الخميس أبريل 17, 2025

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صَادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

 

مَعَاصِي الرِّجْلِ

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.

الشَّرْحُ  أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ مَعَاصِي الرِّجْلِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ الْمَشْيُ فِي مَعْصِيَةٍ كَالْمَشْيِ فِي سِعَايَةٍ بِمُسْلِمٍ أَوِ فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ الَّتِي مِنَ الْكَبَائِرِ السِّعَايَةَ بِالْمُسْلِمِ (مَعْناهُ أنْ يَذْهَبَ إِلَى الْحَاكِمِ) لِلإِضْرَارِ بِهِ (أَيْ لِإيذَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالسَّعْيِ لِقَتْلِهِ أَوْ لِضَرْبِهِ أَوْ ظُلْمِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَرَامِ) لأِنَّ السِّعَايَةَ فِيهَا أَذًى كَبِيرٌ لأِنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا إِدْخَالُ الرُّعْبِ إِلَى الْمَسْعِيّ بِهِ وَتَرْوِيعُ أَهْلِهِ بِطَلَبِ السُّلْطَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (أَيْ عَلَى عُظْمِ هَذَا الذَّنْبِ وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ) حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ يَهُودِيَيْنِ سَأَلا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ فَأَجَابَهُمَا النَّبِيُّ وَذَكَرَ مِنْهَا (وَلا تَذْهَبُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ) الْحَدِيثَ. (هَذِهِ الآيَاتُ التِّسْعُ البَيِّنَاتُ وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ تَفْسِيرُهَا في قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ. فَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ ﷺ فَسَأَلَا عَنِ التِّسْعِ آيَاتٍ فَفَسَّرَ لَهُمَا. وَكَانَا قَبْلَ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ، قَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ لِنَسْأَلَهُ عَنِ التِّسْعِ آيَاتٍ، فَإِنْ سَأَلْنَاهُ فَأَجَابَنَا عَنْهَا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ. فَلَمَّا سَأَلَاهُ قَالَ لَهُمَا هِيَ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تُوَلُّوا يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ مَعْشَرَ اليَهُودِ خَاصَّةً أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ. قَالَا نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَا بِالشَّهَادَتَيْنِ، يَعْنِي مَا أَسْلَمَا) قَالَ ﷺ لَهُمَا “مَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي؟” فَكَذَبَا عَلَى سَيِّدِنَا دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَا دَاوُدُ دَعَا رَبَّهُ أَنْ تَبْقَى النُّبُوَّةُ فِي ذُرِّيَّتِهِ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَنَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا اليَهُودُ. وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى سَيِّدِنَا دَاوُدَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ التِّسْعُ آيَاتٍ بِبَيِّنَاتٍ لِعِظَمِ أَمْرِهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ فِي عَدِّ التِّسْعِ “وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ“، دَلِيلٌ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى) وَهَذَا إِذَا كَانَتِ السِّعَايَةُ بِهِ (وَالوِشَايَةُ أَيْ وَلَوْ لَمْ يَـمْشِ) بِغَيْرِ حَقٍّ (لِإِيذَائِهِ عِنْدَ الظَّلَمَةِ) أَمَّا السِّعَايَةُ بِحَقٍّ فَهِيَ جَائِزَةٌ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْمَشْيُ بِالرِّجْلِ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَالْمَشْيِ لِلزِّنَى بِامْرَأَةٍ أَوِ (الْمَشيِ بِنِيَّةِ الحُصُولِ عَلَى) التَّلَذُّذِ الْمُحَرَّمِ بِمَا دُونَ ذَلِكَ (مِنْ نَظَرٍ بِشَهْوَةٍ وَبَطْشٍ أَيِ الإِمْسَاكِ بِالْيَدِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَادَثَةُ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا التَّلَذُّذَ الْمُحَرَّمَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ الزِّنَا. فَكُلُّ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا. قَالَ ﷺ «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَزِنَى الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَى الْيَدِ الْبَطْشُ، وَزِنَى الرِّجْلِ الْخُطَى، وَزِنَى اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا يَقَعُ الإِنْسَانُ بِالزِّنَا الْحَقِيقِيِّ، زِنَا الْفَرْجِ، أَوْ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ «وَزِنَا الْفَمِ الْقُبَلُ»). وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُسَمَّاةِ حِزْبَ التَّحْرِيرِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا أَنَّهُمْ نَشَرُوا بِطَرَابْلُسَ الشَّامِ مَنْشُورًا يَتَضَمَّنُ جَوَازَ مَشْيِ الرَّجُلِ لِلزِّنَى بِامْرَأَةٍ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا جَائِزٌ إِنَّمَا الْحَرَامُ الزِّنَى الْحَقِيقِيُّ بِاسْتِعْمَالِ الآلَةِ (أَيِ الذَّكَرِ) قَالُوا وَكَذَلِكَ الْمَشْيُ بِقَصْدِ الْفُجُورِ بِغُلامٍ لا يَكُونُ مَعْصِيَةً إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الآلَةِ فِيهِ وَكَفَاهُمْ هَذَا خِزْيًا.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِبَاقُ الْعَبْدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ بِرِّ وَالِدَيْهِ أَوْ تَرْبِيَةِ الأَطْفَالِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ إِبَاقَ أَيْ هُرُوبَ الْعَبْدِ أَيِ الْمَمْلُوكِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ سَيِّدِهِ (أَيْ مِنْ تَحْتِ طَاعَةِ سَيِّدِهِ) وَالزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَذَلِكَ كَبِيرَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ (كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ بَيْتَ الزَّوْجِ بِلا عُذْرٍ، فَهَذِهِ نَاشِزَةٌ، عَلَيْهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، وَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ). وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْهَرَبُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الشَّخْصِ الَّذِي يَلْزَمُهُ كَأَنْ لَزِمَهُ قِصَاصٌ بِأَنْ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً عَمْدًا ظُلْمًا (هَذَا أَيْضًا مَعْصِيَةٌ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ. فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ظُلْمًا عَمْدًا ثُمَّ هَرَبَ حَتَّى لَا يُقْتَصَّ مِنْهُ فَهَذَا حَرَامٌ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْحَقِّ خُذُوا حَقَّكُمْ مِنْهُ، فَيَقْتُلُهُ الْوَرَثَةُ أَوِ الْحَاكِمُ، أَمَّا إِذَا سَامَحُوهُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ) أَوْ فَقَأَ عَيْنَ شَخْصٍ مَعْصُومٍ عَمْدًا ظُلْمًا، أَوْ لَزِمَهُ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ (هَرَبَ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا) أَوْ لِلْوَالِدَيْنِ (هَرَبَ مِنْ نَفَقَةِ وَالِدَيْهِ الْفُقَرَاءِ) أَوْ لِلأَطْفَالِ (هَرَبَ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، هَذَا عَلَيْهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ). وَتَحْريِمُ الْهُرُوبِ مِنَ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَفِي رِوَايَةٍ (مَنْ يَعُولُ) رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ أَيْ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي.

