#6
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين، إمام الأتقياء العارفين، سيدنا وقائدنا وحبيبنا ونور أبصارنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، العالي القدر، العظيم الجاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
(معنـى القدر والإيـمان به)
(قال بعض العلماء القدر هو تدبيـر الأشياء على وجه مطابق لعلم اللـه الأزلـى ومشيئته الأزلية فيوجدها فـى الوقت الذى علم أنـها تكون فيه) أى إيـجاد اللـه الأشياء على حسب علمه ومشيئته الأزلـييـن ويقال بعبارة أخرى القدر هو جعل كل شىء على ما هو عليه (فيدخل فـى ذلك عمل العبد الـخيـر والشر باختياره) أى أن الإنسان إذا عمل حسنة أو سيئة فكلاهـما بتقدير اللـه. والقدر له إطلاقان أى له معنيان يطلق ويراد به صفة اللـه أى التقدير ويطلق ويراد به المقدور أى ما قدره اللـه تعالـى من المخلوقات (ويدل عليه قول رسول اللـه) ﷺ (لـجبـريل) عليه السلام (حيـن سأله عن الإيـمان الإيـمان أن تؤمن باللـه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيـره وشره رواه مسلم ومعناه) أن تعتقد (أن المخلوقات) كلها (التـى قدرها اللـه تعالـى وفيها الـخيـر والشر وجدت بتقدير اللـه الأزلـى) أى بإيـجاد اللـه لـها. فالمقدور هو الذى يوصف بالـخيـر والشر (وأما تقدير اللـه الذى هو صفة ذاته فهو) حسن (لا يوصف بالشر بل) يقال (تقدير اللـه للشر) أى (الكفر والمعصية وتقديره للإيـمان والطاعة حسن منه ليس قبيحا) وكذلك خلقه للشر وإرادته لوجود الشر ليس قبيحا من اللـه أما فعل العبد للشر فهو قبيح من العبد والقبيح هو ما قبحه اللـه (فإرادة اللـه تعالـى) أى مشيئته (نافذة فـى جـميع مراداته على حسب علمه بـها) لا تتخلف ليست كمشيئة العباد (فما علم) اللـه فـى الأزل (كونه) فقد (أراد كونه) فلا بد أن يكون (فـى الوقت الذى) علم أنه (يكون فيه وما علم أنه لا يكون لـم يرد أن يكون فلا يـحدث فـى العالـم شىء إلا بـمشيئته) لأنه لو كان يقع فـى ملكه ما لا يشاء لكان عاجزا والعاجز لا يكون إلــٰها (ولا يصيب العبد شىء من الـخيـر أو الشر أو الصحة أو المرض أو الفقر أو الغنـى أو غيـر ذلك إلا بـمشيئة اللـه تعالـى ولا يـخطئ العبد شىء قدر اللـه وشاء أن يصيبه فقد ورد) فـى الـحديث (أن النبـى ﷺ علم بعض بناته) أن تقول صباحا ومساء (ما شاء اللـه كان وما لـم يشأ لـم يكن رواه أبو داود فـى السنن ثـم تواتر واستفاض) أى انتشر (بين أفراد الأمة و)على هذا كان الصحابة رضوان اللـه عليهم فقد (روى البيهقى رحـمه اللـه تعالـى) فـى كتاب القضاء والقدر (عن سيدنا علـى رضى اللـه عنه أنه قال إن أحدكم لن يـخلص الإيـمان إلـى قلبه حتـى يستيقن يقينا غيـر شك) أى لا يتم الإيـمان فـى قلب أحدكم حتـى يعتقد اعتقادا جازما لا يـخالـجه شك (أن ما أصابه لـم يكن ليخطئه) أى ما قدر اللـه أن يصيبه من رزق أو مصيبة أو غيـر ذلك لا بد أن يصيبه (وما أخطأه لـم يكن ليصيبه) أى وما لـم يصبه فقد أراد اللـه أن لا يصيبه (ويقر بالقدر كله أى) يـجب أن يؤمن بأن كل ما يـجرى فـى الكون من خيـر أو شر ضلالة أو هدى عسر أو يسر حلو أو مر فهو بتقدير اللـه و(لا يـجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعض).
(وروى) البيهقى (أيضا) فـى كتاب القضاء والقدر (بالإسناد الصحيح أن عمر بن الـخطاب) رضى اللـه عنه (كان بالـجابية وهى أرض من الشام فقام خطيبا فحمد اللـه وأثنـى عليه ثـم قال من يهد اللـه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له) وهذا مأخوذ من قوله تعالـى ﴿ومن يهد اللـه فما له من مضل﴾ أى من شاء اللـه له فـى الأزل أن يكون مهتديا فلا يـجعله أحد ضالا وقوله تعالـى ﴿من يضلل اللـه فلا هادى له﴾ أى من شاء اللـه له أن يكون ضالا فلا يـجعله أحد مهتديا (وكان عنده كافر من كفار العجم من أهل الذمة فقال بلغته إن اللـه لا يضل أحدا) أى لا يـخلق الضلال فـى أحد (فقال عمر للتـرجـمان ماذا يقول قال إنه يقول إن اللـه لا يضل أحدا فقال عمر كذبت يا عدو اللـه ولولا أنك من أهل الذمة لضربت عنقك) أى لعاملتك معاملة المرتد فقتلتك (هو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء) أن تـموت على كفرك وضلالك (وروى الـحافظ أبو نعيم) الأصبهانـى فـى الـحلية (عن ابن أخى الزهرى عن عمه) ابن شهاب (الزهرى أن عمر بن الـخطاب) رضى اللـه عنه (كان يـحب قصيدة لبيد بن ربيعة) ويعجب بـها لما فيها من الفوائد الـجليلة (التـى منها هذه الأبيات وهى
إن تقوى ربنا خيـر نفل وبإذن اللـه ريثى وعجل
أحـمد اللـه فلا ند له بيديه الـخيـر ما شاء فعل
من هداه سبل الـخيـر اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل)
(ومعنـى قوله) أى قول لبيد رضى اللـه عنه (إن تقوى ربنا خيـر نفل) أى خيـر غنيمة (أى خيـر ما يعطاه الإنسان) والتقوى هى أداء الواجبات واجتناب المحرمات (ومعنـى قوله وبإذن اللـه ريثى وعجل أى أنه لا يبطئ مبطئ ولا يسرع مسرع) فـى العمل (إلا بـمشيئة اللـه وبإذنه) أى أن اللـه تعالـى هو الذى يـخلق فـى العبد القوة والنشاط للخيـر وهو الذى يـخلق فيه الكسل والتوانـى عن الـخيـر (وقوله أحـمد اللـه فلا ند له أى لا مثل له و)أما (قوله بيديه الـخيـر أى والشر) أى أن اللـه مالك الـخيـر والشر لا خالق لـهما إلا اللـه (وإنـما اقتصر) لبيد بن ربيعة (على ذكر الـخيـر) دون الشر (من باب الاكتفاء) لأنه معلوم عند أهل الـحق أن اللـه خالق الـخيـر والشر وهذا أسلوب من أساليب البلاغة فـى لغة العرب يذكر أحد الشيئيـن الداخليـن تـحت حكم واحد اكتفاء بأحدهـما عن ذكر الآخر (كقوله تعالـى ﴿سرابيل﴾) أى قمصانا (﴿تـقيكم الـحر﴾ أى والبـرد لأن السرابيل تـقـى من الأمرين ليس من الـحر فقط. وقوله ما شاء فعل أى ما أراد اللـه حصوله لا بد أن يـحصل وما أراد أن لا يـحصل فلا يـحصل و)أما (قوله من هداه سبل الـخيـر اهتدى أى من شاء اللـه له) فـى الأزل (أن يكون) مهتديا (على الصراط الصحيح المستقيم اهتدى) أى لا بد أن يكون على دين اللـه وعلى تقواه (وقوله ناعم البال أى مطمئن البال وقوله ومن شاء أضل أى من شاء) اللـه (له) فـى الأزل (أن يكون ضالا أضله) أى خلق فيه الضلال وهذا الكلام من أصول العقائد التـى كان عليها الصحابة ومن تبعهم فـى المعتقد (وروى البيهقى عن) الإمام (الشافعـى) رضى اللـه عنه (أنه قال حين سئل عن القدر
ما شئت كان وإن لـم أشأ وما شئت إن لـم تشأ لـم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففى العلم يـجرى الفتـى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لـم تعن
فمنهم شقى ومنهم سعيد وهذا قبيح وهذا حسن)
فسر الشافعـى القدر فـى هذه الأبيات بالمشيئة. فقوله ما شئت كان وإن لـم أشأ أى ما شئت فـى الأزل وجوده لا بد أن يوجد وإن لـم أشأ أنا وجوده. وقوله وما شئت إن لـم تشأ لـم يكن أى إن شئت أنا حصول شىء إن لـم تشأ أنت حصوله لا يـحصل. وقوله خلقت العباد على ما علمت أى أبرزتـهم من العدم إلـى الوجود على حسب ما سبق فـى علمك الأزلــى. وقوله ففى العلم يـجرى الفتـى والمسن أى أن سعى كل واحد من الـخلق إن كان فتـى أو مسنا لا يـخرج عن علمك. وقوله على ذا مننت وهذا خذلت أى بعض الـخلق وفقته للإيـمان والـهدى والصلاح أى جعلته يصرف قدرته واختياره للخيـر وبعضهم لـم توفقه للخيـر إنـما جعلته يصرف قدرته واختياره للشر. وقوله وهذا أعنت وذا لـم تعن أى بعضهم أعنته على الـخيـر وبعضهم لـم تعنه عليه. وأما قوله رضى اللـه عنه فمنهم شقى ومنهم سعيد وهذا قبيح وهذا حسن أى فمنهم شقى من أهل العذاب الأليم ومنهم سعيد من أهل النعيم المقيم (فتبيـن بـهذا أن الضميـر فـى قوله تعالـى ﴿يضل من يشاء ويهدى من يشاء﴾ يعود إلـى اللـه) أى من يشاء اللـه له الضلالة يـجعله ضالا ومن يشاء له الـهدى يـجعله مهتديا و(لا) يصح أن يعود الضميـر (إلـى العبد كما زعمت القدرية) أى المعتزلة (بدليل قوله تعالـى إخبارا عن سيدنا موسى) عليه السلام أنه قال (﴿إن هى إلا فتنتك تضل بـها من تشاء وتـهدى من تشاء﴾) أى أن ما حدث بقومى من عبادتـهم العجل إنـما هى فتنتك أى امتحان وابتلاء منك أضللت بـها قسما وهديت بـها قسما (وكذلك قالت) مثل كلام المعتزلة (طائفة) خارجة عن الإسلام (ينتسبون إلى أميـن شيخو الذين زعيمهم اليوم) تلميذه (عبد الـهادى البانـى الذى هو بدمشق) وهذا الكلام كان قبل وفاته فإن عبد الـهادى البانـى توفـى منذ بضع سنيـن وصار المنتسبون إلـى هذه الطائفة بعد وفاته فرقا تـجمعها ضلالة التكذيب بالقدر (فقد) حرفوا معنـى الآية ﴿يضل من يشاء ويهدى من يشاء﴾ فإنـهم (جعلوا مشيئة اللـه تابعة لمشيئة العبد حيث إن معنـى الآية عندهم إن شاء العبد الاهتداء شاء اللـه له الـهدى وإن شاء العبد أن يضل أضله اللـه فكذبوا بالآية ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء اللـه﴾) وهى صريـحة فـى كون مشيئة العبد تابعة لمشيئة اللـه. وهذه الآية ﴿تضل بـها من تشاء﴾ هى أصرح ءاية فـى إبطال عقيدة هؤلاء لأن قوله ﴿تشاء﴾ صريح فـى نسبة المشيئة إلـى اللـه فلو كان معنـى الآية كما زعموا لكان لفظ الآية يضل بـها من شاءوا أى الذين عبدوا العجل لكن موسى عليه السلام يـخاطب اللـه بقوله ﴿من تشاء﴾ أى أنت يا اللـه (فإن حاول بعضهم أن يستدل بآية) أخرى (من القرءان لضد هذا المعنـى قيل له القرءان يتصادق) أى يصدق بعضه بعضا (ولا يتناقض فليس فـى القرءان ءاية نقيض ءاية و)إذا قيل هذه الآية نسخت بآية أخرى قلنا (ليس هذا من باب الناسخ والمنسوخ لأن النسخ لا يدخل العقائد وليس موجبا للتناقض) أى لا يؤدى إلـى التناقض (فالنسخ لا يدخل فـى الأخبار إنـما هو فـى الأمر والنهى إنـما النسخ) أى نسخ الـحكم فـى القرءان معناه (بيان انتهاء حكم ءاية سابقة) والعمل (بـحكم ءاية لاحقة) بوحى من اللـه (على أن هذه الفئة لا تؤمن بالناسخ والمنسوخ) وبـهذا شذوا عن أهل السنة والـجماعة (ومن غباوتـهم العجيبة أنـهم يفسرون قوله تعالـى ﴿وعلم ءادم الأسـماء كلها﴾ بأسـماء اللـه الـحسنـى فإن قيل لـهم لو كانت الأسـماء هى أسـماء اللـه الـحسنـى لـم يقل اللـه ﴿فلما أنبأهم بأسـمائهم﴾ بل لقال فلما أنبأهم بأسـمائـى) وإذا ذكر لـهم حديث البخارى الذى فيه أن الناس يقولون لآدم يوم القيامة يا ءادم أنت أبو البشر أسجد اللـه لك الملائكة وعلمك أسـماء كل شىء (انقطعوا) عن الـجدال (لكنهم يصرون على جهلهم وتـحريفهم للقرءان).
