد فينظُر لهم هل بهذِه البقاعِ من ماء، وكانَ الهدهُد يَدُلُّهُ على الماءِ بِما خلقَ الله تعالى له من القوةِ التي أودَعها فيهِ حيثُ كانَ يَنظُرُ الهدهد إلى الماءِ تَحتَ تُخوم الأرض، وكان يرى الماءَ في الأرض كما يرى الماءَ في الزجاجةِ بمشيئةِ الله تعالى، فكانَ الهدهُد إذا دَلَّهُم على الماءِ وقالَ: هَا هُنا الماءُ، شَقَّقَتِ الشياطينُ الصخرَ وفَجّرتِ العيون، واستَنبَطوهُ وأخرجوهُ واستَعملوهُ لحاجاتِهم. فعندما عَطِشَ جَيشُ سليمانَ عليه السلام واحتاجوا إلى الماءِ تَفقّدَ سليمانُ الهدهدَ فلم يرَهُ بينَهم ولم يَجِده، فأخذَ يَتَهَدَّدُهُ بالعقاب إلا إذا أتاهُ بِعذرٍ مَقبولٍ عن سَببِ تَخَلُّفِهِ. ثم أقبلَ الهدهدُ إلى سليمانَ عليه السلام، فلما سألَه عن غَيبتِه أخبرَه بأنهُ اطّلَعَ على ما لم يَطَّلِعْ عليه، وأخبرَهُ بِخَبَرٍ يقينٍ صادقٍ وهو أنه كان في اليمنِ في بلدةِ سبأ وأنّ هناكَ ملِكَةً على هذهِ البلادِ تُدعى “بَلقيس” قد ملَكت على تلكَ الأمةِ في اليمن وأوتِيَت مِن كلِ شىءٍ يُعطاهُ الملوكُ ويُؤتاهُ الناسُ، ولها عرشٌ عظيمٌ مُزَخرَفٌ بأنواعِ الزينةِ والجواهرِ مما يُبْهِرُ العيونَ، ثم ذكرَ لسليمانَ عليه السلامُ كُفْرَهُم باللهِ تعالى وعِبادَتَهمُ الشمسَ والسجودَ لها من دونِ الله وإضلالَ الشيطانِ لهم وصَدَّهُم عن عبادةِ الله تعالى الموجود بلا مكان. فعندَ ذلكَ بعثَ سليمانُ عليه السلام كتابًا ليوصِلَهُ إلى هذهِ الملِكةِ مُخْتَبِرًا صِدْقَ الهُدهد، وكانَ هذا الكتابُ يتضمنُ دعوتَه لهم إلى طاعةِ اللهِ ورسولِه والخضوعِ لِمُلكِه وسُلطانِه. وحَمَلَ الهدهدُ كتابَ سليمانَ عليه السلام وجاءَ إلى قصرِ بَلقيس فألقاهُ إليها وهي على سريرِ عرشِها ثم وقفَ ناحيةً ينتظرُ ما يكونُ من جوابِها عن كتابِ سليمانَ عليه السلام، وأخذتِ الملكةُ “بلقيس” الكتابَ فقرأته ثم جَمعت أُمراءَها ووُزراءَها وأكابِرَ دولتِها فشاورَتهم في أمرِها وما قد حلَّ بها، فقالوا لها بعدَ أن عَرّضوا لها بالقِتال: وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، فَفَكَّرتْ بَلقيسُ بالأمرِ مَلِيًا وبِرَوِيّةٍ ولم تَتَحَمَّس كتَحَمُسِهِم واندِفاعِهِم وكانَ رأيُها أتَمَّ وأسدَّ من رأيِهم، وعلِمَت أنَّ صاحبَ هذا الكتابِ قويُّ السُلطان يَغْلِبُ أعداءَه ولا يُخادِع. ثم عرضَت بَلقيسُ على رجالِ دولتِها ووُزرائِها رأيًا وجدتهُ أقربَ إلى حلِّ تلكَ القضيةِ المستَجِدّة، وهي أن تُرسِلَ إلى سليمانَ عليه السلام هديةً تُصانِعُهُ بِها وتَستَنْزِلُ مَوَدَتَهُ بِسبَبِها وتُحَمِّلُ هذهِ الهديةَ لرجالٍ دهاةٍ من رِجالِها حتى يَنظروا مدى قوةِ سليمانَ عليه السلام، ثم بعدَ ذلكَ تُقَرِرُ ما ستَفعَلُهُ في أمرِ سليمانَ على ضوءِ ما يأتيها مِن أخبارٍ عن سليمانَ عليه السلام وقُوَتِهِ. وأرسَلَت “بَلقيسُ” رِجالَها بِهَدِيَةٍ تَحتَوي على الْحُلِيِّ والجواهِرِ غاليةِ الثمن، فلما جاؤوا سليمانَ عليه السلام ووَضعوا بينَ يَدَيهِ هديةَ بَلقيس لم يَقبَلْها، وأَظهَرَ لهم أنَه ليسَ بِحاجَةٍ إلى هَدِيَتِهِم وأنَّ الله سبحانَه وتعالى أنعَمَ عليهِ بنِعَمٍ كَثيرةٍ تَفوقُ بِكَثيرٍ ما أَنعَمَ عليهم، ثم تَوَعَدَهُم ومَلِكَتَهُم بأن يُرسِلَ إلى بِلادِهم بِجنودٍ لا قُدرةَ لهم على قِتالِهم ويُخْرِجَهُم من بلادِهم أَذِلَةً صاغِرين. وللكلامِ تِتِمَةٌ نُكمِلُها بإذنِ الله في الحلقةِ القادمةِ فتابِعونا وإلى اللقاء.