الأربعاء مايو 21, 2025

#5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صَادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

 

(اَلْمِيزَانُ حَقٌّ، أَيْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ. قَالَ تَعَالَى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وَهُوَ كَمِيزَانِ الدُّنْيَا لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ تُوزَنُ بِهِ الأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى وَزْنَهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَمَا يُوزَنُ إِنَّمَا هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنَ الطَّبَقَةِ الأُولَى وَأَرْفَعُ مِنَ الثَّالِثَةِ، أَي أَرْفَعُ مِنَ الَّذِينَ تَكُونُ سَيِّئَاتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ ﷺ عَلَى أَنْ لَا يَسْرِقُوا وَلَا يَزْنُوا وَلَا يَعْصُوا… إِلَخ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ ﷺ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ فَعَلَ وَلَمْ يُعَاقَبْ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ. هَذَانِ الحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّهُ لَا حَسَنَاتَ لَهُ فِي الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُطْعِمَ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَالَّذِينَ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ مَعَ سَيِّئَاتِهِمْ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُؤَخَّرُونَ بُرْهَةً عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ. يَكُونُونَ عَلَى الأَعْرَافِ عَلَى أَعْلَى سُورِ الْجَنَّةِ. الْجَنَّةُ لَهَا سُورٌ يُحِيطُ بِهَا وَسُورُهَا عَرِيضٌ وَاسِعٌ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ أَيْ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَاجِزٌ، وَهُوَ السُّورُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ وَالسُّورُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الأَخِيرَةِ هُوَ الْحِجَابُ الْمَضْرُوبُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾ أَيْ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَاجِزٌ، وَهَذَا الْحَاجِزُ هُوَ سُورُ الْجَنَّةِ (أَيْ حَائِطُ الْجَنَّةِ). وَأَعْلَى هَذَا السُّورِ يُقَالُ لَهُ الأَعْرَافُ. فَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ، أَهْلُ الأَعْرَافِ، يَمْكُثُونَ عَلَى سُورِ الْجَنَّةِ مِنْ جِهَةِ أَعْلَاهُ فَيَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِسِيمَاهُمْ، أَيْ يَعْرِفُونَ أَهْلَهَا بِبَيَاضِ وُجُوهِهِمْ وَيَعْرِفُونَ أَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ. فَيُنَادِي أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَيَقُولُونَ عِنْدَمَا يَرَوْنَ أَهْلَ النَّارِ ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أَيْ يَنْظُرُ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ نَحْوَ أَصْحَابِ النَّارِ، فَيَرَوْنَ رِجَالًا كَانُوا يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُنَادُونَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَيَقُولُونَ مَا أَغْنَى جَمْعُكُمْ فِي الدُّنْيَا لِلْمَالِ وَالْوَلَدِ وَتَكَبُّرُكُمْ. وَيَكُونُ أَهْلُ النَّارِ قَدْ أَقْسَمُوا أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ سَيَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فَيَدْخُلُ أَهْلُ الْأَعْرَافِ الْجَنَّةَ. وَبَعْدَمَا يَصِيرُونَ فِيهَا يَطْمَعُ أَهْلُ النَّارِ فِي الْفَرَجِ بَعْدَ الْيَأْسِ فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا إِنَّ لَنَا قَرَابَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَائْذَنْ لَنَا حَتَّى نَرَاهُمْ وَنُكَلِّمَهُمْ. فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَعْرِفُونَهُمْ. وَيَنْظُرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ فَلَا يَعْرِفُونَهُمْ بَعْدَمَا اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ. فَيُنَادِي أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِقَرَابَاتِهِمْ. ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾. ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُّمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ أَهْلُ الْأَعْرَافِ لَيْسُوا هُمْ آخِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ رَبِّ الْجَنَّةُ مَلْأَى. فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ مَلْأَى. فَيَقُولُ إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَارٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)

(فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا وَتَحْذِيرٌ مِنْ عَمْرِو خَالِدٍ:

 يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ سَيِّئَاتِهِ تُـمْحَى، ثُمَّ يُسَجَّلُ لَهُ مَكَانَهَا الْحَسَنَاتُ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ. لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تَنْقَلِبُ حَسَنَاتٍ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُ تُغْفَرُ لَهُ مَعَ كُفْرِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا عَمِلَ حَسَنَاتٍ فَإِنَّ اللَّهَ يُسَجِّلُهَا لَهُ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي مُحِيَتْ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَعَاصِيَهُ تَنْقَلِبُ حَسَنَاتٍ. مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يَنْقَلِبُ كُفْرُهُ وَمَعَاصِيهِ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ حَسَنَاتٍ فَقَدْ كَفَرَ. وَمِنْ أَشْنَعِ مَفَاسِدِ عَمْرِو خَالِدٍ وَتَحْرِيفَاتِهِ أَنَّهُ فِي مُحَاضَرَتِهِ الْمُسَمَّاةِ (التَّوْبَةُ) قَالَ “إِنَّ الطَّائِعِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْسُدُونَ الْعُصَاةَ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ الَّتِي انْقَلَبَتْ حَسَنَاتٍ” وَهَذَا كُفْرٌ. ثُمَّ قَالَ فِي الْعَاصِي الَّذِي تَابَ “كُلُّ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَرَكَهَا انْقَلَبَتْ حَسَنَاتٍ، وَالْمَالُ الْحَرَامُ الَّذِي أَكَلَهُ انْقَلَبَ حَسَنَاتٍ” وَهَذَا كُفْرٌ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ هَذَا الرَّجُلِ الدَّجَّالِ. كَلَامُهُ تَحْرِيفٌ لِلدِّينِ وَدَعْوَةٌ مُبَطَّنَةٌ لِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. فَمَعْنَى كَلَامِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَنَّ طَرِيقَ الْعِصْيَانِ أَفْضَلُ مِنْ طَرِيقِ الطَّاعَةِ)