(وروى الـحاكم رحـمه اللـه تعالـى أن علـى الرضى بن موسى الكاظم) بن جعفر الصادق بن مـحمد الباقر بن علـى زين العابدين بن الـحسيـن بن علـى رضى اللـه عنهم (كان يقعد فـى الروضة وهو شاب ملتحف بـمطرف خز) أى رداء من خز له أعلام فـى طرفيه (فيسأله الناس ومشايخ العلماء) أى كبار السن منهم (فـى المسجد فسئل عن القدر فقال قال اللـه عز من قائل ﴿إن المجرميـن﴾) أى الكافرين (﴿فـى ضلال﴾) أى فـى الدنيا (﴿وسعر﴾) أى فـى الآخرة (﴿يوم يسحبون فـى النار على وجوههم ذوقوا مس سقر﴾) أى عذابـها (﴿إنا كل شىء خلقناه بقدر﴾ ثـم قال) علـى (الرضى كان أبـى يذكر عن ءابائه أن أميـر المؤمنيـن علـى بن أبـى طالب) رضى اللـه عنه (كان يقول إن اللـه خلق كل شىء بقدر) أى أوجده على حسب علمه ومشيئته الأزلييـن (حتـى العجز والكيس) أى الضعف فـى الفهم والذكاء (وإليه المشيئة) أى له المشيئة الشاملة والسابقة للمشيئات كلها (وبه الـحول والقوة) أى الابتعاد عن الشر والقوة على فعل الـخيـر أى أن الإنسان لا يستطيع أن يتجنب المعصية إلا أن يـحفظه اللـه ولا يستطيع أن يفعل الـخيـر والطاعة إلا أن يعينه اللـه (فالعباد منساقون إلـى فعل ما يصدر عنهم) أى ينساقون إلـى فعل ما شاء اللـه فـى الأزل وعلم أنـهم يفعلونه ويـحصل ذلك (باختيارهم لا بالإكراه والـجبـر) فهم ليسوا (كالريشة المعلقة) فـى الـهواء (تـميلها الرياح يـمنة ويسرة) بلا اختيار منها (كما تقول الـجبـرية) فالتسوية بيـن العباد وبيـن تلك الريشة إلـحاد وكفر لأنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء اللـه رب العالمين﴾ (ولو لـم يشإ اللـه عصيان العصاة وكفر الكافرين وإيـمان المؤمنين وطاعة الطائعيـن لما خلق الـجنة) للمؤمنين (والنار) للكافرين.
(ومن ينسب للـه تعالـى خلق الـخيـر دون الشر فقد نسب إلـى اللـه تعالـى العجز) وأثبت خالقا غيـر اللـه للشر كما أثبت المجوس خالقيـن خالقا للخيـر وخالقا للشر (ولو كان كذلك) أى لو كان اللـه يـخلق الـخيـر وغيـره يـخلق الشر (لكان للعالـم مدبـران مدبـر خيـر ومدبـر شر وهذا كفر وإشراك) لأنه يستحيل على اللـه أن تكون قدرته قاصرة على بعض الممكنات دون بعض لأن فـى ذلك نسبة النقص إلـى اللـه والنقص عليه مـحال (وهذا الرأى السفيه من جهة أخرى يـجعل اللـه تعالـى فـى ملكه مغلوبا لأنه على حسب اعتقاده اللـه تعالى أراد الـخيـر فقط فيكون قد وقع الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغم إرادته. ويكفر من يعتقد هذا الرأى) الفاسد (لمخالفته قوله تعالـى ﴿واللـه غالب على أمره﴾ أى) منفذ لمراده و(لا أحد يـمنع نفاذ مشيئته).
(و)أما (حكم من ينسب إلـى اللـه تعالـى الـخيـر وينسب إلـى العبد الشر أدبا) أى تأدبا مع اللـه ولا يعتقد أن اللـه ليس خالقا للشر (أنه لا حرج عليه) كأن يقول الـخيـر من اللـه والشر ليس إليه أى لا يتقرب به إليه وليس معناه أن اللـه لـم يشأ وقوع الشر ولا بأس بقول الـخيـر منك أما إفراد الشر بالذكر كقول الشر منك فهو إساءة أدب مع اللـه وكذلك قول اللـه خالق الـخنازير والقردة فإنه إساءة أدب مع اللـه فهو إما حرام وإما مكروه أما قول اللـه خالق الإنس والـجن والملائكة والبهائم والـخنازير والقردة وكل المخلوقات فإن هذا لا ينافـى الأدب (أما إذا اعتقد أن اللـه خلق الـخيـر دون الشر فحكمه التكفيـر) قطعا.
(واعلموا رحـمكم اللـه أن اللـه تعالـى إذا عذب العاصى فبعدله) يعذبه (من غيـر ظلم) له (وإذا أثاب المطيع فبفضله) يثيبه (من غيـر وجوب عليه لأن الظلم) معناه التصرف فـى ملك الغيـر بغيـر إذنه أو مـخالفة أمر ونـهى من له الأمر والنهى و(إنـما يتصور مـمن له ءامر وناه ولا ءامر للـه ولا ناهى له فهو يتصرف فـى ملكه كما يشاء لأنه خالق الأشياء) كلها (ومالكها) الـحقيقى فلا يـحصل منه ظلم (وقد جاء فـى الـحديث الصحيح الذى رواه الإمام أحـمد فـى مسنده والإمام أبو داود فـى سننه وابن حبان) فـى صحيحه (عن ابن الديلمى) أنه (قال أتيت أبـى بن كعب) أى صاحب رسول اللـه ﷺ وكنيته أبو المنذر (فقلت يا أبا المنذر إنه حدث فـى نفسى شىء من هذا القدر) أى خطر لـى خاطر خبيث يتعلق بالقدر (فحدثنـى لعل اللـه ينفعنـى) بكلامك (قال) أبـى بن كعب (إن اللـه لو عذب أهل أرضه وسـمواته) أى لو شاء اللـه فـى الأزل أن يعذب كل عباده من إنس وجن وملائكة (لعذبـهم وهو غيـر ظالـم لـهم ولو رحـمهم كانت رحـمته خيـرا لـهم من أعمالـهم) أى من يرحـمه اللـه وينعمه فـى الآخرة يكون تنعمه بفضل اللـه وكرمه وإحسانه ولا يكون شيئا واجبا على اللـه بسبب عمله، ثـم قال له أبـى (ولو أنفقت مثل) جبل (أحد ذهبا) للجهاد (فـى سبيل اللـه ما قبله اللـه منك حتـى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك) أى من رزق أو مصيبة (لـم يكن ليخطئك) أى لا يـخطئك شىء قدر اللـه وشاء أن يصيبك (وما أخطأك لـم يكن ليصيبك) أى وما لـم يصبك فقد أراد اللـه أن لا يصيبك (ولو مت على غيـر هذا) الاعتقاد لكنت من الكفار و(دخلت النار قال) ابن الديلمى (ثـم أتيت عبد اللـه بن مسعود فحدثنـى مثل ذلك ثـم أتيت حذيفة بن اليمان فحدثنـى مثل ذلك ثـم أتيت زيد بن ثابت فحدثنـى مثل ذلك عن النبـى ﷺ).
