الأحد ديسمبر 7, 2025

#7

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين، إمام الأتقياء العارفين، سيدنا وقائدنا وحبيبنا ونور أبصارنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، العالي القدر، العظيم الجاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

(النبوة)

     النبوة (اشتقاقها من النبإ أى الـخبـر) أى الإخبار (لأن النبوة إخبار عن اللـه أو) اشتقاقها (من النبوة وهى الرفعة) أى علو القدر والدرجة (فالنبـى على) القول (الأول) على وزن (فعيل بـمعنـى فاعل) أى نبـىء بـمعنـى منـبئ (لأنه يـخبـر عن اللـه بـما يوحى إليه) بواسطة الملك (أو) على وزن (فعيل بـمعنـى مفعول) أى نبـىء بـمعنـى منبئ (أى مـخبـر عن اللـه أى يـخبـره الملك عن اللـه فالنبوة جائزة عقلا ليست مستحيلة وأن اللـه تعالـى بعث الأنبياء رحـمة للعباد) لـهدايتهم وإرشادهم إلـى الـخيـر (إذ ليس فـى العقل ما يستغنـى به عنهم لأن العقل) وحده (لا يستقل بـمعرفة الأشياء المنجية فـى الآخرة) لذلك كان من الـحكمة بعثة الأنبياء (ففى بعثة الأنبياء مصلحة ضروريـة) للعباد (لـحاجتهم لذلك فاللـه) تعالـى (متفضل بـها على عباده فهى سفارة بيـن الـحق تعالـى وبيـن الـخلق) لأن الأنبياء يبلغون الناس أوامر اللـه.

 

(الفرق بيـن الأنبياء) غيـر الرسل (و)الأنبياء (الرسل)

     (اعلم أن النبـى) غيـر الرسول (و)النبـى (الرسول يشتـركان فـى الوحى فكل) منهما (قد أوحى اللـه إليه بشرع يعمل به لتبليغه للناس غير أن) النبـى (الرسول يأتـى بنسخ بعض شرع من قبله) فيكون شرع الرسول الذى قبله شرعا له إلا ما نسخ منه (أو) يأتـى (بشرع جديد) فلا يكون شرع الرسول الذى قبله شرعا له إلا ما نص له على ذلك منه (و)أما (النبـى غير الرسول) فإنه (يوحى إليه لـيتبع شرع رسول قبله وليبلغه) للناس (فلذلك قال العلماء كل رسول نبـى وليس كل نبـى رسولا) هذا هو الفرق بيـن النبـى الرسول والنبـى غير الرسول أما ما ذكره بعض المتأخرين فـى مؤلفاتـهم من أن النبـى غير الرسول هو من أوحى إليه بشرع ولـم يؤمر بتبليغه فهو فاسد فليحذر قال اللـه تعالـى ﴿فبعث اللـه النبييـن مبشرين ومنذرين﴾ وقال رسول اللـه ﷺ كان النبـى يرسل إلـى قومه وأرسلت إلـى الناس كافة رواه البخارى. ولا معنى للإرسال بدون الأمر بالتبليغ (ثـم) إن الرسالة والنبوة (أيضا يفتـرقان فـى أن الرسالة يوصف بـها الملك والبشر) لقوله تعالـى ﴿اللـه يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس﴾ أى أن اللـه يـختار من بيـن الملائكة رسلا ومن بيـن البشر رسلا فجبـريل عليه السلام يبلغ الوحى للأنبياء وللملائكة (و)أما (النبوة) فإنـها (لا تكون إلا فـى البشر) فلا نبـى من الـجن ولا من الملائكة بل هى خاصة بالذكور من البشر لقوله تعالـى ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم﴾.

 

(ما يـجب للأنبياء وما يستحيل عليهم)

     اعلم أنه (يـجب للأنبياء الصدق ويستحيل عليهم الكذب) فقد كان سيدنا مـحمد ﷺ معروفا بيـن أهل مكة بالأميـن لما عرف به من الصدق والأمانة والنزاهة فلم تـحصل منه كذبة قط لأن الكذب نقص لا يليق بالأنبياء (وتـجب لـهم الفطانة) أى الذكاء (ويستحيل عليهم البلادة والغباوة) أى ضعف الفهم أى لا يليق بـهم أن يكونوا أغبياء لأن اللـه أرسلهم ليبلغوا الرسالة ويبينوا الـحق ويقيموا الـحجة على الكفار المعاندين فلو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتـهم واللـه حكيم لا يـجعل النبوة والرسالة فـى الأغبياء (وتـجب لـهم الأمانة) فيستحيل عليهم الـخيانة فـى الأقوال كجحد الأمانة والأفعال كأكل الأمانة فلا يغشون الناس إن طلبوا منهم النصيحة ولا يأكلون أموال الناس بالباطل وقد عصمهم اللـه أى حفظهم من الصفات التـى لا تليق بـمقامهم (فالأنبياء سالمون من) الوقوع فـى (الكفر والكبائر) أى الذنوب الكبيـرة كشرب الـخمر والزنا والانتحار (وصغائر الـخسة) والدناءة أى الذنوب الصغيـرة التـى فيها خسة ودناءة كسرقة حبة عنب قبل أن يوحى إليهم بالنبوة وبعد ذلك أيضا (وهذه) السلامة من الكفر والكبائر وصغائر الـخسة (هى العصمة الواجبة لـهم) ولكن يبقى اختيارهم فـى الإقدام على الطاعة والامتناع عن المعصية إذ لولا ذلك لكانوا مـجبورين فـى أفعالـهم ومن كان مـجبورا على فعل الطاعة والامتناع عن المعصية لا يكون مأجورا فـى فعله وتركه. أما الصغائر التـى ليس فيها خسة ولا دناءة فتجوز على الأنبياء لكن إن حصل منهم شىء من ذلك ينبهون فورا للتوبة فيتوبون قبل أن يقتدى بـهم فـى تلك الصغيـرة غيرهم من أمـمهم. ويدل على جواز حصول ذلك منهم قوله تعالـى ﴿وعصى ءادم ربه﴾ أى أخطأ بأكله من الشجرة التـى نـهاه اللـه عن الأكل منها لما كان فـى الـجنة وقبل أن يوحى إليه بالنبوة. ولـم تكن معصية ءادم ذنبا كبيـرا كما تدعى النصارى لأن الأنبياء معصومون من الكبائر. وسوس له الشيطان بالأكل من الشجرة من غيـر أن يدخل فـى جسده كما قال تعالـى ﴿فوسوس إليه الشيطان قال يا ءادم هل أدلك على شجرة الـخلد وملك لا يبلى﴾ فأكل منها فوقع فـى معصية صغيـرة ليس فيها خسة ولا دناءة.