  * وَالإِيْمَانُ بِالنَّارِ أَيْ جَهَنَّمَ أَيْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ إِنَّهَا تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ (قَالَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ حَادِي الأَرْوَاحِ). وَقَدْ قَالَ (ابْنُ تَيْمِيَةَ) قَبْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ (مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ) اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَهَمُ بنُ صَفْوَانَ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّارُ تَفْنَى وَلا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ فَكَمَا كَفَّرَ هُوَ جَهْمًا لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ يُكَفَّرُ هُوَ لِقَوْلِهِ بِفَنَاءِ النَّارِ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ وَلِلإِمَامِ السُّبْكِيِّ رَدٌّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ سَمَّاهُ (الِاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) وَجَهَنَّمُ دَارُ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِلْكَافِرِينَ لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا وَأَمَّا بَعْضُ الْعُصَاةِ فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا مُدَّةً ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّارِ وَلا يَرْضَوْنَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَهُوَ كُفْرٌ تَكْذِيبٌ لِلنُّصُوصِ.

(النَّارُ حَقٌّ أَيْ وُجُودُهَا ثَابِتٌ، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَحَدِيثِ أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ وَأَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ وَأَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهِيَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعَذَابِ الْكُفَّارِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي أَبَدًا وَبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِهَا بَلْ تَحْتَهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا، لَهَا أَرْضُهَا وَسَقْفُهَا الْمُسْتَقِلَّانِ. وَيَزِيدُ اللَّهُ فِي حَجْمِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا حَتَّى يَكُونَ ضِرْسُهُ كَجَبَلِ أُحُدٍ. أَمَّا طُولُ الْكَافِرِ فِي النَّارِ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. (مِثْلُ مَا بَيْنَ بَيْرُوتَ وَعَمَّانَ فِي الأُرْدُنِّ) وَلَوْ كَانَتْ خِلْقَتُهُمْ تَكُونُ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا لَذَابُوا بِلَحْظَةٍ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ أَبَدًا لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا أَيْ حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، وَشَرَابُهُمْ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ الْمُتَنَاهِي الْحَرَارَةِ. الْكُفَّارُ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ أَبَدًا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ وَلا يَمُوتُونَ فِي النَّارِ فَيَرْتَاحُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلا يَحْيَوْنَ حَيَاةً هَنِيئَةً طَيِّبَةً بَلْ هُمْ دَائِمًا فِي نَكَدٍ وَعَذَابٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾ وَقَالَ مَلاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَعُودُونَ يَتَلَذَّذُونَ فِي النَّارِ حَتَّى لَوْ أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ لا يَرْضَوْنَ، وَهَذَا رَدٌّ لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفْرٌ.

  وَطَعَامُهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ كَرِيهُ الطَّعْمِ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، يُوجَدُ فِي الْبِلادِ الْحَارَّةِ شَبِيهُهُ، قَالَ تَعَالَى ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَّا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ الضَّرِيعُ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لاصِقٍ بِالأَرْضِ تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشِّبْرِق إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ لا تَرْعَاهُ الْبَهَائِمُ لِخُبْثِهِ، قَالَ الْمُفَّسِرُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّ إِبِلَنَا لَتَسْمَنُ عَلَى الضَّرِيعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَّا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ وَهَذَا فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ مَنْظَرُهَا قَبِيحٌ جِدًّا وَرَائِحَتُهَا كَرِيهَةٌ جِدًّا لا تُطَاقُ لَكِنْ هُمْ مِنْ شِدَّةِ اضْطِرَارِهِمْ وَمِنْ شِدَّةِ جُوعِهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ كَأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ، مَلائِكَةُ الْعَذَابِ يُطْعِمُونَهُمْ مِنْ هَذَا، قَالَ تَعَالَى ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ وَكَذَلِكَ يَأْكُلُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْغِسْلِينِ قَالَ تَعَالَى ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ﴾ وَالْغِسْلِينُ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَنْضَجَتْ جُلُودَهُمُ النَّارُ يُكْسَوْنَ جُلُودًا غَيْرَهَا فِيهَا رُطُوبَةٌ. ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿هَاهُنَا حَمِيمٌ﴾ أَيْ قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَلا مَنْ يَشْفَعُ لَهُ وَيُغِيثُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْبَلاءِ. ﴿وَلا طَعَامٌ﴾ أَيْ وَلَيْسَ لَهُ طَعَامٌ يَنْتَفِعُ بِهِ ﴿إلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَبْدَانِ الْكُفَّارِ مِنَ الدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَهُوَ الدَّمُ الْمُخْتَلِطُ بِمَاءٍ مِنَ الْجُرْحِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ الْغِسْلِينُ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ ﴿لا يَأْكُلُهُ إلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ أَيِ الْكَافِرُونَ.

