الخميس نوفمبر 21, 2024

#4 سيدنا محمد رسول الله ﷺ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وحبيب رب العالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد، ليعلم يا أحبابنا الكرام أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أعلمُ الأنبياء. روى مسلم عن عمروِ بنِ أَخْطَبَ الأنصارى رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعِد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنـزل فصلى ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا ما كان أى ما حصل وما هو كائن أى ما سيحصل فأعلمُنا أى فى ذلك أحفظُنا. يعني الذى حفظ أكثر من النبى هو الذى عنده علمٌ أكثر فى هذا الأمر. وليس معنى هذا أن النبي أخبرهم تفصيلًا  بكل شىء،بكل ما حصل وما سيحصل إلى يوم القيامة تفصيلًا ولا أن الصحابة صاروا محيطين بذلك وإنما هذا من حيث الإجمال، لأنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان أن رسول الله يعلم كلَّ شىء،كلَ ما يعلمُه الله فإن هذا كفر. وقد قال تعالى : ومِنْ أهل المدينة مَرَدُوا على النفاقِ لا تعلمُهُم نحنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مَرَّتينِ . معناه هناك أناس من أهل المدينة منافقون أنت لا تعلمهم يا محمد ما أوحينا إليك بأسمائهم وأعيانهم، أنت تعرف البعض لكن لا تعرف كل المنافقين الذين فى المدينة. وقال تعالى  مِنهم مَن قَصَصنا عليك ومنهم مَن لم نقْصُصْ عليك . معناه أنت لا تعرف كل الأنبياء ولا أخبار كل الأنبياء لأننا أوحينا اليك بأخبار بعضِهم والبعضُ الآخر ما أوحينا اليك بأخبارهم. وقال تعالى إخبارًا عن النبي صلى الله عليه وسلم : ولا أقولُ لكم عندِي خزائنُ اللهِ ولا أعلمُ الغيبَ. هذا وحي من الله تبارك وتعالى للنبى صلى الله عليه وسلم ليقول للناس أنا لا أعلم الغيب، الغيب علمه عند الله، ما سيحصل فى المستقبل علمه عند الله، أما قوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا  إلَّا  من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا . فمعناه أن الله لا يطلع على جميع غيبه أحدًا لكن من ارتضى من رسول فإن الله يحفظه من بين يديه ومن خلفه من الشياطين وأذاهم ، فـكلمة إلَّا   هنا في الآية بمعنى لكن، فيكون معنى الآية عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا  لكن من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا ، وليس معناه أن الله لا يطلع على غيبه أحدًا إلَّا بعض الأنبياء فيطلعهم على كل الغيب لا، لأن ءايات القرءان لا تتناقض فهنا إلَّا  بمعنى لكن معناه لكن رسل الله يجعل الله من بين أيديهم ومن خلفهم رصدًا أى من يحميهم، ملائكةٌ تحميهم من أذى الشياطين هذا معناه، كما حصل مرة أن الشيطان رأى النبى صلى الله عليه وسلم ساجدًا  عند الكعبة فقال الخبيث لأطئنّ على رقَبة محمد يعنى أراد أن يدوس على رقبتة فلما همّ بذلك جاء جبريل عليه السلام فضربه برجله ضربة رماه بها فى العراق فالله يحفظ أنبيائَه من أذى الشياطين. ويكفي للدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي من غير أن يطلعَه الله على كل الغيب أن البخاري رحمه الله تعالى روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه يُصرف أناس عن حوضه صلى الله عليه وسلم  يوم القيامة فيقول عليه الصلاة والسلام : يا رب أصحابي  فيقال له : لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم فيقول عليه الصلاة والسلام : سحقًا سحقًا  لمن بدل بعدي  . وليعلم أيضا يا أحبابنا أن نبينا محمدًا  صلى الله عليه وسلم أقوى الأنبياء من حيث الصلابةُ في الدين والقوةُ في اليقين وبالحجة، كما فى قوة الجسد، وقد شُهر عنه في السير أن الكفار جاءوا إلى عمه أبى طالب قبل الهجرة وكان أبو طالب كافرًا  لكن كان يحب رسول الله ويدافع عنه وفى ذلك الوقت ما كان ءامن بالرسول إلَّا  أشخاصٌ قليلون فقال الكفار لأبى طالب ماذا يريد ابنُ أخيك، لماذا يُعيبُ آلهتنا، إن كان يريد المال جمعنا له مالًا حتى يصير أغنانا وإن كان يريد الملكَ والجاه جعلناه ملكًا علينا، فبسبب كلامهم خاف أبو طالب على رسول الله أن يؤذؤه فجاء فقال للرسول ما قالوه فقال عليه الصلاة والسلام : والله يا عم لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلِك دونه. وأيضًا آتاه ربه تعالى قوة عظيمة في بدنه فقد ثبت أنه طاف على نسائه أى جامعهم جميعًا  في يوم واحد رواه البخاري وغيره ، ورُوىَ أن الله تعالى آتاه قوة أربعين رجلًا ، وكذلك صلابته فى الدين لا يبلغ رتبتَه فيها مخلوق. وهو صلى الله عليه وسلم أنجدُ الناس وأشجعُهم . عبد الله بن عمر قال : ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله.   