(وروى مسلم فـى صحيحه والبيهقى فـى كتاب) القضاء و(القدر عن أبـى الأسود الدؤلـى) وهو من ثقات التابعيـن أنه (قال قال لـى عمران بن الـحصيـن) وهو أحد فقهاء الصحابة المجتهدين (أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه) أى يسعون إليه (أشىء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به) أى هل هو شىء قدره اللـه تعالـى فـى الأزل أنه سيحصل منهم أو هو شىء جديد لـم يسبق به قدر ولـم يسبق فـى علم اللـه فـى الأزل أنه يـحصل منهم أجب عن ذلك (مـما أتاهم به نبيهم وثبتت الـحجة) به (عليهم) أى أريد منك نصا شرعيا (فقلت بل شىء قضى عليهم ومضى عليهم) أى كل ما يعمله العباد حصل منهم بقضاء اللـه وقدره (قال فقال) عمران مـمتحنا (أفلا يكون ظلما) أى إن كان الإنسان يعمل على حسب مشيئة اللـه ثـم حاسبه فـى الآخرة على هذا العمل فعاقبه ألا يكون ظلما (قال) أبو الأسود (ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت كل شىء خلقه وملك يده) فلا يتصور منه ظلم (لا يسئل عما يفعل) لأنه لا ءامر له ولا ناه (وهم يسألون) لأنـهم مأمورون ومنهيون (قال) أبو الأسود (فقال لـى) عمران (يرحـمك اللـه إنـى لـم أرد بـما سألتك إلا لأحزر عقلك) أى أردت أن أمتحن فهمك للدين (إن رجليـن من مزينة) وهى قبيلة من قبائل العرب (أتيا رسول اللـه) ﷺ (فقالا يا رسول اللـه أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مـما أتاهم به نبيهم وثبتت الـحجة عليهم فقال) ﷺ (بل شىء قضى عليهم ومضى عليهم ومصداق ذلك قول اللـه تبارك وتعالـى ﴿ونفس وما سواها فألـهمها فجورها وتقواها﴾) أى أقسم اللـه بالنفس وما سواها أى ومن خلقها على أن اللـه هو الذى يلهم النفوس فجورها وتقواها أى لا يكون شىء من أعمال العباد خيـرها وشرها إلا بـخلق اللـه ومشيئته (وصح حديث فمن وجد خيـرا فليحمد اللـه) أى من عمل الطاعات وتـجنب المعاصى فليحمد اللـه الذى وفقه لذلك (ومن وجد غيـر ذلك) أى من كان عمله خلاف ذلك (فلا يلومن إلا نفسه) لأنه عمله بإرادته واختياره (رواه مسلم من حديث أبـى ذر عن النبـى ﷺ عن اللـه عز وجل. أما الأول وهو من وجد خيـرا فلأن اللـه تعالـى متفضل عليه بالإيـجاد والتوفيق من غير وجوب عليه فليحمد العبد ربه على تفضله عليه) أن وفقه لفعل الـخيـرات (أما الثانـى وهو من وجد شرا فلأنه تعالـى أبرز) أى أظهر (بقدرته) الأزلية (ما كان من ميل العبد السيئ) أى أن اللـه تعالى علم بعلمه الأزلـى ما يـميل إليه العبد من شر فأظهر بقدرته ما كان العبد مستعدا له (فمن أضله اللـه فبعدله) ولا يلومن إلا نفسه (ومن هداه فبفضله) فليحمد ربه (ولو أن اللـه خلق الـخلق) ولـم يبعث الرسل إليهم (وأدخل فريقا الـجنة) لأنه علم بعلمه الأزلـى أنـهم يؤمنون (و)أدخل (فريقا النار لسابق علمه أنـهم لا يؤمنون لكان شأن المعذب منهم ما وصف اللـه بقوله ﴿ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله﴾) أى من قبل إرسال الرسل (﴿لقالوا﴾) أى يوم القيامة (﴿ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا﴾) أى لو أنك أرسلت إلينا رسولا (﴿فنتبع ءاياتك﴾) المنزلة عليه أى لكنا ءامنا بك وبرسولك الذى أرسلته (﴿من قبل أن نذل﴾) أى يوم القيامة (﴿ونـخزى﴾) أى فـى جهنم (فأرسل اللـه الرسل) أى الأنبياء (مبشرين) من أسلم بالثواب العظيم (ومنذرين) من كفر بالعذاب الأليم (ليظهر ما فـى استعداد العبد من الطوع والإباء) أى حتى يظهر ما عند العبد من الاستعداد للطاعة وما عند العبد الآخر من الاستعداد للمعصية (فيهلك من هلك عن بينة) أى عن دليل وحجة قامت عليه (ويـحيا من حى) أى حياة طيبة (عن بينة) أقامها اللـه له (فأخبـرنا) اللـه تعالـى (أن قسما من خلقه مصيـرهم النار بأعمالـهم التـى يعملون باختيارهم وكان تعالـى عالما بعلمه الأزلـى أنـهم لا يؤمنون) ولو شاء اللـه فـى الأزل أن يكون كل الناس مؤمنيـن لـجعلهم مؤمنيـن كما (قال تعالـى ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منـى لأملأن جهنم من الـجنة والناس أجـمعيـن﴾) أى لو شاء اللـه فـى الأزل أن يهتدى الإنس والـجن كلهم لـجعلهم مهتدين لكنه لـم يشأ أن يهتدى الكل إنـما شاء الـهداية لقسم وشاء الضلال لقسم ءاخر (أخبـر اللـه تعالـى فـى هذه الآية أنه قال فـى الأزل ﴿لأملأن جهنم من الـجنة والناس أجـمعين﴾) أى سأملأ جهنم من كفار الإنس والـجن (وقوله) تعالـى (صدق لا يتخلف لأن التخلف أى التغـيـر) فـى خبـره (كذب والكذب مـحال على اللـه) أى مستحيل فـى حقه و(قال تعالـى ﴿قل فلله الـحجة البالغة فلو شاء لـهداكم أجـمعيـن﴾ أى) لو شاء اللـه فـى الأزل أن يهتدى الـجميع لاهتدوا (ولكنه لـم يشأ هداية جـميعكم إذ لـم يسبق العلم بذلك) والمشيئة تابعة للعلم قال الإمام أبو حنيفة رحـمه اللـه الكلام بيننا وبيـن القدرية فـى حرفيـن يقال لـهم هل علم اللـه ما يكون من العباد قبل أن يفعلوا فإن قالوا لا كفروا لأنـهم جهلوا ربـهم وإن قالوا علم يقال لـهم هل شاء خلاف ما علم فإن قالوا نعم كفروا لأنـهم قالوا شاء أن يكون جاهلا وإن قالوا لا رجعوا إلـى قولنا. (فالعباد منساقون إلـى فعل ما يصدر عنهم) أى منساقون إلـى ما شاء اللـه فـى الأزل وعلم أنـهم يفعلونه سواء كان إيـمانا أم كفرا، لا بد أن ينساقوا إليه (باختيارهم لا بالإكراه والـجبـر) فهم ليسوا كالريشة المعلقة فـى الـهواء تأخذها الرياح يـمنة ويسرة بلا اختيار منها بل العباد لـهم اختيار فـى أفعالـهم الاختيارية لكنهم ليسوا خالقيـن لـها.
(واعلم أن ما ذكرناه من أمر القدر ليس من الـخوض الذى نـهى النبـى ﷺ عنه بقوله إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبرانـى لأن هذا تفسيـر للقدر الذى ورد به النص) وتـجب معرفته (وأما المنهى عنه فهو الـخوض فيه للوصول إلـى) معرفة (سره) فهو أمر لـم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبـى مرسل (فقد روى الشافعى والـحافظ ابن عساكر عن) سيدنا (علـى رضى اللـه عنه أنه قال للسائل عن القدر سر اللـه فلا تتكلف) مـحاولة الوصول إلـى معرفة حقيقته (فلما ألـح عليه) السائل (قال له أما إذ أبيت فإنه أمر بيـن أمرين لا جبـر ولا تفويض) أى ليس العبد مـجبـرا على أفعاله بلا اختيار منه وليس الأمر مفوضا إليه بـحيث تـخرج مشيئته عن مشيئة اللـه وإنـما العبد مـختار تـحت مشيئة اللـه.