   وَأَمَّا شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ فَهُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ وَالْحَمِيمُ هُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ، وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ يَسْقُونَهُمْ مِنْ هَذَا فَتُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ.

   وَثِيَابُ الْكُفَّارِ مِنَ نَارٍ قَالَ تَعَالَى ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّنْ نَّارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ فِي جَهَنَّمَ لِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ حَيَّاتٍ الْحَيَّةُ الْوَاحِدَةُ كَالْوَادِي، وَعَقَارِبَ كَالْبِغَالِ)

   * وَالإِيْمَانُ بِالصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ، أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيمَا يُسَامِتُ (أَيْ يُحَاذِي) الصِّرَاطَ فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لا يَدُوسُونَ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَمُرُّونَ فِي هَوَائِهِ طَائِرِينَ (فَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ) وَهَؤُلاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَدُوهَا أَيْ وَرَدُوا النَّارَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ مِّنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ دُخُولُهَا وَقِسْمٌ يَدُوسُونَهُ ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُوقَعُونَ فِي النَّارِ وَقِسْمٌ يُنْجِيهِمُ اللَّهُ فَيَخْلُصُونَ مِنْهَا. (وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ أَيْ أَمْلَسُ تَزِلُّ مِنْهُ الأَقْدَامُ، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَلَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ بَلْ هُوَ عَرِيضٌ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ، فَإِنَّ يُسْرَ الْجَوَازِ عَلَيْهِ وَعُسْرَهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَلا يَعْلَمُ حُدُودَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةَ السَّيْرِ)

  * وَالإِيْمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا. (لِنَبِيِّنَا حَوْضٌ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ فَقَطْ لَا تَرِدُهُ أُمَمُ غَيْرِهِ طُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ، ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، شَرَابُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ أَيِ الْحَلِيبِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ حَوْضُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًا. ويُصبُّ فِي حَوْضِ نَبِيِّنَا ﷺ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ)

  * وَالإِيْمَانُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَطْ فَالأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَالْمَلائِكَةُ. وَالشَّفَاعَةُ هِيَ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ فَالشُّفَعَاءُ فِي الآخِرَةِ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ (قَالَ ﷺ “شَفَاعَتِي لأِهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي” رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. فَلاَ شَفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾. وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ يَخْتَصُّ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لِتَخْلِيصِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ فِي الْمَوْقِفِ [تَخْلِيصُهُمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْتَقِلُ مِنْ عَذَابٍ إِلَى عَذَابٍ أَشَدَّ]. وَقَدْ سُمِّيَتِ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى لِأَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ فَقَطْ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ غَيْرُ أُمَّتِهِ ﷺ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ لَيْسَ الْعَذَابُ بِدُخُولِ النَّارِ فَقَطْ بَلْ تَسْلِيطُ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ عَذَابٌ، وَالْفَضِيحَةُ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ عَذَابٌ فَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُفْضَحُونَ يُنَادِي عَلَيْهِمُ الْمَلَكُ هَذَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ عَمِلَ كَذَا لِأَنَّ الْخَلْقَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وُقُوفٌ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بِصَرْفِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ الَّذِي يُقَاسِيهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ يَا رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ. عِنْدَئِذٍ يَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَالَوْا لِنَذْهَبَ إِلَى أَبِينَا ءَادَمَ لِيَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ إِلَى ءَادَمَ يَقُولُونَ يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ أَيْ أَنَّهُ لَهُ عِنَايَةٌ بِكَ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمُ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا، مَعْنَاهُ أَنَا لَسْتُ صَاحِبَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا فَيَقُولُ لَهُمُ ائْتُوا عِيسَى فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى لَسْتُ فُلانًا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ فَيَسْجُدُ النَّبِيُّ لِرَبِّهِ فَيُقَالُ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]. هَذِهِ تُسَمَّى الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى لِأَنَّهَا عَامَّةٌ، ثُمَّ هُنَاكَ شَفَاعَاتٌ أُخْرَى لِلنَّبِيِّ ﷺ. وَلا تَكُونُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا لِمَنْ ءَامَنَ بِهِ ﷺ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] مَعْنَاهُ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْقِذَكِ مِنَ النَّارِ إِذَا لَمْ تَكُونِي مُؤْمِنَةً، فِي الدُّنْيَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ بِمَالِي أَمَّا فِي الآخِرَةِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ إِنْ لَمْ تَدْخُلِي فِي دَعْوَةِ الإِسْلامِ. وَلْيُحْذَرْ مِمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الإِحْسَانِ فِي تَرْتِيبِ ابْنِ حِبَّانَ السَّقِيمَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الْخَمْسَةِ يَقُولُ عِنْدَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي اللَّهُ فِي النَّارِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ هَذَا لِنَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ لا يَظُنُّ بِرَبِّهِ أَنَّهُ يَطْرَحُهُ فِي النَّارِ، فَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الإِحْسَانِ لِابْنِ بَلْبَانَ فَهُوَ بَاطِلٌ. اِبْنُ بِلْبَانَ رَتَّبَ صَحِيحَ ابْنِ حِبَّانَ. صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ مُرَتَّبٌ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ، لَيْسَ مَبُوَّبًا كِتَابُ الطَّهَارَةِ، كِتَابُ الصَّلَاةِ وَهَكَذَا، وَلَا مَبُوَّبٌ مِثْلَ الْمَسَانِيدِ مِثْلَ مُسْنَدِ أَحْمَدَ، مَا جَمَعَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ الَّتِي رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ وَهَكَذَا، لَا، لَيْسَ مَبُوَّبًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَا بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ. اِبْنُ حِبَّانَ رَتَّبَ صَحِيحَهُ بِتَرْتِيبٍ اِنْفَرَدَ بِهِ. اِبْنُ بِلْبَانَ حَتَّى يُسَهِّلَ لِمَنْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إِلَى صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ رَتَّبَهُ. كُلُّ كَلَامِ ابْنِ حِبَّانَ تَرَكَهُ، لَكِنْ غَيَّرَ مَوَاضِعَهُ بِحَيْثُ صَارَ الْكِتَابُ عَلَى مِثْلِ الْأَبْوَابِ الْمَعْرُوفَةِ فِي السُّنَنِ. صَارَ كِتَابُ الطَّهَارَةِ، كِتَابُ الصَّلَاةِ وَهَكَذَا، فَصَارَ يَسْهُلُ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ مِنْ تَرْتِيبِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ. طَبَعُوهَا عَنْ نُسْخَةٍ سَقِيمَةٍ، عَنْ نُسْخَةٍ غَيْرِ جَيِّدَةٍ، لَا هُوَ مَذْكُورٌ مَنِ النَّاسِخُ، وَلَا حَتَّى تَارِيخُ النَّسْخِ، وَلَا عَنْ أَيِّ نُسْخَةٍ، وَلَا أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ. نُسْخَةٌ سَقِيمَةٌ طَبَعُوا عَنْهَا كِتَابًا. فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ الْمَطْبُوعَةِ وَفِي تِلْكَ النُّسْخَةِ السَّقِيمَةِ الْخَطِّيَّةِ مَكْتُوبٌ إِنَّ عَدَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا يَأْتِي إِلَيْهِمُ النَّاسُ يَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا، يَقُولُ أَنَا لَسْتُ هُنَاكَ، أَنَا أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ. هَذَا كُفْرٌ. النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَخَافُ مِنْ أَنْ يُعَذَّبَ بِالنَّارِ. فَهَذَا كُفْرٌ فَلْيُنْتَبَهْ)

