#53 14-24 سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام
الحمد لله مكوّن الأكوان الموجود أزلا وأبدا بلا مكان أما بعد، بعد أن جاوز نبيُّ الله موسى عليه السلام البحرَ بمن معه من بني إسرائيل، أتَوا على قومٍ كافرينَ يعكِفون على أصنامٍ لهم قيل كانت على صُوَرِ البقرِ يعبدُونَها من دونِ الله عز وجل، فأراد بعضُ الجهلةِ الذين ركِبهُمُ الجهلُ والضَلال وأظلَّهمُ الشيطانُ أن يتشبهوا بهؤلاء المشركين الذين مرُّوا بهم مع أصنامِهم، فقالوا لنبيِ الله موسى عليه السلام: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم ءالهة، فغَضِب موسى عليه السلام غضبًا شديدًا من هذا الكلامِ الكفري الذي يَدُلُّ على عظيمِ جهلِهم، مع ما قد كانوا عاينوا قبلَ ذلكَ من ءاياتِ الله تعالى الدالّةِ على عظيمِ قدرتِه وعلى صِدقِ ما جاءَهم به نبيُّهم موسى عليه السلام، ورَدَّ عليهم نبيُّهم مُستنكرًا لمقولتهم هذه وبيّن لهم أنّ هؤلاءِ المشركينَ الذين يعبُدون هذه الأصنامَ التي لا تَضُرّ ولا تنفَع في هلاكٍ ودمارٍ لا يَعقِلونَ ولا يَهتدُون وعَملُهم هذا باطلٌ لا يوافقُ العقلَ السليم. ثم أمر اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه موسى عليه السلام أن يَتوجهَ بالمؤمنين من بني إسرائيلَ إلى بيتِ المقدِسِ في فِلسطين، فخرجَ بهم موسى عليه السلام حتى إذا كانوا في الطريقِ عَطِشوا عَطشًا شديدًا، فشكَوْا ذلك إلى نبيِّهم موسى عليه السلام مُتذمِّرينَ وطلَبوا منه الماءَ والسُّقيا، فأمرَه الله تبارك وتعالى أن يَضْرِبَ الحجَرَ الذي كانَ معَه بعصاهُ فلما ضربَه بعصاهُ تفجَّرت منهُ بقدرةِ الله تعالى اثنتا عشرةَ عينًا لكلِ سِبْطٍ من أسباطِهم عينٌ تَجري بالماء العذبِ الزُّلالِ يشرَبون منها، وأرسل الله سبحانَه لهم من السماءِ المنَّ والسَّلْوى رِزقًا منه تعالى وفَضلًا وكرمًا يَحصُلون عليه من دونِ جَهْدٍ أو تعَب. ثم إنَ كثيرًا منهم ضَجِر وتبرَّم وسألوا موسى أن يَستَبْدِلوا منها بِبَدَلِها مما تُنبِتُ الأرضُ من بَقْلِها وقِثّائها وفُومِها وعَدَسِها وبصَلِها فوبَّخهم موسى ونَصحَهم. ولما انفصَلَ موسى عليه السلامُ بِمَن معَه من بني إسرائيل وواجَه بلادَ بيتِ المقدِس في فِلسطين وجدَ عليه السلامُ فيها قومًا من الجبارينَ الظالمينَ المعروفينَ بكفرِهم وجَبَروتِهم وكانوا من الكَنْعانيين ومن بقايا الحِيثانيين وغيرِهم، فأمرهُم عندَ ذلكَ موسى عليه السلام بالدخولِ على هؤلاءِ الجبّارينَ ومقاتَلتِهم وإجلائِهم عن بيتِ المقدِس التي كتبَها الله تعالى لهم ووَعدَهم بها، ولكنّهم أبَوْا ورَفضوا الجهادَ وجَبُنوا عن مُقاتلَة هؤلاء الأعداءِ الكافرينَ الذين كانوا ذَوِي قوةٍ وبأس، وأمامَ هذا الموقفِ الْمُخْزِي من جانب هؤلاءِ تقدّمَ رجلانِ من الذين يخافونَ الله تعالى وقد أنعمَ الله تعالى عليهما بالإسلامِ والإيمانِ والطاعةِ والشجاعةِ والثباتِ وأشارا عليهِم بالجِهادِ وأن يَدخُلُوا على هؤلاءِ الجبَّارينَ من بابِ القريةِ ليَمتلئوا منهم خوفًا ورُعبًا، وطلبا منهم أن يَتوكلُوا على الله تعالى حقَّ توكُّلِه وأن يَستَعينوا به ويلتجئوا إليه ليَنصُرَهم على هؤلاءِ الطُغاةِ الجبارينَ ويُظَفِّرَهم بهم. وأمامَ هذا الموقِفِ المشرِّف الذي وقفَه هذانِ الرجلانِ المؤمنانِ اللذانِ يَخافانِ الله تبارك وتعالى، وقع أمرٌ عظيمٌ كبيرٌ من جانِبِ بني إسرائيلَ إذ صَمَّمَ أكثرُهم على رَفْضِ الجهادِ والتَقاعُسِ عنه ، فعاقَبَهمُ الله تعالى بسبَبِ مخالفتِهم نبيَّهم موسى وعِصيانِهم أمرَه بالتِّيهانِ في الأرضِ يَسيرُونَ إلى غَيرِ مقصِدٍ ليلًا ونهارًا وصباحًا ومساءً، يَحُلُّون ويرتَحِلون ويَذهبون ثم يرجِعُون إلى مكانِهمُ الذي ذَهبوا منه طيلَة أربعينَ سنة، حتى ماتَ هؤلاءِ كلُّهم في مُدةِ أربعينَ سنة ولم يَبقَ إلا أولادُهم وذَراريُّهم سِوى هذينِ الرجلينِ اللذيْنِ يخافانِ اللهَ تبارك وتعالى وقيل هما: يوشَعُ بنُ نُون وكالِبُ بنُ يُوفْنا وكانا رجلين صالحيْن. والله تعالى أعلم وأحكم.