     (ويستحيل عليهم) أى الأنبياء (الـخيانة) كما تقدم (ويـجب لـهم الصيانة) أى الـحفظ من الصفات الدنيئة (فيستحيل عليهم الرذالة) وهى صفات الأسافل الدون من الناس فليس فيهم من هو رذيل يـختلس النظر إلـى المرأة الأجنبية بشهوة (و)يستحيل عليهم (السفاهة) أى التصرف بـخلاف الـحكمة فليس فيهم من هو سفيه يتصرف بـخلاف الـحكمة أو يقول ألفاظا شنيعة تستقبحها النفس (و)يستحيل على الأنبياء (الـجبـن) أى ضعف القلب فالأنبياء أشجع خلق اللـه وقد قال بعض الصحابة كنا إذا حـمى الوطيس فـى المعركة نـحتمى برسول اللـه ﷺ أى كنا نـحتمى به إذا اشتدت المعركة فقد أعطى اللـه نبينا مـحمدا ﷺ قوة أربعين رجلا من الأشداء. أما الـخوف الطبيعى فيجوز على النبـى كالتخوف من تكالب الكفار عليه حتـى يقتلوه كما جاء فـى القرءان عن سيدنا موسى عليه السلام أنه قال ﴿ففررت منكم لما خفتكم﴾ والفرار لا يشعر بالـجبـن وهو غيـر الـهرب المشعر بالـجبـن.

     (و)يستحيل على الأنبياء (كل ما ينفر عن قبول الدعوة منهم) فليس فـى ألسنتهم علة تـجعل كلامهم غير مفهوم للسامعين ولا يـحصل منهم سبق لسان فـى أمور الدين وغيرها ويستحيل عليهم الـجنون والـخرف وتأثيـر السحر فـى عقولـهم وتصرفاتـهم ولا تـحصل فـى أبدانـهم ولا فـى أفواههم ولا فـى ثيابـهم الروائح الكريهة ولـم يكن فيهم ذو عاهة فـى خلقته فلم يكن فيهم أعرج ولا أعمى خلقة (وكذلك يستحيل عليهم كل مرض منفر) كالـجرب والبـرص والـجذام وخروج الدود من الـجسم فاللـه تعالـى جعل الأنبياء قدوة للناس وأرسلهم للدعوة إلـى دين الإسلام فلا يـجوز عليهم المرض الذى ينفر الناس منهم فلو كانت تصيبهم الأمراض المنفرة لنفر الناس منهم واللـه حكيم لا يسلط عليهم هذه الأمراض. فيعلم من ذلك أنه لا يـجوز نسبة النقص إلـى الأنبياء (فمن نسب إليهم الكذب أو الـخيانة أو الرذالة أو السفاهة أو الـجبـن أو نـحو ذلك فقد كفر).

 

(المعجزة)

     (اعلم أن السبيل إلـى معرفة النبـى المعجزة وهى أمر خارق للعادة) أى مـخالف لـها (يأتـى على وفق دعوى من ادعوا النبوة) أى مصدقا لـهم فـى دعواهم النبوة أما ما لـم يكن موافقا للدعوى فلا يسمى معجزة كالذى حصل لمسيلمة الكذاب الذى ادعى النبوة أنه مسح على وجه رجل أعور فعميت العيـن الأخرى (سالـم من المعارضة بالمثل) أى لا يستطيع المكذبون للأنبياء أن يأتوا بـمثل ما جاءوا به من الـخوارق (فما كان من الأمور عجيبا ولـم يكن خارقا للعادة فليس بـمعجزة) كالغوص تـحت الماء لمدة خـمس دقائق بنفس واحد (وكذلك ما كان خارقا لكنه لـم يقتـرن بدعوى النبوة كالـخوارق التـى تظهر على أيدى الأولياء أتباع الأنبياء) كمشيهم على وجه الماء ودخولـهم النار من غيـر أن يـحتـرقوا (فإنه ليس بـمعجزة) لـهؤلاء الأولياء (بل يسمى كرامة) لأن الولـى لا يدعى أنه نبـى وإلا لما حصلت له هذه الـخوارق (وكذلك ليس من المعجزة ما يستطاع معارضته بالمثل كالسحر فإنه يعارض بسحر مثله) أى يستطيع أن يعمل ساحر ءاخر مثله أما المعجزة فلا يستطيع المعارضون أن يفعلوا مثلها.

     (والمعجزة قسمان قسم يقع بعد اقتـراح من الناس على الذى ادعى النبوة) أى يـحصل بطلب من الناس أن يريهم ءاية تشهد لصدقه (وقسم يقع من غير اقتـراح) أى من غير طلب منهم (فالأول نـحو ناقة صالح التـى خرجت من) (الصخرة) الصماء وقد جاء فـى قصة قوم صالح أنـهم طلبوا من نبيهم صالح أن يظهر لـهم معجزة (اقتـرح قومه عليه ذلك بقولـهم إن كنت نبيا مبعوثا إلينا لنؤمن بك فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة وفصيلها فأخرج لـهم ناقة) و(معها فصيلها أى ولدها) وكان يكفيهم جـميعا لبنها (فاندهشوا) من هذا الأمر العجيب (فآمنوا به) وصدقوه (لأنه لو كان كاذبا فـى قوله إن اللـه أرسله لـم يأت بـهذا الأمر العجيب الـخارق للعادة الذى لـم يستطع أحد من الناس أن يعارضه بـمثل ما أتى به) أى لـم يستطع أحد منهم أن يفعل مثله (فثبتت الـحجة عليهم ولا يسعهم إلا الإذعان) لما جاء به هذا النبـى (والتصديق) به (لأن العقل يوجب تصديق) أى يـحكم بتصديق (من أتى بـمثل هذا الأمر) العجيب (الذى لا يستطاع معارضته بالمثل من قـبل المعارضيـن فمن لـم يذعن وعاند يعد مهدرا لقيمة البـرهان العقلى) أى لا يكون للدليل العقلى عنده قيمة واعتبار.

 

(من المعجزات التـى حصلت لمن قبل سيدنا مـحمد ﷺ) من الأنبياء

     (ومن أمثلة المعجزات التـى حصلت لمن قبل) سيدنا (مـحمد) ﷺ (عدم تأثيـر النار العظيمة على) سيدنا (إبراهيم) عليه السلام بعد أن رماه قومه فيها (حيث لـم تـحرقه ولا ثيابه) وإنـما أحرقت القيد الذى قيدوه به (ومنها انقلاب عصا موسى ثعبانا حقيقيا ثـم عودها إلـى حالتها بعد أن اعتـرف السحرة الذين أحضرهم فرعون لمعارضته) أن هذا أمر خارق للعادة لا يستطيعون معارضته بالمثل لأنه ليس من قبيل السحر (وأذعنوا) لما جاء به موسى عليه السلام (فآمنوا باللـه) ربا (وكفروا بفرعون واعتـرفوا لموسى بأنه صادق فيما جاء به. ومنها ما ظهر للمسيح) عيسى ابن مريـم عليه السلام (من إحياء الموتى) كما حصل مع رجل من بنـى إسرائيل كان مـحمولا على النعش فدعا المسيح ربه أن يـحييه فأحياه اللـه تعالـى (وذلك لا يستطاع معارضته بالمثل فلم تستطع اليهود الذين كانوا مولعيـن بتكذيبه وحريصيـن على الافتراء عليه أن يعارضوه بالمثل) بل قالوا له أنت ساحر (وقد أتى أيضا بعجيبة أخرى عظيمة وهى إبراء الأكمه) أى الذى ولد أعمى (فلم يستطع أحد من أهل عصره معارضته بالمثل مع توفر الطب فـى ذلك العصر) واشتهار أهله به (فذلك دليل على صدقه فـى كل ما يـخبـر به من وجوب عبادة الـخالق وحده من غير إشراك به ووجوب متابعته فـى الأعمال التـى يأمرهم بـها).

 

(من معجزاته ﷺ)

     (وأما) سيدنا (مـحمد ﷺ فمن معجزاته صلى اللـه عليه وعلى جـميع إخوانه الأنبياء وسلم حنيـن الـجذع) وحديثه متواتر (وذلك أن النبـى ﷺ كان يستند حيـن يـخطب إلـى جذع نـخل فـى مسجده قبل أن يعمل له المنبـر) ثـم قيل له يا رسول اللـه لو عملنا لك منبـرا فقال افعلوا إن شئتم (فلما عمل له المنبـر صعد) الرسول (ﷺ عليه فبدأ بالـخطبة وهو قائم على المنبـر فحن الـجذع) أى بكى كبكاء الطفل الصغيـر شوقا لرسول اللـه ﷺ أى خلق اللـه فـى هذا الـجذع حياة بلا روح وخلق فيه شعورا وإحساسا ومـحبة وشوقا لرسول اللـه ﷺ (حتـى سـمع حنينه من فـى المسجد فنزل رسول اللـه ﷺ) عن المنبـر (فالتزمه أى ضمه واعتنقه فسكت) رواه ابن حبان.

     (ومن معجزاته ﷺ إنطاق العجماء أى البهيمة) فقد (روى الإمام أحـمد) فـى مسنده (والبيهقى) فـى دلائل النبوة (بإسناد صحيح من حديث يعلى بن مرة الثقفى) أنه (قال بينما) كنا (نسيـر مع النبـى ﷺ إذ مر بنا بعيـر يسنـى عليه) أى يـحمل عليه الماء (فلما رءاه البعيـر جرجر) أى أصدر صوتا من حلقه (فوضع جرانه) أى خفض مقدم عنقه (فوقف عليه) أى وقف بقربه (النبـى ﷺ فقال أين صاحب هذا البعيـر فجاءه فقال) النبـى ﷺ (بعنيه فقال بل نـهبه لك يا رسول اللـه وإنه لأهل بيت ما لـهم معيشة غيـره) أى يـحصلون معيشتهم من الأجرة التـى يأخذونـها للنقل عليه (فقال النبـى) ﷺ (أما ما ذكرت من أمره) فاعلم أنـى ما طلبت شراءه إلا لتخليصه مـما هو فيه (فإنه شكا) إلـى (كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه. وأخرج ابن شاهيـن فـى دلائل النبوة عن عبد اللـه بن جعفر) أنه (قال أردفنـى رسول اللـه ﷺ ذات يوم خلفه) أى أركبنـى خلفه على البعيـر (فدخل حائط) أى بستان (رجل من الأنصار فإذا جـمل) هناك (فلما رأى النبـى ﷺ حن) أى بكى (فذرفت عيناه) أى سالت دموعه (فأتاه النبـى ﷺ فمسح ذفراه) أى مسح الموضع خلف أذنه (فسكن ثـم قال) رسول اللـه ﷺ (من رب هذا الـجمل فجاء فتـى من الأنصار فقال هذا لـى فقال) له رسول اللـه ﷺ (ألا تتقى اللـه فـى هذه البهيمة التـى ملكك اللـه إياها فإنه شكا إلـى أنك تـجيعه وتدئبه) أى تتعبه (وهو حديث صحيح كما قال) الـحافظ (المحدث) مـحمد (مرتضى الزبيدى فـى شرح إحياء علوم الدين).

