#4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.
(صِفَاتُ اللَّـهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ) الَّتِـى يَـجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ
اعْلَمْ أَنَّهُ (جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُؤَلِّفِيـنَ فِـى الْعَقِيدَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِـهِمْ إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَيْنِـىَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَىِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ صِفَاتِ اللَّـهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً) وَهِىَ (الْوُجُودُ وَالْقِدَمُ) أَىِ الأَزَلِيَّةُ (وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ عَدَمُ مُشَابَـهَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ (وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِيَامُ بِنَفْسِهِ) أَىِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ (وَالْبَقَاءُ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْـحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْكَلامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّـهِ مَا يُنَافِـى هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثِيـرًا فِـى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ) أَىِ الْقُرْءَانِ وَالْـحَدِيثِ وَكَانَ النَّبِـىُّ ﷺ يَـحْرِصُ عَلَى تَعْلِيمِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ الْعُلَمَاءُ يَـجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَىْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ) وَلا يَـجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) كَالْفَضَالِـىِّ الشَّافِعِىِّ (بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرِينَ صِفَةً فَزَادُوا سَبْعَ صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ قَالُوا) بِوُجُوبِـهَا وَهِىَ صِفَاتُ الْمَعَانِـى أَىِ الصِّفَاتُ الَّتِـى لَوْ كُشِفَ عَنْهَا الْـحِجَابُ لَرَأَيْنَاهَا (وَ)هِىَ (كَوْنُهُ تَعَالَـى قَادِرًا وَمُرِيدًا وَحَيًّا وَعَالِمًا وَمُتَكَلِّمًا وَسَـمِيعًا وَبَصِيرًا) وَهَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ تَعَالَـى بِالْـحَيَاةِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ حَيًّا وَمَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ بِالْقُدْرَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ قَدِيرًا (وَالطَّرِيقَةُ الأُولَـى هِىَ الرَّاجِحَةُ).
الصِّفَةُ الأُولَـى (الْوُجُودُ)
(اعْلَمْ رَحِـمَكَ اللَّـهُ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا) أَىْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَلا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ (فَلَيْسَ وُجُودُهُ تَعَالَـى بِإِيـجَادِ مُوجِدٍ) لِأَنَّهُ لَـمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ اللَّـهُ مَوْجُودٌ لِكَوْنِهِ) أَىْ لِكَوْنِ اللَّفْظِ (عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ) فَيَقْتَضِى بِزَعْمِهِمْ وُقُوعَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ (وَالْـجَوَابُ أَنَّ مَفْعُولًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَـمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْغَيْـرِ كَمَا نَقُولُ اللَّـهُ مَعْبُودٌ وَ)لا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ عَلَيْهِ فَالْـحَقِيقَةُ أَنَّ (هَؤُلاءِ) الْمُسْتَنْكِرِينَ (ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَـهُمْ نَصِيبًا فِـى عِلْمِ اللُّغَةِ وَلَيْسُوا كَمَا ظَنُّوا. قَالَ اللُّغَوِىُّ الْكَبِيـرُ شَارِحُ الْقَامُوسِ) الْـحَافِظُ الْفَقِيهُ مُـحَمَّدٌ مُرْتَضَى (الزَّبِيدِىُّ فِـى شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَا نَصُّهُ وَالْبَارِئُ تَعَالَـى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى وَقَالَ الْفَيُّومِىُّ اللُّغَوِىُّ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ) أَىِ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيـرِ (الْمَوْجُودُ خِلافُ الْمَعْدُومِ) وَأَجْـمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ اللَّـهُ مَوْجُودٌ نَقَلَ الإِجْـمَاعَ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِـىُّ فِـى شَرْحِ الْعَقاَئِدِ النَّسَفِيَّةِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ (الْقِدَمُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ لِلَّـهِ) تَعَالَـى (الْقِدَمُ بِـمَعْنَـى الأَزَلِيَّةِ) أَىْ أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ (لا بِـمَعْنَـى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ) أَىْ لا بِـمَعْنَـى أَنَّهُ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ (لِأَنَّ لَفْظَ الْقَدِيـمِ وَالأَزَلِـىِّ إِذَا أُطْلِقَا عَلَى اللَّـهِ كَانَ الْمَعْنَـى أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ فَيُقَالُ اللَّـهُ أَزَلِـىٌّ اللَّـهُ قَدِيـمٌ، وَإِذَا أُطْلِقَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَانَا بِـمَعْنَـى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ) كَمَا (قَالَ اللَّـهُ تَعَالَـى فِـى الْقَمَرِ ﴿حَتَّـى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيـمِ﴾) أَىْ كَعِذْقِ النَّخْلِ الَّذِى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ فَيَبِسَ وَتَقَوَّسَ (وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ) الْمُحِيطِ (الْفَيْـرُوزَابَادِىُّ الْـهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ بِـمِصْرَ) أَىْ مَضَى عَلَيْهِمَا زَمَانٌ طَوِيلٌ.
(وَأَمَّا بُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (قِدَمِهِ تَعَالَـى) الْعَقْلِـىُّ (فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ قَدِيـمًا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ) فَيَكُونُ مُـحْدَثًا أَىْ مَـخْلُوقًا (فَيَفْتَقِرُ إِلَـى مُـحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ) أَىْ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ زَيْدٌ أَوْجَدَهُ عَمْرٌو وَعَمْرٌو أَوْجَدَهُ زَيْدٌ فَمَعْنَـى ذَلِكَ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ عَمْرٍو الْمُتَوَقِّفِ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ زَيْدٍ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَهُوَ يَقْتَضِى أَنْ يَكُونَ الشَّىْءُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ وَبَعْدَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَـخْلُوقِـيَّتِهِ (أَوْ) يَلْزَمُ (التَّسَلْسُلُ) وَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ حَادِثٍ عَلَى انْقِضَاءِ مَا لا نِـهَايَةَ لَهُ مِنَ الْـحَوَادِثِ وَهُوَ مُـحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ هَذَا الْـحَادِثِ وَهُوَ كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ لا أُعْطِيكَ دِرْهَـمًا حَتَّـى أُعْطِيَكَ دِرْهَـمًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا لا إِلَـى أَوَّلٍ فَإِنَّهُ لا يَحْصُلُ عَلَى الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (وَكُلٌّ مِنْهُمَا) أَىْ كُلٌّ مِنَ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ (مُـحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ فَتَبَيَّـنَ بُطْلانُ مَا يَقْتَضِيهِمَا وَهُوَ حُدُوثُ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَهُ تَعَالَـى مُـحَالٌ وَقِدَمَهُ ثَابِتٌ).
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ (الْبَقَاءُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّـهِ تَعَالَـى) أَىِ اتِّصَافُهُ بِهِ (بِـمَعْنَـى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَـى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ) وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ (لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ) أَىْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَكَانَ مَـخْلُوقًا وَلَـمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَكِنَّ اللَّـهَ أَزَلِــىٌّ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَوَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ قَالَ تَعَالَـى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْـجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ أَىْ ذَاتُ رَبِّكَ أَىْ يَبْقَى اللَّـهُ قَالَ الرَّازِىُّ فِـى تَفْسِيـرِ هَذِهِ الآيَةِ وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ وَقَالَ الْبَيْضَاوِىُّ فِـى تَفْسِيـرِهِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ذَاتُهُ. وَلا يَصِحُّ تَفْسِيـرُ الْوَجْهِ فِـى هَذِهِ الآيَةِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّ الذَّاتَ هُوَ الَّذِى يُوصَفُ بِذِى الْـجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَلَيْسَ الصِّفَةَ. وَ﴿ذُو الْـجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّـهَ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُـجَلَّ فَلا يُـجْحَدَ وَلا يُكْفَرَ بِهِ أَىْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَّا أَنْ نُعَظِّمَهُ وَلا يَـجُوزُ لَنَا أَنْ نُنْكِرَ وُجُودَهُ أَوْ نَكْفُرَ بِهِ وَهُوَ الْمُكْرِمُ أَهْلَ وِلايَتِهِ بِالْفَوْزِ وَالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْبَقَاءُ الَّذِى يَـجِبُ لِلَّـهِ هُوَ الْبَقَاءُ الذَّاتِـىُّ أَىْ لَيْسَ بِإِبْقَاءِ غَيْـرِهِ لَهُ (فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَـى الْبَاقِى لِذَاتِهِ) وَ(لا بَاقِىَ لِذَاتِهِ غَيْـرُهُ وَأَمَّا الْـجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُـمَا) الثَابِتُ بِالإِجْـمَاعِ (لَيْسَ) بَقَاءً (بِالذَّاتِ) لِأَنَّ الْـجَنَّةَ وَالنَّارَ مَـخْلُوقَتَانِ وَالْمَخْلُوقُ لا يَكُونُ بَاقِيًا لِذَاتِهِ فَبَقَاءُ الْـجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ بِذَاتَيْهِمَا (بَلْ لِأَنَّ اللَّـهَ شَاءَ لَـهُمَا الْبَقَاءَ) فَهُمَا بَاقِيَتَانِ بِإِبْقَاءِ اللَّـهِ لَـهُمَا (فَالْـجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَـجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ) عَقْلًا (وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِـهَا يَـجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ) عَقْلًا لِكَوْنِـهِمَا حَادِثَتَيْـنِ أَىْ مَـخْلُوقَتَيْـنِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ (السَّمْعُ)
(وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّـهِ) تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ (فَهُوَ) تَعَالَـى (يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ أَزَلِـىٍّ أَبَدِىٍّ لا كَسَمْعِنَا) الْـحَادِثِ (لَيْسَ بِأُذُنٍ وَصِمَاخٍ) وَهُوَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الإِصْبَعُ مِنَ الأُذُنِ (فَهُوَ تَعَالَـى لا يَعْزُبُ أَىْ لا يَغِيبُ عَنْ سَـمْعِهِ مَسْمُوعٌ وَإِنْ خَفِىَ أَىْ عَلَيْنَا وَبَعُدَ أَىْ عَنَّا كَمَا يَعْلَمُ بِغَيْـرِ قَلْبٍ) فَهُوَ يَسْمَعُ كَلامَهُ الأَزَلِــىَّ وَيَسْمَعُ كَلامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَصْوَاتَـهُمْ بِسَمْعٍ أَزَلِــىٍّ لا بِسَمْعٍ يَـحْدُثُ فِـى ذَاتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْـحَادِثَاتِ فَسَمْعُ اللَّـهِ أَزَلِــىٌّ وَمَسْمُوعَاتُهُ الَّتِـى هِىَ مِنْ قَبِيلِ الأَصْوَاتِ حَادِثَةٌ قَالَ الإِمَامُ الأَشْعَرِىُّ فِـى اللُّمَعِ (وَدَلِيلُ وُجُوبِ السَّمْعِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّـهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُـحَالٌ).
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ بَعْضِ الْـجَهَلَةِ أَنْ حَرَّفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِـى سُنَنِهِ لَلَّـهُ أَشَدُّ أَذَنًا فَنَسَبَ إِلَـى اللَّـهِ الأُذُنَ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّـهِ بِـخَلْقِهِ (فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ) تَعَالَـى (يَسْمَعُ بِأُذُنٍ فَقَدْ أَلْـحَدَ وَكَفَرَ) أَمَّا الأَذَنُ بِفَتْحِ الْـهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْوَارِدُ فِـى الْـحَدِيثِ فَهُوَ الِاسْتِمَاعُ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الأَوْزَاعِىُّ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ.
الصِّفَةُ الْـخَامِسَةُ (الْبَصَرُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ لِلَّـهِ تَعَالَـى عَقْلًا) وَشَرْعًا (الْبَصَرُ أَىِ الرُّؤْيَةُ) وَالْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ (فَهُوَ) سُبْحَانَهُ (يَرَى بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ الْمَرْئِيَّاتِ جَـمِيعَهَا فَيَـرَى ذَاتَهُ) الأَزَلِــىَّ وَيَرَى الْـحَادِثَاتِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (بِغَيْـرِ حَدَقَةٍ وَ)لا (جَارِحَةٍ لِأَنَّ الْـحَوَاسَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِيـنَ) تَنَزَّهَ اللَّـهُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِشَىْءٍ مِنْهَا.
(وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْبَصَرِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ بَصِيـرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى وَالْعَمَى أَىْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّـهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ وَ)أَمَّا (دَلِيلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ السَّمْعِىُّ) فَهُوَ (الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيـرُ﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ فِـى تَعْدَادِ أَسْـمَاءِ اللَّـهِ الْـحُسْنَـى السَّمِيعُ الْبَصِيـرُ وَهُوَ فِـى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّـرْمِذِىُّ) فِـى سُنَنِهِ (وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ (الْكَلامُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ يَـجِبُ لِلَّـهِ تَعَالَـى (الْكَلامُ) وَ(هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِـهَا ءَامِرٌ نَاهٍ وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ لَيْسَ) حَادِثًا (كَكَلامِ غَيْـرِهِ بَلْ أَزَلِــىٌّ بِأَزَلِـيَّةِ الذَّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْـخَلْقِ) لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ (وَلَيْسَ بِصَوْتٍ يَـحْدُثُ مِنَ انْسِلالِ) أَىْ خُرُوجِ (الْـهَوَاءِ) مِنَ الْـجَوْفِ (أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ) أَىْ أَجْرَامِ الْفَمِ وَهِىَ مَـخَارِجُ الْـحُرُوفِ (وَلا بِـحَرْفٍ يَنْقَطِعُ) أَىْ يَظْهَرُ (بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ) يَـحْدُثُ بِسَبَبِ (تَـحْرِيكِ لِسَانٍ). وَالدَّلِيلُ النَّقْلِـىُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَلامِ لَهُ سُبْحَانَهُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَكَلَّمَ اللَّـهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى أَسْـمَعَ مُوسَى كَلامَهُ الأَزَلِـىَّ وَأَمَّا دَلِيلُهُ الْعَقْلِـىُّ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَـى لَوْ لَـمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ أَخْرَسَ وَهَذَا نَقْصٌ لا يَلِيقُ بِاللَّـهِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّـهُمْ نَفَوُا الْكَلامَ عَنِ اللَّـهِ فَجَعَلُوهُ أَبْكَمَ وَقَالُوا إِنَّ الْـحَرْفَ وَالصَّوْتَ حَادِثَانِ فَلَوْ كَانَ اللَّـهُ يَتَكَلَّمُ لَكَانَ حَادِثًا أَىْ مَـخْلُوقًا وَقَالُوا فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَكَلَّمَ اللَّـهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ إِنَّهُ مَـجَازٌ أَىْ خَلَقَ اللَّـهُ الْكَلامَ فِـى الشَّجَرَةِ الَّتِـى كَانَ مُوسَى عِنْدَهَا فَسَمِعَ مُوسَى كَلامَ اللَّـهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَقُولُ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ مَا أَكَّدَ اللَّـهُ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ وَفِـى ذَلِكَ نَفْىٌ لِلْمَجَازِ فَبَطَلَ زَعْمُهُمْ. (وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلامُ (سَـمِعَ كَلامَ اللَّـهِ الأَزَلِـىَّ بِغَيْـرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُونَ ذَاتَ اللَّـهِ فِـى الآخِرَةِ مِنْ غَيْـرِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا وَلا عَرَضًا) أَىْ مِنْ غَيْـرِ أَنْ يَكُونَ حَجْمًا ولا صِفَةً لِلْحَجْمِ (لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يُـحِيلُ سَـمَاعَ مَا لَيْسَ بِـحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَ)إِنْ كُنَّا لا نَسْتَطِيعُ تَصَوُّرَهُ.
(وَكَلامُهُ تَعَالَـى الذَّاتِـىُّ) أَىِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ (لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِـبَةً) يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ (كَكَلامِنَا وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ مِنَّا كَلامَ اللَّـهِ) أَىِ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ عَلَى سَيِّدِنَا مُـحَمَّدٍ ﷺ (فَقِرَاءَتُهُ حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِـيَّةً وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ) الإِمَامِ (أَبِـى حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ) رُؤُوسِ (السَّلَفِ) أَىْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَـى فَإِنَّهُ (أَدْرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمِائَةِ الأُولَـى) إِذْ وُلِدَ سَنَةَ ثَـمَانِيـنَ (ثُـمَّ تُوُفِّـىَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَـمْسِيـنَ هِجْرِيَّـةً قَالَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَاللَّـهُ يَتَكَلَّمُ لا بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَنَـحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ) وَنَصُّ كَلامِهِ وَيَتَكَلَّمُ لا كَكَلامِنَا نَـحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ مِنَ الْمَخَارِجِ وَالْـحُرُوفِ وَاللَّـهُ مُتَكَلِّمٌ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ، فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ وَشَفَتَيْـنِ وَكَلامُنَا حُرُوفٌ لَـهَا مَـخَارِجُ فَبَعْضُ الْـحُرُوفِ تَـخْرُجُ مِنَ الشَّفَتَيْـنِ كَالْبَاءِ وَالْمِيمِ وَبَعْضُ الْـحُرُوفِ مِنَ الْـحَلْقِ وَبَعْضُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ (فَلْيُفْهَمْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ بِأَنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّـهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ بِـحَرْفٍ) وَلا صَوْتٍ (وَإِنَّـمَا هَذَا بِدْعَةُ الأَشَاعِرَةِ) وَمُرَادُهُمْ بِـهَذَا صَرْفُ النَّاسِ عَنِ التَّنْزِيهِ إِلَـى اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ وَالْعِيَاذُ باللَّـهِ.
(وَهَذَا الْكَلامُ مِنَ) الإِمَامِ (أَبِـى حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ (ثَابِتٌ) عَنْهُ (ذَكَرَهُ فِـى) رِسَالَةِ الْفِقْهِ الأَكْبَـرِ وَهِىَ (إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْـخَمْسِ) الَّتِـى صَحَّتْ نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْـحَافِظُ الْفَقِيهُ الْـحَنَفِىُّ مُـحَمَّدٌ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِـى شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.
(وَالْقُرْءَانُ) لَفْظٌ (لَهُ إِطْلاقَانِ) أَىْ لَهُ مَعْنَيَانِ (يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى) سَيِّدِنَا (مُـحَمَّدٍ) ﷺ (وَ)يُطْلَقُ (عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِـىِّ الأَزَلِـىِّ الَّذِى) لا يُشْبِهُ كَلامَ غَيْـرِهِ (لَيْسَ هُوَ بِـحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْـرِهَا. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ) أَىِ بِالْقُرْءَانِ (الْكَلامُ الذَّاتِـىُّ) الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ (فَهُوَ أَزَلِـىٌّ لَيْسَ بِـحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ) وَلا لُغَةٍ (وَإِنْ قُصِدَ بِهِ وَبِسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعِبْـرِيَّةِ) كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ (وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ) كَالإِنْـجِيلِ وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَأُنْزِلَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ (وَهَذِهِ اللُّغَاتُ) الثَّلاثُ الْعِبْـرِيَّةُ وَالسُّرْيَانِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ (وَغَيْـرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ لَـمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَخَلَقَهَا اللَّـهُ تَعَالَـى فَصَارَتْ مَوْجُودَةً) بِإِيـجَادِ اللَّـهِ لَـهَا (وَاللَّـهُ تَعَالَـى كَانَ) مَوْجُودًا (قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا) أَىْ مُتَّصِفًا بِالْكَلامِ (قَبْلَهَا وَلَـمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكَلامُهُ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ أَزَلِـىٌّ أَبَدِىٌّ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِـهَايَةَ لَهُ (وَهُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ) أَىْ لَيْسَ مُتَجَزِّءًا وَلا مُرَكَّبًا مِنْ حُرُوفٍ. (وَهَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الذَّاتِـىِّ الأَزَلِـىِّ الأَبَدِىِ) أَىْ تَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَارَةِ حَادِثَةً كَوْنُ الْمُعَبَّـرِ عَنْهُ) وَهُوَ صِفَةُ اللَّـهِ (حَادِثًا) أَىْ مَـخْلُوقًا (أَلا تَرَى أَنَّنَا إِذَا كَتَبْنَا عَلَى لَوْحٍ أَوْ جِدَارٍ) لَفْظَ الْـجَلالَةِ (اللَّه فَقِيلَ هَذَا اللَّـهُ فَهَلْ مَعْنَـى هَذَا أَنَّ أَشْكَالَ الْـحُرُوفِ الْمَرْسُومَةَ هِىَ ذَاتُ اللَّـهِ) الَّذِى نَعْبُدُهُ (لا يَتَوَهَّمُ هَذَا عَاقِلٌ إِنَّـمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْـحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الإِلَــٰهِ الَّذِى هُوَ مَوْجُودٌ مَعْبُودٌ خَالِقٌ لِكُلِّ شَىْءٍ) وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُـحَمَّدٍ ﷺ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّـهِ الذَّاتِـىِّ الأَزَلِـىِّ. (وَمَعَ هَذَا لا يُقَالُ الْقُرْءَانُ وَغَيْـرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مَـخْلُوقٌ) أَىْ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَـخْلُوقٌ حَرَامٌ لِأَنَّهُ يُـحْمَلُ عِنْدَ الإِطْلاقِ عَلَى صِفَةِ الْكَلامِ الأَزَلِـيَّةِ (لَكِنْ يُبَيَّـنُ فِـى مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّـهِ) أَىْ لَيْسَ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّـهِ أَىْ ثَابِتَةً لَهُ (بَلْ هُوَ مَـخْلُوقٌ لِلَّـهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ) فَهُوَ (حَادِثٌ مَـخْلُوقٌ قَطْعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ) أَىْ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ جِبْـرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَلا مِنْ تَأْلِيفِ نَبِـىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ (فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَلامِ الذَاتِـىِّ الَّذِى لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِـىٌّ وَلا بِأَنَّهُ عِبْـرانِـىٌّ وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِـىٌّ وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّـهِ أَىْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّـهِ) أَىِ الثَّابِتَةَ لَهُ (يُقَالُ لَـهَا كَلامُ اللَّـهِ وَاللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِى هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّـهِ وَالإِطْلاقَانِ مِنْ بَابِ الْـحَقِيقَةِ) لا الْمَجَازِ (لِأَنَّ الْـحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّـةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِـى مَعْنَاهُ الْـحَقِيقِىِّ كَإِطْلاقِ الأَسَدِ عَلَى الْـحَيَوَانِ الْمُفْتَـرِسِ (وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِـى الْمَعْنَـى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ حَـمَلَةِ الشَّرْعِ كَإِطْلاقِ الصَّلاةِ عَلَى عِبَادَةٍ مَـخْصُوصَةٍ كَصَلاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الصَّلاةَ فِـى الأَصْلِ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ (وَإِمَّا عُرْفِـيَّةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِـى الْمَعْنَـى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِـى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِـهِمْ كَإِطْلاقِ الدَّابَّةِ عَلَى الْـحِمَارِ وَنَـحْوِهِ وَالدَّابَّةُ فِـى الأَصْلِ مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يَدِبُّ أَىْ يَـمْشِى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَـهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ، وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّـهِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّـةٌ وَشَرْعِيَّةٌ (وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لَفْظَ الْـجَلالَةِ اللَّـه عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِـىٍّ أَبَدِىٍّ فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّـهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ مَا هَذَا يُقَالُ اللَّـهُ بِـمَعْنَـى أَنَّ هَذِهِ الْـحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِـىِّ الأَبَدِىِّ لا بِـمَعْنَـى أَنَّ هَذِهِ الْـحُرُوفَ هِىَ الذَّاتُ الَّذِى نَعْبُدُهُ).
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ (الإِرَادَةُ)
(اعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِىَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّـهِ تَعَالَـى) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّـهِ أَنْ لا يَكُونَ مُتَّصِفًا بِـهَا (وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِـيَّةٌ أَبَدِيَّـةٌ يُـخَصِّصُ اللَّـهُ بِـهَا الْـجَائِزَ) أَىِ الْمُمْكِنَ (الْعَقْلِـىَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ) فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِـى الْوُجُودِ إِنَّـمَا وُجِدَ بِتَخْصِيصِ اللَّـهِ لَهُ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِبَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ غَيْـرِهَا وَبِالْوُجُودِ فِـى وَقْتٍ دُونَ غَيْـرِهِ. وَالدَّلِيلُ النَّقْلِـىُّ عَلَى وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّـهِ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّـهُ﴾ (وَبُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّـهِ) عَقْلًا (أَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ مُرِيدًا) أَىْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالإِرَادَةِ (لَـمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَـمِ لِأَنَّ الْعَالَـمَ مُـمْكِنُ الْوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ عَقْلًا) أَىْ أَنَّ وُجُودَ الْعَالَـمِ لَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِإِيـجَادِ اللَّـهِ لَهُ (وَالْعَالَـمُ مَوْجُودٌ) بَعْدَ عَدَمٍ (فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُـخَصِّصٍ لِوُجُودِهِ وَتَرْجِيحِهِ لَهُ عَلَى عَدَمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّـهَ مُرِيدٌ شَاءٍ) أَىْ مُتَّصِفٌ بِالإِرَادَةِ أَىِ الْمَشِيئَةِ. (ثُـمَّ الإِرَادَةُ بِـمَعْنَـى الْمَشِيئَةِ) لا بِـمَعْنَـى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى (عِنْدَ أَهْلِ الْـحَقِّ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ جَـمِيعِهَا الْـخَيْـرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ) فَلَوْلا تَـخْصِيصُ اللَّـهِ تَعَالَـى لِلطَّاعَاتِ بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ الْكُفْرِيَّاتُ وَالْمَعَاصِى لَوْلا تَـخْصِيصُ اللَّـهِ تَعَالَـى لَـهَا بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ (فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِـى الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَالْـخَيْـرِ وَمِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ أَوْ طَاعَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّـهِ وَقَعَ وَحَصَلَ) كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ ﴿إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِـهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَـهْدِى مَنْ تَشَاءُ﴾ (وَهَذَا كَمَالٌ فِـى حَقِّ اللَّـهِ تَعَالَـى لِأَنَّ شُـمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِـجَلالِ اللَّـهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِـى مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّـهِ) فَكُلُّ شَىْءٍ يَـحْصُلُ إِنَّـمَا يَـحْصُلُ بِـمَشِيئَةِ اللَّـهِ لَكِنَّ الْـخَيْـرَ يَـحْصُلُ بِـمَشِيئَةِ اللَّـهِ وَمَـحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمَّا الشَّرُّ فَيَحْصُلُ بِـمَشِيئَةِ اللَّـهِ لا بِـمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ.
(وَالْمَشِيئَةُ) أَىْ مَشِيئَةُ اللَّـهِ (تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ أَىْ أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوثَهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَـمْ يَشَأْ أَنْ يَكُونَ) وَلَيْسَ الْمَعْنَـى أَنَّ الْمَشِيئَةَ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ فِـى الْوُجُودِ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّـهِ الْوَاجِبَةَ لَهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا سَابِقٌ وَمَسْبُوقٌ (وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ) كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ (بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ) عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْوَحْىِ الْمَنَامِىِّ (بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْـمَاعِيلَ وَلَـمْ يَشَأْ لَهُ ذَلِكَ) أَىْ لَـمْ يَشَأْ لَهُ أَنْ يُذْبَحَ فَلَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَنْفِيذَ مَا أُمِرَ بِهِ فَدَى اللَّـهُ تَعَالَـى إِسْـمَاعِيلَ بِكَبْشٍ مِنَ الْـجَنَّةِ جَاءَ بِهِ جِبْـرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِـمَا لَـمْ يَشَأْ وُقُوعَهُ فَالْـجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِـمَا لَـمْ يَشَأْ) ابْتِلاءً لِلْعِبَادِ (كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوُقُوعِ شَىْءٍ مِنَ الْعَبْدِ) كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى (وَنَـهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ).