  * وَالإِيْمَانُ بِالْجَنَّةِ وَهِيَ دَارُ السَّلامِ أَيْ دَارُ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمُ فِيهَا قِسْمَانِ نَعِيمٌ لا يَنَالُهُ إِلَّا الأَتْقِيَاءُ (النَّعِيمُ الْخَاصُّ بِالْأَتْقِيَاءِ نَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا أُوحِيَ لِلنَّبِيِّ مَا هُوَ، وَلَا حَتَّى خَازِنُ الْجَنَّةِ يَعْرِفُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. مَعْنَاهُ أَيُّ نَفْسٍ لَا تَعْلَمُ، أَمَّا الَّذِي هُوَ عَامٌّ، هَذَا الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ) وَنَعِيمٌ يَنَالُهُ كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ هَذَا النَّعِيمِ الْعَامِّ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ شَبَابٌ لا يَهْرَمُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ أَصِحَّاءُ لا يَسْقَمُونَ أَيْ لا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ فِي سُرُورٍ لا يُصِيبُهُمْ هَمٌّ وَحَزَنٌ وَنَكَدٌ وَكَرْبٌ وَكُلَّهُمْ يَبْقَوْنَ أَحْيَاءً فِي نَعِيمٍ دَائِمٍ لا يَمُوتُونَ أَبَدًا (الْجَنَّةُ حَقٌّ أَيْ وُجُودُهَا ثَابِتٌ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنْهَا بَابُ الرَّيَّانِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ، وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ يُخَيَّرُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ، وَالْجَنَّةُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَلَهَا أَرْضُهَا الْمُسْتَقِلَّةُ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمٰنِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ – الْجَنَّةَ – فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمٰنِ.

   وَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَمِيمًا تَذْهَبُ عَنْهُ دَمَامَتُهُ، اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُ فِي الْجَنَّةِ كَجَمَالِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، يُعْطِيهِ شَبَهًا بِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَمَالِ، وَالَّذِي كَانَ قَصِيرًا يَذْهَبُ عَنْهُ قِصَرُهُ. وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ عَلامَةً تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ فُلانٌ حَتَّى إِنْ زَارَهُ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا يَعْرِفُهُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ وَتَزَاوُرُهُمْ يَحْصُلُ إِمَّا بِأَنْ يَطِيرَ بِالشَّخْصِ سَرِيرُهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ أَمَامَ سَرِيرِ الَّذِي يُرِيدُ زِيَارَتَهُ فَيَجْلِسَانِ مُتَقَابِلَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ سُهُولَةِ السَّيْرِ هُنَاكَ السَّرِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ مَا يَشْتَاقُ الإِنْسَانُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي يُرِيدُ رُؤْيَتَهُ يَطِيرُ بِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ أَمَامَ سَرِيرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَتَجَالَسَانِ فَيَتَحَدَّثَانِ، ثُمَّ يَطِيرُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الآيَةِ ﴿عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ مَا لَمْ يَجِئْ أَهْلُهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا أَصْحَابُهَا تَوَاضَعَتْ لَهُمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَرْتَفِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا. وَأَحْيَانًا يَرْكَبُونَ خُيُولًا مِنْ يَاقُوتٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ مِنْ ذَهَبٍ تَطِيرُ بِهِمْ.

    وَأَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ فِي عُمْرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا، لَا تَنْبُتُ لَهُمْ لِحْيَةٌ وَلَيْسَ عَلَى أَذْرِعَتِهِمْ وَلا عَلَى بُطُونِهِمْ وَلَا عَلَى سِيقَانِهِمْ شَعَرٌ إِلَّا شَعَرُ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبِ، طَعَامُهُمْ وَشَرَابُهُمْ لا يَتَحَوَّلُ إِلَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، إِنَّمَا يَفِيضُ مِنْ جِسْمِهِمْ عَرَقًا كَالْمِسْكِ لَيْسَ كَعَرَقِ الدُّنْيَا، عَرَقُ الدُّنْيَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْوَسَخُ وَالْقَمْلُ.

   وَقَدْ رَوَى مُسلمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا. وَءَاخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلُّ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ عَشَرَةُ ءَالافٍ، بِإِحْدَى يَدَيْ كُلٍّ مِنْهُمْ صَحِيفَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَبِالأُخْرَى صَحِيفَةٌ مِنْ فِضَّةٍ قَالَ تَعَالَى ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ﴾ وَالأَكْوَابُ جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ أَيْ لَا أُذُنَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ أَيْ يَطُوفُ لِلْخِدْمَةِ غِلْمَانٌ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أَيْ لَمْ تَمَسَّهُ الأَيْدِي وَهَؤُلاءِ الْغِلْمَانُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسُوا بَشَرًا وَلَا جِنًّا وَلَا مَلائِكَةً. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَصْفِهَا هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مُقَامٍ أَبَدِيٍّ فِي حُبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

   فِي بِدَايَةِ الْحَدِيثِ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا، أَيْ لا مِثْلَ لَهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَيْ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنَّهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ أَيْ فَلَا تَحْتَاجُ الْجَنَّةُ إِلَى شَمْسٍ وَلا قَمَرٍ، لَا ظَلامَ فِيهَا هُنَاكَ كَمَا فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ مِقْدَارَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُعْرَفُ بِعَلامَةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ فِيهَا، إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ كَمَا نَعَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ وَوَصَفَهَا بِحَيْثُ لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ فِيهَا ظَلامٌ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْيُنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِنِسْبَةِ قُوَّتِهَا الْيَوْمَ لَعَمِيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ عُظْمِ نُورِ الْجَنَّةِ، لَكِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِمْ قُوَّةً أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً إِلَى حَدٍّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، اللَّهُ أَعْطَى أَبْصَارَهُمْ قُوَّةً بِحَيْثُ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَى مَسَافَةَ أَلْفِ سَنَةٍ كَأَنَّهَا كَفٌّ، يَرَوْنَهَا رُؤْيَةً لَيْسَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ. وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا رَيْحَانَهٌ تَهْتَزُّ، أَيْ ذَاتُ خُضْرَةٍ كَثِيرَةٍ يَانِعَةٍ أَيْ مُعْجِبَةِ الْمَنْظَرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَوَاسِمُ لِلثِّمَارِ بَلْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مَا تَشْتَهِيهِ تَجِدُهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ جَالِسًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا فَاشْتَهَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ مَالَتْ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ ثُمَّ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهَا بَدَلَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ سَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَشْجَارُ الْجَنَّةِ لَمَّا تَتَحَرَّكُ يَصْدُرُ لَهَا صَوْتٌ جَمِيلٌ جِدًّا تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ اسْمُهَا طُوبَى يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا تَتَفَتَّقُ بِثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْ يَخْرُجُ مِنْهَا ثِيَابٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَلْبَسُونَهَا، فَثِيَابُهُمْ مِنْهَا الْحَرِيرُ وَالسُّنْدُسُ وَالِاسْتَبْرَقُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ أَيِ الْعُودُ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَكَلامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ، يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُسَبِّحُونَهُ وَيَقْرَأُونَ الْقُرْءَانَ أَمَّا الصَّلاةُ فَلَمْ يَرِدْ لَهَا ذِكْرٌ.

   وَفِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ أَنَّ الرَّسُولَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَنَّهَا قَصْرٌ مَشِيدٌ أَيْ فِيهَا قُصُورٌ عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ وَاحِدَةٍ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا. وَفِي الْجَنَّةِ جَنَّتَانِ ءَانِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ، يَسْكُنُهُمَا الْمُقَرَّبُونَ، وَهُنَاكَ أَيْضًا جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ ءَانِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْجَنَّةَ مِنْهَا مَا بِنَاؤُهُ لَبِنُ ذَهَبٍ وَلَبِنُ فِضَّةٍ، وَهِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِنَانٌ كَثِيرَةٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ غُرَفٌ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا.

   وَقَوْلُهُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ نَهْرٌ مُطَّرِدٌ أَيْ أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّنْ مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ اللَّبَنُ الْمَذْكُورُ فِي الآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْحَلِيبُ، وَالْخَمْرُ الَّذِي هُنَاكَ لا يُسْكِرُ وَلا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ وَلَيْسَ مُرَّ الطَّعْمِ بَلْ هُوَ لَذِيذُ الطَّعْمِ جِدًّا، وَالْعَسَلُ الَّذِي هُنَاكَ غَيْرُ الْعَسَلِ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّحْلُ.

   وَقَوْلُهُ ﷺ وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ أَيْ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ نَضِيجٌ. وَفِي الْجَنَّةِ أَيْضًا طُيُورٌ وَغَنَمٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا. ثُمَّ بَعْدَمَا يَأْكُلُهُ الْمُؤْمِنُ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَطِيرُ.

   وَقَوْلُهُ ﷺ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا الَّذِي رَوَاهُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَطُوفُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، ثُمَّ سَائِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِائَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، فِي الْجَنَّةِ اللَّهُ يُعْطِي الْوَاحِدَ مِنَ الرِّجَالِ قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الشَّهْوَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فُتُورٌ عَقِبَ الْجِمَاعِ وَلا يَنْزِلُ مِنْهُ مَنِيٌّ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَكِنْ يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ دُونَ نُزُولِ الْمَنِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى رُءُوسِهِنَّ خُمُرٌ، الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لا تُسَاوِي الْخِمَارَ الَّذِي يَلْبَسْنَهُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُنَّ يَلْبَسْنَ الْخِمَارَ تَجَمُّلًا زِيَادَةً فِي الْحُسْنِ، وَالْخِمَارُ مَا تُغَطِّي النِّسَاءُ بِهِ رُءُوسَهُنَّ. وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ أَبْكَارٌ أَيْ كُلَّمَا أَتَى الْمُؤْمِنُ زَوْجَتَهُ وَجَدَهَا بِكْرًا، ثُمَّ مَعَ كَثْرَةِ أَزْوَاجِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَحْصُلُ بَيْنَ نِسَائِهِمْ تَبَاغُضٌ وَغَيْرَةٌ وَتَحَاسُدٌ لِأَنَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ قُلُوبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنَةُ التَّقِيَّةُ مِنْ بَنَاتِ ءَادَمَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَقَامًا.

   وَالْحُورُ الْعِينُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ الإِنْسِ خُلِقْنَ خَلْقًا مِنْ غَيْرِ تَوَالُدٍ إِكْرَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحُورُ جَمْعُ حَوْرَاءَ وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَالْحُورُ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةُ سَوَادِهَا، وَأَمَّا الْعِينُ فَمَعْنَاهُ وَاسِعَاتُ الْعُيُونِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِنَّ ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ وَهُنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَالْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ مِنْ شِدَّةِ صَفَاءِ عَظْمِهَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ خَلالِ الْجِلْدِ.

   وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ عَزَبٌ وَلا عَزَبَةٌ بَلْ كُلُّهُمْ يَتَزَوَّجُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

   وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي مُقَامٍ أَبَدِيٍّ أَيْ فِي حَيَاةٍ دَائِمَةٍ لا نِهَايَةَ لَهَا. وَقَوْلُهُ فِي حُبْرَةٍ أَيْ سُرُورٍ دَائِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ نَضْرَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوهَ أَهْلِهَا نَاضِرَةٌ أَيْ جَمِيلَةٌ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَآبَةٌ.

 وَلْيُعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ رُؤْيَتُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ، يَرَوْنَهُ بِلَا كَيْفٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَا جِهَةٍ، الأَوْلِيَاءُ يَرَوْنَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ أَمَّا سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ فَفِي الأُسْبُوعِ مَرَّةً.