     (ومنها) أى ومن معجزاته ﷺ (تفجر الماء من بيـن أصابعه بالمشاهدة فـى عدة مواطن) أى مواضع (فـى مشاهد عظيمة وردت من طرق كثيـرة يفيد مـجموعها العلم القطعى المستفاد من التواتر المعنوى) أى أن حوادث نبوع الماء من يده الشريفة ﷺ رويت من طرق كثيـرة يقتضى مـجموعها القطع بـحصوله ولا يسع العاقل أن ينفيه. (و)تفجر الماء من بيـن الأصابع (لـم يـحصل لغير نبينا) ﷺ (حيث) إن الماء (نبع من عظمه وعصبه ولـحمه ودمه وهو أبلغ) أى أعجب (من تفجر المياه من الـحجر الذى ضربه موسى) بعصاه (لأن خروج الماء من الـحجارة معهود بـخلافه من بيـن اللحم والدم). وخبـر تفجر الماء من يده الشريفة ﷺ (رواه جابر وأنس وابن مسعود وابن عباس وأبو ليلى الأنصارى وأبو رافع. وقد أخرج الشيخان) البخارى ومسلم (من حديث أنس) رضى اللـه عنه أنه قال (رأيت رسول اللـه ﷺ وقد حانت صلاة العصر والتمس الوضوء) أى طلب ماء للوضوء (فلم يـجدوه فأتـى رسول اللـه ﷺ بوضوء فوضع يده فـى ذلك الإناء فأمر الناس أن يتوضئوا فرأيت الماء ينبع من تـحت أصابعه فتوضأ الناس حتـى يتوضئوا من عند ءاخرهم) أى إلـى ءاخرهم (وفـى رواية للبخارى قال الراوى لأنس كم كنتم قال ثلاثـمائة. وروى البخارى ومسلم من حديث جابر أيضا) أنه قال (عطش الناس يوم الـحديبية وكان رسول اللـه ﷺ بيـن يديه ركوة) أى إناء (يتوضأ منها فجهش الناس) أى أقبلوا إليه (فقال ما لكم فقالوا يا رسول اللـه ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشربه إلا ما بيـن يديك فوضع يده فـى الركوة فجعل الماء يفور من بيـن أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا فقيل كم كنتم قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خـمس عشرة مائة) أى ألفا وخـمسمائة (والتحقيق أن الماء كان ينبع من نفس اللحم الكائن فـى الأصابع وبه صرح النووى فـى شرح مسلم ويؤيده قول جابر فرأيت الماء يـخرج وفـى رواية ينبع من بيـن أصابعه).

     (ومن معجزاته) ﷺ (رد عيـن قتادة) براحته (بعد انقلاعها فقد روى البيهقى فـى الدلائل) أى دلائل النبوة (عن قتادة بن النعمان) رضى اللـه عنه (أنه أصيبت عينه يوم بدر) أى فـى معركة بدر (فسالت حدقته على وجنته) أى سالت عينه على خده (فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول اللـه) ﷺ (فقال لا فدعا به فغمز حدقته براحته) أى ردها براحة يده فتعافـى (فكان) بعد ذلك (لا يدرى أى عينيه أصيبت. وفـى هاتيـن المعجزتيـن) أى نبوع الماء من بيـن أصابعه ورد عيـن قتادة بعد انقلاعها (قال بعض المادحيـن شعرا من البسيط

إن كان موسى سقى الأسباط من حجر              فإن فـى الكف معنـى ليس فـى الـحجر

         إن كان عيسى برا الأعمى بدعوته            فكم براحتـه قد رد من بصـر

     أى إن كان موسى ضرب بعصاه الـحجر فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا فوزعها على الأسباط وهم القبائل المسلمة من بنـى إسرائيل فإن نبوع الماء من أصابع النبـى مـحمد ﷺ أعجب لأنه ليس معهودا. وأما قوله إن كان عيسى برا الأعمى بدعوته فكم براحته قد رد من بصـر فمعناه إن كان الأعمى تعافـى بدعوة عيسى عليه السلام فقد رد نبينا عليه الصلاة والسلام عيـن قتادة براحته.

     (ومن معجزاته ﷺ تسبيح الطعام فـى يده) فقد (أخرج البخارى من حديث ابن مسعود) أنه (قال كنا نأكل مع النبـى ﷺ الطعام ونـحن نسمع تسبيح الطعام) فـى يده. (وهذه المعجزات الثلاث) أى تسبيح الطعام ونبوع الماء وحنيـن الـجذع (أعجب من إحياء الموتى الذى هو إحدى معجزات المسيح) عليه السلام.

     (ومن معجزاته ﷺ) انشقاق القمر فإن الكفار طلبوا من رسول اللـه ﷺ أن يريهم ءاية فأشار إلـى القمر فانشق فلقتيـن وشاهد ذلك من كان بـمكة وخارجها فقد روى الـحافظ أبو نعيم فـى الدلائل والـحلية عن ابن عباس رضى اللـه عنهما أنه قال اجتمع المشركون إلـى رسول اللـه ﷺ منهم الوليد بن المغيـرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وزمعة بن الأسود والنضر بن الـحارث ونظراؤهم كثيـر فقالوا للنبـى ﷺ إن كنت صادقا فشق القمر لنا فلقتيـن نصفا على أبـى قبيس ونصفا على قعيقعان فقال لـهم رسول اللـه ﷺ إن فعلت تؤمنوا قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول اللـه ﷺ اللـه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبـى قبيس ونصفا على قعيقعان ورسول اللـه ﷺ ينادى يا أبا سلمة ابن عبد الأسد والأرقم بن أبـى الأرقم اشهدوا فنظر الكفار ثـم مالوا بأبصارهم فمسحوها ثـم أعادوا النظر فنظروا ثـم مسحوا أعينهم ثـم نظروا فقالوا سحر مـحمد أعيننا فقال بعضهم لبعض لئن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فانظروا إلـى السفار فإن أخبـروكم أنـهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق فكانوا يتلقون الركب أى المسافرين القادميـن من خارج مكة فيخبـرونـهم أنـهم رأوا مثل ما رأوا فيكذبونـهم فأنزل اللـه عز وجل ﴿اقتـربت الساعة وانشق القمر﴾. وقعيقعان وأبو قبيس جبلان متقابلان بـمكة المكرمة.

     ومن معجزاته ﷺ (الإسراء) من مكة إلـى بيت المقدس (والمعراج) من بيت المقدس إلـى السمــٰـوات السبع وإلـى ما فوقها. و(الإسراء ثبت بنص القرءان والـحديث الصحيح فيجب الإيـمان بأنه ﷺ أسرى اللـه به ليلا من) المسجد الـحرام فـى (مكة إلـى المسجد الأقصى) فـى بيت المقدس بروحه وجسده يقظة (وأما المعراج فقد ثبت بنص الأحاديث وأما القرءان فلم ينص عليه نصا صريـحا لا يـحتمل تأويلا لكنه ورد فيه ما يكاد يكون نصا صريـحا) فلا يكفر منكر المعراج إلا أن يكون إنكاره على وجه العناد بـخلاف منكر الإسراء فإنه يكفر لأنه مكذب لصريح القرءان (فالإسراء قد جاء فيه) نص صريح وهو (قوله تعالـى ﴿سبحان الذى أسرى بعبده لـيلا﴾) أى تنزه اللـه الذى أسرى بعبده مـحمد ليلا (﴿من المسجد الـحرام إلـى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله﴾) أى جعلنا البـركة فيما حوله من بلاد الشام (﴿لنريه من ءاياتنا﴾) أى لنطلعه على عجائب المخلوقات و(أما المعراج فقد ورد فيه قوله تعالـى ﴿ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى﴾) أى رأى مـحمد جبـريل مرة ثانية عند سدرة المنتهى وهى شجرة عظيمة أصلها فـى السماء السادسة وتـمتد إلـى السابعة (فإن قيل قوله) تعالـى (﴿ولقد رءاه نزلة أخرى﴾ يـحتمل أن يكون رؤية منامية قلنا هذا تأويل) بلا دليل (ولا يسوغ تأويل النص أى) لا يـجوز (إخراجه عن ظاهره لغيـر دليل عقلى قاطع أو سـمعى ثابت) وهو ما كان قرءانا أو حديثا ثابتا (كما قاله الرازى فـى) كتابه (المحصول وغيـره من الأصوليين) أى علماء الأصول (وليس هنا دليل على ذلك) أى على جواز تأويل هذه الآية (وقد روى مسلم عن أنس بن مالك رضى اللـه عنه أن رسول اللـه ﷺ قال أتيت بالبـراق) أى أتانـى جبـريل بالبـراق (وهو دابة) من دواب الـجنة (أبيض طويل فوق الـحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) أى يضع رجله حيث يصل نظره ثـم (قال فركبته حتـى أتيت بيت المقدس فربطته بالـحلقة التـى يربط بـها الأنبياء) دوابـهم (قال ثـم دخلت المسجد) الأقصى (فصليت فيه ركعتيـن) إماما بالأنبياء جـميعا (ثـم خرجت فجاءنـى جبـريل عليه السلام بإناء من خـمر) أى من خـمر الـجنة وهو شراب لذيذ طاهر لا يسكر ولا يغـيب العقل ولا يصدع الرأس (وإناء من لبـن) أى حليب (فاختـرت اللبـن فقال جبـريل عليه السلام اختـرت الفطرة) أى تـمسكت بالدين (قال) ﷺ (ثـم عرج بنا إلـى السماء) وكان عروجه ﷺ بالمرقاة وهو شبه السلم (إلى ءاخر الـحديث. وفـى) هذا (الـحديث دليل على أن الإسراء والمعراج كانا فـى ليلة واحدة بروحه وجسده يقظة إذ لـم يقل أحد إنه وصل إلـى بيت المقدس ثـم نام. أما رؤية النبـى لربه) فـى (ليلة المعراج فقد روى الطبرانـى فـى المعجم الأوسط بإسناد قوى كما قال الـحافظ ابن حجر) فـى فتح البارى (عن ابن عباس رضى اللـه عنهما) أنه قال (رأى مـحمد ربه مرتيـن. وروى ابن خزيـمة بإسناد قوى) عن ابن عباس رضى اللـه عنهما أنه قال (رأى مـحمد ربه. والمراد أنه رءاه بقلبه) أى جعل اللـه له قوة الرؤية بقلبه لا بعينه فرءاه بقلبه (بدليل حديث مسلم من طريق أبـى العالية عن ابن عباس فـى قوله تعالـى ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رءاه نزلة أخرى﴾ قال رأى ربه بفؤاده مرتيـن).