فَائِدَةٌ: حَضَانَةُ الطِّفْلِ تَجِبُ عَلَى الأَبِ، وَيَلْزَمُ الأَبَ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ هُمْ دُونَ البُلُوغِ إِلَى بُلُوغِهِمْ بِالإِجْمَاعِ فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. أَمَّا بَعْدَ البُلُوغِ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الذُّكُورِ عَلَى الأَبِ بِالإِجْمَاعِ، أَمَّا الإِنَاثُ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ بَعْدَ البُلُوغِ عِندَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ عَلَى الأَبِ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ عِندَ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ التَّبَخْتُرَ فِي الْمَشْيِ أَيْ مِشْيَةَ الْكِبْرِ وَالْخُيَلاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾ أَيْ لا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مُخْتَالًا فَخُورًا، وَقَالَ ﷺ (مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ (أَيْ يَتَكَبَّرُ) فِي نَفْسِهِ وَلا اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ (أَيْ مَشَى مِشْيَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ) إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ (أَيْ عِنْدَ الْحِسَابِ) وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. (غَضَبُ اللهِ لَيْسَ انْفِعَالًا، لَيْسَ كَغَضَبِ الخَلْقِ، الغَضَبُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اللهِ لَيْسَ بِمَعْنَى التَّأَثُّرِ وَالِانْفِعَالِ، بَلْ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ. غَضَبُ اللهِ عَلَى فُلَانٍ مَعْنَاهُ اللهُ تَعَالَى شَاءَ لَهُ العُقُوبَةَ. وَرِضَا اللهِ عَنْ فُلَانٍ مَعْنَاهُ اللهُ شَاءَ لَهُ النَّعِيمَ. رِضَا اللهِ لَيْسَ كَرِضَا الخَلْقِ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَخَطِّي الرِّقَابِ إِلَّا لِفُرْجَةٍ (وَالكَلَامُ هُنَا لَيْسَ عَنِ الْمُرُورِ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ)

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ تَخَطِّيَ الرِّقَابِ (أَيْ رِقَابِ النَّاسِ) أَيْ إِذَا كَانَ النَّاسُ يَتَأَذَّوْنَ بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (مَعْنَاهُ صَارَ يَرْفَعُ رِجْلَهُ بِمُسْتَوَى أَكْتَافِهِم) وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ (اجْلِسْ فَقَدْ ءَاذَيْتَ) رَوَاهُ أُبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ (فَالرَّسُولُ ﷺ أَفْهَمَنَا أَنَّ التَّخَطِّي إِذَا كَانَ مَعَ إِيذَاءٍ فَهُوَ حَرَامٌ) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ (مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ) (مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ آذَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ عَنِ الَّذِي يَمُرُّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، لَا، هَذَا جَائِزٌ، إِنَّمَا الحَرَامُ هُوَ عَلَى الَّذِي لَا يُبَالِي فَيَمُرُّ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَالِسَيْنِ مُتَلَاصِقَيْنِ، فَيُصِيبُ بِرِجْلِهِ أُذُنَ هَذَا أَوْ رَقَبَةَ هَذَا أَوْ رَأْسَ هَذَا فَهَذَا الَّذِي وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ، أَيْ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ فِي النَّارِ)، فَإِنْ كَانُوا لا يَتَأَذَّوْنَ بِتَخَطِّيهِ لِرِقَابِهِمْ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا التَّخَطِّي (مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ) لِفُرْجَةٍ أَيْ (مَكَانٍ فَارِغٍ) لِأَجْلِ سَدِّهَا فَهُوَ جَائِزٌ.

فَائِدَة: يُسْتَثْنَى تَخَطِّي الإِمَامِ مِنْ أَجْلِ بُلُوغِ الْمِحْرَابِ أَوِ الْمِنْبَرِ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ كُرِهَ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُرُورُ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي إِذَا كَمَلَتْ شُرُوطُ السُّتْرَةِ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الرِّجْلِ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (أَيْ أَمَامَ الْمُصَلِّي) صَلاةً صَحِيحَةً بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْمُصَلِّي (أَيْ وَافَقَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ) مَعَ حُصُولِ السُّتْرَةِ الْمُعْتَبَرَةِ (أَيِ اكْتَمَلَتْ وَوُجِدَتْ شُرُوطُ السُّتْرَةِ الْمُعْتَبَرَةِ) بِأَنْ قَرُبَ مِنْهَا ثَلاثَةَ أَذْرُعٍ فَأَقَلَّ بِذِرَاعِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ وَكَانَتْ مُرْتَفِعَةً ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرَ. وَتَحْريِمُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (أَيْ مَعْ وُجُودِ السُّتْرَةِ) مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا (أَيْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سُتْرَةٌ أَوْ كَانَتْ بَعُدَتْ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنِ ارْتِفَاعِ ثُلُثَي ذِرَاعٍ، فَمَرَّ شَخْصٌ أَمَامَ هَذَا الْمُصَلِّي فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ وَلَوْ بِغَيْرِ حَاجَةٍ. كَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي صَفٍّ أَمَامَهُ، فَاحْتِيجَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِسَدِّهَا فَلَا يَحْرُمُ)