(واعلم أيضا أن رسول اللـه ﷺ قد ذم القدريـة وهم فرق) متعددة (فمنهم من يقول العبد خالق لـجميع فعله الاختيارى ومنهم من يقول هو خالق الشر) من أفعاله (دون الـخيـر) منها (وكلا الفريقيـن كفار) بالإجـماع وقد (قال رسول اللـه ﷺ القدريـة مـجوس هذه الأمة) رواه البيهقى فـى السنن الكبـرى (وفـى رواية لـهذا الـحديث لكل أمة مـجوس ومـجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر رواه أبو داود) فـى سننه (عن حذيفة عن النبـى ﷺ) فقد شبههم رسول اللـه ﷺ بالمجوس لأنـهم جعلوا للـه شريكا فـى التخليق (وفـى كتاب القدر للبيهقى وكتاب تـهذيب الآثار للإمام ابن جرير الطبـرى رحـمهما اللـه تعالـى عن عبد اللـه بن عمر أن رسول اللـه ﷺ قال صنفان من أمتـى ليس لـهما نصيب فـى الإسلام القدرية والمرجئة) وفـى هذا الـحديث دليل على أن كلا من الفريقيـن كفار (فالمعتزلة هم القدرية لأنـهم جعلوا اللـه والعبد سواسية بنفى القدرة عنه عز وجل على ما يقدر عليه عبده فكأنـهم يثبتون خالقيـن فـى الـحقيقة كما أثبت المجوس خالقيـن خالقا للخيـر هو عندهم النور وخالقا للشر هو عندهم الظلام) والمعتزلة نـحو عشرين فرقة منهم من وصل إلـى حد الكفر كالذين ذكرناهم ومنهم من لـم يصل إلـى ذلك الـحد كالقائليـن إن اللـه لا يرى فـى الآخرة وأما المرجئة فيقولون لا يضر مع الإيـمان ذنب أى أن العبد المؤمن مهما عمل من الكبائر ومات بلا توبة ليس عليه عذاب وقولـهم هذا كفر وضلال لأن المؤمن ينضر بالمعاصى التـى يرتكبها.
(و)ليعلم أن (الـهداية على وجهيـن) أى معنييـن (أحدهـما إبانة الـحق والدعاء إليه) أى بيان الـحق وأمر الناس به (ونصب الأدلة عليه وعلى هذا الوجه يصح إضافة الـهداية إلـى الرسل) أى الأنبياء (وإلـى كل داع للـه كقوله تعالـى فـى رسوله مـحمد ﷺ ﴿وإنك لتهدى إلـى صراط مستقيم﴾) أى إنك يا مـحمد تبيـن وتدل الناس على طريق الـهدى وليس معناه أنك تـخلق الاهتداء فـى قلوبـهم كما قال تعالـى ﴿إنك لا تـهدى من أحببت﴾ أى لا تستطيع أن تـخلق الاهتداء فـى قلب من أحببت اهتداءه ﴿ولكن اللـه يهدى من يشاء﴾ أى يـخلق الاهتداء فـى قلب من شاء له الـهدى. وليعلم أن اللـه تعالـى عصم الأنبياء من أن تـميل قلوبـهم إلـى مـحبة ذات كافر فالأنبياء لا يـحبون ذوات الكفار (و)كذلك (قوله تعالـى ﴿وأما ثـمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الـهدى﴾) معناه أرسلنا لـهم صالـحا فبيـن لـهم طريق الـحق والـهدى وهو الإسلام فكذبوه واختاروا الضلال والكفر فأهلكوا بصيحة كالصاعقة صاحها بـهم جبـريل عليه السلام فتقطعت قلوبـهم فماتوا (و)أما المعنـى (الثانـى) فهو (من جهة هداية اللـه تعالـى لعباده أى خلق الاهتداء فـى قلوبـهم كقوله تعالـى ﴿فمن يرد اللـه أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾) أى من يرد اللـه أن يـجعله مهتديا يـحبب الإسلام إليه (﴿ومن يرد أن يضله يـجعل صدره ضيـقا حرجا﴾) أى ومن شاء له أن يكون كافرا يـحول بينه وبيـن الإيـمان فلا يـحبب الإسلام إليه فيضيق صدره عنه وينفر قلبه منه (والإضلال) معناه (خلق الضلال فـى قلوب أهل الضلال) فهو سبحانه يـخلق الاهتداء فـى قلوب من يشاء من عباده فضلا منه وكرما ويـخلق الضلالة فـى قلوب من يشاء من عباده عدلا منه لا ظلما (فالعباد مشيئتهم تابعة لمشيئة اللـه قال تعالـى ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء اللـه﴾) أى أن العباد لا يـحصل منهم مشيئة إلا أن يشاء اللـه فـى الأزل ذلك (وهذه الآية) صريـحة فـى كون مشيئة العبد تابعة لمشيئة اللـه وهى (من أوضح الأدلة على ضلال جـماعة أميـن شيخو لأنـهم يقولون إن شاء العبد الـهداية يهديه اللـه وإن شاء العبد الضلال يضله اللـه) فهم يـجعلون مشيئة اللـه تابعة لمشيئة العبد (فماذا يقولون فـى هذه الآية ﴿فمن يرد اللـه أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾ فإنـها صريـحة فـى سبق مشيئة اللـه على مشيئة العبد لأن اللـه) تعالـى (نسب المشيئة إليه وما ردها إلـى العباد فأولئك كأنـهم قالوا من يرد العبد أن يشرح صدره للإسلام يشرح اللـه صدره ثـم قوله) تعالـى (﴿ومن يرد أن يضله﴾) يشهد لذلك (فلا يـمكن أن يرجع الضميـر فـى يرد أن يضله إلـى العبد لأن هذا يـجعل القرءان ركيكا ضعيف العبارة والقرءان) فـى (أعلى) درجات (البلاغة لا يوجد فوقه بلاغة فبان بذلك جهلهم العميق وغباوتـهم الشديدة. وعلى موجب كلامهم يكون معنـى الآية ﴿فمن يرد اللـه أن يهديه يشرح صدره للإسلام﴾ أن العبد الذى يريد أن يهديه اللـه يشرح اللـه صدره للهدى وهذا عكس اللفظ الذى أنزله اللـه وهكذا كان اللازم على موجب اعتقادهم أن يقول اللـه والعبد الذى يريد أن يضله اللـه يـجعل صدره ضيقا حرجا و)حـمل الآية على (هذا) المعنـى (تـحريف للقرءان لإخراجه عن أساليب اللغة العربية التـى نزل بـها القرءان وفهم الصحابة القرءان على موجبها والدليل على أنـهم) أى الصحابة (يفهمون القرءان على خلاف ما تفهمه هذه الفرقة) الشاذة (اتـفاق المسلمين سلفهم وخلفهم على قولـهم ما شاء اللـه كان وما لـم يشأ لـم يكن).
