الثلاثاء يوليو 2, 2024

#43 1-2 معاصي القلب

الحمدُ لله العزيزِ الجبّارِ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ المختار وعلى آلهِ وأصحابِه الأخيارِ وبعدُ ليعلم أنّ من معاصى القلب التى هى من كبائر الذنوبِ الرياءَ بأعمال البر. فلو قَصَدَ الشخصُ محمدةَ الناسِ بأعمالِ البرّ كالصلاةِ والصيامِ والحجِ والزكاةِ وقراءةِ القرءانِ والإحسانِ إلى الناسِ وتعليمِ الناس، أو قصدَ بذلكَ الثوابَ مِنَ الله ومحمدةَ الناسِ كِلَيهِمَا فلا أجرَ له. فإن زاد على ذلك قصْدَ أن يَظُنَّ فيه الناسُ التقوى ليبَرُّوهُ بعطاياهم وهداياهُم فإنّه يكون ازدادَ فى الشرِ، وَأَكْلُهُ لمثل ذلك المال حرامٌ.

ومن معاصي القلبِ الشكُّ فى الله وهو كفر ولو لم يَستمرَّ هذا الشكُّ طويلًا. لكن هذا لا يعنى أنّ مجرد الخاطر الذى يَخْطُرُ على قلبِ الإنسان بغيرِ إرادةٍ منهُ ويكرَهُهُ الإنسانُ ويردُهُ ويطرُدُه يكون كفرًا، لا. لأنّ هذا الخاطر لم يؤَثّر فى قلبِهِ شكًا ولا ترددًا، إنما هو مجرد وَسوسةٍ وخاطر خبيث رده هو وطرده فلا يكفر بذلك ولا إثم عليه بل له ثوابٌ عندَ الله بطرده لذاكَ الخاطر الخبيث.

ومن معاصي القلب الأمنُ مِنْ مَكْرِ الله يعنى أن يسترسلَ الإنسانُ فى المعصية مُعتمدًا على رحمةِ الله، فيقول: الله لا يُعذبُنِى بل يرحمُنِى ويعفو عنى فيسترسل فى المعاصِى لذلك فهذا حرام. ومن ناحية ثانية القنوطُ من رحمة الله ذنبٌ عظيمٌ أيضًا. ومعنى القنوط من رحمة الله أن يعتقد الشخصُ أنّ الله عزّ وجلّ لا يغفرُ له ولا يسامحُهُ لكثرةِ ذنوبِه التى لم يتب منها. كِلا الأمرَينِ ذنبٌ. والسلامةُ أن يكونَ الإنسانُ فيما بينهما، يعنى أنْ يخافَ عقابَ اللهِ وأنْ يرجُوَ رحمةَ الله تعالى. هذان الأمران للمؤمن كالجناحين للطائر، لا يطيرُ الطائرُ إلا بجناحيه وسبيلُ النجاةِ للمؤمن بأن يَجمَعَ بين هذينِ الأمرين الخوفِ من عذابِ الله والرجاءِ لرحمة الله.

ومن معاصي القلب التكبُّرُ على عبادِهِ، وهو رَدُّ الحقِ على قائِلِهِ واستِحقارُ الناس. فالكِبرُ نوعان كما ثبتَ فى حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: “الكِبْرُ ردُّ الحقِ وغَمطُ النَّاس” رواه الترمذى. النوعُ الأول وهو ردّ الحق، يعنى أن يعرف أنّ ما يقولُه الآخر حقٌ ومع ذلك يردُه ويرفُضُهُ لعنادٍ أو لكونِ الآخر أقلَّ جاهًا أو أقلَّ مالًا أو نحوَ هذا. والنوعُ الثانى وهو غمط الناس يعنى أن ينظر إلى نفسه بعين التعظيم وإلى غيرِهِ بعين الاحتِقار، بسببِ ما رَزَقَهُ الله من مالٍ أو قوةٍ أو غيرِ ذلك من نعم الله. والكبرُ ذنب عظيم. وقد ثَبَتَ فى الحديث أنّ المتكبرين يُحشرون يوم القيامة على صورِ بَنِى ءادم لكن أحجامُهُم كأحجام النمل الصغير يطأُهُم الناسُ بأقدامِهم فَيُعاقَبون يوم القيامة عقابًا مُتناسبًا مع الذنب الذى فعلوه فى الدنيا. أجارنا الله تعالى من ذلك.