     (تنبيه. قال الغزالـى فـى إحياء علوم الدين الصحيح أن النبـى) ﷺ (لـم ير ربه ليلة المعراج ومراده أنه لـم يره بعينه إذ لـم يثبت أن النبـى ﷺ قال رأيته بعينـى ولا أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو أتباعهم قال رءاه بعينـى رأسه) وقال الإمام مالك رضى اللـه عنه لا يرى الباقى بالعيـن الفانية وإنـما يرى بالعيـن الباقـية فـى الآخرة وهذا يفهم من قول اللـه تعالـى لموسى عليه السلام ﴿لن ترانــى﴾ وقوله ﷺ إنكم لن تروا ربكم حتـى تـموتوا رواه مسلم.

 

(وجه دلالة المعجزة على صدق النبـى ﷺ)

     اعلم أن (الأمر الـخارق) المسمى معجزة (الذى يظهر على يد من ادعوا النبوة) أى الأنبياء (مع التحدى) أى مع كونه صالـحا للتحدى (مع عدم معارضته بالمثل) أى مع عجز المكذبيـن لـهم عن الإتيان بـمثله (نازل منزلة قول اللـه) تعالـى (صدق عبدى فـى كل ما يبلغ عنـى أى) كأن اللـه تعالـى قال صدق عبدى هذا الذى ادعى النبوة فـى كل ما يبلغ عنـى إذ (لولا أنه صادق فـى دعواه لما أظهر اللـه له هذه المعجزة فكأن اللـه تعالـى قال صدق عبدى) مـحمد أو عيسى أو موسى (هذا الذى ادعى النبوة فـى دعواه لأنـى أظهرت له هذه المعجزة لأن الذى يصدق الكاذب) أى يقول بصدق الكاذب فهو (كاذب) مثله (واللـه) تعالـى (يستحيل عليه الكذب فدل ذلك على أن اللـه إنـما خلقه لتصديقه) أى خلق هذا الأمر الـخارق للعادة لتصديق النبـى الذى أرسله (إذ كل عاقل يعلم أن إحياء الموتى وقلب العصا ثعبانا) حقيقيا (وإخراج ناقة من صخرة صماء) لا جوف لـها (ليس بـمعتاد).

 

(السبيل إلـى العلم بالمعجزة بالقطع واليقيـن) أى الطريق الموصل

إلـى معرفة حصول المعجزة قطعا ويقينا

     اعلم أن المعجزة تدل على صدق النبـى فـى كل ما جاء به و(العلم بالمعجزات) أى العلم اليقينـى (يـحصل) إما (بالمشاهدة لمن شاهدوها و)إما (ببلوغ خبـرها بطريق التواتر فـى حق من لـم يشهدها) وخبـر التواتر لا يكون إلا صدقا والتواتر معناه انتقال الـخبـر بواسطة عدد كبيـر ينقل عن عدد كبيـر شهد المعجزة وهكذا إلـى أن يصل الـخبـر إلينا بـحيث يستحيل عادة اتـفاقهم جـميعا على الكذب فـى هذا الـخبـر (وذلك كعلمنا بالبلدان النائية) أى بوجود البلدان البعيدة التـى لـم نشاهدها (و)بـحصول (الـحوادث التاريـخية الثابتة) يقينا (الواقعة لمن) كان (قبلنا من الملوك والأمم. والـخبـر المتواتر يقوم مقام المشاهدة) أى مثل المشاهدة (فوجب الإذعان) أى التسليم والرضى (لمن أتى بـها) أى بالمعجزة (عقلا كما أنه واجب شرعا).

(الإيـمان بعذاب القبـر ونعيمه وسؤاله)

     اعلم أن مـما أخبـر به النبـى ﷺ ويـجب الإيـمان به عذاب القبـر كعرض النار على الكافر كل يوم مرتيـن فيتعذب بنظره ورؤيته لمقعده الذى يقعده فـى الآخرة (قال اللـه تعالـى ﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا﴾) أى أن ءال فرعون وهم أتباعه الذين عبدوه واتبعوه على الكفر يعرضون على النار فـى البـرزخ أى فـى مدة القبـر كل يوم مرتيـن مرة أول النهار ومرة ءاخر النهار (﴿ويوم تقوم الساعة﴾) أى يقال للملائكة يوم القيامة (﴿أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب﴾ وقال تعالـى ﴿ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا﴾) أى أن الكافر الذى أعرض عن الإيـمان باللـه ورسوله يتعذب فـى قبـره وهذا هو المراد بالآية ﴿معيشة ضنكا﴾ فإن النبـى ﷺ فسرها بعذاب القبـر كما روى ذلك ابن حبان فـى صحيحه والـحاكم فـى المستدرك وصححه (فهاتان الآياتان واردتان فـى عذاب القبـر للكفار وأما عصاة المسلميـن من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة فهم صنفان صنف يعفيهم اللـه من عذاب القبـر) فلا يعذبـهم (وصنف يعذبـهم ثـم ينقطع عنهم ويؤخر لـهم بقية عذابـهم إلـى الآخرة فقد روى البخارى ومسلم والتـرمذى وأبو داود والنسائـى عن ابن عباس) رضى اللـه عنهما أنه قال (مر رسول اللـه) ﷺ (على قبـرين فقال إنـهما ليعذبان وما يعذبان فـى كبيـر إثـم) أى بـحسب ما يتوهم الناس ليس ذنبهما كبيـرا لكنه فـى الـحقيقة ذنب كبيـر لذلك (قال بلى أما أحدهـما فكان يـمشى بالنميمة) أى ينقل الكلام بيـن اثنيـن مسلميـن للإفساد بينهما (وأما الآخر فكان لا يستتـر من البول) أى لا يتنزه منه بل يلوث جسده به (ثـم دعا) رسول اللـه (بعسيب رطب) أى غصن نـخل أخضر (فشقه اثنيـن فغرس على هذا) القبـر (واحدا) من جهة رأسه (وعلى هذا) القبـر (واحدا) من جهة رأسه (ثـم قال لعله يـخفف عنهما) أى لعل عذاب القبـر يـخفف عنهما ما دام هذان الشقان رطبيـن فقد ورد فـى الـحديث أن النبات الأخضر يسبح اللـه فإذا وضع على القبـر يـخفف عن صاحب القبـر بتسبيحه إن كان فـى نكد فينبغى وضع الشجر الأخضر على القبـر لأنه يسبح اللـه لكن نـحن لا نسمعه.

