#5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.
(سَبَبُ نُزُولِ) سُورَةِ (الإِخْلاصِ)
رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُمَا أَنَّ (الْيَهُودَ قَالَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ) يَا مُـحَمَّدُ (صِفْ لَنَا رَبَّكَ) الَّذِى تَعْبُدُهُ وَ(قَدْ كَانَ سُؤَالُـهُمْ تَعَنُّتًا أَىْ عِنَادًا لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِـرْشَادًا بِهِ) أَىْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ (فَأَنْزَلَ اللَّـهُ) تَعَالَـى (سُورَةَ الإِخْلاصِ) فَقَالَ النَّبِـىُّ ﷺ هَذِهِ صِفَةُ رَبِّـى عَزَّ وَجَلَّ. (﴿قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ﴾ أَىِ الَّذِى لا يَقْبَلُ) الِانْقِسَامَ وَ(التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِـى الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ) فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ) أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَصِفَاتِهِ أَزَلِيَّةٌ (بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَـى قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِـهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ) أَىْ أَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُـمْكِنٍ عَقْلِىٍّ إِيـجَادًا وَإِعْدَامًا (وَعِلْمُهُ وَاحِدٌ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ) أَىْ يَعْلَمُ بِهِ الأَزَلِـىَّ كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَيَعْلَمُ بِهِ الْـحَادِثَاتِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ وَ(قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿اللَّـهُ الصَّمَدُ﴾ أَىِ الَّذِى تَفْتَقِرُ) أَىْ تَـحْتَاجُ (إِلَيْهِ جَـمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَ)هُوَ (الَّذِى يُقْصَدُ) أَىْ يُلْجَأُ إِلَيْهِ (عِنْدَ الشِّدَّةِ بِـجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَـجْتَلِبُ بِـخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ) أَىْ لا يَنْتَفِعُ بِـهِمْ (وَلا يَدْفَعُ بِـهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا) أَىْ ضَرَرًا فَهُمْ لا يَنْفَعُونَهُ وَلا يَضُرُّونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَـى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِيـنُ﴾ وَ(قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿لَـمْ يَلِدْ وَلَـمْ يُولَدْ﴾ نَفْىٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْـحِلالِ) أَىْ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لِغَيْـرِهِ أَوْ أَبًا وَلا فَرْعًا لِغَيْـرِهِ أَوْ وَلَدًا (وَهُوَ) مُنَزَّهٌ عَنْ (أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ) كَمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدِهِ (أَوْ أَنْ يَـحُلَّ هُوَ فِـى شَىْءٍ) كَمَا يَـحُلُّ الْوَلَدُ فِـى رَحِمِ أُمِّهِ (وَ)أَمَّا (مَا وَرَدَ فِـى كِتَابِ مَوْلِدِ الْعَرُوسِ مِنْ أَنَّ اللَّـهَ) تَعَالَـى لَمَّا أَرَادَ خَلْقَ مُـحَمَّدٍ (قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَـهَا كُونِـى مُـحَمَّدًا فَكَانَتْ مُـحَمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ) الَّتِـى أَدْخَلَهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ وَهِىَ تُوهِمُ أَنَّ اللَّـهَ جِسْمٌ لَهُ أَجْزَاءٌ (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ) سَيِّدَنَا (مُـحَمَّدًا ﷺ جُزْءٌ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَـى التَّكْفِيـرُ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الَّذِى يَعْتَقِدُ) فِـى سَيِّدِنَا عِيسَى (الْمَسِيحِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّـهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَـى فِـى ذَمِّ الْكُفَّارِ ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ (وَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ الْـجَوْزِىِّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ) كَمَا يَزْعُمُ مَنْ طَبَعَهُ (وَلَـمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ) الأَلْمَانِـىُّ (بروكلْمَان) وَأَمَّا (قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَىْ لا نَظِيـرَ لَهُ) وَلا شَبِيهَ (بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ).
(الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِـهَاتُ)
(لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِى يَـجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِـهَاتٌ قَالَ تَعَالَـى ﴿هُوَ الَّذِىَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّـحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِـهَاتٌ﴾) أَىْ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى أَنْزَلَ الْقُرْءَانَ عَلَى نَبِيِّهِ مُـحَمَّدٍ ﷺ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِـمُجَرَّدِ قِرَاءَتِـهَا هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أَىِ الأَصْلُ وَالْمَرْجِعُ فِـى الْقُرْءَانِ وَأُخَرُ مُتَشَابِـهَاتٌ يُرْجَعُ لِفَهْمِهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَـى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِـى قُلُوبِـهِمْ زَيْغٌ﴾) وَضَلالٌ وَهُمُ الْمُبْتَدِعَةُ فِـى الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ وَغَيْـرِهِمْ (﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾) أَىْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْءَانِ (﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾) أَىِ ابْتِغَاءَ إِيقَاعِ الْمُؤْمِنِ فِـى اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ (﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾) أَىْ تَأْوِيلًا بَاطِلًا (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾) أَىْ وَقْتَ حُصُولِهِ (﴿إِلَّا اللَّـهُ﴾) أَىْ أَنَّ الْقُرْءَانَ فِيهِ ءَايَاتٌ مُتَشَابِـهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ لَـمْ يُطْلِعِ اللَّـهُ أَحَدًا مِنَ الْـخَلْقِ عَلَى وَقْتِ حُصُولِـهَا كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ (﴿وَالرَّاسِخُونَ فِـى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ﴾) أَىْ بِالْقُرْءَانِ كُلِّهِ الْمُحْكَمِ مِنْهُ وَالْمُتَشَابِهِ (﴿كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾) أَىْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَحْىٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَابِ﴾). وَيُقَالُ (الآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ هِىَ مَا لا يَـحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِـحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا) أَىْ مَعْنًـى (وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بِوُضُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ ﴿وَلَـمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَـمِيًّا﴾) أَىْ مِثْلًا أَىْ لَيْسَ لِلَّـهِ مَثِيلٌ وَلا شَبِيهٌ (وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَـمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ) أَىْ لَـمْ يُعْرَفِ الْمَعْنَـى الْمُرَادُ مِنْهُ بِوُضُوحٍ (أَوْ) كَانَ (يَـحْتَمِلُ) بِـحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ (أَوْجُهًا) أَىْ مَعَانِـىَ (عَدِيدَةً وَاحْتَاجَ إِلَـى النَّظَرِ) أَىْ نَظَرِ أَهْلِ الْفَهْمِ الَّذِينَ لَـهُمْ دِرَايَةٌ بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَعَانِيهَا لِمَعْرِفَةِ الْمَعْنَـى الْمُرَادِ مِنْهُ (لِـحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ) لِلْمُحْكَمِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) أَىْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّـهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِيـنَ كَالْـجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْمُحَاذَاةِ أَىْ كَوْنِ الشَّىْءٍ فِـى مُقَابِلِ شَىْءٍ.
(وَ)كَذَلِكَ (قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ أَىْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَــٰهَ إِلَّا اللَّـهُ يَصْعَدُ إِلَـى مَـحَلِّ كَرَامَتِهِ) أَىِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ عِنْدَ اللَّـهِ (وَهُوَ السَّمَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَىِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ) أَىْ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِىَ الأَصْلُ وَالأَسَاسُ لِرَفْعِ الأَعْمَالِ الصَّالِـحَةِ أَىْ لِقَبُولِـهَا (وَهَذَا) التَّفْسِيـرُ (مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَتَفْسِيـرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ يَـجِبُ أَنْ يُرَدَّ إِلَـى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ) أَىْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَـهَا وَ(هَذَا فِـى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى يَـجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِى أُرِيدَ بِقَوْلِهِ) تَعَالَـى (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ﴾ عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْـجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ) أَىْ وَقْتِ وُقُوعِهَا (وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ فَلَيْسَ) هَذَا (مِنْ قَبِيلِ) تَأْوِيلِ (ءَايَةِ الاِسْتِوَاءِ) ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَإِنَّ هَذَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ عِبَادِ اللَّـهِ وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْقَهْرِ لَكِنْ لا يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّـهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الْقَهْرُ إِنَّـمَا يُظَنُّ ظَنًّا رَاجِحًا (وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ ﷺ اعْمَلُوا بِـمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِـمُتَشَابِـهِهِ) أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَهَّـمُوا أَنَّ مَعَانِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَهَذَا الْـحَدِيثُ (ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِـى صَحِيحِهِ وَهَذَا مَعْنَـى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفٍ أَىْ ءَامِنُوا بِـهَا وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيـرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ أَىْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِيـنَ إِلَـى اللَّـهِ تَعَالَـى.
(وَقَدْ بَيَّـنَ) الإِمَامُ (أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْـرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِـى تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ) الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِظَوَاهِرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ فَيَجْعَلُونَ الْقُرْءَانَ مُتَنَاقِضًا (وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْـرِىُّ هُوَ الَّذِى وَصَفَهُ الْـحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِىُّ) شَيْخُ الْـحَافِظِ ابنِ عَسَاكِرَ (بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْـحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِـى كِتَابِهِ تَبْيِيـنُ كَذِبِ الْمُفْتَـرِى) فِيمَا نُسِبَ إِلَـى الإِمَامِ أَبِـى الْـحَسَنِ الأَشْعَرِى وَ(قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ الْفَقِيهُ الْـحَنَفِىُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِـى شَرْحِهِ الْمُسَمَّى إِتْـحَافَ السَّادَةِ الْمُتَّـقِيـنَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِـيَّةِ لِأَبِـى نَصْرٍ الْقُشَيْـرِىِّ مَا نَصُّهُ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ﴾ إِنَّـمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِـيَامِ السَّاعَةِ) أَىِ الْقِيَامَةِ (فَإِنَّ الْمُشْرِكِيـنَ سَأَلُوا النَّبِـىَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَـى وُقُوعُهَا) وَهَذَا لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّـهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أَىْ يَسْأَلُكَ يَا مُـحَمَّدُ كُفَّارُ مَكَّةَ مَتَـى وُقُوعُ السَّاعَةِ وَزَمَانُـهَا اسْتِهْزَاءً ﴿قُلْ إِنَّـمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّـى﴾ (فَالْمُتَشَابِهُ) هُنَا (إِشَارَةٌ إِلَـى عِلْمِ الْغَيْبِ) وَهُوَ مَا غَابَ عَنَّا (فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ) أَىْ مُنْتَهَاهَا (إِلَّا اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِـهَذَا قَالَ) تَعَالَـى (﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِـى تَأْوِيلُهُ﴾ أَىْ هَلْ يَنْظُرُونَ) أَىْ يَنْتَظِرُونَ (إِلَّا قِـيَامَ السَّاعَةِ) وَمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْـحِسَابِ وَالْعِقَابِ. (وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ) أَىْ لا يَلِيقُ وَلا يَـجُوزُ لِقَائِلٍ (أَنْ يَقُولَ) إِنَّهُ يُوجَدُ (فِـى كِتَابِ اللَّـهِ تَعَالَـى) أَىِ الْقُرْءَانِ (مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَـى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ، أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ) أَىِ الطَّعْنِ (فِـى النُّبُوَّاتِ وَ)يَتَضَمَّنُ هَذَا الْقَوْلُ (أَنَّ النَّبِـىَّ) ﷺ (مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ) أَىْ مَعْنَـى (مَا وَرَدَ فِـى صِفَاتِ اللَّـهِ تَعَالَـى وَدَعَا الْـخَلْقَ إِلَـى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ. أَلَيْسَ اللَّـهُ يَقُولُ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِـىٍّ مُّبِيـنٍ﴾) أَىْ ظَاهِرِ الْفَصَاحَةِ وَوَاضِحِ الْمَعْنَـى (فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِم يَـجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِـىٍّ مُّبِيـنٍ﴾ إِذْ لَـمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ) أَىْ لَوْ كَانَ فِـى الْقُرْءَانِ مَا لا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَـى مَعْرِفَتِهِ لَقَالَ الْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمُ النَّبِـىُّ ﷺ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَـى الإِيـمَانِ بِالْقُرْءَانِ قَوْلُهُ ﴿مُّبِيـنٌ﴾ كَذِبٌ إِذْ كَيْفَ يَكُونُ بِلِسَانٍ عَرَبِـىٍّ ظَاهِرٍ ثُمَّ لا نَعْرِفُ مَعْنَاهُ (وَ)لَقَالُوا (إِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِى) مُـحَمَّدٌ (أَنَّهُ مِـمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا فَمَا قَوْلٌ فِـى مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَـى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ) مَعْنَاهُ هَذَا يُؤَدِّى إِلَـى تَكْذِيبِ اللَّـهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى. قَالَ الْقُشَيْـرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ (ثُـمَّ كَانَ النَّبِـىُّ ﷺ يَدْعُو النَّاسَ إِلَـى عِبَادَةِ اللَّـهِ تَعَالَـى فَلَوْ كَانَ فِـى كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَـى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أَىْ مَعْنَاهُ (إِلَّا اللَّـهُ تَعَالَـى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّـنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِى تَقُولُ فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِـمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْـرُ مُتَأَتٍّ) أَىْ غَيْرُ مُـمْكِنٍ (وَنِسْبَةُ النَّبِـىِّ ﷺ إِلَـى أَنَّهُ دَعَا إِلَـى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ) أَىْ لا يُعْقَلُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ إِلَـى الإِيـمَانِ بِرَبٍّ لا تُعْلَمُ صِفَاتُهُ (فَإِنَّ الْـجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّى إِلَـى الْـجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِيـنَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ) أَىْ شَىْءٌ مِنْهُ (أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ) أَىْ لا يُعْلَمُ (مَعْنَاهَا وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا تَـمْوِيهٌ) وَخِدَاعٌ (ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ) لِلَّـهِ بِـخَلْقِهِ (وَدُعَاءٌ إِلَـى الْـجَهْلِ) بِـمَعَانِـى هَذِهِ الأَلْفَاظِ فَالْمُشَبِّهَةُ يَـخْدَعُونَ النَّاسَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَتَّـى يَتْـرُكُوا التَّأْوِيلَ وَيَقَعُوا فِـى التَّشْبِيهِ (وَقَدْ وَضَحَ الْـحَقُّ لِذِى عَيْنَيْـنِ) أَىْ لِذِى بَصِيـرَةٍ (وَلَيْتَ شِعْرِى) أَىْ لا أَدْرِى (هَذَا الَّذِى يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطْرُدُ هَذَا الإِنْكَارَ) أَىْ يُعَمِّمُهُ (فِـى كُلِّ شَىْءٍ وَفِـى كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَـرْكِ التَّأْوِيلِ فِـى صِفَاتِ اللَّـه تَعَالَى) أَىْ يَـمْنَعُ التَّأْوِيلَ فِـى صِفَاتِ اللَّـهِ تَعَالَـى فَقَطْ (فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا) أَىْ فِـى الصِّفَاتِ وَغَيْـرِهَا (فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ وَخَبَـرٍ إِلَّا وَيَـحْتَاجُ إِلَـى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِـى الْكَلامِ) إِلَّا الْمُحْكَمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (لِأَنَّ ثَـمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا) وَلا يَـجُوزُ حَـمْلُهَا عَلَى الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَـى عَنِ الرِّيحِ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِـّهَا﴾ (لا خِلافَ بَيْـنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ، وَالِاعْتِقَادُ لِـهَذَا يُؤَدِّى إِلَـى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ) أَىِ اعْتِقَادُ عَدَمِ جَوَازِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا يُبْطِلُ ادِّعَاءَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ (وَإِنْ قَالَ يَـجُوزُ التَّأْوِيلُ) أَىْ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ (عَلَى الْـجُمْلَةِ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّـهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ فَهَذَا مَصِيـرٌ مِنْهُ) أَىْ كَلامُهُ يُؤَدِّى (إِلَـى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْـرِ اللَّـهِ تَعَالَـى يَـجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ) أَىِ الْـخَالِقِ (وَصِفَاتِهِ يَـجِبُ التَّقَاصِى) أَىِ الِابْتِعَادُ (عَنْهُ وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ) فَإِنَّ الْعِلْمَ بِاللَّـهِ تَعَالَـى وَصِفَاتِهِ هُوَ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَقَدْ خَصَّ النَّبِـىُّ ﷺ نَفْسَهُ بِالتَّـرَقِّى فِـى هَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّـهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. (وَسِرُّ الأَمْرِ) أَىْ حَقِيقَتُهُ (أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَـمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ) أَىْ تَأْوِيلِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ (مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْـرَ أَنَّـهُمْ يُدَلِّسُونَ) أَىْ يُـمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ (وَيَقُولُونَ) بِأَلْسِنَتِهِمْ (لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِى وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَ)يَقُولُونَ بِاللَّفْظِ اسْتِوَاءُ اللَّـهِ (اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا) وَفِـى الِاعْتِقَادِ يَعْتَقِدُونَ الْـجِسْمَ الَّذِى تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ (فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ) مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ إِذَا سَـمِعَ كَلامَهُمْ (هَذَا كَلامٌ) فِيهِ إِشْكَالٌ وَ(لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ قَوْلُكُمْ نُـجْرِى الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ) فَإِنَّكَ (إِنْ أَجْرَيْتَ) الأَمْرَ (عَلَى الظَّاهِرِ) أَىْ أَخَذْتَ بِظَاهِرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ (فَظَاهِرُ السَّاقِ فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْـجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ) الَّذِى يَـحْوِيهِ الْعَظْمُ فَتَكُونُ بِذَلِكَ أَثْبَتَّ لِلَّـهِ هَذَا الْعُضْوَ الَّذِى نَعْرِفُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا (فَإِنْ أَخَذْتَ بِـهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِـهَذِهِ الأَعْضَاءِ) أَىْ إِنْ قُلْتَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِى أَعْنِيهِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ فِـى اللَّـهِ الْـجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ (فَهُوَ الْكُفْرُ وَإِنْ لَـمْ يُـمْكِنْكَ الأَخْذُ بِـهَا) أَىْ إِنْ كُنْتَ لا تَعْتَقِدُ فِـى اللَّـهِ الْـجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ (فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ) أَىْ تَنَزُّهَ (الرَّبِّ تَعَالَـى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ) تَرْكُ الظَّاهِرِ (أَخْذًا بِالظَّاهِرِ) هَذَا تَنَاقُضٌ. (وَإِنْ قَالَ الْـخَصْمُ) لِلتَّهَرُّبِ مِنْ إِقَامَةِ الْـحُجَّةِ عَلَيْهِ (هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَـى لَـهَا أَصْلًا) أَىْ إِنْ قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِـى نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَيْسَ لَـهَا مَعْنًـى فِـى اللُّغَةِ (فَهُوَ حُكْمٌ) مُنْهُ (بِأَنَّـهَا مُلْغَاةٌ وَ)بِأَنَّهُ (مَا كَانَ فِـى إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِىَ هَدَرٌ) أَىْ لا قِيمَةَ وَلا اعْتِبَارَ لَـهَا (وَهَذَا مُـحَالٌ) لِأَنَّ الْقُرْءَانَ مُنَزَّهٌ عَنِ اللَّغْوِ (وَفِـى لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ) أَىِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ (وَالتَّوَسُّعِ فِـى الْـخِطَابِ وَكَانُوا) أَىِ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ الَّذِينَ يُـحْتَجُّ بِكَلامِهِمْ فِـى اللُّغَةِ (يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ) أَىْ يَعْرِفُونَ فِـى أَىِّ مَعْنًـى وَرَدَ وَأَىَّ مَعْنًـى قُصِدَ (فَمَنْ تَـجَافَـى) أَىِ ابْتَعَدَ (عَنِ التَّأْوِيلِ) حَيْثُ يَنْبَغِى (فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ) فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ تَأْوِيلَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ وَأَخَذَ بِظَاهِرِهَا هَلَكَ وَخَرَجَ عَنْ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ (وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ) أَىْ مَنْ وَسِعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الأَصْلِيَّةِ (هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْـحَقَائِقِ) أَىْ إِدْرَاكُهَا. (وَقَدْ قِيلَ) أَىْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَـى (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِـى الْعِلْمِ﴾) بِالْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَـرِىُّ فِـى تَفْسِيـرِهِ عَنْ مُـجَاهِدٍ (فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِـى الْعِلْمِ) أَىِ الْمُتَمَكِّنُونَ فِيهِ (أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ) أَىْ يَعْلَمُونَ مَعْنَـى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى يَـجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ (وَيَقُولُونَ ﴿ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾) أَىْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِوَحْىٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّـمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْم)ِ بِهِ (أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ) بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَالإِيـمَانُ بِهِ غَيْـرُ مُتَأَتٍّ) أَىْ غَيْـرُ مُـمْكِنٍ (وَلِـهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُمَا (أَنَا مِنَ الرَّاسِخِيـنَ فِـى الْعِلْمِ) رَوَاهُ الطَّبَـرِىُّ (انْتَهَى كَلامُ الْـحَافِظِ الزَّبِيدِىِّ مِـمَّا نَقَلَهُ عَنِ) الإِمَامِ (أَبِـى نَصْرٍ الْقُشَيْـرِىِّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ).
(فَهُنَا مَسْلَكَانِ) فِـى تَأْوِيلِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ (كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الأَوَّلُ مَسْلَكُ السَّلَفِ وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى) قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَقَرْنِ التَّابِعِيـنَ وَقَرْنِ أَتْبَاعِ التَّابِعِيـنَ (أَىْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّـهُمْ يُؤَوِّلُونَـهَا تَأْوِيلًا إِجْـمَالِيًّا) أَىْ (بِالإِيـمَانِ بِـهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّـهَا لَيْسَتْ) شَيْئًا (مِنْ صِفَاتِ الْـجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَـهَا مَعْنًـى يَلِيقُ بِـجَلالِ اللَّـهِ وَعَظَمَتِهِ بِلا تَعْيِيـنٍ) لِلْمَعْنَـى الْمُرَادِ (بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ) مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ (إِلَـى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾) وَهَذَا هُوَ مَسْلَكُ أَكْثَرِ السَّلَفِ (وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ ءَامَنْتُ بِـمَا جَاءَ عَنِ اللَّـهِ عَلَى مُرَادِ اللَّـهِ وَبِـمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّـهِ، يَعْنِـى رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِـى الْـحِسِّيَّةِ الْـجِسْمِيَّةِ الَّتِـى لا تَـجُوزُ فِـى حَقِّ اللَّـهِ تَعَالَـى) أَىْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّـهِ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ الأَجْسَامِ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْـحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ (ثُـمَّ نَفْىُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ) النَّاسِ (مَرْدُودٌ بِـمَا فِـى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ فِـى كِتَابِ تَفْسِيـرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ سُورَةُ الْقَصَصِ ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إِلَّا مُلْكَهُ) وَمُلْكُ اللَّـهِ أَىْ سُلْطَانُهُ فَإِنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذَا الْعَالَـمِ وَسُلْطَانُهُ لا يَفْنَـى (وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ) أَىِ الأَعْمَالُ الصَّالِـحَةُ فَإِنَّـهَا تَبْقَى لِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِـحَاتُ خَيْـرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (فَمُلْكُ اللَّـهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ كَالْمُلْكِ) الْـحَادِثِ (الَّذِى يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ) فَمُلْكُ أَحْبَابِ اللَّـهِ كَسُلَيْمَانَ وَذِى الْقَرْنَيْـنِ وَمُلْكُ أَعْدَاءِ اللَّـهِ كَنُمْرُودَ وَفِرْعَوْنَ يَفْنَـى أَمَّا مُلْكُ اللَّـهِ فَإِنَّهُ لا يَفْنَـى. (وَفِيهِ) أَىْ فِـى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ (غَيْـرُ هَذَا الْمَوْضِعِ) مِنَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ (كَتَأْوِيلِ) الْبُخَارِىِّ (الضَّحِكَ الْوَارِدَ فِـى الْـحَدِيثِ) الَّذِى فِيهِ ضَحِكَ اللَّـهُ اللَّيْلَةَ (بِالرَّحْـمَةِ) نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الْـخَطَّابِـىُّ وَقَالَ وَقَدْ تَأَوَّلَ الْبُخَارِىُّ الضَّحِكَ فِـى مَوْضِعٍ ءَاخَرَ عَلَى مَعْنَـى الرَّحْـمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَـى الرِّضَا أَقْرَبُ (وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْـمَدَ) بنِ حَنْبَلٍ (وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّـمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ) أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِـى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِـجُزْءٍ كَبِيـرٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَـى الْمَوْقِفِ حَتَّـى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَشَهَادَةِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلِ بِـمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْـخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. وَهَذَا الأَثَرُ عَنِ الإِمَامِ أَحْـمَدَ (صَحَّحَ سَنَدَهُ الْـحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْـحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ) أَبُو سَعِيدٍ (الْعَلائِـىُّ لَـمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِـىِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُـهُمَا) أَىْ فِـى عِلْمِ الْـحَدِيثِ.
(أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِىِّ ذَلِكَ فَفِى كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْـمَدَ وَأَمَّا قَوْلُ الْـحَافِظِ أَبِـى سَعِيدٍ الْعَلائِـىِّ فِـى الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِـىِّ فَذَلِكَ فِـى كِتَابِهِ الْوَشْىُ الْمُعْلَمُ وَأَمَّا الْـحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِى يَقُولُ فِيهِ الْـحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ شَيْخُ مَشَايـِخِنَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْـهِجْرِىِّ).
(وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيـرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِـى تَآلِيفِهِمْ أَنَّ) الإِمَامَ (أَحْـمَدَ أَوَّلَ) تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا (مِنْهُمُ الْـحَافِظُ عَبْدُ الرَّحـْمـٰنِ بنُ الْـجَوْزِىِّ الَّذِى) تُوُفِّـىَ فِـى أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسِ وَ(هُوَ أَحَدُ أَسَاطِيـنِ) أَىْ أَعْمِدَةِ (الْمَذْهَبِ الْـحَنْبَلِىِّ لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْـمَدَ).
وَبَعْدَ أَنْ أَنْـهَى الْمُصَنِّفُ الْكَلامَ عَلَى مَسْلَكِ السَّلَفِ قَالَ وَ(الثَّانِـى مَسْلَكُ الْـخَلَفِ) وَهُمْ مَنْ جَاءُوا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَـى (وَهُمْ يُؤَوِّلُونَـهَا) أَىِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةَ (تَفْصِيلًا بِتَعْيِيـنِ مَعَانٍ لَـهَا مِـمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلا يَـحْمِلُونَـهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ وَلا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا سِيَّمَا عِنْدَ الْـخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ) عِنْدَ إِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى الْعَوَامِّ (حِفْظًا) لَـهُمْ (مِنَ التَّشْبِيهِ) وَهَذَا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِىُّ هُوَ (مِثْلُ) تَأْوِيلِ (قَوْلِهِ تَعَالَـى فِـى تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ﴾ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ الْعِنَايَةُ وَالْـحِفْظُ) أَىْ مَا مَنَعَكَ يَا إِبْلِيسُ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِعِنَايَتِـى وَحِفْظِى أَىْ لِمَنْ أَكْرَمْتُهُ وَأَرَدْتُ لَهُ الْمَقَامَ الْعَالِـىَ وَالْـخَيْـرَ الْعَظِيمَ وَهُوَ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
(تَفْسِيـرُ قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿مِنْ رُّوحِى﴾)
(لِيُعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى) هُوَ (خَالِقُ الرُّوحِ وَالْـجَسَدِ فَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا وَمَعَ ذَلِكَ أَضَافَ اللَّـهُ تَعَالَـى رُوحَ عِيسَى ﷺ إِلَـى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَـى الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ) أَىِ التَّعْظِيمِ (لا لِلْجُزْئِيَّةِ) أَىْ لا بِـمَعْنَـى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّـهِ إِنَّـمَا لِلدِّلالَةِ عَلَى شَرَفِ رُوحِ عِيسَى عِنْدَ اللَّـهِ وَهَذَا (فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَكَذَلِكَ فِـى حَقِّ ءَادَمَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿مِنْ رُّوحِى﴾، فَمَعْنَـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ أَمَرْنَا جِبْـرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِـى مَرْيـَمَ الرُّوحَ الَّتِـى هِىَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الأَرْوَاحَ قِسْمَانِ أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ) لَـهَا مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّـهِ كَأَرْوَاحِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ (وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ) لا يُـحِبُّهَا اللَّـهُ وَهِىَ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ (وَ)أَمَّا (أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ) فَهِىَ (مِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى وَرُوحِ ءَادَمَ إِلَـى نَفْسِهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَتَشْرِيفٍ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى رُوحٌ فَالرُّوحُ مَـخْلُوقَةٌ) وَهِىَ جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يُـجَسُّ بِالْيَدِ (تَنَزَّهَ اللَّـهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَـى فِـى الْكَعْبَةِ ﴿بَيْتِـىَ﴾ فَهِىَ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِلتَّشْرِيفِ) أَىْ لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّـهَا بَيْتٌ مُشَرَّفٌ أَىْ مُعَظَّمٌ عِنْدَ اللَّـهِ (لا إِضَافَةُ صِفَةٍ أَوْ) إِضَافَةُ (مُلابَسَةٍ) كَالْـحُلُولِ فِيهِ أَىْ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّـهَ يَسْكُنُهَا (لِاسْتِحَالَةِ الْمُلامَسَةِ أَوِ الْمُمَاسَّةِ بَيْنَ اللَّـهِ وَالْكَعْبَةِ) فَإِضَافَةُ الْبَيْتِ إِلَـى اللَّـهِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّـهِ تَعَالَـى ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾ لَيْسَ إِلَّا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّـهَ خَالِقُ الْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ) وَ(لَيْسَ لِأَنَّ الْعَرْشَ لَهُ مُلابَسَةٌ لِلَّـهِ بِالْـجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوْ بِـمُحَاذَاتِهِ مِنْ غَيْـرِ جُلُوسٍ) أَىْ (لَيْسَ الْمَعْنَـى أَنَّ اللَّـهَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ بِاتِّصَالٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَـى أَنَّ اللَّـهَ مُـحَاذٍ لِلْعَرْشِ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْـنَ اللَّـهِ وَبَيْـنَ الْعَرْشِ إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ وَاسِعًا أَوْ قَصِيرًا) بَلْ (كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّـهِ) لِأَنَّ اللَّـهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْـجِسْمِيَّةِ أَىْ لَيْسَ جِسْمًا (وَإِنَّـمَا مَزِيَّةُ الْعَرْشِ أَنَّهُ كَعْبَةُ الْمَلائِكَةِ الْـحَافِّيـنَ مِنْ حَوْلِهِ) شُرِّفَ بِطَوَافِ الْمَلائِكَةِ بِهِ (كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ شُرِّفَتْ بِطَوَافِ الْمُؤْمِنِينَ بِـهَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْعَرْشِ أَنَّهُ لَـمْ يُعْصَ اللَّـهُ تَعَالَـى فِيهِ لِأَنَّ مَنْ حَوْلَهُ كُلَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) أَىْ مُعَظَّمُونَ عِنْدَ اللَّـهِ (لا يَعْصُونَ اللَّـهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَ)أَمَّا (مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّـهَ خَلَقَ الْعَرْشَ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّـهَ) تَعَالَـى (بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأَسِرَّةَ الْكِبَارَ لِيَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَـمْ يَعْرِفِ اللَّـهَ) وَمَنْ لَـمْ يَعْرِفِ اللَّـهَ لا يَكُونُ مُسْلِمًا (وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْمُمَاسَّةَ) بَيْـنَ اللَّـهِ وَالْعَرْشِ (لِاسْتِحَالَتِهَا فِـى حَقِّ اللَّـهِ تَعَالَـى) لِأَنَّ الْمُمَاسَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا بَيْـنَ جِسْمَيْـنِ.
(تَفْسِيـرُ الآيَةِ ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾)
قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ أَىْ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى وَلا يَـجُوزُ تَفْسِيـرُهَا بِالْـجُلُوسِ بَلْ (يَـجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيـرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْـرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَـحْوِ ذَلِكَ) مِنْ صِفَاتِ الْـخَلْقِ (وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَرْكُ الْـحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بَلْ يُـحْمَلُ عَلَى مَـحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِـى الْعُقُولِ فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْقَهْرِ) وَمَعْنَـى قَهْرِ اللَّـهِ لِلْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّ الْعَرْشَ تَـحْتَ تَصَرُّفِ اللَّـهِ هُوَ أَوْجَدَهُ وَحَفِظَهُ وَأَبْقَاهُ حَفِظَهُ مِنَ الْـهُوِىِّ وَالسُّقُوطِ وَلَوْلا حِفْظُ اللَّـهِ لَهُ لَـهَوَى وَتَـحَطَّمَ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِـى لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَـمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًـى مِنْهَا مَا لا يَلِيقُ بِاللَّـهِ كَالْـجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَمِنْهَا مَا يَلِيقُ بِاللَّـهِ كَالْقَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ (فَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ) أَىِ اسْتَوْلَـى عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ (كَقَوْلِ الشَّاعِرِ) الأُمَوِىِّ فِـى بِشْرِ بنِ مَرْوَانَ (قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْـرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ) أَىْ سَيْطَرَ عَلَى الْعِرَاقِ وَمَلَكَهَا مِنْ غَيْـرِ حَرْبٍ وَإِرَاقَةِ دِمَاءٍ فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ كُلُّ شَىْءٍ مَقْهُورًا لِلَّـهِ فَمَا (فَائِدَةُ تَـخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ) فَيُقَالُ فَائِدَتُهُ (أَنَّهُ أَعْظَمُ مَـخْلُوقَاتِ اللَّـهِ تَعَالَـى حَجْمًا فَيُعْلَمُ) مِنْ ذَلِكَ (شُـمُولُ مَا دُونَهُ) بِالْقَهْرِ (مِنْ بَابِ الأَوْلَـى قَالَ الإِمَامُ عَلِـىٌّ) رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ (إِنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ) أَىْ خَلَقَهُ حَتَّـى يُظْهِرَ لِـخَلْقِهِ أَنَّهُ تَامُّ الْقُدْرَةِ (وَلَـمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغُوِىُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ فِـى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْـنَ الْفِرَقِ) فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اسْتَوَى بِـمَعْنَـى قَهَرَ (أَوْ يُقَالَ اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ) مِنْ غَيْـرِ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْقَهْرِ أَوْ نَـحْوِهِ (مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْـجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ) وَالْمُحَاذَاةِ أَىْ كَوْنِ الشَّىْءِ فِـى مُقَابِلِ شَىْءٍ.
(وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَـجِبُ الْـحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُـجِيزُونَ عَلَى اللَّـهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ) وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ (مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْـجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ مِنْ فَوْقٍ وَمُدَّعِيـنَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِـى مَكَانٍ وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَىْ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ التَّحَيُّزُ فِـى الْمَكَانِ وَالْـجِهَةِ أَلَيْسَ اللَّـهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ وَكُلِّ مَا سِوَاهُ بِشَهَادَةِ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ كَانَ اللَّـهُ وَلَـمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْـرُهُ. فَالْمَكَانُ وَالْـجِهَاتُ وَالْـحَجْمُ غَيْـرُ اللَّـهِ فَإِذَا صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَـى شَرْعًا وَعَقْلًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالْـجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ عَلَى زَعْمِ هَؤُلاءِ وُجُودُهُ تَعَالَـى بِلا مَكَانٍ ولا جِهَةٍ بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالْـجِهَاتِ وَمُصِيبَةُ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةِ أَنَّـهُمْ قَاسُوا الْـخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا فَإِنَّـهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الآيَةِ ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ مُفَسِّرِينَ لَـهَا بِالْـجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ (وَمُدَّعِيـنَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَـمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِى نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْـجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ فِـى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ وَكُلُّ الْـهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْتِقَالٍ) فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِىُّ فِـى كِتَابِ الْمُعْتَقَدِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الأَوْزَاعِىِّ وَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَاللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ أَنَّـهُمْ سُئِلُوا عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِـهَةِ فَقَالُوا أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ، أَىْ ءَامِنُوا بِـهَا وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ أَىْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِيـنَ إِلَـى اللَّـهِ. قَالَ الْـحَافِظُ الزَّبِيدِىُّ (وَالَّذِى يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ) أَىْ يُبْطِلُهَا (أَنْ يُقَالَ لَـهُمْ قَبْلَ أَنْ يَـخْلُقَ) اللَّـهُ (الْعَالَـمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ) أَىْ يَلْزَمُ الْمُشَبِّهَ (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِـى مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَـمُ قَدِيـمٌ) أَىْ أَزَلِـىٌّ كَمَا أَنَّ اللَّـهَ أَزَلِـىٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ شَرِيكٍ لِلَّـهِ فِـى الأَزَلِيَّةِ وَهُوَ كُفْرٌ (وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ) كُلُّ مَوْجُودٍ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِـى مَكَانٍ وَالْمَكَانُ حَادِثٌ فَإِذًا (الرَّبُّ تَعَالَـى مُـحْدَثٌ) أَىْ مَـخْلُوقٌ وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا (وَهَذَا) هُوَ (مَآلُ) كَلامِ (الْـجَهَلَةِ الْـحَشْوِيَّةِ) الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّـهِ الْمَكَانَ فَيُقَالُ لَـهُمْ (لَيْسَ الْقَدِيـمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيـمِ) أَىْ لا يَكُونُ الأَزَلِـىُّ مُـحْدَثًا وَلا يَكُونُ الْمُحْدَثُ أَزَلِيًّا (وَقَالَ الْقُشَيْـرِىُّ أَيْضًا فِـى التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِـيَّةِ فَإِنْ قِيلَ) أَىْ إِذَا قَالَ الْمُشَبِّهَةُ لَنَا (أَلَيْسَ اللَّـهُ يَقُولُ ﴿الرَّحْـمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ قُلْنَا) لَـهُمُ (اللَّـهُ) تَعَالَـى (يَقُولُ أَيْضًا ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وَيَقُولُ تَعَالَـى ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّـحِيطٌ﴾ فَيَنْبَغِى أَيْضًا) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّـى يَكُونَ) مُسْتَقِرًّا (عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا) بِذَاتِهِ فِـى الأَرْضِ (وَمُـحِيطًا بِالْعَالَـمِ مُـحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ) كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِـمَا فِيهَا (فِـى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَ)مَعْلُومٌ أَنَّ الشَّىْءَ (الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِـى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ) وَفِـى وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ الْقُشَيْـرِىُّ حُجَّةٌ مُفْحِمَةٌ قَاطِعَةٌ. (قَالَ الْقُشَيْـرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ) فَإِنْ (قَالُوا قَوْلُهُ) تَعَالَـى (﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِـى بِالْعِلْمِ وَ)قَوْلُهُ (﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّـحِيطٌ﴾) أَىْ (إِحَاطَةُ الْعِلْمِ قُلْنَا وَقَوْلُهُ) تَعَالَـى (﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) أَىْ (قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى) وَهَذَا (يَعْنِـى أَنَّـهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَـمْ يَـحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْـرِهِمْ تَأْوِيلَ) أَىْ تَفْسِيـرَ (ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ) أَىْ مَا هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِـى بِلا دَلِيلٍ.
(ثُمَّ قَالَ الْقُشَيْـرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ) أَىْ لَوْ كَانَ تَفْسِيـرُ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ يُشْعِرُ أَنَّ اللَّـهَ كَانَ مُغَالَبًا أَىْ كَانَ يَتَشَاجَرُ وَيَتَغَالَبُ مَعَ غَيْـرِهِ (لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ) تَعَالَـى (﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّـى يُقَالَ) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ، هَيْهَاتَ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ (إِذْ لَـمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّـمَهُ) هَؤُلاءِ (الْـجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّـرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَـى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ) وُجُودِ (الْعَرْشِ. وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى) أَىْ تَـمَّ وُجُودُهُ وَبَقِىَ بِإِيـجَادِ اللَّـهِ لَهُ وَإِبْقَائِهِ (أَمْثَلُ) أَىْ أَحْسَنُ (مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى) لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى جَعَلَ إِحْدَاثَ اللَّـهِ لِلْعَرْشِ مُغَيِّـرًا لِصِفَتِهِ تَعَالَـى وَهُوَ بَاطِلٌ (فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ) أَىْ عُلُوِّ الْقَدْرِ (وَفَوْقِـيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِـى الْمَكَانِ) وَالْـجِهَةِ (وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ) أَىِ الْمُقَابَلَةِ.
(قَالَ الْقُشَيْـرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ وَقَدْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ) أَىْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السُّفَهَاءِ (لَوْلا اسْتِنْزَالُـهُمْ لِلْعَوَامِّ) أَىِ اسْتِدَرَاجُهُمْ لَـهُمْ لِإِيقَاعِهِمْ (بِـمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِـى أَوْهَامِهِمْ) مِنَ التَّشْبِيهِ (لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ) أَىْ لَوْلا حَاجَةُ التَّحْذِيرِ مِنْهُمْ مَا كُنْتُ ذَكَرْتُـهُمْ (يَقُولُونَ نَـحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَنُـجْرِى الآيَاتِ الْمُوهِـمَةَ تَشْبِيهًا) لِلَّـهِ بِـخَلْقِهِ (وَالأَخْبَارَ) الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِـىِّ ﷺ (الْمُوهِـمَةَ حَدًّا) لِلَّـهِ تَعَالَـى (وَعُضْوًا عَلَى) هَذَا (الظَّاهِرِ وَلا يَـجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَـى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَىْ لا يَـجُوزُ أَنْ نُؤَوِّلَ شَيْئًا مِنْهَا (وَيَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَـى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ﴾. وَهَؤُلاءِ وَالَّذِى أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ) أَىْ تَـحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ (أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ) وَأَهْلِهِ (مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ) الْمُعْلِنِيـنَ (ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَ)أَمَّا (هَؤُلاءِ) الْمُبْتَدِعَةُ فِـى الِاعْتِقَادِ فَإِنَّـهُمْ (أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ (مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَـرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ) أَىِ الضُّعَفَاءُ فِـى الْعَقِيدَةِ (فَأَوْحَوْا إِلَـى أَوْلِيَائِهِمْ) أَىْ أَتْبَاعِهِمْ (بِـهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِـى قُلُوبِـهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْـجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ) الْـحِسِّىِّ (وَالِاتِّكَاءِ) أَىِ الِاسْتِنَادِ عَلَى شَىْءٍ (وَالِاسْتِلْقَاءِ) عَلَى الْقَفَى أَوْ عَلَى جَنْبٍ (وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ) أَىْ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِيـنَ (وَالتَّـرَدُّدِ) أَىِ التَّنَقُّلِ (فِـى الْـجِهَاتِ فَمَنْ أَصْغَى إِلَـى) قَوْلِـهِمْ وَاتَّبَعَ (ظَاهِرَهُمْ يُبَادِرُ بِوَهْـمِهِ إِلَـى تَـخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ) أَىِ الأَشْيَاءِ الَّتِـى نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِـى حَقِّ اللَّـهِ (فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ) أَىْ هَلَكَ (وَهُوَ لا يَدْرِى). فَهَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةُ يُوهِـمُونَ النَّاسَ أَنَّ اللَّـهَ مِثْلُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْبَشَرِ وَالضَّوْءِ وَنَـحْوِ ذَلِكَ.
(فَتَبَيَّـنَ) بِذَلِكَ (أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ التَّأْوِيلَ) لِلآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِـهَةِ أَىْ إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا (غَيْـرُ جَائِزٍ) هُوَ (خَبْطٌ وَجَهْلٌ) أَىْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ (وَ)لا عِلْمٍ بَلْ (هُوَ مَـحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ ﷺ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْـحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْـرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِىِّ) وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ أَحْـمَدُ فِـى مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِـىُّ فِـى الْمُعْجَمِ الْكَبِيـرِ فَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ غَيْـرَ جَائِزٍ لَمَا دَعَا النَّبِىُّ ﷺ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّـهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّـهُ تَأْوِيلَ الْقُرْءَانِ وَالْـحَدِيثِ. (قَالَ الْـحَافِظُ) عَبْدُ الرَّحْـمـٰنِ (بنُ الْـجَوْزِىِّ) الْـحَنْبَلِىُّ (فِـى كِتَابِهِ الْمَجَالِسُ وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّـهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ ﷺ هَذَا، وَشَدَّدَ النَّكِيـرَ وَالتَّشْنِيعَ) أَىْ أَنْكَرَ إِنْكَارًا شَدِيدًا (عَلَى مَنْ يَـمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِـى ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ).
(وَمَعْنَـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿يَـخَافُونَ رَبَّـهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ فَوْقِـيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ) فَوْقِـيَّةِ (الْمَكَانِ وَالْـجِهَةِ أَىْ لَيْسَ فَوْقِـيَّةَ الْمَكَانِ وَالْـجِهَةِ) لِأَنَّ اللَّـهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالْـجِهَةِ. وَفِـى الآيَةِ مَـجَازُ حَذْفٍ يَـخَافُونَ رَبَّـهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ أَىْ يَـخَافُونَ عِقَابَ رَبِّـهِمْ وَعَذَابَهُ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمُهْلِكَ أَكْثَرُهُ يَأْتِى مِنَ السَّمَاءِ.
(وَمَعْنَـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) جَاءَتْ قُدْرَتُهُ أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ أَىِ الأُمُورُ الْعِظَامُ الَّتِـى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ(لَيْسَ) مَعْنَاهُ (مَـجِىءَ الْـحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغَ مَكَانٍ وَمَلْءَ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَـى اللَّـهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ) فَإِنَّهُ (يَكْفُرُ فَاللَّـهُ تَعَالَـى خَلَقَ الْـحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْـحَوَادِثِ) أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (فَلا يُوصَفُ اللَّـهُ تَعَالَـى بِالْـحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ. وَالْمَعْنِـىُّ بِقَوْلِهِ) تَعَالَـى (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَىْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ) لِأَنَّ صِفَةَ اللَّـهِ لا تُفَارِقُ ذَاتَهُ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْـمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّـمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِـى مَنَاقِبِ أَحْـمَدَ) بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ (وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ). وأَمَّا مَـجِىءُ الْمَلائِكَةِ فَهُوَ الْمَجِىءُ الْمَحْسُوسُ الَّذِى هُوَ حَرَكَةٌ وَانْتِقَالٌ، فَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِمَعْنَيَيْـنِ مُـخْتَلِفَيْـنِ.
(تَفْسِيـرُ مَعِيَّةِ اللَّـهِ الْمَذْكُورَةِ فِـى الْقُرْءَانِ)
(وَمَعْنَـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ) لا بِالْـجِهَةِ أَىْ عَالِـمٌ بِكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ (وَتَأْتِـى الْمَعِيَّةُ أَيْضًا بِـمَعْنَـى النُّصْرَةِ وَالْكِلاءَةِ) أَىِ الْـحِفْظِ وَهِىَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِيـنَ الأَتْقِيَاءِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾) فَاللَّـهُ تَعَالَـى نَصَرَ الأَوْلِيَاءَ وَحَفِظَهُمْ مِنْ أَنْ يُغْرِقَهُمُ الشَّيْطَانُ فِـى الْمَعَاصِى (وَلَيْسَ الْمَعْنِـىُّ بِـهَا) أَىْ بِالْمَعِيَّةِ (الْـحُلُولَ وَالِاتِّصَالَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ) فِـى حَقِّ اللَّـهِ (لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ فَلا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَـمِ وَلا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ صِفَاتِ الْـحَجْمِ وَالْـحَجْمُ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ الأَمْرَيْنِ) لِأَنَّهُ حَادِثٌ أَىْ مَـخْلُوقٌ (وَاللَّـهُ جَلَّ وَعَلا لَيْسَ بِـحَادِثٍ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾).
(وَلا يُوصَفُ اللَّـهُ تَعَالَـى بِالْكِبَـرِ حَجْمًا وَلا بِالصِّغَرِ وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ لِأَنَّهُ مُـخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ غَيْـرُ مُشَابِهٍ لَـهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَهُوَ الْعَلِـىُّ الْكَبِيـرُ﴾ فَمَعْنَاهُ كَبِيـرُ الْقَدْرِ. (وَيَـجِبُ طَرْدُ كُلِّ فِكْرَةٍ عَنِ الأَذْهَانِ تُفْضِى إِلَـى تَقْدِيرِ اللَّـهِ تَعَالَـى وَتَـحْدِيدِهِ) أَىْ تُؤَدِّى إِلَـى وَصْفِ اللَّـهِ بِالْـحَدِّ وَالْمِقْدَارِ لِأَنَّ اللَّـهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ قَالَ الْـحَافِظُ الْفَقِيهُ مُـحَمَّدٌ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِـى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ مَنْ جَعَلَ اللَّـهَ تَعَالَـى مُقَدَّرًا بِـمِقْدَارٍ كَفَرَ وَقَالَ الإِمَامُ عَلِـىٌّ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَــٰهَنَا مَـحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْـخَالِقَ الْمَعْبُودَ رَوَاهُ الْـحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِـى كِتَابِهِ حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ. وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ مَا لَهُ حَجْمٌ صَغِيـرًا كَانَ أَوْ كَبِيـرًا.
وَ(كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إِلَـى اللَّـهِ تَعَالَـى التَّعَبَ فَقَالُوا إِنَّهُ بَعْدَ) أَنْ (خَلَقَ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضَ) فِـى سِتَّةِ أَيَّامٍ (اسْتَـرَاحَ) يَوْمَ السَّبْتِ (فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَقَوْلُـهُمْ هَذَا كُفْرٌ) لِأَنَّـهُمْ جَعَلُوهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ وَوَصَفُوهُ بِأَوْصَافِ الْـخَلْقِ (وَ)كَذَلِكَ الْوَهَّابِيَّةُ جَعَلَتْهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ فَهُمْ إِخْوَةُ الْيَهُودِ وَإِنْ ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّـهُمْ مُوَحِّدُونَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ (اللَّـهَ تَعَالَـى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ) أَىْ عَنِ الْـجِسْمِيَّةِ (وَعَنِ الِانْفِعَالِ كَالإِحْسَاسِ بِالتَّعَبِ وَالآلامِ وَاللَّذَّاتِ) لِأَنَّـهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ (فَالَّذِى تَلْحَقُهُ هَذِهِ الأَحْوَالُ يَـجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا) أَىْ (مَـخْلُوقًا يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَـى) كَمَا (قَالَ تَعَالَـى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِـى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾) أَىْ وَمَا أَصَابَنَا مِنْ تَعَبٍ (إِنَّـمَا يَلْغَبُ) أَىْ يَتْعَبُ (مَنْ يَعْمَلُ بِالْـجَوَارِحِ) أَىِ الأَعْضَاءِ (وَاللَّـهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى مُنَزَّهٌ عَنِ الْـجَارِحَةِ) فَهُوَ يَفْعَلُ بِلا جَارِحَةٍ وَلا حَرَكَةٍ وَلا ءَالَةٍ وَلا مُـمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ (قَالَ تَعَالَـى ﴿إِنَّ اللَّـهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيـرُ﴾ فَاللَّـهُ تَعَالَـى سَـمِيعٌ وَبَصِيـرٌ بِلا كَيْفِيَّةٍ) أَىْ سَـمْعُهُ وَبَصَرُهُ لَيْسَ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ (فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُـمَا صِفَتَانِ) لِلَّـهِ (أَزَلِيَّتَانِ بِلا جَارِحَةٍ أَىْ بِلا أُذُنٍ أَوْ حَدَقَةٍ وَبِلا شَرْطِ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَوْ جِهَةٍ وَبِدُونِ انْبِعَاثِ شُعَاعٍ مِنَ الْبَصَرِ أَوْ تَـمَوُّجِ هَوَاءٍ. وَمَنْ قَالَ لِلَّـهِ أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَوْ قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا بِـخِلافِ مَنْ قَالَ لَهُ عَيْـنٌ لَيْسَتْ كَعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا) وَوَجْهٌ لَيْسَ كَوُجُوهِنَا (بَلْ بِـمَعْنَـى الصِّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ إِطْلاقِ الْعَيْـنِ وَالْيَدِ) وَالْوَجْهِ عَلَى اللَّـهِ (فِـى الْقُرْءَانِ) لَكِنْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّـهِ عَنِ الْـجَوَارِحِ (وَلَـمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ) لا فِـى الْكِتَابِ وَلا فِـى السُّنَّةِ.
(تَفْسِيـرُ قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ﴾)
(قَالَ) اللَّـهُ (تَعَالَـى ﴿وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ﴾) وَ(الْمَعْنَـى) أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مِلْكٌ لِلَّـهِ (فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِـى صَلاةِ النَّفْلِ فِـى السَّفَرِ) عَلَى الرَّاحِلَةِ (فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّـهِ أَىْ فَتِلْكَ الْوِجْهَةُ الَّتِـى تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا هِىَ قِبْلَةٌ لَكُمْ) فِـى صَلاتِكُمْ وَأَنْتُمْ رَاكِبُونَ الدَّابَّةَ لَكِنْ لا بُدَّ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ تَكْبِيـرَةِ الإِحْرَامِ (وَلا يُرَادُ بِالْوَجْهِ) هُنَا (الْـجَارِحَةُ) أَىِ الْـجُزْءُ الْمُرَكَّبُ عَلَى الْبَدَنِ (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْـجَارِحَةَ لِلَّـهِ التَّكْفِيـرُ) قَطْعًا أَىْ بِلا شَكٍّ. وَيَكْفِى فِـى تَنْزِيهِ اللَّـهِ عَنِ الْـجَوَارِحِ أَىِ الأَعْضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا) وَ(يَـجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَـجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْفَنَاءِ) وَالتَّغَيُّرِ. (وَقَدْ يُرَادُ بِالْوَجْهِ) فِـى هَذِهِ الآيَةِ (الْـجِهَةُ الَّتِـى يُرَادُ بِـهَا التَّقَرُّبُ إِلَـى اللَّـهِ تَعَالَـى كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهِ اللَّـهِ وَمَعْنَـى ذَلِكَ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا) مِنَ الْـخَيْـرِ تَقَرُّبًا إِلَـى اللَّـهِ وَ(امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّـهِ تَعَالَـى) كَمَا فِـى حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَـى وَجْهِ اللَّـهِ إِذَا كَانَتْ فِـى قَعْرِ بَيْتِهَا. وَمَعْنَـى وَجْهِ اللَّـهِ هُنَا طَاعَةُ اللَّـهِ. (وَيَـحْرُمُ أَنْ يُقَالَ كَمَا شَاعَ بَيْـنَ الْـجُهَّالِ افْتَحِ النَّافِذَةَ لِنَرَى وَجْهَ اللَّـهِ لِأَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى قَالَ لِمُوسَى ﴿لَنْ تَرَانِـى﴾) أَىْ فِـى الدُّنْيَا (وَلَوْ لَـمْ يَكُنْ قَصْدُ النَّاطِقِيـنَ بِهِ رُؤْيَةَ اللَّـهِ فَهُوَ حَرَامٌ) لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ لِلَّـهِ جِهَةً وَأَنَّهُ يُرَى بِالْعَيْـنِ فِـى الدُّنْيَا.
(تَفْسِيـرُ) قَوْلِهِ تَعَالَـى (﴿اللَّـهُ نُورُ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾)
اعْلَمْ أَنَّ النُّورَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّـهِ بِـمَعْنَـى الْـهَادِى (فَقَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿اللَّـهُ نُورُ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى هَادِى أَهْلِ السَّمَــٰـوَاتِ) وَهُمُ الْمَلائِكَةُ (وَ)هَادِى أَهْلِ (الأَرْضِ) وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الإِنْسِ وَالْـجِنِّ (لِنُورِ الإِيـمَانِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ) فِـى الأَسْـمَاءِ وَالصِّفَاتِ (عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُمَا) وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿اللَّـهُ نُورُ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أَىْ مُنِيـرُ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ ذَكَرَهُ ابْنُ السِّمْعَانِـىِّ فِـى تَفْسِيـرِهِ (فَاللَّـهُ تَعَالَـى لَيْسَ نُورًا بِـمَعْنَـى الضَّوْءِ بَلْ هُوَ الَّذِى خَلَقَ النُّورَ قَالَ تَعَالَـى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَىْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فَكَيْفَ يُـمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا كَخَلْقِهِ، تَعَالَـى اللَّـهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيـرًا) أَىْ تَنَزَّهَ اللَّـهُ عَنْ ذَلِكَ تَنَزُّهًا كَامِلًا. (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى نُورٌ أَىْ ضَوْءٌ التَّكْفِيـرُ قَطْعًا).
(وَهَذِهِ الآيَةُ ﴿الْـحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّـهَ) عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا) يُـجَسُّ بِالْيَدِ (كَالسَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ حَجْمًا لَطِيفًا) لا يُـجَسُّ بِالْيَدِ (كَالظُّلَمَاتِ وَالنُّورِ) لِأَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى أَخْبَـرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضَ وَهُـمَا جِسْمَانِ كَثِيفَانِ وَخَلَقَ النُّورَ وَالظَّلامَ وَهُـمَا جِسْمَانِ لَطِيفَانِ وَخَالِقُ الشَّىْءِ لا يَكُونُ مِثْلَهُ (فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّـهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّـهَ بِـخَلْقِهِ وَالآيَةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ).
وَ(أَكْثَرُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّـهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ) مُسْتَقِرٌّ فِـى السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الْعَرْشِ (وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَجْمٌ لَطِيفٌ) كَالْـهَوَاءِ مُنْتَشِرٌ فِـى كُلِّ الأَمْكِنَةِ أَوْ أَنَّهُ ضَوْءٌ (حَيْثُ) إِنَّـهُمْ (قَالُوا إِنَّهُ نُورٌ يَتَلأْلَأُ فَهَذِهِ الآيَةُ وَحْدَهَا تَكْفِى لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْـنِ) الْفَرِيقِ الْقَائِلِ بِأَنَّ اللَّـهَ جِسْمٌ كَثِيفٌ وَالْفَرِيقِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ أَعَاذَنَا اللَّـهُ مِنْ ذَلِكَ.
(وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْكُفْرِيَّةِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو شَكْلٍ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَىِّ حَالٍ) أَىْ لِيَعْمَلِ الإِنْسَانُ عَلَى تَـجَنُّبِ الْكُفْرِ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/31oT1iH1iUM?si=j-ZxELlY81rto-5O
لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/sirat-5