ومن معاصِى القلبِ الحِقدَ. والحقد هو إضمار العداوة للمسلم فى القلب بحيث يحمِلُهُ ذلك على السعىِ لإيذاءِ المسلم باللسان أو بالجوارح. يعنى إذا لم يكرَه هذا الأمرَ فى قلبه إنما عَمِلَ بمقتضاهُ فسعَى ليَضُرَّ أخاهُ المسلم فإنّه يكونُ ءاثمًا.

ومن معاصِى القلبِ أن يَحسدَ المسلمُ أخاه، يعنى أن يستثقل فى قلبه أنّ أخاه المسلم مُتَّصف بنعمةٍ من النّعَم أو حائز على نعمةٍ من النّعم إلى حدِّ أن يحمِلَهُ ذلك على العمل حتى يُسْلَبَ ذلك المسلمُ تلك النعمة وتنتقِلَ إليه. فلو أنّ شخصًا من المسلمين أنعم اللهُ عليه بمالٍ فحَسَدَهُ شخصٌ ءاخرُ وسَعَى حتى يخسرَ المسلمُ مالَه وينتقلَ إليه هذا المال يكونُ وقع فى ذنبِ الحسد. أما مجرد أن يُحِبَّ الشخصُ أن يكون عنده مثلُ ما عند ذلك المسلم من غير أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن ذلك المسلم و من غير أن يسعَى فى ذلك، فهذا ليسَ محرمًا. كما أنّ مجردَ أن يخطُرَ ببالِ الشخصِ استثقالُ النعمةِ لأخيه المسلم من غير أن يَسعَى لأجلِ سَلْبِهَا منه، إنما خطرَ له هذا الخاطر فردَّه فهذا لا إثم فيه أيضًا. لكن لو عَزَمَ بقلبه على إتيانِ المعصيةِ كُتِبَ ذلك ذنبًا عليه، وأمّا ما دونَ العَزْم فليسَ عليه فيه ذنبٌ. وهذا ينطبق على أغلبِ المعاصى يعني لو تردد الشخصُ فى فعل السرقة أو الكذب من غير أن يجزِمَ بقلبِه أى من غير أن يعزِمَ بقلبه أنه يفعل تلك المعصية لم تُكْتَب عليه، فإن عزم كُتبت سيئةٌ واحدة. وإنما قلنا أغلب المعاصى لأنّ هذا لا ينطبقُ مثلًا على أمرِ التردُّد فى الإيمان بالله فإنّ مجرد التردد أو الشَّكِّ في ذلك كُفرٌ يُكتَبُ على الإنسان.

و من معاصى القلبِ أن يُعَدّدَ شخصٌ لإنسانٍ ءاخر ما أَحْسَنَ به إليه ونيتُه أن يَكْسِرَ قلبَه بذلك. هذا يقالُ له المنُّ بالصدقَةِ. وذلكَ كأن يقولَ له أمامَ الناس حتى يكسِرَ قلبَه: “تَذكُر لما أعطيتُك كذا وكذا، تذكر لَمّا لم تكن مُستطيعًا أن تشترىَ طعامًا لأهل بيتك فجئتَنى ورجوتَنى حتى أُعطِيَك مالًا ففعلتُ؟”. وأما لو قال له إنسان هو كان أحسن إليه: “أنت ما أحسنت إلىّ قط” فأجابه: “أليس فى يوم كذا فعلتُ لك كذا وكذا” لِيُذَكّـِرَهُ لا ليكسرَ قلبه فهذا لا يكونُ حرامًا. ثم هذا المنُّ يُبطِلُ الثواب أى يَخْسَرُ به الإنسانُ ثوابَ ذلك العمل لأنّ الله تبارك وتعالى قال: {يا أيّها الذين ءامنوا لا تُبطِلُوا صدقاتِكُم بالمنِّ والأَذَى}، فمَن مَنَّ بالصدقةِ بطَلَ ثوابُ صدقتِه تلك. وفي الختام نسأل الله تعالى السلامة في الدين والدنيا والحمد لله رب العالمين