(تقدير اللـه لا يتغير)
(اعلم أن تقدير اللـه تعالـى الأزلـى لا يغيره شىء لا دعوة داع ولا صدقة متصدق ولا صلاة مصل) ولا صلة رحم (ولا غيـر ذلك من الـحسنات بل لا بد أن يكون الـخلق على ما قدر) اللـه (لـهم فـى الأزل) أى لا بد أن يتنفذ ما قدر اللـه أن يصيبهم (من غيـر أن يتغير ذلك) بدليل الـحديث القدسى الذى رواه مسلم قال رسول اللـه ﷺ قال اللـه تعالـى يا مـحمد إنـى إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد (وأما قول اللـه تعالـى ﴿يـمحو اللـه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ فليس معناه أن المحو والإثبات) يـحصل (فـى تقدير اللـه) أى ليس معناه أن مشيئة اللـه تتغير (بل المعنـى فـى هذا أن اللـه جل ثناؤه قد كتب) فـى اللوح المحفوظ (ما يصيب العبد من عباده من البلاء والـحرمان والموت وغيـر ذلك) إن لـم يدع ربه أو لـم يصل رحـمه (و)كتب (أنه إن دعا اللـه تعالـى أو أطاعه فـى صلة الرحم وغيـرها لـم يصبه ذلك البلاء ورزقه) رزقا (كثيـرا أو عمره طويلا) وهذا يقال له القضاء المعلق أى ما كتب على وجه التعليق فـى صحف الملائكة الذى تنسخه من اللوح المحفوظ (وكتب فـى أم الكتاب) أى فـى اللوح المحفوظ (ما هو كائن) أى ما يـحصل (من الأمرين فالمحو والإثبات) المذكور فـى هذه الآية (راجع إلـى أحد الكتابيـن) أى ما فـى صحف الملائكة (كما أشار إليه ابن عباس) رضى اللـه عنهما (فقد روى البيهقى) فـى كتاب القضاء والقدر (عن ابن عباس فـى قول اللـه عز وجل ﴿يـمحو اللـه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ قال يـمحو اللـه ما يشاء من أحد الكتابيـن هـما كتابان) أحدهـما الذى كتب فـى اللوح المحفوظ والآخر الذى فـى أيدى الملائكة الذين أمروا بالاستنساخ من اللوح (يـمحو اللـه ما يشاء من أحدهـما ويثبت وعنده أم الكتاب) أى جـملة الكتاب معناه اللوح المحفوظ يشتمل على الممحو والمثبت ولا يكون المحو فيه (والمحو يكون فـى غيـر الشقاوة والسعادة) لأن الشقاوة والسعادة لا يدخلهما المحو والإثبات (فقد روى البيهقى أيضا) فـى كتاب القضاء والقدر (عن مـجاهد) بن جبـر تلميذ ابن عباس (أنه قال فـى تفسيـر قول اللـه تعالـى ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ يفرق فـى ليلة القدر) كل أمر مبـرم أى (ما يكون فـى) تلك (السنة من رزق أو مصيبة) أى يعلم اللـه الملائكة فـى هذه الليلة بـما يـحصل للعباد فـى السنة القادمة (فأما كتاب الشقاء والسعادة فإنه ثابت لا يغير، فلذلك لا يصح) ولا يثبت (عن رسول اللـه ﷺ الدعاء) الذى يعمل به بعض الناس فـى ليلة النصف من شعبان (الذى فيه إن كنت كتبتنـى فـى أم الكتاب عندك شقيا فامح عنـى اسم الشقاء وأثبتنـى عندك سعيدا وإن كنت كتبتنـى فـى أم الكتاب مـحروما مقتـرا على رزقـى فامح عنـى حرمانــى وتقتيـر رزقـى وأثبتنـى عندك سعيدا موفقا للخيـر فإنك تقول فـى كتابك ﴿يـمحو اللـه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ ولا ما أشبهه ولـم يصح هذا الدعاء أيضا عن) سيدنا (عمر ولا عن مـجاهد ولا عن غيـرهـما من السلف كما يعلم ذلك من كتاب القدر للبيهقى) فينبغى تـحذير الناس من ذلك لأن الـجاهل الذى لـم يتعلم العقيدة عندما يقرؤه يظن أن اللـه يغير مشيئته تلك الليلة.
(وليعلم أن مشيئة اللـه وتقديره لا يتغيــران لأن التغـيـر مستحيل على اللـه وأما حديث) ابن ماجه (لا يرد القدر شىء إلا الدعاء فهذا راجع إلـى القدر المعلق) و(ليس إلـى القدر المبـرم) لأنه لا يغير. والقدر المبـرم هو الذى لـم يكن فيه تعليق فـى اللوح ولا فـى صحف الملائكة.
(تقسيم الأمور إلـى أربعة)
(الأمور على أربعة أقسام الأول شىء شاءه اللـه) أى شاء حصوله (وأمر به وهو إيـمان المؤمنيـن وطاعة الطائعيـن والثانـى شىء شاءه اللـه ولـم يأمر به وهو عصيان العصاة وكفر الكافرين إلا أن اللـه) تعالـى (لا يـحب الكفر مع أنه خلقه) بقدرته وحصل (بـمشيئته ولا يرضاه لعباده) كما (قال تعالـى ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾) وكذلك سائر المعاصى والمكروهات لا يـحبها اللـه (والثالث أمر لـم يشأه اللـه) أى لـم يشأ حصوله (وأمر به وهو الإيـمان بالنسبة للكافرين الذين علم اللـه أنـهم يـموتون على الكفر) فإنـهم (أمروا بالإيـمان ولـم يشأه لـهم) أى لـم يشإ اللـه أن يكونوا مؤمنيـن. والأمر غيـر المشيئة بدليل أن اللـه تعالـى أمر إبراهيم بذبح ولده إسـماعيل ولـم يشأ أن يذبح بل فدى إسـماعيل بكبش من الـجنة جاء به جبـريل (والرابع أمر لـم يشأه) اللـه (ولـم يأمر به وهو الكفر بالنسبة للأنبياء والملائكة) نـهاهم اللـه عنه وعلم أنـهم لا يأتونه (ومن كان مؤمنا بالقرءان الكريـم فليقف عند قوله تعالـى ﴿لا يسئل عما يفعل﴾) لأنه لا ءامر له ولا ناه (﴿وهم يسألون﴾) لأنـهم مأمورون ومنهيون (فلا يقال كيف يعذب العصاة على معاصيهم التـى شاء وقوعها منهم فـى الآخرة) لأن اللـه يتصرف فـى ملكه الذى هو يـملكه حقيقة لا مـجازا فكيف يعتـرض عليه.