     (وروى البخارى ومسلم عن أنس عن النبـى ﷺ أنه قال إن العبد إذا وضع فـى قبـره وتولـى عنه أصحابه) أى انصرفوا عنه (وإنه ليسمع قرع نعالـهم) أى يسمع صوت طرق نعالـهم (إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان) له (ما كنت تقول فـى هذا الرجل مـحمد) ﷺ وليس معناه أنه فـى تلك الساعة يكون ظاهرا مرئيا مشاهدا (فأما المؤمن) الكامل (فيقول) فـى الـجواب لـهما (أشهد أنه عبد اللـه ورسوله فيقال له انظر إلـى مقعدك من النار) أى لو مت على الكفر (أبدلك اللـه به مقعدا من الـجنة فيـراهـما جـميعا) فيعرف حينئذ فضل الإسلام معرفة عيانية كما كان يعرف فـى الدنيا معرفة قلبية (وأما الكافر) المعلن وهو الذى يظهر كفره (أو) الكافر (المنافق) وهو الذى يـخفى كفره فـى قلبه ويظهر الإسلام (فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيه فيقال) له أى تقول له الملائكة إهانة له (لا دريت ولا تليت) والمعنـى واحد أى لا عرفت (ثـم يضرب بـمطرقة من حديد بيـن أذنيه) لو ضرب بـها الـجبل لاندك أى تـحطم (فيصيح صيحة يسمعها من يليه) أى من كان بقربه من بهائم وطيور (إلا الثقليـن) وهم الإنس والـجن فإن اللـه تعالـى حجب تلك الصيحة عن أسـماعهم، وتسيخ به الأرض حتـى يصل إلـى الأرض السابعة ثـم تلفظه الأرض فيـرجع إلـى القبـر.

     (وعن عبد اللـه بن عمرو) بن العاص (أن رسول اللـه ﷺ ذكر فتانـى القبـر) أى الملكيـن اللذين يـمتحنان الناس فـى القبـر (فقال عمر بن الـخطاب رضى اللـه عنه أترد علينا عقولنا يا رسول اللـه) أى عند السؤال (قال نعم كهيئتكم اليوم) أى يكون الـجواب من الـجسم مع الروح (قال) عبد اللـه بن عمرو (فبفيه الـحجر) أى سكت سيدنا عمر رضى اللـه عنه وانقطع عن الكلام لأنه سـمع خلاف ما كان يظنه (واعلم أنه ثبت فـى الأخبار الصحيحة عود الروح إلـى الـجسد فـى القبـر كحديث البـراء بن عازب الذى رواه الـحاكم والبيهقـى وأبو عوانة وصححه غيـر واحد) وفيه ويعاد الروح إلـى جسده (وحديث ابن عباس مرفوعا) أى الـحديث الذى رواه عن النبـى ﷺ (ما من أحد يـمر بقبـر أخيه المؤمن كان يعرفه فـى الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام رواه ابن عبد البـر) فـى التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح (و)رواه الـحافظ (عبد الـحق الإشبيلى وصححه) فـى كتاب العاقبة (فيستلزم ذلك) أى سـماع الميت إلقاء السلام عليه ورد السلام على من سلم (رجوع الروح إلـى البدن كله وذلك ظاهر الـحديث أو إلـى بعضه) أى بعض بدنه (ويتأكد عود الـحياة فـى القبـر إلـى الـجسد مزيد تأكد فـى حق الأنبياء) عليهم السلام (فإنه ورد من حديث أنس عن النبـى ﷺ) أنه قال (الأنبياء أحياء فـى قبورهم يصلون، صححه البيهقى وأقره الـحافظ) ابن حجر على ذلك.