فَائِدَةٌ: مُرُورُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَا يُؤَثِّرُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هُنَاكَ سُتْرَةٌ أَمْ لَا. الْجِدَارُ سُتْرَةٌ، وَالخَطُّ أَيْضًا، يَخُطُّ خَطًّا جِهَةَ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ حَتَّى لَا يَمُرَّ مَارٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الخَطِّ. لَا يَخُطُّ أَمَامَهُ. وَهَذَا يَكُونُ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَلَيْسَ عَلَى السَّجَّادِ وَنَحْوِهِ. فِي الْمَاضِي كَانَتْ أَرْضُ الْمَسَاجِدِ تُرَابًا، كَانُوا يَخُطُّونَ خَطًّا بِجَانِبِهِمْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، حَتَّى لَا يَمُرَّ مَارٌّ) فَإِذَا وُجِدَتِ السُّتْرَةُ سُنَّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْفَعَ (أَيْ يَمْنَعَ) الْمَارَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدِ السُّتْرَةُ فَلَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُزْعِجَ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوِ اقْتَرَبَ مِنْهُ بِذِرَاعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَمَدُّ الرِّجْلِ إِلَى الْمُصْحَفِ إِذَا كَانَ) قَرِيبًا (غَيْرَ مُرْتَفِعٍ) عَنْهُ عَلَى طَاوِلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الرِّجْلِ مَدَّهَا إِلَى الْمُصْحَفِ إِذَا كَانَ قَرِيبًا (فِي مُسْتَوَى الرِّجْلِ لِذَلِكَ قَالَ) غَيْرَ مُرْتَفِعٍ عَلَى شَىْءٍ (أَيْ كَانَتِ الرِّجْلُ فِي مُواجَهَةِ الْمُصْحَفِ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ (أَمَّا إِنْ كَانَ بَعِيدًا نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِتْرًا، لَمْ يَحْرُم. كَذَلِكَ يَحْرُمُ مَدُّ الرِّجْلِ إِلَى نَحْوِ كِتَابِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ. لَا يَحْرُمُ مَدُّ الرِّجْلِ إِلَى الْقِبْلَةِ، كَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ مَدُّ الرِّجْلِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِذَا تَعِبَ الشَّخْصُ وَاحْتَاجَ إِلَى مَدِّ رِجْلِهِ، يَمُدُّهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ)، كَمَا يَحْرُمُ كَتْبُهُ (أَيِ الْمُصْحَفِ) بِنَجِسٍ (فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ كِتَابَةُ الْفَاتِحَةِ بِالدَّمِ عَلَى الْجَبْهَةِ لِمَنْ رَعَفَ أَيْ صَارَ يَنْزِلُ الدَّمُ مِنْ أَنْفِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ. بَعْضُ النَّاسِ يَكْتُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْءَانِ عَلَى جَبْهَةِ الشَّخْصِ بِدَمِهِ عَلَى زَعْمِهِ حَتَّى يَقِفَ الدَّمُ، هَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ، وَلَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِالنَّجِسِ) وَمَسُّهُ (أَيِ الْمُصْحَفِ) بِعُضْوٍ مُتَنَجِّسٍ رَطْبٍ أَوْ جَافٍّ (كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْسِكَ الْمُصْحَفَ وَيَدُهُ مُتَنَجِّسَةٌ، وَلَوْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ، حَتَّى يُطَهِّرَ يَدَهُ). وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ جَوَازِ كَتْبِ الْفَاتِحَةِ بِالْبَوْلِ لِلِاسْتِشْفَاءِ إِنْ عُلِمَ فِيهِ الشِّفَاءُ فَهُوَ ضَلالٌ مُبِينٌ. أَنَّى يَكُونُ فِي ذَلِكَ شِفَاءٌ وَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَد نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ تَقْلِيبِ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ بِالإِصْبَعِ الْمَبْلُولَةِ بِالْبُصَاقِ (مُجَرَّدُ بَلَلٍ وَلَيْسَ رِيقًا مُجْتَمِعًا، وَالَّذِي يَفْعَلُ هَذَا لَا يَضَعُهَا عَلَى الْكَلَامِ، بَلْ يَضَعُهَا عَلَى الطَّرَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا حَرَامٌ، فَكَيْفَ بِالَّذِي يَكْتُبُ الْمُصْحَفَ بِالْبَوْلِ؟!)، كَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عِلَّيْش الْمَالِكِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ مَعَ أَنَّ إِطْلاقَ هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ (لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ إِلَّا إِذَا كَانَ اللُّعَابُ شَيْئًا مُتَجَمِّعًا بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ) لَكِنْ تَحْريِمُ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَيَحْرُمُ كِتَابَةُ شَىْءٍ مِنَ الْقُرْءَانِ، الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِدَمِ الشَّخْصِ نَفْسِهِ لِلِاسْتِشْفَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَغْرَاضِ (القُرْءَانُ وَاجِبٌ تَعْظِيمُهُ).

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ مَشْيٍ إِلَى مُحَرَّمٍ وَتَخَلُّفٍ عَنْ وَاجِبٍ

الشَّرْحُ (هُنَا خَتَمَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِذِكْرِ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ) إِنَّ مِنْ مَعَاصِي الرِّجْلِ الْمَشْيَ بِهَا إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى اخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ (كَأَنْ يَمْشِيَ بِهَا لِقَتْلِ مُسْلِمٍ، أَوْ لِلْفُجُورِ بِامْرَأَةٍ، أَوْ ضَرْبِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ)، وَكَذَلِكَ الْمَشْيُ إِلَى مَا فِيهِ إِضَاعَةُ وَاجِبٍ كَأَنْ يَمْشِيَ مَشْيًا يَحْصُلُ بِهِ إِخْرَاجُ صَلاةٍ عَنْ وَقْتِهَا (مَثَلًا وَاحِدٌ يَبْعُدُ بَيْتُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ خَمْسَ دَقَائِقَ ثُمَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِوَقْتٍ قَلِيلٍ، بَدَلَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَذْهَبُ فِي الِاتِّجَاهِ الْمُعَاكِسِ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لِأَمْرٍ مَا، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ يُدْرِكُ الْجُمُعَةَ بِفِعْلِهِ هَذَا، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ مَشْيُهُ هَذَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مَعْنَاهُ طَاعَةُ اللهِ، أَيْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَالَّذِي تَمْنَعُهُ أَوْلَادُهُ أَوْ أَمْوَالُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. إِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الشَّوَاغِلِ، أَعْظَمُ مَا يَشْغَلُ النَّاسَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الأَمْوَالُ وَالأَوْلَادُ).  

 

مَعاصِي الْبَدَنِ

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.

الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ مَعَاصِي الْبَدَنِ. (وَهَذِهِ الْمَعَاصِي لَا تَخْتَصُّ بِالْجَوَارِحِ فَقَطْ، بَلْ تَشْمَلُ عُمُومَ الْبَدَنِ، وَمِنْهَا مَا يُشَارِكُ بِهِ الْقَلْبُ، لِذَلِكَ سَمَّوْهَا مَعَاصِيَ الْبَدَنِ. بَعْضُ الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، وَبَعْضُ الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِالْيَدِ، وَبَعْضُ الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِالرِّجْلِ، وَبَعْضُ الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِاشْتِرَاكِ عِدَّةِ جَوَارِحَ، تَحْصُلُ بِالْبَدَنِ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ أَيْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لا تَلْزَمُ جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ بِخُصُوصِهَا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ (فَإِنَّ هَذَا الذَّنْبَ قَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ كَالَّذِي يَسُبُّ أُمَّهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِالرِّجْلِ كَالَّذِي يَرْفُسُ أُمَّهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِالْيَدِ كَالَّذِي يَضْرِبُ أُمَّهُ مَثَلًا. لَيْسَ دَائِمًا يَلْزَمُ جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ بِخُصُوصِهَا) أَوْ (عُقُوقَ) أَحَدِهِمَا وَإِنْ عَلا (أَيْ إِذَا عَقَّ الْوَالِدَ أَوِ الْوَالِدَةَ، يُقَالُ لَهُ عُقُوقٌ. كَذَلِكَ إِنْ عَقَّ الْجَدَّ أَوِ الْجَدَّةَ، يُقَالُ لَهُ عُقُوقٌ) وَلَوْ مَعَ وُجُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ (أَيْ لَوْ عَقَّ وَالِدَةَ جَدَّتِهِ مَعَ وُجُودِ جَدَّتِهِ، يَكُونُ أَيْضًا عَاقًّا. كَذَلِكَ لَوْ لَمْ تُوجَدِ الْجَدَّةُ وَعَقَّ وَالِدَتَهَا، فَهُوَ حَرَامٌ. وَلَيْسَ أَيُّ أَذًى لِلْوَالِدَيْنِ يُسَمَّى عُقُوقًا) قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ضَبْطِهِ (هُوَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ فِي الْعُرْفِ) (كَالَّذِي يَرْفُسُ أُمَّهُ بِرِجْلِهِ أَوْ يَسُبُّهَا أَوْ يَشْتِمُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ عُقُوقٌ). وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ (ثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالدَّيُّوثُ وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْ لا يَدْخُلُ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ الْجَنَّةَّ مَعَ الأَوَّلِينَ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَأَمَّا إِنْ تَابُوا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. (الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ هُوَ الَّذِي يُؤْذِي وَالِدَيْهِ أَذًى لَيْسَ بِالْهَيِّنِ. وَالدَّيُّوثُ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ عَلَى زِنَى أَهْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى النَّهْيِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنَاتُهُ أَوْ أُخْتُهُ أَوْ أُمُّهُ. وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)

مَسْئَلَةٌ: مَنْ قَالَ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ “أُفٍّ” عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمَزْحِ، وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ مَعْنَاهُ مَنْ قَالَ “أُفٍّ” لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّضَجُّرِ أَيِ الِانْزِعَاجِ وَالتَّضَايُقِ، يَكُونُ وَقَعَ فِي مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ، لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ، كَأَنْ طَلَبَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ مُبَاحًا يَسْتَطِيعُهُ الْوَلَدُ، فَقَالَ “أُفٍّ”، وَبِالْأَوْلَى مَا كَانَ أَشَدَّ مِنْ قَوْلِهِ “أُفٍّ”

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَهُوَ أَنْ يَفِرَّ مِنْ بَيْنِ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَ حُضُورِ مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الْبَدَنِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ (أَيِ الْهُرُوبُ مِنْ صَفِّ الْجِهَادِ بَعْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِلا عُذْرٍ) وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ إِجْمَاعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ وَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ حَرُمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا أَيْ أَنْ يَفِرُّوا إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ (كَأَنْ غَيَّرَ الْمُسْلِمُونَ مَوْضِعَهُمْ لِمَكَانٍ ثَانٍ لِمُتَابَعَةِ الْقِتَالِ) أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ (كَأَنْ كَانَ يُوجَدُ فِئَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تُحَارِبُ فَأَرَادَ أَنْ يَلْتَحِقَ بِهِمْ لِيُحَارِبَ مَعَهُمْ) وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا (أَيْ أَنَا لَا أَرْغَبُ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا، وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ مِنَ الضِّعْفِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرُّوا لَا يَقَعُونَ فِي الذَّنْبِ عِنْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ أَكْثَرُ مِنَ الضِّعْفِ، لِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَلا يَسْتَوْجِبُونَ السَّخَطَ عِنْدِي مِنَ اللَّهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِقَتَالٍ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ) اﻫ. (كَمَا فَعَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَى، اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْلِبَ الْمَيْمَنَةَ مَيْسَرَةً، وَأَنْ يَقْلِبَ الْمَيْسَرَةَ مَيْمَنَةً، حَتَّى ظَنَّ الْعَدُوُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَاءَهُمُ الْمَدَدُ مِنْ رَسُولِهِمْ ﷺ. فِي غَزْوَةِ مُؤْتَى، قُتِلَ الْقَائِدُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، فَلَمَّا وُلِّيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَلَبَ الْمَيْمَنَةَ مَيْسَرَةً، وَالْمَيْسَرَةَ مَيْمَنَةً، حَتَّى يُحَافِظَ عَلَى بَقِيَّةِ الْجَيْشِ. فَعِنْدَمَا رَأَى الْعَدُوُّ وُجُوهًا جَدِيدَةً، ظَنَّ أَنَّ الْمَدَدَ جَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكُوا الْقِتَالَ).

فَائِدَةٌ: هُنَاكَ صِيغَةٌ وَرَدَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فِيهَا سِرٌّ عَظِيمٌ، حَيْثُ قَالَ «مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» أَيْ تُغْفَرُ لَهُ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ، لِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُوبِقَاتِ السَّبْعِ، أَيْ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ السَّبْعِ.

قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ الْهَلاكَ جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَةَ الْكُفَّارِ وَلَوْ بِدَفْعِ الْمَالِ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لا خَيْرَ فِي إِقْدَامِ الْمُسْلِمِينِ عَلَى الْقِتَالِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ لا يُنْكُونَ بِالْعَدُوِّ أَيْ لا يُؤَثِّرُونَ، ( كَمَا فِي قِصَّةِ رَحْمَةِ بِنْتِ إِبْرَاهِيمَ، عِنْدَمَا رَأْسُ الْكُفَّارِ اسْتَبْطَأَ الْمَبَرَّاتِ وَالْهَدَايَا، جَاءَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ لَهُ الْمَبَرَّاتِ وَالْهَدَايَا خَشْيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ كَانُوا ضُعَفَاءَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمْرَاتٍ، وَحَجَّ حَجَّةً وَاحِدَةً. الرَّسُولُ ﷺ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، جَاءَ إِلَى مَكَّةَ لِيَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا عَلِمَ كُفَّارُ مَكَّةَ بِقُدُومِ الرَّسُولِ ﷺ، صَدُّوهُ عَنِ الدُّخُولِ، مَنَعُوا الرَّسُولَ ﷺ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ كُفَّارِ مَكَّةَ، كَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ. فَتَوَقَّفَ الرَّسُولُ ﷺ حِينَئِذٍ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الْحُدَيْبِيَةُ، قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَحْوَ عِشْرِينَ كِيلُومِتْرًا، فَتَكَلَّمُوا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وَفَاوَضُوهُ، إِلَى أَنْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ مُصَالَحَةَ الْكُفَّارِ، فَصَالَحَهُمُ الصُّلْحَ الَّذِي عُرِفَ بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. صَالَحَ كُفَّارَ مَكَّةَ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، لِعَشْرِ سَنَوَاتٍ، لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ رَأَى فِي هَذَا الصُّلْحِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ. فِي هَذِهِ الْمُصَالَحَةِ، دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوهَا، فَلَمَّا دَخَلُوا مَكَّةَ بَدَءُوا بِنَشْرِ الدِّينِ، فَدَخَلَ الْإِسْلَامُ إِلَى مَكَّةَ فِي ظَرْفِ سَنَتَيْنِ، بِسَبَبِ الْمُصَالَحَةِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِمَّا دَخَلَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ عَامًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ مَعَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ، لَكِنِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ) وَقَدْ قَالَ ﷺ (لا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) قِيلَ وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَرَةَ بِالنَّفْسِ الْمَحْمُودَةَ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ. (الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَ حُرُوبِ الرِّدَّةِ، لَمَّا حَارَبُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، كَانُوا قَدْ حَاصَرُوا الْكُفَّارَ فِي مَكَانٍ لَهُ سُورٌ وَلَهُ بَابٌ، مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَتَسَلَّلُوا لَا مِنْ فَوْقِ السُّورِ، وَلَا أَنْ يَدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ. فَقَامَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا كَانَ بَطَلًا، فَقَالَ “ارْمُونِي عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ السُّورِ” فَرَمَوْهُ مِنْ فَوْقِ السُّورِ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَاتَلَ الَّذِينَ عِنْدَ الْبَابِ، فَفَتَحَ الْبَابَ لِلْمُسْلِمِينَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ. هَذِهِ تُسَمَّى مُخَاطَرَةً مَحْمُودَةً، لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو النِّكَايَةَ فِي الْعَدُوِّ، أَيْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْعَدُوِّ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ بِالإِجْمَاعِ. قَالَ تَعَالَى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ أَيِ اتَّقُوا الأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَتَحْصُلُ الْقَطِيعَةُ بِإيِحَاشِ قُلُوبِ الأَرْحَامِ وَتَنْفِيرِهَا (أَيْ بِإِشْعَارِهِمْ أَنَّكَ أَهْمَلْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ) إِمَّا بِتَرْكِ الإِحْسَانِ بِالْمَالِ (مَعَ الِاسْتِطَاعَةَ) فِي حَالِ الْحَاجَةِ النَّازِلَةِ بِهِمْ بِلا عُذْرٍ (أَيْ إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ. وَكَلَامُنَا هُنَا عَنِ الضَّرُورَاتِ) أَوْ (تَحْصُلُ الْقَطِيعَةُ بِـ) تَرْكِ الزِّيَارَةِ بِلا عُذْرٍ كَذَلِكَ، وَالْعُذْرُ كَأَنْ يَفْقِدَ مَا كَانَ يَصِلُهُمْ بِهِ مِنَ الْمَالِ أَوْ يَجِدَهُ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُهُ لِمَا هُوَ أَوْلَى بِصَرْفِهِ فِيهِ مِنْهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالرَّحِمِ الأَقَارِبُ كَالْعَمَّاتِ وَالْخَالاتِ وَأَوْلادِهِنَّ وَالأَخْوَالِ وَالأَعْمَامِ وَأَوْلادِهِمْ. (كُلُّ مَنْ يَصِلُكَ بِالْقَرَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَمِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، مَا عَلا وَمَا سَفَلَ، هَذَا يُقَالُ لَهُ رَحِمٌ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ (أَيِ الَّذِي يَرُدُّ بِالْمِثْلِ) وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ إِذَا قَطَعَتْ) (مَعْنَاهُ لَيْسَ الإِنْسَانُ الْكَامِلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَالإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ، هُوَ الشَّخْصَ الَّذِي يُقَابِلُ الإِحْسَانَ بِالإِحْسَانِ، وَلَكِنِ الإِنْسَانُ الْكَامِلُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ، هُوَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا، أَيْ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ أَقَارِبُهُ، أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَوَصَلَهُمْ) فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِيذَانٌ بِأَنَّ صِلَةَ الرَّجُلِ رَحِمَهُ الَّتِي لا تَصِلُهُ أَفْضَلُ مِنْ صِلَتِهِ رَحِمَهُ الَّتِي تَصِلُهُ (أَيْ ثَوَابُهُ أَكْبَرُ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ الَّذِي حَضَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ حَضًّا بَالِغًا وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِيذَاءُ الْجَارِ وَلَوْ) كَانَ الْجَارُ (كَافِرًا لَهُ أَمَانٌ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ (أَذًى ظَاهِرًا) كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ إِيذَاءَ الْجَارِ وَلَوْ كَافِرًا لَهُ أَمَانٌ إِيذَاءً ظَاهِرًا كَأَنْ يُشْرِفَ عَلَى حُرَمِهِ (أَيْ يَنْظُرَ إِلَى مَحَارِمِهِ النَّظْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ)، أَمَّا الِاسْتِرْسَالُ فِي سَبِّهِ وَضَرْبِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَأَشَدُّ وِزْرًا بِحَيْثُ إِنَّ الأَذَى الْقَلِيلَ لِغَيْرِ الْجَارِ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي الإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ لَهُ. (الْجَارُ كَغَيْرِهِ، لَا يَجُوزُ إِيذَاؤُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنَّ الأَذَى إِذَا عُمِلَ مَعَ الْجَارِ يَكُونُ أَشَدَّ مِمَّا لَوْ عُمِلَ هُوَ نَفْسُهُ مَعَ غَيْرِ الْجَارِ. إِيذَاءُ الْجَارِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَشَدُّ مِنْ إِيذَاءِ غَيْرِهِ بِنَفْسِ الأَذَى بِغَيْرِ حَقٍّ. جَاءَ فِي الْحَدِيثِ “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ“)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَخَضْبُ الشَّعَرِ بِالسَّوَادِ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ الْخَضْبَ بِالسَّوَادِ أَيْ دَهْنَ الشَّعَرِ وَصَبْغَهُ بِالأَسْوَدِ وَهُوَ حَرَامٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا لِلرِّجَالِ لِلْجِهَادِ (يَجُوزُ لِلرِّجَالِ خَضْبُ الشَّعَرِ الأَبْيَضِ بِالسَّوَادِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِرْهَابِ الْعَدُوِّ. وَقَوْلُهُ “بِالسَّوَادِ” أَرَادَ بِذَلِكَ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ الْحَمْرَاءِ أَوِ الصُّفْرَاءِ لِلرِّجَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِلرِّجَالِ، فِيهِ ثَوَابٌ، وَلِلْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا أَمَرَهَا زَوْجُهَا كَذَلِكَ، يَعْنِي مَتَى أَمَرَهَا الزَّوْجُ، لَهَا ثَوَابٌ إِذَا فَعَلَتْ) وَأَجَازَهُ (أَيْ أَجَازَ دَهْنَ الشَّعَرِ وَصَبْغَهُ بِالْأَسْوَدِ) بَعْضُ الأَئِمَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُؤَدِّي إِلَى الْغِشِّ وَالتَّلْبِيسِ وَمِثَالُهُ امْرَأَةٌ (غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ) شَابَ شَعَرُهَا فَسَوَّدَتْهُ (أَيْ صَبَغَتْ شَعْرَهَا بِالسَّوَادِ) حَتَّى يَخْطُبَهَا الرِّجَالُ فَهَذهِ لا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْغَشِّ وَالتَّلْبِيسِ. (أَمَّا الْمُتَزَوِّجَةُ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ بِالسَّوَادِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَعَكْسُهُ أَيْ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ فِي الْمَلْبَسِ وَغَيْرِهِ.

الشرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ تَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ فِي الْمَشْيِ (كَأَنْ يَمْشِيَ مِشْيَةَ النِّسَاءِ، أَوْ تَمْشِيَ مِشْيَةَ الرِّجَالِ) أَوْ فِي الْكَلامِ (كَأَنْ يَتَكَلَّمَ بِطَرِيقَةِ النِّسَاءِ، أَوْ تَتَكَلَّمَ بِطَرِيقَةِ الرِّجَالِ) أَوِ اللِّبَاسِ وَعَكْسُهُ لَكِنَّ تَشَبُّهَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ أَشَدُّ إِثْمًا (هَذَا كَبِيرَةٌ، وَهَذَا كَبِيرَةٌ، لَكِنَّ تَشَبُّهَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ أَشَدُّ إِثْمًا) فَمَا كَانَ فِي الأَصْلِ خَاصًّا بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الزِّيِّ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفِ الآخَرِ وَمَا لا فَلا (هُنَاكَ أَشْيَاءُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِأَحَدِهِمَا. السِّرْوَالُ لَيْسَ خَاصًّا بِالرِّجَالِ، وَلَيْسَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ، فَلَا يَحْرُمُ. أَمَّا العِمَامَةُ، فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ لُبْسُهَا). رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ). (مِنْ هُنَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ)

فَائِدَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ لَا نَجْزِمُ بِأَنَّ السَّحَّابَ مِنَ الأَمَامِ فِي سِرْوَالِ النِّسَاءِ تَشَبُّهٌ بِالرِّجَالِ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِسْبَالُ الثَّوْبِ) مِنَ الرِّجَالِ (لِلْخُيَلاءِ أَيْ إِنْزَالُهُ عَنِ الْكَعْبِ لِلْفَخْرِ)

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ تَطْوِيلَ الثَّوْبِ (أَيْ إِنْزَالَ الثَّوْبِ إِنْ كَانَ إِزَارًا أَوْ سِرْوَالًا) لِلْخُيَلاءِ أَيِ الْكِبْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِرْسَالِ الإِزَارِ وَنَحْوِهِ إِلَى أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ) أَيْ لا يُكْرِمُهُ بَلْ يُهِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (لِقُبْحِ ذَنَبْهِ)، فَإِنْزَالُ الإِزَارِ إِلَى مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ حَرَامٌ مِنَ الْكَبَائِرِ إِنْ كَانَ لِلْبَطَرِ وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا لِلرَّجُلِ (وَلَيْسَ مَكْرُوهًا لِلنِّسَاءِ، أَمَّا لِلْكِبْرِ فَحَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) وَالطَّرِيقَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ شَرْعًا لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ الإِزَارُ وَنَحْوُهُ إِلَى نِصْفِ السَّاقَيْنِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ (إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ). (القَمِيصُ وَالإِزَارُ وَالسِّرْوَالُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، هَذِهِ سُنَّةٌ. الرَّسُولُ ﷺ كَانَ قَمِيصُهُ وَإِزَارُهُ إِلَى النِّصْفِ. لَكِنْ تُرِكَ العَمَلُ بِهَا إِلَّا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ. يَنْبَغِي إِشَاعَةُ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ عَادَةَ الرَّسُولِ ﷺ، أَنَّهُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَالإِزَارُ وَالسِّرْوَالُ كَذَلِكَ) 

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) اسْتِعْمَالُ (الْحِنَّاءِ) أَيِ الْخَضْبُ بِهَا (فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِلرَّجُلِ بِلا حَاجَةٍ)

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ اسْتِعْمَالَ الْحِنَّاءِ أَيِ الْخِضَابَ بِهِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِلرَّجُلِ بِلا حَاجَةٍ إِلَيْهِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ أَمَّا إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ (كَالْعِلَاجِ) كَأَنْ قَالَ لَهُ طَبِيبٌ ثِقَةٌ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي فَيَجُوزُ. (شَخْصٌ عِنْدَهُ عِلَّةٌ فِي يَدَيْهِ مَثَلًا، بَيَّنَ لَهُ الطَّبِيبُ الثِّقَةُ أَنَّهُ إِذَا خَضَبَ يَدَيْهِ بِالْحِنَّاءِ تُشْفَى، فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى عُذْرًا، وَهُوَ التَّدَاوِي. أَمَّا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ عَادَةُ النِّسَاءِ. أَمَّا الْحِنَّاءُ فِي الشَّعْرِ لِلشَّيْبِ فَيَجُوزُ وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَطْعُ الْفَرْضِ بِلا عُذْرٍ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ قَطْعَ الْفَرْضِ أَيِ الأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ مُوَسَّعًا أَيْ وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا فَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلاةِ الْفَرْضِ مَثَلًا ثُمَّ قَطَعَهَا بِلا عُذْرٍ وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّيَ مَرَّةً ثَانِيَةً ضِمْنَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْفَرْضُ صَلاةً أَوْ غَيْرَهَا كَحَجٍّ وَصَوْمٍ وَاعْتِكَافٍ مَنْذُورٍ. وَهَذَا الْحُكْمُ مَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَ الْقَطْعُ بِلا عُذْرٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ فَلا يَحْرُمُ فَيَجُوزُ قَطْعُ الصَّلاةِ لإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ طِفْلٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي نَارٍ أَوِ السُّقُوطِ فِي مَهْوَاةٍ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْغَرِيقُ مَعْصُومًا. (أَيْ غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ، بِحَيْثُ إِنْ لَمْ يُنْقِذْهُ يَهْلِكْ، كَطِفْلٍ يَتَدَلَّى مِنْ شُرْفَةٍ، أَوْ بِجَانِبِ نَارٍ، وَكَانَ بِحَيْثُ إِنْ لَمْ يُنْقِذْهُ يَهْلِكْ. وَمِنَ الْعُذْرِ مَا لَوْ سُرِقَ ثَوْبُهُ أَوْ مَالُهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ لِيُخَلِّصَ مَا سُرِقَ مِنْهُ، إِنْ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا غَيْرَ ذَلِكَ)