(توحيد اللـه فـى الفعل)
التوحيد هو اعتقاد أن اللـه واحد فـى ذاته أى ليس مركبا فلا يقبل الانقسام لأنه منزه عن الـحد والـحجم وواحد فـى صفاته أى صفاته لا تشبه صفات غيـره لأنـها أزلية أبدية وواحد فـى فعله. ومعنـى توحيد اللـه فـى الفعل أنه يفعل بـمعنـى الإخراج من العدم إلـى الوجود ولا فاعل على هذا الوجه إلا اللـه أى أن اللـه لا شريك له فـى الـخلق والإبراز من العدم إلـى الوجود و(روى عن الـجنيد) البغدادى (إمام الصوفية العارفيـن عندما سئل عن التوحيد أنه قال اليقيـن ثـم استفسر عن معناه فقال إنه لا مكون لشىء من الأشياء من الأعيان) أى الأحجام (والأعمال خالق لـها إلا اللـه تعالـى) وقال رضى اللـه عنه التوحيد إفراد القديـم من المحدث أى لا تشابه بيـن القديـم وهو اللـه والمحدث وهو العالـم بأسره. (قال) اللـه (تعالـى ﴿واللـه خلقكم وما تعملون﴾) أى وعملكم (وقال الرسول ﷺ إن اللـه صانع كل صانع وصنعته) أى إن اللـه خالق كل عامل وعمله (رواه الـحاكم والبيهقى من حديث حذيفة) وفـى هذا إبطال لقول المعتزلة القائليـن بأن العبد يـخلق أفعاله بقدرة خلقها اللـه فيه (إذ العباد لا يـخلقون شيئا من أعمالـهم وإنـما يكتسبونـها فقد قال اللـه تعالـى ﴿اللـه خالق كل شىء﴾ تـمدح) اللـه (تعالـى) أى مدح نفسه (بذلك لأنه) أى التخليق (شىء يـختص به وذلك يقتضى العموم والشمول للأعيان والأعمال والـحركات والسكنات) ولو لـم يكن اللـه خالق ذلك كله لـم يكن فـى ذلك تـمدح له (وقال تعالـى ﴿قل إن صلاتـى ونسكى ومـحياى ومـماتــى للـه رب العالميـن لا شريك له﴾) أى إن الصلاة التـى أصليها وما أذبـحه تقربا إلـى اللـه وحياتــى وموتــى ملك للـه وخلق له لا شريك له فـى ذلك (﴿وبذلك﴾) أى بتوحيد اللـه (﴿أمرت وأنا أول المسلميـن﴾ ساق اللـه الصلاة والنسك والمحيا والممات فـى مساق واحد وجعلها ملكا له فكما أن اللـه خالق الـحياة والموت) وهـما من الأفعال غيـر الاختياريـة (كذلك اللـه خالق للأعمال الاختياريـة كالصلاة والنسك و)خالق (الـحركات الاضطراريـة) أى غيـر الاختياريـة (من باب الأولـى وإنـما تـمتاز الأعمال الاختياريـة أى التـى لنا فيها ميل) واختيار (بكونـها مكتسبة لنا فهى مـحل التكليف) أى يـحاسب العبد على فعلها فما كان منها خيـرا يثاب عليه وما كان منها شرا يؤاخذ عليه (والكسب الذى هو فعل العبد وعليه يثاب أو يؤاخذ فـى الآخرة هو توجيه العبد قصده وإرادته نـحو العمل أى يصرف إليه قدرته فيخلقه اللـه عند ذلك فالعبد كاسب لعمله واللـه تعالى خالق لعمل هذا العبد الذى هو كسب له وهو من أغمض المسائل فـى هذا العلم) أى علم الكلام (قال اللـه تعالـى ﴿لـها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾) أى النفس تنتفع بـما كسبته من الـخير وتنضر بـما اكتسبته من عمل الشر وفـى هذه الآية إثبات الكسب للعبد (فليس الإنسان مـجبورا لأن الـجبـر ينافـى التكليف) فلو كان مـجبورا لـم يكن مكلفا بل الإنسان مـختار تـحت مشيئة اللـه أى له اختيار تابع لمشيئة اللـه لا هو مـختار استقلالا عن مشيئة اللـه ولا هو مـجرد من الاختيار (وهذا هو المذهب الـحق وهو خارج عن الـجبـر والقدر أى) خارج عن (مذهب الـجبـريـة) القائلين بأن العبد لا فعل له بالمرة فنفوا عنه التكليف (والقدريـة) القائليـن بأن العبد يـخلق أفعاله.
(ويكفر من يقول إن العبد يـخلق أعماله كالمعتزلة كما قال ابن عباس رضى اللـه عنه كلام القدريـة كفر) لأنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿قل اللـه خالق كل شىء﴾. (والقدريـة هم المعتزلة قال) الإمام (أبو يوسف) القاضى صاحب أبـى حنيفة (المعتزلة زنادقة) أى مثل الزنادقة وهم الملحدون الذين لا دين لـهم (ووصفهم) الإمام (أبو منصور التميمى) البغدادى (فى كتابه الفرق بيـن الفرق بأنـهم مشركون. وأبو منصور هو الذى قال فيه ابن حجر الـهيتمى هذه العبارة وقال الإمام الكبيـر إمام أصحابنا أبو منصور البغدادى. وهو مـمن كتب عنه البيهقى فـى الـحديث. ولا تغـتـر بعدم تكفيـر بعض المتأخرين لـهم) كصاحب كتاب الإقناع بشرح أبـى شجاع (فقد نقل الأستاذ أبو منصور التميمى البغدادى فـى كتابه أصول الدين وكذلك فـى كتابه تفسيـر الأسـماء والصفات تكفيـرهم عن الأئمة) فإنه (قال فـى كتابه تفسيـر الأسـماء والصفات أصحابنا أجـمعوا على تكفيـر المعتزلة أى الذين يقولون) بأن (العبد يـخلق أفعاله الاختيارية وكذلك الذين يقولون فرض على اللـه أن يفعل ما هو الأصلح للعباد وقوله) أى أبـى منصور (أصحابنا يعنـى به الأشعريـة والشافعيـة لأنه أشعرى شافعى بل هو رأس كبيـر فـى الشافعيـة كما قال ابن حجر) الـهيتمى (وهو إمام مقدم فـى النقل معروف بذلك بيـن الفقهاء والأصولـييـن والمؤرخيـن الذين ألفوا فـى الفرق فمن أراد مزيد التأكد فليطالع كتبه هذه فلا يدافع نقله بكلام الباجورى وأمثاله) من المتأخرين (مـمن هو من قبل عصره أو بعده).
(وأما كلام بعض المتقدميـن من ترك تكفيـرهم) أى المعتزلة (فمحمول على مثل بشر) بن غياث (المريسى والمأمون) بن الرشيد (العباسى فإن بشرا كان موافقهم فـى القول بـخلق القرءان) أى فـى إطلاق لفظ القرءان مـخلوق ولـم يرد بذلك أن كلام اللـه الذى هو صفته مـخلوق (وكفرهم فـى القول بـخلق الأفعال) أى فـى قولـهم إن العبد يـخلق أفعاله (فلا يـحكم على جـميع من انتسب إلـى الاعتزال بـحكم واحد) لأن منهم من وصل إلـى حد الكفر بإنكارهم للصفات الواجبة للـه كالعلم والقدرة ومنهم من لـم يصل إلـى حد الكفر كالقائلين بنفى رؤية أهل الـجنة لربـهم (ويـحكم على كل فرد منهم بكونه ضالا) لأنه خالف أهل السنة فـى الاعتقاد.
(الدليل العقلى على فساد قول المعتزلة بأن العبد يـخلق أفعاله)
(قال أهل الـحق امتنع خلق العبد لفعله لعموم قدرة اللـه تعالـى وإرادته وعلمه) أى أن قدرة اللـه وإرادته عامة شاملة فكيف تكون خاصة بالأجسام دون أعمال العباد الاختياريـة كما تقول المعتزلة، هذا لا يقبله العقل. لو كانت قدرة اللـه مقتصرة على الأجسام دون الأعمال الاختياريـة لكان للـه مـخصص يـخصص قدرته ببعض الممكنات دون بعض وفـى ذلك نسبة النقص إلـى اللـه (وبيان الدليل على ذلك أن قدرة اللـه عامة وعلمه عام وإرادته عامة فإن نسبتها إلـى الممكنات نسبة واحدة) أى أنـها تتعلق بـجميع الممكنات (فإن وجود الممكن العقلـى إنـما احتاج إلـى) الإلــٰه (القادر من حيث إمكانه وحدوثه) أى من حيث كونه مـمكن الوجود وكونه حادثا أى مـخلوقا فهو مـحتاج إلـى الإلــٰه لإيـجاده وإحداثه (فلو تـخصصت صفاته هذه ببعض الممكنات) أى لو تعلق علمه وقدرته ومشيئته ببعض الممكنات دون بعض (للزم اتصافه تعالـى بنقيض تلك الصفات من الـجهل والعجز وذلك نقص والنقص عليه مـحال ولاقتضى تـخصصها) أى تـخصص هذه الصفات ببعض الممكنات دون بعض (مـخصصا وتعلق المخصص) عندئذ (بذات الواجب الوجود) أى ذات اللـه (وصفاته و)لا يـجوز (ذلك) لأنه (مـحال فإذا ثبت عموم صفاته) من علم وقدرة ومشيئة. (فلو أراد اللـه تعالـى إيـجاد حادث وأراد العبد خلافه ونفذ مراد العبد دون مراد اللـه) كما تقول المعتزلة لكان الرب عاجزا و(للزم المحال المفروض فـى إثبات إلــٰهيـن) أى لكان وجود إلــٰهيـن جائزا يقبله العقل (وتعدد الإلــٰه) باطل (مـحال بالبـرهان) أى الدليل العقلى والنقلى (فما أدى إلـى المحال) فهو (مـحال) أى مستحيل الوجود.
(إثبات أن الأسباب العادية لا تؤثر على الـحقيقة وإنـما المؤثر الـحقيقى هو اللـه)
(اعلم رحـمك اللـه أنه لا تلازم عقلى بيـن فقدان الأكل وبيـن المرض وذهاب الصحة وانـهدام البنية وكذلك سائر الأسباب العاديـة يصح عقلا أن تتخلف مفعولاتـها) أى مسبباتـها فإبراهيم عليه السلام أجرى السكيـن على حلق ولده إسـماعيل فلم تقطع ورماه قومه فـى النار العظيمة فلم تـحرقه ولا ثيابه وإنـما أحرقت القيد الذى قيدوه به وأبو مسلم الـخولانــى رضى اللـه عنه رماه الأسود العنسى فـى النار فلم يـحتـرق وعبد الرحـمـٰن بن أبـى نعم الولــى الصالح حبسه الـحجاج ابن يوسف فـى سجن خـمسة عشر يوما من غيـر أكل وشرب ثـم أمر بإخراجه فوجده صحيحا فأعفاه من القتل ورحـمة بنت إبراهيم التـى عاشت دهرها ولا أكل يدخل جوفها وهى امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا كأنـها أطعمت فـى منامها شيئا فهى لا تأكل شيئا ولا تشرب فالأكل لا يـخلق الشبع وترك الأكل لا يـخلق الضرر فهذا يدل على أن الأسباب لا تـخلق مسبباتـها (وأن الأشياء) تـحصل (بـمشيئة اللـه تعالـى و)هذه القصة التـى حصلت لـهذه المرأة فيها دلالة على (أن الشهداء لـهم حياة برزخيـة) أى فـى مدة القبـر إلـى قـيام الساعة فتتنعم أرواحهم فـى الـجنة ويصل أثر هذا النعيم إلـى أجسادهم فـى القبور فلا تبلى أجسادهم ويبقى جريان الدم فيها (فسبحان) اللـه (القدير على كل شىء).
(تنبيه مهم)
(لا يعفى الـجاهل مـما ذكرناه من الأصول) أى أصول العقيدة (ولا يعذر فيما يقع منه من الكفر لعدم اهتمامه بالدين) فإن اللـه تعالـى فرض على المكلف أن يتعلم قدرا من العلم يصحح به عقيدته ويـحفظ به إسلامه عما يفسده ويبطله (ولو كان الـجهل يسقط المؤاخذة) أى العقوبة فـى الآخرة (لكان الـجهل خيـرا) للناس (من العلم وهذا خلاف قوله تعالـى ﴿قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾) فإنه يدل على أن العلم خيـر من الـجهل والنصوص الدالة على ذلك كثيـرة (إلا أن من كان قريب عهد بإسلام) أى أسلم من وقت قريب (ونـحوه) كمن نشأ فـى بلد بعيد عن أهل العلم أو نشأ بيـن المسلميـن ولـم يعلمه أهله ولا غيـرهم أمور الدين إلا الشهادتيـن فإنه (لا يكفر بإنكار) حكم من الأحكام التـى لا تعرف إلا بالنقل كإنكار (فرضية الصلاة وتـحريـم الـخمر ونـحو ذلك إن لـم يكن سـمع أن هذا) الـحكم من (دين الإسلام) ولـم يكن الأمر الذى أنكره نـحو تنزيه اللـه عن الشبيه وتنزيهه عن التحيز فـى الـجهة والمكان وكل صفات المخلوقيـن ونـحو تنزيه الأنبياء عما لا يليق بـهم كالكذب والـخيانة والرذالة والسفاهة والـجبـن والبلادة أى الغباوة. (والفرض الأول) على المكلف (فـى حق الأهل) كالأولاد (تعليمهم أصول العقيدة كيلا يقعوا فـى الكفر بـجهلهم بالعقيدة) فإن الأولاد إن تركوا بلا تعليم قد يعتقدون أن اللـه يسكن السماء أو الكعبة أو أنه جسم قاعد فوق العرش فيهلكون (فإن اعتقدوا أن اللـه جسم نورانــى أبيض أو نـحو ذلك فاستمروا بعد البلوغ على ذلك فماتوا عليه خلدوا فـى النار نتيجة اعتقاداتـهم الفاسدة) هذه (قال الفضيل بن عياض) رضى اللـه عنه لا تستوحش طرق الـهدى لقلة أهلها و(لا يغرنك كثرة الـهالكيـن) أى لا تتـرك طريق السلامة ولو قل سالكوها ولا تنظر إلـى كثرة من يتخبط بالمعاصى والـجهل (فهل هذا الـجهل فـى العقيدة هو نتيجة مـحبة الأهل لأبنائهم) أو هو نتيجة ترك الاهتمام بـهم (وقد قال اللـه تعالـى ﴿وما خلقت الـجن والإنس إلا ليعبدون﴾ وجاء فـى تفسيـر) هذه (الآية أى وما خلق اللـه الـجن والإنس إلا ليأمرهم بعبادته. وبعد أن جاءنا الـهدى وهو الرسول ﷺ وقامت علينا الـحجة به فلا عذر لنا) بتقصيـرنا أما من لـم تبلغه دعوة الأنبياء فلا يعذبه اللـه فـى الآخرة بنار جهنم (قال تعالـى ﴿وما كنا معذبيـن حتـى نبعث رسولا﴾).
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/Oo3MP8yY5HA?si=Sn06tWzWrHTaqPsS
للاستماع إلى الدرس: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/sirat-6
الموقع الرسمي للشيخ جيل صادق: https://shaykhgillessadek.com