الشجاع معروف أما النّجْد فهو الشجاع الماضي فيما يُعجِزُ غيرَهُ من الشجعان. وقد فرت منه جيوشُ الأعداء وقادةُ الكفر في كثير من المواجهات الحاسمة، بل كان يواجهُ صلى الله عليه وسلم المواقفَ والمصاعبَ بقلب ثابت وإيمان راسخ. ومما يؤيد ما ذكرناه موقفُه صلى الله عليه وسلم حين تآمر كفار قريش على قتله، وأعدوا القوة والرجال لذلك، حتى أحاط بمنزله أكثرُ من خمسين من الرجال الكفرة الأشداء المعروفين ببطشهم وقوتهم، فثبت عندها رسول الله، ولم يُصبهُ الخوف، ثم خرج عليهم في منتصف الليل بشجاعة وقوة، حاثيًا الترابَ على رؤوسهم، ماضيًا في طريقه، مخلّفًا عليًا مكانه. ويجلس صلى الله عليه وسلم في الغار مع سيدنا أبي بكر ، والمشركون حول الغار، وهو يقول لأبي بكر بشجاعة الواثقِ بحفظِ الله: لا تحزن إن الله معنا. وصارع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة رُكانةَ بنَ عبد يزيد بنِ هاشم وكان مشركا قويَ البنية، لم يتمكن أحد من طرحه على الأرض، وكان معروفا بقوته وشدته في القتال، فصرعه رسول الله وغلبه، فأي شجاعة وقوة كان يمتلكها عليه الصلاة والسلام. وذات مرة استظل عليه الصلاة والسلام تحت ظل شجرة لينام القائلة، وكان متعبًا من أثر إحدى الغزوات، وقد علق سيفه على غصن شجرة، وبينما هو كذلك إذ أقبل عليه أحد المشركين، آخذًا بسيف رسول الله، قائلًا له: من يمنعك مني؟ فأجاب رسول الله بلا خوف: الله! ثم قام وأخذ رسول الله السيف منه بشجاعة وقوة، وقال للمشرك من يمنعك مني؟ فأجاب قائلًا لرسول الله: كن خير آخذ . وفي يوم أحد، يوم خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشرس المشركون في المعركة، لم يفرّ النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وقف موقف القائدِ القويِ الشجاع، والصحابةُ من حوله يتساقطون، وحوصر صلى الله عليه وسلم من قبل المشركين، ولم يكن حوله إلا القلة من الصحابة يدافعون عنه، وبرز منهم سعدُ بنُ أبي وقاص رضي الله عنه، حينما دعاه رسول الله فناوله النبال وقال له: ارم يا سعد، فداك أبي وأمي. وكان إذا اشتد القتال في أرضِ المعركة واحمرّت الْمُقل واشتد البأس يحتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منهم أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه صلى الله عليه وسلم وهذه شجاعةٌ عظيمة. وروى مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وكان أجودَ الناس وكان أشجعَ الناس ، ولقد فزع أهلُ المدينة ليلةً لأنه فجأة حصل صرخةٌ فى طرف المدينة فظنوا أن العدو جاءهم فتجهز قسم من المسلمين بسرعة وذهبوا ليَرَوا ما الذى يحصل  فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت ليدفع الأذى عن المسلمين وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ من غير سرج في عنقه صلى الله عليه وسلم السيف وهو يقول  لم تُراعوا لم تراعوا  أى لا تخافوا أنا أحميكم، قال ووجدنا فرس أبي طلحة بحرًا أي سريعا  وكان يُبَطّئ  لا يركض مسرعًا فلما ركبه عليه الصلاة والسلام صار بحرًا .  فى زمن النبى عليه الصلاة والسلام كان الكفار يُغيرون على أطراف المدينة فى غير المعارك فكانوا إذا وجدوا إنسانًا منفردًا من المسلمين قد يقتلونه، أو إذا رأوا ماشية من مواشى المسلمين قد يأخذونها وهكذا، فلما سمع المسلمون الصرخة ظنوا أن الكفار أغاروا،هذا الذى حصل. وإذا تأملنا في هذه الحادثة لاستنبطنا أن الناس سمعوا تلك الصرخة في طرف المدينة ورسول الله سمع ذلك أيضا. فشجعان الصحابة تجمعوا ليذهبوا وينظروا في الأمر أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتظر أحدا بل خرج من بيته مسرعا ولم يصرف وقتا ليعلّق سيفه على خصره بل علقه في عنقه صلى الله عليه وسلم وخرج ولم يصرف الوقتَ لينتقي فرسًا سريعا ولم يصرف الوقت لكي يضع على الفرس السرج بل ركب على أول فرس رآه وكان فرسُ أبي طلحة المعروف ببُطئه وكان عُريًا أي من غير سرج ومع ذلك صار الفرس كالبحر سريعا تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بركته صلى الله عليه وسلم ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى طرف المدينة ونظر في الأمر ثم وهو في طريقه راجعا التقى بشجعان الصحابة الذين كانوا في طريقهم الآن لينظروا ما في الأمر فقال لهم لم تراعوا لم تراعوا. الله أكبر ما أقوى واشجع وأنجد  الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.  