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ (الْقُدْرَةُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ لِلَّـهِ تَعَالَـى الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ) وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّـهِ بِـهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِـىُّ عَلَى وُجُوبِ الْقُدْرَةِ لِلَّـهِ أَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّـهِ وَأَمَّا دَلِيلُهُ النَّقْلِـىُّ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْـجَائِزُ الْعَقْلِـىُّ) وَهُوَ مَا يُتَصَوَّرُ فِـى الْعَقْلِ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى (فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِـىُّ لِأَنَّهُ غَيْـرُ قَابِلٍ لِلْوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَـحَلًّا لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَخَالَفَ فِـى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ) فِـى كِتَابِهِ الْمُحَلَّى بِالآثَارِ (إِنَّ اللَّـهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ) عَلَى (أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِذْ لَوْ لَـمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا) وَكَلامُهُ هَذَا كُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّـهِ لِأَنَّ مَعْنَـى كَلامِهِ أَنَّهُ يَـجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَزَلِـىُّ حَادِثًا أَىْ مَـخْلُوقًا لِأَنَّ الَّذِى يَنْحَلُّ مِنْهُ شَىْءٌ يَكُونُ حَادِثًا وَاللَّـهُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ) ابْنُ حَزْمٍ (غَيْـرُ لازِمٍ) أَىْ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّـهُ عَاجِزًا إِنْ لَـمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا (لِأَنَّ اتِّـخَاذَ الْوَلَدِ مُـحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ (عَلَى اللَّـهِ وَالْمُحَالُ الْعَقْلِـىُّ لا يَدْخُلُ تَـحْتَ الْقُدْرَةِ) أَىْ لا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ فَلا يُقَالُ إِنَّ اللَّـهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلا يُقَالُ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يُقَالُ هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَقْلِـىٌّ وَالْقُدْرَةُ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ (وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ فِـى الْمَخْلُوقِ) كَمَا إِذَا قُلْنَا الإِنْسَانُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَـخْلُقَ شَيْئًا أَىْ أَنْ يُـحْدِثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَـى الْوُجُودِ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ قَاصِرَةٌ عَنْ ذَلِكَ (وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الدُّخُولَ فِـى الْوُجُودِ أَىْ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الْعَدَمَ) أَىِ الْفَنَاءَ (لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا) وَهُوَ اللَّـهُ تَعَالَـى (وَالْعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ) أَىْ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَهُوَ (الْمَنْفِىُّ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَـى لا الثَّانِـى) أَىْ عَدَمُ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِـىِّ وَالْوَاجِبِ الْعَقْلِـىِّ لَيْسَ عَجْزًا فِـى حَقِّ اللَّـهِ (فَلا يَـجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّـهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ) عَنْهُ (قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْـحَجَرِ عَالِـمٌ وَلا جَاهِلٌ وَكَذَلِكَ يُـجَابُ) بِـمِثْلِ ذَلِكَ (عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ هَلِ اللَّـهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَـخْلُقَ مِثْلَهُ وَهَذَا) السُّؤَالُ (فِيهِ تَـجْوِيزُ الْمُحَالِ الْعَقْلِـىِّ) وَالْمُحَالُ الْعَقْلِـىُّ لا يَكُونُ جَائِزًا (وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّـهَ أَزَلِـىٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ أَزَلِيًّا وَالأَزَلِـىُّ لا) يُقَالُ فِيهِ (يُـخْلَقُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ) لَـمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (فَكَيْفَ يُـخْلَقُ الْمَوْجُودُ، أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِـىُّ فَعَدَمُ قَبُولِهِ الدُّخُولَ فِـى الْوُجُودِ ظَاهِرٌ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْعَقْلِـىُّ فَلا يَقْبَلُ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُ أَزَلِـىٌّ) لَـمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ وَ(فَرْقٌ بَيْـنَ الْوُجُودِ وَبَيْـنَ الدُّخُولِ فِـى الْوُجُودِ فَالْوُجُودُ يَشْمَلُ الْوُجُودَ الأَزَلِـىَّ وَالْوُجُودَ الْـحَادِثَ أَمَّا الدُّخُولُ فِـى الْوُجُودِ فَهُوَ الْوُجُودُ الْـحَادِثُ فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِـىُّ) هُوَ (اللَّـهُ وَصِفَاتُهُ فَاللَّـهُ وَاجِبٌ عَقْلِـىٌّ) أَىْ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ عَدَمَهُ وَ(وُجُودُهُ أَزَلِـىٌّ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ وَ)لِذَلِكَ (لا يُقَالُ لِلَّـهِ وَلا لِصِفَاتِهِ دَاخِلٌ فِـى الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُـمَا أَزَلِـىٌّ فَقَوْلُنَا إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِـىَّ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِـى الْوُجُودِ صَحِيحٌ لَكِن) قَدْ (يَقْصُرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُبْتَدِئِيـنَ فِـى الْعَقِيدَةِ أَمَّا عِنْدَ مَنْ مَارَسَ فَهِىَ) عِبَارَةٌ (وَاضِحَةُ الْمُرَادِ).
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ (الْعِلْمُ)
(اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّـهِ قَدِيـمٌ أَزَلِـىٌّ) أَىْ لا بِدَايَةَ لَهُ (كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ) قَدِيـمٌ (أَزَلِـىٌّ فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُـحْدِثُهُ مِنْ مَـخْلُوقَاتِهِ) لِأَنَّهُ لَوْ لَـمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْـجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّـهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ فَاللَّـهُ تَعَالَـى عَالِـمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ (فَلا يَتَّصِفُ) رَبُّنَا (بِعِلْمٍ حَادِثٍ) كَعِلْمِنَا (لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْـحَوَادِثِ) أَىْ بِصِفَاتٍ حَادِثَةٍ أَىْ مَـخْلُوقَةٍ (لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَـحَلًّا لِلْحَوَادِثِ) أَىِ الَّذِى تَقُومُ بِهِ صِفَاتٌ حَادِثَةٌ فَذَاتُهُ (لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا) مَـخْلُوقًا (وَمَا أَوْهَمَ تَـجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّـهِ تَعَالَـى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ) أَىْ مَا كَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ اللَّـهَ يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا (كَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّـهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ) لِأَنَّ اللَّـهَ لا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ أَىْ لا يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا بَلْ هُوَ عَالِـمٌ فِـى الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ إِنَّـمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نُسِخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِيـنَ لِأَضْعَافٍ كَثِيـرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيـجَابِ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ لِاثْنَيْـنِ مِنَ الْكُفَّارِ رَحْـمَةً بِـهِمْ لِلضَّعْفِ الَّذِى فِيهِمْ (وَ)بِعِبَارَةٍ أُخْرَى نَقُولُ (قَوْلُهُ ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَـى أَنَّهُ تَعَالَـى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِـى الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّـى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِـمَا شِئْنَا مِنَ الْبَلايَا (حَتَّـى نُـمَيِّـزَ أَىْ) حَتَّـى (نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ) هُوَ الصَّادِقُ الَّذِى (يُـجَاهِدُ) فِـى سَبِيلِ اللَّـهِ (وَيَصْبِـرُ) عَلَى الْمَشَقَّاتِ (مِنْ غَيْـرِهِمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَالِمًا قَبْلُ) أَىْ فِـى الأَزَلِ (كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِىُّ ذَلِك عَنْ أَبِـى عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّـى وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿لِيَمِيزَ اللَّـهُ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾) أَىْ لِيُظْهِرَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الْـخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ.
الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ (الْـحَيَاةُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ لِلَّـهِ تَعَالَـى الْـحَيَاةُ فَهُوَ حَىٌّ لا كَالأَحْيَاءِ إِذْ حَيَاتُهُ) صِفَةٌ (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِـهَايَةَ لَـهَا (لَيْسَتْ بِرُوحٍ) وَجَسَدٍ (وَدَمٍ. وَالدَّلِيلُ) الْعَقْلِـىُّ (عَلَى وُجُوبِ حَيَاتِهِ وُجُودُ هَذَا الْعَالَـمِ فَلَوْ لَـمْ يَكُنِ) اللَّـهُ (حَيًّا لَـمْ يُوجَدْ شَىءٌ مِنَ) هَذَا (الْعَالَـمِ لَكِنْ وُجُودُ الْعَالَـمِ ثَابِتٌ بِالْـحِسِّ وَالضَّرُورَةِ بِلا شَكٍّ) فَوَجَبَ أَنَّ اللَّـهَ حَىٌّ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ حَيًّا لا يَتَّصِفُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَلَوْ لَـمْ يَكُنِ اللَّـهُ مُتَّصِفًا بِـهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لِلْعَالَـمِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِـىُّ عَلَى اتِّصَافِ اللَّـهِ بِـهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿اللَّـهُ لا إِلَــٰهَ إِلَّا هُوَ الْـحَىُّ الْقَيُّومُ﴾.
الصِّفَةُ الْـحَادِيَةَ عَشْرَةَ (الْوَحْدَانِيَّةُ)
(مَعْنَـى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ) كَالأَجْسَامِ فَالْعَرْشُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الأَجْسَامِ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءٍ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّـهِ مُشَابَـهَةٌ فَلا مَثِيلَ لَهُ تَعَالَـى وَلا شَبِيهَ فِـى ذَاتِهِ وَلا فِـى صِفَاتِهِ وَلا فِـى فِعْلِهِ (فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ) لِأَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ جِسْمًا (وَلَيْسَ لِغَيْـرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ إِذِ الْوَاحِدُ فِـى الْعَدَدِ لَهُ نِصْفٌ وَأَجْزَاءٌ أَيْضًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ) كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ وَاللَّـهُ وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
(وَبُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (وَحْدَانِيَّتِهِ) الْعَقْلِـىُّ (هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ) أَىْ لِلْخَالِقِ (مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُـخْتَارًا) إِذْ لَوْ لَـمْ يَكُنْ حَيًّا لَكَانَ مَيِّتًا وَلَوْ لَـمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَلَوْ لَـمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَلَوْ لَـمْ يَكُنْ مُرِيدًا مُـخْتَارًا لَكَانَ مَـجْبُورًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لا يَكُونُ إِلَــٰهًا (فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِـمَا ذَكَرْنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَـمِ صَانِعَانِ) أَىْ خَالِقَانِ (وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُـخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَـجُوزُ اخْتِلافُهُمَا فِـى الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْـرُ مُـجْبَـرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِـى اخْتِيَارِهِ وَإِلَّا لَكَانَا مَـجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَــٰهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُـمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِـى شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُـمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَـمْ يَـخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُـمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُـمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِـمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ وَمُـحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ (تَـمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِـمَا أَىْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُـمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِـى ءَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَـمْ يَتِمَّ مُرَادُهُـمَا فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَــٰهًا، وَإِنْ تَـمَّ مُرَادُ أَحَدِهِـمَا وَلَـمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِى لَـمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَــٰهًا وَلا قَدِيـمًا وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَـى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِـهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا﴾) أَىْ لَوْ كَانَ لِلسَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ ءَالِـهَةٌ غَيْـرُ اللَّـهِ لَفَسَدَتَا أَىْ مَا كَانَتَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى انْتِظَامٍ. فَلَوْ لَـمْ يَكُنِ اللَّـهُ وَاحِدًا وَكَانَ مُتَعَدِّدًا لَـمْ يَكُنِ الْعَالَـمُ مُنْتَظِمًا لَكِنَّ الْعَالَـمَ مُنْتَظِمٌ فَوَجَبَ أَنَّ اللَّـهَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّـهِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَإِلَــٰهُكُمْ إِلَــٰهٌ وَاحِدٌ﴾ وَمِنَ الْـحَدِيثِ مَا رَوَاهُ الْـحَاكِمُ فِـى الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ أَىِ اسْتَيْقَظَ قَالَ لا إِلَــٰهَ إِلَّا اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَــٰـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ)
(اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَـى قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَـحْتَاجُ) إِلَـى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلا يَنْتَفِعُ رَبُّنَا بِطَاعَةِ الطَّائِعِيـنَ وَلا يَنْضَرُّ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ وَكُلُّ شَىْءٍ سِوَى اللَّـهِ مُـحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِى أَوْجَدَهُ فَلا يَسْتَغْنِـى عَنِ اللَّـهِ طَرْفَةَ عَيْـنٍ أَمَّا اللَّـهُ تَعَالَـى فَلا يَـحْتَاجُ (إِلَـى مُـخَصِّصٍ لَهُ بِالْوُجُودِ) بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ (لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَـى الْغَيْـرِ يُنَافِـى قِدَمَهُ وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ وَبَقَائِهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَـى.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ (الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَـجِبُ لِلَّـهِ تَعَالَـى أَنْ يَكُونَ مُـخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ بِـمَعْنَـى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ) لِأَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى لَوْ كَانَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَـخْلُوقَاتِهِ لَـمْ يَكُنْ خَالِقًا لَـهَا وَلَـجَازَ عَلَيْهِ مَا يَـجُوزُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّـرِ أَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ لِوُجُوبِ مُـخَالَفَتِهِ تَعَالَـى لِلْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَاللَّـهُ تَعَالَـى نَفَى بِـهَذِهِ الْـجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَـهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَلَيْسَ هُوَ بِـجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ) أَىْ لَيْسَ حَجْمًا يَـمْلَأُ فَرَاغًا وَلا صِفَةً لِلْحَجْمِ (وَالْـجَوْهَرُ مَا لَهُ تَـحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ) أَىْ مَا يَـمْلَأُ فَرَاغًا وَلَيْسَ صِفَةً لِغَيْـرِهِ (وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّـمَا يَقُومُ بِغَيْـرِهِ) أَىْ هُوَ صِفَةٌ لِلْجَوْهَرِ (كَالْـحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِـرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِـى بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِـى عِلْمِ الْكَلامِ) وَهِىَ رِسَالَةُ الْفِقْهِ الأَكْبَـرِ (أَنَّـى يُشْبِهُ الْـخَالِقُ مَـخْلُوقَهُ، مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْـخَالِقُ مَـخْلُوقَهُ وَ)يَشْمَلُ نَفْىُ مُشَابَـهَةِ اللَّـهِ لِـخَلْقِهِ تَنْزِيهَهُ تَعَالَـى عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَالْكَمِيَّةُ هِىَ مِقْدَارُ الْـحَجْمِ وَالْكَيْفِيَّةُ هِىَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْـخَلْقِ (قَالَ) الإِمَامُ (أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِـىُّ إِنَّ الَّذِى يَـجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِى صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ) أَىْ يَـجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَالِقَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْـحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ (فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِى الْكَيْفِيَّةَ) أَىْ مَنْ كَانَ حَجْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ الأَحْجَامِ مِنَ الْكِبَـرِ وَالصِّغَرِ وَالْـحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَـحْوِهَا (وَهِىَ) أَىِ الْكَيْفِيَّةُ (عَنِ اللَّـهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ) أَىْ أَنَّ اللَّـهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِيـنَ وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ حَادِثَةً، وَقَوْلُ الْـخَطَّابِـىِّ (رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِىُّ فِـى الأَسْـمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةُ بِـمَعْنَـى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِـى قَوْلِ بَعْضِهِمْ
كَيْفِيَّةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْـجَبَّارِ فِـى الْقِدَمِ
وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ) بِالْكَيْفِيَّةِ (الْـحَقِيقَةُ) أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ لا يُـحِيطُ عِلْمًا بِاللَّـهِ لِأَنَّهُ لا يَعْرِفُ اللَّـهَ عَلَى الْـحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّـهُ (وَهَذَا الْبَيْتُ ذَكَرَهُ) بَدْرُ الدِّينِ (الزَّرْكَشِىُّ) فِـى تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ (وَابْنُ الْـجَوْزِىِّ) فِـى دَفْعِ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ (وَغَيْـرُهُـمَا). قَالَ الْعَلَّامَةُ الْـهَرَرِىُّ رَحِـمَهُ اللَّـهُ لَوْ قِيلَ
حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ يُدْرِكُ كُنْهَ الْـخَالِقِ الأَزَلِـى
لَكَانَ أَحْسَنَ فَإِنَّ فِـى التَّعْبِيـرِ بِكَيْفِيَّةِ الْـجَبَّارِ بشَاعَةً.
(وَقَالَ) الإِمَامُ (أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ) أَحْـمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمِصْرِىُّ (وَمَنْ وَصَفَ اللَّـهَ بِـمَعْنًـى مِنْ مَعَانِـى الْبَشَرِ) أَىْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ (فَقَدْ كَفَرَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ) الْـهِجْرِىِّ تُوُفِّـىَ سَنَةَ ثَلاثِـمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ (فَهُوَ دَاخِلٌ فِـى حَدِيثِ خَيْـرُ الْقُرُونِ قَرْنِـى) أَىْ قَرْنُ الصَّحَابَةِ وَهُمْ خَيْـرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَىْ بِاعْتِبَارِ الإِجْـمَالِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ خَيْـرٌ مِـمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ (ثُـمَّ الَّذِينَ يَلُونَـهُمْ) أَىِ التَّابِعُونَ (ثُـمَّ الَّذِينَ يَلُونَـهُمْ) أَىْ أَتْبَاعُ التَّابِعِيـنَ (رَوَاهُ التِّـرْمِذِىُّ. وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْـحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِـى كِتَابِهِ تَبْيِيـنُ كَذِبِ الْمُفْتَـرِى الَّذِى أَلَّفَهُ فِـى التَّنْوِيهِ بِأَبِـى الْـحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُ) أَىْ لِبَيَانِ عُلُوِّ قَدْرِهِ.
(صِفَاتُ اللَّـهِ) تَعَالَـى (كُلُّهَا كَامِلَةٌ)
اعْلَمْ أَنَّ (صِفَاتِ اللَّـهِ) تَعَالَـى (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِـهَايَةَ لَـهَا (لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِـىٌّ فَلا تَـحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَـمْ تَكُنْ فِـى الأَزَلِ) وَلا تَقْبَلُ صِفَاتُهُ التَّغَـيُّـرَ وَالتَّطَوُّرَ (أَمَّا صِفَاتُ الْـخَلْقِ فَهِىَ حَادِثَةٌ) أَىْ مَـخْلُوقَةٌ (تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَـى أَكْمَلَ) بِـخِلافِ صِفَاتِ اللَّـهِ فَإِنَّـهَا كَامِلَةٌ لا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ (فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّـهِ تَعَالَـى شَىْءٌ) أَىْ لا يَكْتَسِبُ اللَّـهُ عِلْمًا جَدِيدًا بَلْ هُوَ عَالِـمٌ فِـى الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ (وَاللَّـهُ تَعَالَـى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِـىِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ) أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَـى الْوُجُودِ بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الأَزَلِـىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ (فَالْمَاضِى وَالْـحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّـهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِـىِّ) فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا يَـحْدُثُ فِـى الدَّارِ الآخِرَةِ الَّتِـى لا نِـهَايَةَ لَـهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُـمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَأَنْفَاسُ أَهْلِ الْـجَنَّةِ وَالنَّعِيمُ الَّذِى يَتَجَدَّدُ لَـهُمْ وَأَنْفَاسُ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَتَجَدَّدُ لَـهُمْ مِنَ الآلامِ إِلَـى مَا لا نِـهَايَةَ كُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ اللَّـهُ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّـكُمْ حَتَّـى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَـى ذَلِكَ أَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَـمْ يَكُنْ عَالِمًا بِـهِمْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَـى بَلْ مَعْنَـى الآيَةِ حَتَّـى نُـمَيِّـزَ أَىْ حَتَّـى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) عَلَى طَاعَةِ اللَّـهِ (مِنْ غَيْـرِهِمْ وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا) لِأَنَّه نَسَبَ الْـجَهْلَ إِلَـى اللَّـهِ وَجَعَلَ عِلْمَ اللَّـهَ تَعَالَـى حَادِثًا أَىْ مَـخْلُوقًا. (وَصِفَاتُ اللَّـهِ تَعَالَـى كُلُّهَا كَامِلَةٌ) أَىْ تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ (قَالَ تَعَالَـى ﴿وَلِلَّـهِ الأَسْـمَاءُ الْـحُسْنَـى﴾) أَىْ لِلَّـهِ الأَسْـمَاءُ الَّتِـى تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ فَلا يَـجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّـهِ اسْمٌ لا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ يُوهِمُ نَقْصًا كَمَا فَعَلَ سَيِّد قُطُب فِـى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى التَّصْوِيرَ الْفَنِّـىَّ فِـى الْقُرْءَانِ فَإِنَّهُ سَـمَّى اللَّـهَ تَعَالَـى بِالرِّيشَةِ الْـخَالِقَةِ وَفِعْلُهُ هَذَا مِنَ الإِلْـحَادِ فِـى أَسْـمَاءِ اللَّـهِ. (وَقَالَ تَعَالَـى ﴿وَلِلَّـهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾) أَىْ لِلَّـهِ صِفَاتٌ تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْـرِهِ (فَيَسْتَحِيلُ فِـى حَقِّهِ تَعَالَـى أَىُّ نَقْصٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْـرُ الْمَاكِرِينَ﴾) فَلَيْسَ فِيهِ نِسْبَةُ النَّقْصِ إِلَـى اللَّـهِ (فَالْمَكْرُ مِنَ الْـخَلْقِ خُبْثٌ وَخِدَاعٌ لِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَـى الْغَيْـرِ) بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ (بِاسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ) وَهَذَا لا يَـجُوزُ عَلَى اللَّـهِ (وَأَمَّا) الْمَكْرُ (مِنَ اللَّـهِ تَعَالَـى فَهُوَ مُـجَازَاةُ الْمَاكِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ) فَلا يُذَمُّ لِأَنَّ اللَّـهَ لا يَـجُوزُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ لا يَكُونُ ظَالِمًا إِنِ انْتَقَمَ مِنْ عِبَادِهِ الظَّالِمِيـنَ بِـمَا شَاءَ (وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّـهَ) تَعَالَـى (أَقْوَى فِـى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَـى الْمَاكِرِينَ مِنْ كُلِّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَـهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ فَالْمَكْرُ بِـمَعْنَـى الِاحْتِيَالِ) مَذْمُومٌ وَهُوَ (مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّـهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَـى) ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَـى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِـهِمْ﴾ أَىْ يُـجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ) فَإِنَّ الْمُنَافِقِيـنَ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَمِّ الإِسْلامِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وبِالْمُسْلِمِيـنَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَـى يَسْتَخِفُّ بِالْمُنَافِقِيـنَ كَمَا يَسْتَخِفُّ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَـى ﴿نَسُوا اللَّـهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أَىْ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّـهِ بِالإِيـمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُـحَمَّدٍ ﷺ فَتَـرَكَهُمُ اللَّـهُ تَعَالَـى مِنْ رَحْـمَتِهِ خَالِدِينَ فِـى نَارِ جَهَنَّمَ لا يُـخَفَّفُ عَنْهُمْ عَذَابُـهَا. وَلا يَـجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّـهِ بِالْمَاكِرِ أَوِ الْمُسْتَهْزِئِ أَوِ النَّاسِى لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِاللَّهِ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِإِثْبَاتِ مَا وَرَدَ فِـى الْقُرْءَانِ وَالْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْـنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ) مِـمَّا أُضِيفَ إِلَـى اللَّـهِ (عَلَى أَنَّـهَا صِفَاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّـهُ) أَىْ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا (لا عَلَى أَنَّـهَا جَوَارِحُ) أَىْ أَعْضَاءٌ (وَانْفِعَالاتٌ كَأَيْدِينَا وَوُجُوهِنَا وَعُيُونِنَا) وَرِضَانَا (وَغَضَبِنَا) فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلَّـهِ يَدٌ لا كَأَيْدِينَا وَوَجْهٌ لا كَوُجُوهِنَا وَعَيْـنٌ لا كَأَعْيُنِنَا عَلَى مَعْنَـى الصِّفَةِ كَمَا فِـى قَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ أَىْ بِقُوَّةٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ أَىْ إِلَّا مُلْكَهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَـى عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ ﴿تَـجْرِى بِأَعْيُنِنَا﴾ أَىْ بِـحِفْظِنَا لَـهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿رَضِىَ اللَّـهُ عَنْهُمْ﴾ وَالرِّضَا إِذَا وُصِفَ اللَّـهُ بِهِ فَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ الرَّحْـمَةِ وَرَحْـمَةُ اللَّـهِ لِعِبَادِهِ إِسْبَاغُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ رِقَّةَ الْقَلْبِ وَقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ وَالْغَضَبُ إِذَا وُصِفَ اللَّـهُ بِهِ فَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ وَلَيْسَ انْفِعَالًا أَوْ تَغَـيُّـرًا يَـحْدُثُ فِـى النَّفْسِ (فَإِنَّ الْـجَوَارِحَ) وَالاِنْفِعَالاتِ (مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّـهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَـى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ) تَعَالَـى (﴿وَلَـمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾) أَىْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَ(قَالُوا) أَىِ الْعُلَمَاءُ (لَوْ كَانَ لِلَّـهِ عَيْـنٌ بِـمَعْنَـى الْـجَارِحَةِ وَالْـجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلًا عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ وَلَـجَازَ عَلَيْهِ مَا يَـجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ) أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَـيُّـرِ وَالتَّطَوُّرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ مُقْتَضَى الْبُـرْهَانِ الْعَقْلِىِّ) أَىِ الْقَوْلُ بِذَلِكَ يَكُونُ خُرُوجًا عَمَّا يُثْبِتُهُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ الْقَاطِعُ (عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيـُّـرِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَـى حَالٍ عَلَى اللَّـهِ لِأَنَّ الدَّلائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَـمِ) أَظْهَرُهَا (طُرُوءُ) أَىْ حُدُوثُ (صِفَاتٍ لَـمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَـى حَالٍ وَلا يَصِحُّ إِهْـمَالُ) أَىْ إِلْغَاءُ إِعْمَالِ (الْعَقْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِى إِلَّا بِـمُجَوَّزَاتِ الْعَقْلِ أَىْ إِلَّا بِـمَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ شَاهِدُ الشَّرْعِ) أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ (فَالْعَقْلُ يَقْضِى بِأَنَّ الْـجِسْمَ وَالْـجِسْمَانِيَّاتِ أَىِ الأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلْجِسْمِ) أَىْ صِفَاتِ الْـجِسْمِ (مُـحْدَثَةٌ) أَىْ مَـخْلُوقَةٌ (لا مَـحَالَةَ وَأَنَّـهَا مُـحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ) أَحْدَثَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَـى الْوُجُودِ (فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّصِفُ بِـهَا لَهُ مُـحْدِثٌ وَلا تَصِحُّ الأُلُوهِيَّةُ لِمَنْ يَـحْتَاجُ إِلَـى غَيْـرِهِ).
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/_wHxVhj6-tI
لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/sirat-4