     (وعن أبـى هريرة رضى اللـه عنه) أنه (قال قال رسول اللـه ﷺ إذا قبـر الميت أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان) أى لونـهما أسود مـمزوج بزرقة وهو أخوف ما يكون من الألوان ولـهما أعيـن حـمر كقدور النحاس وصوتـهما كالرعد القاصف (يقال لأحدهـما منكر وللآخر نكيـر فيقولان له ما كنت تقول فـى هذا الرجل مـحمد) ﷺ (فهو قائل) أى فـى الـجواب لـهما (ما كان يقول) قبل الموت (فإن كان مؤمنا) كاملا (قال هو عبد اللـه ورسوله أشهد أن لا إلــٰه إلا اللـه وأشهد أن مـحمدا عبده ورسوله فيقولان له إن كنا لنعلم أنك لتقول ذلك) أى كنا نعلم قبل أن تـجيب أنك كنت على هذا الاعتقاد (ثـم يفسح له فـى قبـره سبعين ذراعا فـى سبعين ذراعا) أى يوسع قبـره سبعيـن ذراعا طولا فـى سبعيـن ذراعا عرضا (وينور له فيه) بنور يشبه نور القمر ليلة البدر (فيقال له نـم فينام كنوم العروس) أى كنوم الرجل العروس (الذى لا يوقظه إلا أحب أهله) إليه أى ينام نوما هنيئا لا يـحس بقلق ولا وحشة (حتـى يبعثه اللـه من مضجعه ذلك فإن كان) المقبور كافرا معلنا أو كافرا (منافقا قال لا أدرى كنت أسـمع الناس يقولون شيئا فكنت أقوله فيقولان له إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض التئمى فتلتئم) عليه فيضيق (عليه) القبـر (حتـى تـختلف أضلاعه) أى أضلاعه التـى فـى إحدى الـجهتيـن تدخل فـى الأضلاع التـى فـى الـجهة الأخرى (فلا يزال معذبا حتـى يبعثه اللـه تعالـى من مضجعه ذلك) ثـم يعذب بعد ذلك بعذاب ءاخر ويدخل جهنم خالدا فيها أبدا (والـحديثان رواهـما ابن حبان وصححهما ففى الأول منهما إثبات عود الروح إلـى الـجسد فـى القبـر والإحساس وفـى الثانـى إثبات استمرار الروح فـى القبـر وإثبات النوم) فيه (وذلك ما لـم يبل الـجسد) فإذا بلـى الـجسد فإن الروح تفارقه. (وهذا النعيم) فـى القبـر (للمؤمن القوى وهو الذى يؤدى الفرائض ويـجتنب المعاصى وهو الذى قال رسول اللـه ﷺ فيه الدنيا سجن المؤمن وسنته) أى الدنيا دار جوع وبلاء فهى بالنسبة لما يلقاه من النعيم فـى الآخرة كالسجن (فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة) أى يكون حاله كحال من كان فـى قحط ومـجاعة مسجونا ثـم خرج من السجن إلـى الرخاء والسعة. وهذا (حديث صحيح أخرجه ابن حبان) و(يعنـى المؤمن الكامل. ثم إذا بلى الـجسد كله ولـم يبق) منه (إلا عجب الذنب) وهو عظم صغيـر قدر حبة خردلة (يكون روح المؤمن التقى فـى الـجنة وتكون أرواح عصاة المسلمين) أى (أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بلى الـجسد فيما بيـن السماء والأرض وبعضهم فـى السماء الأولـى وتكون أرواح الكفار بعد بلى الـجسد فـى سجيـن) وتبقى فيه إلـى يوم القيامة (وهو مكان) مظلم وموحش (فـى الأرض السفلى) أى الأرض السابعة. وبعض الناس لا تبلى أجسادهم كالأنبياء وشهداء المعركة وبعض الأولياء (وأما الشهداء) أى شهداء المعركة (فتصعد أرواحهم) بعد موتـهم (فورا إلـى الـجنة) وتتنعم فيها إلـى يوم القيامة.

     (تنبيه) مهم (يستثنـى من السؤال) فـى القبـر (النبـى) ﷺ لشرفه أى لعظيم قدره عند اللـه (والشهيد أى شهيد المعركة) لأن روحه تصعد مباشرة إلـى الـجنة (وكذلك الطفل أى الذى مات دون البلوغ) لأنه ليس مكلفا (فإن قيل كيف يـمكن سؤال عدد كثيـر من الأموات) فـى ءان واحد (فالـجواب ما قال الـحليمى إن الأشبه أن يكون ملائكة السؤال جـماعة كثيـرة يسمى بعضهم منكرا وبعضهم نكيـرا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم).

 

 (حكم منكر عذاب القبـر)

     اعلم أن عذاب القبـر ثابت بالقرءان والـحديث (و)إجـماع الأمة لذلك (يكفر منكر عذاب القبـر) فهو مكذب (لقول اللـه) تعالـى (﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب﴾) وقوله ﷺ إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ باللـه من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبـر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال (بـخلاف منكر سؤاله فلا يكفر) لكن عليه ذنب كبيـر (إلا أن يكون) إنكاره (على وجه العناد) فإنه يكفر.

 

(البعث)

       (البعث حق) يـجب الإيـمان به قال اللـه تعالـى ﴿ثم إنكم يوم القيامة تبعثون﴾ (و)البعث (هو خروج الموتى من القبور) بعد إحيائهم أى (بعد إعادة الـجسد الذى أكله التـراب إن كان من الأجساد التـى يأكلها التـراب) فيعاد تركيب الـجسد على عظم صغيـر قدر حبة خردلة يسمى عجب الذنب قال رسول اللـه ﷺ ينزل اللـه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل أى يـختلط هذا الماء بالتـراب وبعجب الذنب فيعيد اللـه الأجساد التـى أكلها التـراب (وهى أجساد غير الأنبياء وشهداء المعركة وبعض الأولياء لما تواتر من مشاهدة بعض الأولياء) ومنهم الـحافظ أبو عمرو بن الصلاح الذى شوهدت جثته صحيحة لـم يتغير منها شىء وقد مضى على وفاته أكثر من ثـمانـمائة سنة. أما الأنبياء فلا يأكل التراب أجسادهم لقوله ﷺ إن اللـه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء رواه أبو داود. فالأنبياء أحياء فـى قبورهم يصلون لكن حياتـهم فـى القبـر ليست كحياتـهم فـى الدنيا فلا تتطلب أكلا ولا شربا إنـما هى كحياة الملائكة لا يشتهون أكلا ولا شربا إنـما يصلون تلذذا بعبادة اللـه. (وأول من ينشق عنه القبر) هو (سيدنا مـحمد ﷺ) ثـم بعده الأنبياء. (وأهل مكة والمدينة والطائف من أول من يبعث) ويـحصل البعث بعد أن ينفخ الملك إسرافيل عليه السلام النفخة الثانية فيقوم الأموات من قبورهم بعد عود الأرواح إلـى أجسادهم.

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/0v6LFNjsRqU?si=1QwocGL_2vpSSmrA

 

للاستماع إلى الدرس:      https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/sirat-7

الموقع الرسمي للشيخ جيل صادق: https://shaykhgillessadek.com