وكان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس وأكرمهم وقد وصفه ابن عباس رضي الله عنهما  بأنه صلى الله عليه وسلم كان في رمضان أجودَ بالخير من الريح المرسلة ، وعن جابر رضي الله عنه قال ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال : لا  ، أى ما مرةً طلب منه إنسانٌ شيئًا فقال لا، ومرة جاءه رجل فأسلم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم غنمًا تملأ بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قومِ أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.معناه محمد ينفق إنفاق الإنسان الذى لا يخش يومًا أن يفتقر، أسلموا ماذا تنتظرون، أسلموا تنالون من خير الدنيا والآخرة. وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة وهو لباس يوضع على الكتفين عادة فقالت : نسجتها بيدي لأكسُوَّكَها أى هذه هدية لك،  فأخذها النبي وكان محتاجًا إليها فخرج إلينا وإنها لإزارُه أي ائتزر بها صلى الله عليه وسلم ، فقال إنسان: اكسُنيها ما أحسنها فقال : نعم . فجلس النبي في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه فقال له القوم : ما أحسنتَ ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها ثم سألتَهُ وعلمتَ أنه لا يَرُدُّ سائلًا فقال : إني والله ما سألتُه ذلك لألبَسها إنما سألتُه لتكون كفني ، قال سهل : فكانت كفنه ،صلى الله على سيدنا محمد رسول الله.  وهذا الحديث الصحيح شاهدٌ أيضاً على جواز التبرك بآثار النبي عليه السلام إن كان في حياته أو بعد مماته. الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي حَيَاتِه وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ المسلمونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَذَلِكَ أَنَّهُ صلّى الله عليه وسلّم قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَظْفَارَهُ أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسلم مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَفِي لَفْظِ مُسلم أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَمَى صلّى الله عليه وسلّم الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ، نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْ، فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسلم أَيْضًا: فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: هَاهُنا  أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسلم أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَاهُنا ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِي سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَقَدْ قَسَمَ صلّى الله عليه وسلّم شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ. ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي عادتهم فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صلّى الله عليه وسلّم مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ. و التَّبَرُّكُ مَعْنَاهُ طَلَبُ زِيَادَةِ الْخَيْرِ، وَقَدْ قَسَمَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ لا لِيَأْكُلُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ لا يُؤْكَلُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الأَكْلِ، فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ أُمَّتَهُ إِلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ كُلِّهَا ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ أَخَذَ شَعْرَةً وَالآخَرُ أَخَذَ شَعْرَتَيْنِ وَمَا قَسَمَهُ إِلَّا لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِي الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلّم، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسلم وَأَبِي دَاوُدَ. فَتَقْسِيمُ النَّبِيِّ لِشَعْرِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ كَانَ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ ، يرجون أن يكون هذا سببا