 

فَائِدَةٌ: لَا يَجُوزُ قَطْعُ الْفَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مُوَسَّعًا، كَقَضَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَثَلًا، كَأَنِ اسْتَيْقَظَ وَقَدْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، فَالْقَضَاءُ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ هُوَ مُوَسَّعٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَطْعُ نَفْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (حَجُّ وَعُمْرَةُ النَّفْلِ هُمَا مَا يَكُونَانِ بَعْدَ أَدَاءِ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ وَعُمْرَةِ الْفَرِيضَةِ)

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ قَطْعَ نَفْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ يَصِيرُ إِتْمَامُهُ وَاجِبًا فَهُوَ كَفَرْضِهِ نِيَّةً وَكَفَّارَةً وَغَيْرَهُمَا. (فَمَنْ دَخَلَ فِي نَفْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ. وَفَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَفْلُهُمَا، مِنْ حَيْثُ الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ الدِّمَاءِ، وَاحِدٌ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَمُحَاكَاةُ الْمُؤْمِنِ) أَيْ تَقْلِيدُهُ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ (اسْتِهْزَاءً بِهِ)

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ مُحَاكَاةَ الْمُؤْمِنِ أَيْ تَقْلِيدَهُ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ (مَثَلًا شَخْصٌ يَعْرُجُ، فَيَأْتِي آخَرُ يُحَاكِيهِ اسْتِهْزَاءً بِهِ، يَمْشِي مِثْلَهُ لِيُضْحِكَ النَّاسَ عَلَيْهِ، هَذَا حَرَامٌ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ الآيَةَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيْمَانِ﴾ مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ وَسَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ (أَيْ وَاقِعٌ فِي مَعْصِيَةٍ كَبِيرَةٍ، أَيْ إِذَا سَمَّاهُ بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَيَتَأَذَّى بِهِ تَأَذِّيًا شَدِيدًا). وَقَدْ تَكُونُ الْمُحَاكَاةُ بِالضَّحِكِ عَلَى كَلامِهِ إِذَا تَخَبَّطَ فِيهِ وَغَلِطَ (أَيْ تَأْتَأَ) أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ أَوْ عَلَى قُبْحِ صُورَتِهِ. (وَهَذَا الشَّيْءُ يَأْتِي كَثِيرًا مِنَ الأَحْيَانِ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْفُسَّاقِ، وَهَذَا شَيْءٌ خَطِيرٌ، لِذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ لَا نُصَاحِبَ إِلَّا أَهْلَ الْخَيْرِ. فَمَنْ وَجَدَ فِي هَذَا الزَّمَنِ أَصْحَابًا وَأَصْدِقَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ)

 

 قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّجَسُّسُ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ

 الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ التَّجَسُّسَ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ (أَيِ التَّفْتِيشَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ) أَيِ التَّطَلُّعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَالتَّتَبُّعَ لَهَا (الْمُرَادُ هُنَا بِالْعَوْرَاتِ: الأَشْيَاءُ الَّتِي لَا يُحِبُّ الشَّخْصُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهَا، لَيْسَ الْمُرَادُ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةِ الْجِسْمِ. بَلِ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّفْتِيشُ عَنِ الْعُيُوبِ، كَمَنْ يَسْأَلُ وَيَبْحَثُ عَنْ عُيُوبِ أَخِيهِ، حَتَّى يَذْكُرَهَا لِلنَّاسِ، وَهُوَ يَتَأَذَّى إِنْ عَلِمَ، فَهَذَا حَرَامٌ) قَالَ تَعَالَى ﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾ وَالتَّجَسُّسُ وَالتَّحَسُّسُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ ﷺ (لا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَافَسُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. فَالتَّجَسُّسُ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ مَعْنَاهُ الْبَحْثُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ أَيْ أَنْ يُفَتِّشَ عَمَّا لا يُرِيدُ النَّاسُ اطِّلاعَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ أَيْ يُفَتِّشَ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ لا عَنْ مَحَاسِنِهِمْ وَيُرِيدَ أَنْ يَعْرِفَ عَنْهُمُ الْقَبِيحَ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ فَيَسْأَلَ عَنْهُ النَّاسَ أَوْ يَبْحَثَ عَنْهُ بنفْسِهِ مِنْ دُونِ سُؤَالٍ. (مِنْ دَاءِ الْقَلْبِ الْحَسَدُ وَالْبُغْضُ، وَضَرَرُهُ كَبِيرٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، يَتَقَاعَسُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا خِلَافُ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. لِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. أَمَّا التَّدَابُرُ، فَهُوَ أَنْ يُوَاجِهَ هَذَا أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، ثُمَّ يُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، لِلْإِشْعَارِ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ، أَوْ يَصْرِفَ وَجْهَهُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، وَهَذَا فِيهِ إِيذَاءٌ لِلْمُسْلِمِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ التَّهَاجُرُ، وَتَرْكُ التَّعَاوُنِ عَلَى مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى إِزَالَةِ مُنْكَرٍ، أَوْ أَدَاءِ فَرَائِضَ. نُهِينَا عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ، لِأَنَّهُ يُبْعِدُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَقَالَ ﷺ «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا». هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ مَعَ الْمُسْلِمِ) 

 

  قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَشْمُ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْوَشْمَ وَهُوَ غَرْزُ الْجِلْدِ بِالإِبْرَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ ثُمَّ يُذَرُّ عَلَى الْمَحَلِّ مَا يُحْشَى بِهِ الْمَحَلُّ مِنْ نِيلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِيَزْرَقَّ أَوْ يَسْوَدَّ (أكَانَ يَدًا أوْ شَفَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ) (“الوَاصِلَةُ” هِيَ الَّتِي تَصِلُ شَعَرَهَا بِشَعَرِ آدَمِيٍّ، وَهُوَ حَرَامٌ مُطْلَقًا. أَمَّا لَوْ وَصَلَتْ شَعَرَهَا بِالشَّعَرِ الِاصْطِنَاعِيِّ كَخُيُوطِ النَّيْلُونِ، فَلَا يَحْرُم. “وَالْمُسْتَوْصِلَةُ” هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ ذَلِكَ، مَعْنَاهُ إِذَا فَعَلَتْ أَوْ طَلَبَتْ، فِي الْحَالَتَيْنِ، هِيَ مَلْعُونَةٌ. “وَالْوَاشِمَةُ” هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ الْوَشْمَ، وَ”الْمُسْتَوْشِمَةُ” هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ ذَلِكَ. “وَالنَّامِصَةُ” هِيَ الَّتِي تَنْتُفُ شَعْرَ حَاجِبِهَا بِيَدِهَا حَتَّى يَرِقَّ مِنْ أَجْلِ الْحُسْنِ، وَ”الْمُتَنَمِّصَةُ” هِيَ الَّتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا. وَكُلُّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَعْنِي وَاقِعَاتٌ فِي الذَّنْبِ الْكَبِيرِ. وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ عَلَى أَحَدٍ مِنَّا حُكْمُ مَسْأَلَةٍ بِحُكْمِ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، نُبَيِّنُ أَنَّ إِزَالَةَ شَعْرِ جِسْمِ الْمَرْأَةِ مَطْلُوبَةٌ، وَلَوْ بِالنَّتْفِ، بَلِ الْعُلَمَاءُ قَالُوا يُسْتَحَبُّ لَهَا إِزَالَتُهُ. أَمَّا مِنَ الْحَاجِبِ نَفْسِهِ، فَحَرَامٌ، لَا يَجُوزُ، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً، وَفَعَلَتْ هَذَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهَا ذَنْبٌ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ). وَيَحْرُمُ الْوَصْلُ بِشَعَرٍ نَجِسٍ (كَشَعْرِ الْخِنزِيرِ) أَوْ شَعَرِ ءَادَمِيٍّ مُطْلَقًا (سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً أَوْ لَا، وَبِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ دُونَهُ).

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَجْرُ الْمُسْلِمِ (أَىْ تَرْكُ تَكْلِيمِهِ) فَوْقَ ثَلاثٍ إِلَّا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ هَجْرَ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَوْقَ ثَلاثٍ (أَيْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) (مَعْنَاهُ هَذَا يَرَى الآخَرَ فِي الطَّرِيقِ، فَيُوَلِّيهِ ظَهْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَالآخَرُ كَذَلِكَ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. وَالْمَعْصِيَةُ تَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَالَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الآخَرِ، لِقَوْلِهِ ﷺ وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) فَأَفْهَمَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ إِثْمَ الْهَجْرِ يَرْتَفِعُ بِالسَّلامِ (يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِكَيْ يَسْلَمَ الشَّخْصُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، يَكْفِيهِ أَنْ يُلْقِيَ السَّلَامَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، أَمَّا إِنْ قَاطَعَهُ حَتَّى مِنَ السَّلَامِ لِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ) وَأَمَّا الْعُذْرُ الَّذِي يُبِيحُ الْهَجْرَ فَكَأَنْ يَكُونَ هَجَرَهُ لِفِسْقٍ فِيهِ بِتَرْكِ صَلاةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ وَلَوْ إِلَى الْمَمَاتِ (أَيْ وَلَوْ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ. فَإِذَا قُلْتَ لِشَخْصٍ “صَلِّ”، فَلَمْ يُصَلِّ، أَوْ قُلْتَ لَهُ “اتْرُكِ الْخَمْرَةَ”، فَلَمْ يَتْرُكْهَا، يَجُوزُ أَنْ تَهْجُرَهُ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا لَكَ، إِلَى أَنْ يَتُوبَ. فَإِنْ قُلْتَ لَهُ “لَا أُكَلِّمُكَ حَتَّى تَتُوبَ وَتَعُودَ وَتُصَلِّي”، يَجُوزُ لَكَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الأَرْحَامِ. أَيْ بِشَرْطِ أَنْ تُخْبِرَهُ بِسَبَبِ الْهَجْرِ، رَجَاءَ عَوْدِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَثًّا لَهُ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا، وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ. كَما حَصَلَ مَعَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوك، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَذِرُوا كَذِبًا كَمَا فَعَلَ الْمُنَافِقُونَ، بَلِ اعْتَرَفُوا بِتَقْصِيرِهِم، فَنَزَلَ الْوَحْيُ بِمُقَاطَعَتِهِم خَمْسِينَ يَوْمًا، لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ فِيمَا مَعْنَاهُ العَوْدَةَ إِلَى تَكْلِيمِهِمْ. هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ مُقَاطَعَةَ الْفَاسِقِ الَّذِي ارْتَكَبَ ذَنْبًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ حَتَّى يَتُوبَ، جَائِزَةٌ فِي دِينِنَا)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَمُجَالَسَةُ الْمُبْتَدِعِ أَوِ الْفَاسِقِ لِلإِينَاسِ لَهُ عَلَى فِسْقِهِ) كَأَنْ جَلَسَ مَعَ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ يُحَدِّثُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَدَنِ مُجَالَسَةَ الْمُبْتَدِعِ أَوِ الْفَاسِقِ لإِينَاسِهِ عَلَى فِعْلِهِ الْمُنْكَرِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُبْتَدِعِ الْمُبْتَدِعُ بِدْعَةً اعْتِقَادِيَّةً أَيْ مَنْ لَيْسَ عَلَى عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ (كَالْمُشَبِّهِ)، وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالْفَاسِقُ فَهُوَ مُتَعَاطِي الْكَبِيرَةِ كَشَارِبِ الْخَمْرِ (مَثَلًا. أَمَّا مُجَالَسَةُ الْمُبْتَدِعِ أَوِ الْفَاسِقِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ إِينَاسِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَيْسَ حَرَامًا، كَأَنْ جَالَسَهُ لِأَجْلِ حَاجَةٍ مِنْهُ. وَالَّذِي عَقِيدَتُهُ خِلَافُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قِسْمٌ مِنْهُمْ كُفَّارٌ، وَقِسْمٌ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ فُسَّاقٌ، لِأَنَّ بِدْعَتَهُمُ الِاعْتِقَادِيَّةَ لَمْ تَصِلْ بِهِمْ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ. فَهَؤُلَاءِ إِنْ جَالَسَهُمْ لِيُؤْنِسَهُمْ عَلَى فِسْقِهِمْ، لَا يَجُوزُ. أَمَّا مُجَرَّدُ مُجَالَسَتِهِمْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَحْرُمُ)

 

فَائِدَةٌ: مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ، وَكَانَ هُنَاكَ نِسَاءٌ حَاسِرَاتُ الشَّعْرِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ الْحُضُورُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إِنْ قَدَرَ. وَهَذَا الْقَيْدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فَلْيُجِبْ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/JAlzlanAKcI

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِhttps://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-40