   وَفِي نِهَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الصَّحَابَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ لِيُعَلِّمَهُمُ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا، فَهَنِيئًا لِمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ فَإِنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِنَعِيمِ الآخِرَةِ كَلَا شَىْءٍ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَعْنَاهُ هَذَا الْبَلَلُ الَّذِي يَعْلَقُ بِالإِصْبَعِ مَاذَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِعُظْمِ الْبَحْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. السَّوْطُ هُوَ الآلَةُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِلضَّرْبِ تَكُونُ غَالِبًا مِنَ الْجِلْدِ أَيْ أَنَّ الْمِسَاحَةَ الَّتِي يَأْخُذُهَا السَّوْطُ إِذَا وُضِعَ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

   وَمِنْ خَصَائِصِ الرَّسُولِ ﷺ أَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ يَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْمَلَكُ خَازِنُ الْجَنَّةِ الْمُوَكَّلُ بِبَابِهَا مَنْ، فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ الْمَلَكُ بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

   وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِيهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلا حِسَابٍ وَلا عِقَابٍ وَهَؤُلاءِ هُمُ الأَوْلِيَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَيْ لَا يُنَاقَشُونَ الْحِسَابَ، وَيَلِيهِمْ أُنَاسٌ وُجُوهُهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَمَعَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُمْ إِلَّا اللَّهُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْضًا بِلَا حِسَابٍ. وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ. وَعِنْدَمَا نَقُولُ “بِلَا حِسَابٍ” أَيْ لَا يُشَدَّدُ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ. وَمِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَيِ الآخِرُونَ وُجُودًا السَّابِقُونَ دُخُولًا الْجَنَّةَ)

*حَدِيثُالجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِضَعِيفٌ. مَعْنَاهُ: بِبِرِّ الأُمَّهَاتِ تُنَالُ الجَنَّةُ. أَخْرَجَهُ القُضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ /ج١/ ص١٠٢. وَقَالَ الحَافِظُ مُحَمَّدٌ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي إِتْحَافِ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ /ج٦/ص٣۲۲: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ.

*وَهُنَا انْتَبِهُوا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ”. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرْوَى لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُوهِمُ أَنَّ مَنْ كَانَ عَجُوزًا فِي الدُّنْيَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ. وَالرَّسُولُ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَظُنَّ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُوهِمَهَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَجُوزًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. حَاشَا لِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يُحَرِّفَ شَرْعَ اللَّهِ. إِنَّمَا هُوَ أَرَادَ ﷺ، لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ، أَنْ يُنَبِّهَهَا إِلَى أَمْرٍ هُوَ حَقٌّ وَاقِعٌ، وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ دُخُولِهِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَكُنَّ بِصُورَةِ عَجُوزٍ، بَلْ يَدْخُلْنَ وَهُنَّ شَابَّاتٌ. هَذَا مَا أَرَادَهُ. عَلَى كُلِّ حَالٍ، هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ وَلَا يَنْبَغِي رِوَايَتُهُ. هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ /بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْحُورِ الْعِينِ/ عَنْ الْحَسَنِ عَنْهُ ﷺ)

(قِصَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بنُ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: “بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجْلِسِنَا هَذَا، نَتَهَيَّأُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ، وَقَدْ أَمَرْتُ أَصْحَابِي أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِقِرَاءَةِ ءَايَتَيْنِ فَقَرَأَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِنَا ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ فَقَامَ غُلامٌ فِي مِقْدَارِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَوَرَّثَهُ مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ بنَ زَيْدٍ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا حَبِيبِي، فَقَالَ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ بِعْتُ نَفْسِي وَمَالِي بِأَنَّ لِيَ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ حَدَّ السَّيْفِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ صَبِيٌّ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لا تَصْبِرَ وَتَعْجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ، أُبَايِعُ اللَّهَ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ ؛ ثُمَّ أَعْجَزُ أَنَا؟ أُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى أَنِّي قَدْ بَايَعْتُهُ، أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

   قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْنَا أَنْفُسُنَا وَقُلْنَا صَبِيٌّ يَعْقِلُ وَنَحْنُ لا نَعْقِلُ، فَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ إلَّا فَرَسَهُ وَسِلاحَهُ وَنَفَقَتَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخُرُوجِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ طَلَعَ عَلَيْنَا، فَقَالَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ، فَقُلْتُ وَعَلَيْكَ السَّلامُ رَبِحَ الْبَيْعُ ثُمَّ سِرْنَا وَهُوَ مَعَنَا يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَخْدِمُنَا وَيَخْدِمُ دَوَابَّنَا وَيَحْرُسُنَا إِذَا نِمْنَا، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا بِهِ قَدْ أَقْبَلَ وَهُوَ يُنَادِي وَاشَوْقَاهُ إِلَى الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ، فَقَالَ أَصْحَابِي لَعَلَّهُ وُسْوِسَ لِهَذَا الصَّبِيِّ وَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ، فَقُلْتُ حَبِيبِي وَمَا هَذِهِ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ؟ فَقَالَ: إِنِّي غَفَوْتُ غَفْوَةً فَرَأَيْتُ كَأَنَّهُ أَتَانِي ءَاتٍ فَقَالَ لِيَ اذْهَبْ إِلَى الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ فَهَجَمَ بِي عَلَى رَوْضَةٍ فِيهَا نَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، وَإِذَا عَلَى قُرْبِ النَّهْرِ جَوَارٍ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ مَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَصِفَهُ، فَلَمَّا رَأَيْنَنِي اسْتَبْشَرْنَ بِي وَقُلْنَ هَذَا زَوْجُ الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ، فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ؟ فَقُلْنَ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا اِمْضِ أَمَامَكَ. فَمَضَيْتُ أَمَامِي فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، فِي رَوْضَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فِيهَا جَوَارٍ لَمَّا رَأَيْتُهُنَّ افْتُتِنْتُ بِحُسْنِ جَمَالِهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَنِي اسْتَبْشَرْنَ بِي وَقُلْنَ هَذَا وَاللَّهِ زَوْجُ الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ، فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ؟ فَقُلْنَ وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا وَلِيَّ اللَّهِ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا فَتَقَدَّمْ أَمَامَكَ، فَتَقَدَّمْتُ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ مِنْ خَمْرٍ غَيْرِ خَمْرِ الدُّنْيَا لا يُسْكِرُ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَبِقُرْبِ النَّهْرِ جَوَارٍ فَقُلْتُ، السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ؟ قُلْنَ لا، نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا امْضِ أَمَامَكَ، فَمَضَيْتُ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ ءَاخَرَ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى وَجَوَارٍ عَلَيْهِنَّ مِنَ النُّورِ وَالْجَمَالِ مَا أَنْسَانِي مَا خَلَّفْتُ فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ؟ قُلْنَ يَا وَلِيَ اللَّهِ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا فَامْضِ أَمَامَكَ، فَمَضَيْتُ فَوَصَلْتُ إِلَى خَيْمَةٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَعَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ مَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَصِفَهُ، فَلَمَّا رَأَتْنِي اسْتَبْشَرَتْ وَنَادَتْ مَنْ فِي الْخَيْمَةِ أَيَّتُهَا الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ هَذَا بَعْلُكِ قَدْ قَدِمَ. قَالَ فَدَنَوْتُ مِنَ الْخَيْمَةِ وَدَخَلْتُ، فَإِذَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهَا افْتُتِنْتُ بِهَا وَهِيَ تَقُولُ مَرْحَبًا بِكَ يَا وَلِيَ الرَّحْمنِ، قَدْ دَنَا لَكَ الْقُدُومُ عَلَيْنَا، فَذَهَبْتُ لأُعَانِقَهَا، فَقَالَتْ مَهْلًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تُعَانِقَنِي لأِنَّ فِيكَ رُوحَ الْحَيَاةِ، وَأَنْتَ تُفْطِرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ فَانْتَبَهْتُ (أَيِ اسْتَيْقَظْتُ) يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ وَلا صَبْرَ لِي عَنْهَا، قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَمَا انْقَطَعَ كَلامُنَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ لَنَا سَرِيَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ، فَهَجَمَ الْغُلامُ عَلَيْهِمْ فَعَدَدْتُ تِسْعَةً مِنَ الْعَدُوِّ قَتَلَهُمْ وَكَانَ هُوَ الْعَاشِرَ، فَمَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَهُوَ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا … يُمْسِي وَيُصْبِحُ مَغْرُورًا وَغَرَّارًا

هَلاَّ تَرَكْتَ مِنَ الدُّنْيَا مُعَانَقَة … حَتَّى تُعَانِقَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارًا

إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا … فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ لا تَأْمَنَ النَّارَا)

  * وَالإِيْمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَهَذَا خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلَا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلَا جِهَةٍ (وَهَذَا أَعْظَمُ نَعِيمٍ يَتَنَعَّمُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ. أَمَّا الْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ هَذَا فِي الْكُفَّارِ) كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَهُ فِي كِتَابِهِ الْوَصِيَّةِ وَذَكَرَهُ مُلَّا عَلِي الْقَارِي فِي شَرْحِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَانٍ إِنَّمَا هُمْ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لَا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا لَا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ فَفِي ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْ لَا تَتَزَاحَمُونَ فِي رُؤْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ (لَا تُضَامُون) [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] أَيْ لَا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ (وَالْمُرَادُ بِكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ نَفْيُ الشَّكِّ)، شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا ﷺ لَهُ (أَيْ للهِ تَعَالَى) مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَر كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الجُهَّالِ فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ التَّوْحِيدَ إِذَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعَوَامِّ بِذَلِكَ (وَهَذَا كُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ).

  * وَالإِيْمَانُ بِالْخُلُودِ فِيهِمَا فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يَخْلُدُونَ فِيهَا وَأَنَّهُ لَا مَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ (قَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. وَتَكْثُرُ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا إِثْبَاتُ خُلُودِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَيُخْبِرُنَا الْحَبِيبُ ﷺ مُفَصِّلًا وَمُبَيِّنًا خُلُودَ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا وَخُلُودَ النَّارِ وَأَهْلِهَا. فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ مَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(بيانُ أنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تَفْنَى وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَانَ/١١٦].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [سُورَةَ  الْأَحْزَابِ/٦٤/٦٥].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا . إلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاءِ/١٦٨/١٦٩].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سُورَةَ الْجِنِّ/۲٣]

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ . يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ . وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [سُورَةَ الْحَجِّ] 

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَةِ/۲٠].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاءِ/٥٦].

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ . وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ [سُورَةَ الانْفِطَارِ /١٤/١٥/١٦]. جَمِيعُ هَذِهِ الآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْخُلُودَ الْأَبَدِيَّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا، وَكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا، وَكُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلَهُمُ اللَّهُ جُلُودًا غَيْرَهَا. وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/BVWVaUm4sL0

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ:   https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-5