لحصول مرادهم. وَقَدْ رَوَى الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ سير أعلام النبلاء أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ يُقَبِّلُهَا، وَأَحْسَبُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَرَأَيْتُهُ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَغَمَسَهَا فِي جُبِّ الْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا، وَرَأَيْتُهُ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَيَمْسَحُ بِهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ. وقال الذَّهَبيُّ أيضًا في كتابه سِيَرُ أعلامِ النُّبَلاء ما نصُّه : وكان رضيَ الله عنه ، يحمِلُ معه في ثوبهِ وهو في السِّجْنِ أيام محنتهِ ثلاثَ شَعَرَاتٍ من شَعْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصَى أنْ تُجْعَلَ واحدَةٌ عندَ موتهِ في فمهِ على لسانه ، وأنْ تُوضَعَ على كُلِّ عَيْنٍ شَعْرَةٌ ا.هـ. وَأَمَّا اقْتِسَامُ أظفارِ النبي صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا. أَمَّا جُبَّتُهُ صلّى الله عليه وسلّم فَقَدْ أَخْرَجَ مُسلم فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: »أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا جُبَّةً ، وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِي بِهَا«. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ. وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلى السُّوقِ فَوَجَدَ زُهَيْرًا يَبيعُ مَتَاعًا فَجَاءَ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ وَضَمَّهُ بِيَدِهِ إِلى صَدْرِهِ فَأحَسَّ زُهَيْرٌ أَنَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، قالَ فَجَعَلْتُ أَمْسَحُ ظَهْرِي في صَدْرِهِ رَجَاءَ حُصُولِ الْبَرَكَةِ. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يعْلى عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَاني فآخُذُ بِيَدَيْهِ وَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ بِأبي هَاتَانِ اليَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبي هَاتانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأتا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم اهـ. وقَالَ الْحَافِظُ ابنُ الْجَوْزِيِّ في كِتَابِهِ صِفَةُ الصَّفْوَةِ وَرَوى جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ كَانَ الْمَاءُ يسْتَنْقعُ في جُفُونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ عَلِيٌّ يَحْسُوهُ أَيْ يَشْرَبُهُ أَثْنَاءَ غَسْلِهِمْ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ وَفَاتِهِ. وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَىَ فِرَاشِهَا وَلَيْسَتْ فِيهِ. قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ علَىَ فِرَاشِهَا، فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا: هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فِي بَيْتِكِ، عَلَىَ فِرَاشِكِ. قَالَ: فَجَاءتْ وَقَدْ عَرِقَ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ أي اجتمع علَىَ قِطْعَةِ أَدِيمٍ، عَلَىَ الْفِرَاشِ، فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا، فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أي استيقظ من نومه فَقَالَ: مَا تصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا.َ قالَ: أَصَبْتِ. والعتيدة هي كالصندوق الصغير تجعل فيه المرأة ما يعِزّ من متاعها فانظر إلى تصويب النبي جمعَها لعرقه للبركة وعدمِ الإنكار عليها. ولا خلاف بين أهل العلم أن أمَ سلَيم هذه هي أمُ أنس بنِ مالك خادمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح عن أنس أنه قال :  قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين  وأن أمه أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم وقالت له : هذا أنس يخدمك، فقبله صلى الله عليه وسلم وكنّاه أبا حمزة ومازحه، ودعا له بكثرة المال والولد والبركة في الرزق. وكانت أمُ سليم وأختُها أمُ حرام خالتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع  وهي مرتبةٌ شريفةٌ لهاتين الصحابيتين الكريمتين رضي الله عنهما. و هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين .