#39
قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي ومن معاصي اليدين (الضرب) للمسلم (بغير حق)
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر ضرب المسلم بغير حق ففي الحديث الصحيح (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) ومثل الضرب ترويع المسلم والإشارة إليه بنحو سلاح ففي الصحيح (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه ابن حبان (فورود اللعن دل على أن هذا الذنب من الكبائر) هذا إن قصد ترويعه أما إن لم يقصد ترويعه وظن أنه لا يتروع فرفع عليه نحو حديدة فلا إثم عليه. (كمن أراد أن يريه حد سكينة دقيق وهو يعلم أن الآخر لا يخاف من ذلك. واعلم أن ضرب المسلم على وجهه ولو كان طفلا يعد من الكبائر)
قال المؤلف رحمه الله: (وأخذ الرشوة وإعطاؤها) والرشوة هي المال الذي يدفع لإبطال حق أو إحقاق باطل
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر أخذ الرشوة وإعطاءها، فأما الأخذ فيحرم على الحاكم ولو حكم بحق وأما الإعطاء فإنما يحرم على المعطي إن كان يطلب باطلا فأما إذا كان الإعطاء ليحكم له الحاكم بحق (لأن بعض القضاة لا يحكمون بالحق إلا إذا دفع لهم المال) أو ليدفع عن نفسه ظلما أو لينال ما يستحقه فسق الآخذ ولم يأثم المعطي لاضطراره إلى ذلك للتوصل لحقه. (فمن أعطى قاضيا أو حاكما رشوة، أو أهدى إليه هدية، فإن كان ذلك ليحكم له بباطل، أو ليتوصل بها إلى نيل ما لا يستحقه، فقد فسق الراشي والمهدي بالإعطاء، والمرتشي والمهدى إليه بالأخذ. أما إن كان الإعطاء لا بد منه ليحكم له بحق، أو ليدفع عنه ظلما، أو لينال ما يستحقه، فإن الآخذ يكون فاسقا فقط، أما المعطي فلا يأثم لاضطراره إلى ذلك للتوصل إلى حقه)
قال المؤلف رحمه الله: (وإحراق الحيوان) ولو صغر (إلا إذا ءاذى وتعين) الإحراق (طريقا في الدفع) أي في منع أذاه وضرره عنه فإنه لا يحرم (والمثلة بالحيوان) أي بذي الروح الحي وهي تقطيع الأجزاء وتغيير الخلقة، كأن يقلع له عينه أو يقطع له رجله مثلا.
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر إحراق الحيوان (وهو كل ذي روح) بالنار سواء كان مأكولا (كالخراف والأبقار) أو غير مأكول (كالهرة) صغيرا أو غيره (ويشمل ذلك أيضا إحراق الحشرات الصغيرة كالتي تسمى في العامية “البرغش” وكذلك الدبور والعقرب والحية والنمل فكل هذا لا يجوز أن يحرق بالنار. ولا يدخل في هذا النبات والأشجار والزروع، فإنها ليست من ذوات الأرواح) لقوله ﷺ (لا يعذب بالنار إلا ربها) رواه أبو داود (ومعنى الحديث أن الإنسان لا ينبغي له أن يعذب بالنار، فإن التعذيب بها هو لخالقها، وهو الله تعالى، يعذب بها من يشاء) وهذا إذا لم يكن الحيوان مؤذيا أما إذا ءاذى وتعين الإحراق طريقا لإزالة الضرر فلا حرمة في ذلك (حتى لو كان الحيوان مما يستحب قتله كالفأرة والحية والقرد والعقرب فلا يجوز إحراقه إلا إذا آذى وتعين الإحراق طريقا وحيدا لدفع ضرره، كأن تكون هناك عقارب كثيرة تؤذي ولا يوجد وسيلة أخرى لدفعها، ففي هذه الحالة لا يكون الإحراق محرما، بل يباح لدفع الضرر. وكذلك فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى من باب المصلحة جواز إحراق المرتدين الذين عبدوه، ردعا لمن يفعل مثل فعلهم والعياذ بالله تعالى. فقد جاء إليه بعض الناس وقالوا له أنت خالقنا ورازقنا، فقال لهم ويحكم! إنما أنا عبد مثلكم، آكل وأشرب. واستمر في نهيهم ثلاثة أيام، وهم يصرون على كفرهم، فلما لم يرجعوا أمر بإشعال النار في أخدود ورماهم فيها وهم أحياء. وفي تأويله لحديث النبي ﷺ لا يعذب بالنار إلا ربها، فإنه رأى أن ذلك يجوز إذا وجدت مصلحة شرعية في الإحراق، كما فعل رضي الله عنه في حالة هؤلاء المرتدين) وكذلك من معاصي اليد المثلة بالحيوان (سواء كان مأكولا أو غير مأكول، ولو كان من الحيوانات التي يستحب قتلها) ومعنى المثلة تقطيع الأجزاء وتغيير الخلقة.
(قال أهل العلم: يحل قتل العنكبوت لأنه من المؤذيات، ولأن فيه سما خفيفا. ولا يجوز أن يقال “لا يجوز قتله لأنه نسج الخيوط على فم الغار حين كان فيه النبي ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه” وكذلك يجوز قتل كل الحشرات المؤذية)
قال المؤلف رحمه الله: (واللعب بالنرد) وهو المعروف في بعض البلاد بالزهر. (وكل ما فيه قمار حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب) على صورة اللعب بالنرد أو بالقمار لا يجوز للولي تمكين الصبي منه ومثله ما يسمى اليانصيب واللوتو والمقامرة بسباق الخيل.
الشرح أن من محرمات اليد اللعب بالنرد وهو المسمى بالنردشير وهو نسبة لأول ملوك الفرس لأنه أول من وضع له. قال عليه الصلاة والسلام (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنـزير ودمه) رواه مسلم (يعني أنه آثم بذلك، فكما لا يجوز للإنسان أن يلطخ يده بنجاسة الخنزير، كذلك لا يجوز له أن يلعب بهذا النرد. قال ﷺ “من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله“). والمعنى في تحريمه أن فيه حزرا وتخمينا فيؤدي للتخاصم والفتن التي لا غاية لها (أي التي لا حاجة لها) ففطم (أي منع) الناس عنه (أي منع) حذارا من الشرور المترتبة عليه (لذلك نهى الشرع عن ذلك سدا لهذا الباب، لأن هذه اللعبة تعتمد على الحزر والتخمين، ولا تعتمد على الذكاء والحساب. بالعامية يقال “تعتمد على الحظ” ولكن اللفظ الصحيح أن يقال تعتمد على الحزر والتخمين). ويقاس على النرد كل ما كان مثله أي أن كل لعبة كان الاعتماد في لعبها على الحزر والتخمين لا على الفكر والحساب فهي حرام فخرج الشطرنج فإنه ليس في معناه لأن العمدة فيه على الفكر والحساب قبل النقل (الشطرنج لم يثبت فيه عن رسول الله ﷺ تحريم، وكل ما يروى في النهي عن اللعب بالشطرنج فهو غير ثابت. كذلك ما ورد عن علي رضي الله عنه في ذمه فهو غير ثابت. وقياس الشطرنج على النرد ممنوع للفرق بينهما، إذ هو موضوع لصحة الفكر وصواب التدبير ونظام السياسة، فهو معين على تدبير الحروب. أما النرد فموضوع لما يشبه الأزلام، وهي السهام التي كانوا في الجاهلية يكتبون على واحدة “افعل” وعلى الثانية “لا تفعل” والثالثة لا شيء عليها. ثم إذا أراد الشخص أن يفعل شيئا يأخذ واحدة منها فإن خرج له الذي عليه “افعل” يفعل وإن خرج الذي عليه “لا تفعل” لا يفعل، وإن خرج الذي لم يكتب عليه شيء، يعيد ذلك حتى يخرج غيره). ويلتحق بالنرد في الحكم اللعب بالأوراق المزوقة المسماة بالكنجفة أو الكمنجفة وهي المعروفة عند بعض الناس اليوم في بعض البلاد بورق الشدة فإنها إن كانت بعوض (أي لأجل المال) فقمار (أي يسمى كبيرة) والقمار من الكبائر (وهو أن يخرج هذا مالا وهذا مالا، ثم بعد ذلك الذي يربح يأخذ كل المال، فأي لعبة فيها قمار فهي حرام) وإلا فهي كالنرد الذي ورد النهي عنه بوجه الإطلاق من غير تعرض للمال. (يعني أن اللعب بورق الشدة من غير مال فهو حرام، لأنه مثل النرد، يعتمد على التخمين والحزر). وكذلك يحرم اللعب بكل ما فيه قمار وصورته المجمع عليها أن يخرج العوض من الجانبين كما يحصل في اللعب بالجوز والكعاب (وهي قطع من العظام يلعب بها الصبيان. فكل شيء فيه قمار، فإن اللعب به حرام، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إذا كان فيه أخذ شيء. أما مجرد اللعب من دون أن يأخذ أحد الفريقين شيئا فليس حراما إلا إذا كان بالحزر والتخمين كالنرد وورق الشدة، ومنها هذه الألعاب التي تسمى مونوبلي) فيحرم على الأولياء تمكين الصبيان من اللعب بذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (واللعب بآلات اللهو المحرمة) من المعازف (كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار)
الشرح أن من معاصي اليد اللعب بآلات اللهو المحرمة وقد ذكر المصنف منها الطنبور والمزمار وقد مر الكلام عليهما. ومثلهما في حرمة اللعب به كل ذي وتر كالرباب والكمنجة وغيرهما. (وقد سبق شرح هذا الأمر في فصل معاصي الأذن)
قال المؤلف رحمه الله: (و) من معاصي اليدين (لمس الأجنبية) أي غير المحرم والزوجة ونحوها إذا كان لمسه لها (عمدا بغير حائل) سواء كان بشهوة أم بدونها (أو) لمسها (به) أي مع وجود الحائل (بشهوة، و) اللمس بشهوة حرام و(لو مع) اتحاد (جنس) كلمس رجل لرجل بشهوة أو لمس امرأة لامرأة بشهوة (أو محرمية) كلمس رجل محرما له بشهوة.
الشرح أن من معاصي اليد لمس الأجنبية أي غير المحرم وغير الزوجة ونحوها عمدا بغير حائل مطلقا أي بشهوة كان أو بغير شهوة (ليست أمه ولا أخته ولا خالته ولا ابنة أخيه ولا ابنة أخته ولا جدته ولا زوجة أبيه ولا زوجة ابنه ولا أمه التي أرضعته فهؤلاء محارمه أما من يجوز أن يتزوجها فيقال لها “أجنبية” ولمسها بدون حائل حرام. والكلام هنا عن الأجنبية التي بلغت سنا تشتهى فيه عند ذوي الطباع السليمة، فهذه لا يجوز لمسها عمدا بغير حائل. فلمس بشرة الأجنبية أو شعرها أو ظفرها أو سنها حرام ولا يجوز سواء كان بشهوة أو بغير شهوة) وكذا لو اتحد الجنس وكان بشهوة كرجل مع مثله وامرأة مع مثلها أو كان مع محرمية كأخته لقوله ﷺ في أثناء حديث (واليدان زناهما البطش) رواه مسلم. والبطش هنا معناه العمل باليد كما قال الفيومي في المصباح المنير وهو من كتب اللغة (وأحيانا تأتي كلمة “البطش” بمعنى الضرب، ولكن معناها هنا اللمس. قال ﷺ “إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اليد البطش، وزنى الرجل الـخطى، وزنى اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه“، وفي رواية وزنى الفم القبل. فقوله ﷺ إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة أي أن أغلب الناس يقعون في مقدمات الزنى. وقوله ﷺ فزنى العين النظر أي النظر إلى الأجنبية فيما عدا الوجه والكفين، أو النظر إليهما بشهوة، وهذا من مقدمات الزنى. وقوله ﷺ وزنى اليد البطش أي اللمس باليد دون حائل أو بحائل مع شهوة وهذا من مقدمات الزنى. فسواء كان المقدمة لمسا أو مشيا أو نظرا أو كلاما فإن كل ذلك يعد من مقدمات الزنى كما قال أهل العلم. وقوله ﷺ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه أي أن الإنسان بعد ذلك إما أن يقع في الزنى الحقيقي أي زنى الفرج وإما أن لا يبلغ به الأمر إلى ذلك) ومن ضلالات طائفة نبغت في هذا العصر تسمى حزب التحرير تحليل مصافحة الرجل المرأة الأجنبية اجتهادا منهم مع وجود هذا النص (أي قول النبي ﷺ وزنى اليد البطش)، وبهذا ينادون على أنفسهم بالجهل العميق بأمور الدين، قال شيخنا العبدري رضي الله عنه وقد صارحني بعضهم بقوله (هذا اجتهاد منا) فقلت له (أتجتهدون مع النص) فسكت ولم يرد جوابا. ومما يدل على حرمة مصافحة الرجل المرأة الأجنبية الحديث الذي رواه الطبراني وهو (لأن يطعن أحدكم بحديدة في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) وهذا الحديث إسناده جيد (معنى الحديث أن الإنسان إذا صافح امرأة أو لمسها بغير مصافحة فإن هذا الذنب الذي يقع عليه يضره أكثر مما يضره لو ضربه إنسان في رأسه بحديدة لأن هذا له فيه ثواب أما هذا الفعل فلا أجر فيه بل عليه إثم ومعصية وإن كانت صغيرة. ولا اجتهاد مع وجود النص، فأما ما لم يرد فيه نص، فالمجتهد يبذل وسعه ليستنبط من النصوص الحكم الشرعي. والمؤمن الحقيقي الذي يصدق بالنبي ﷺ يأخذ بكلامه دون تردد، فإن الله تبارك وتعالى قال ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾. والمؤمن لا يكذب ما جاء به الرسول ﷺ. ولكن بعض الناس إذا قيل لهم “لا يجوز لك أن تصافح المرأة التي ليست من محارمك” قال “يا شيخ، أنا نيتي سليمة” فنقول له السيدة عائشة رضي الله عنها قالت والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة لا تحل له قط، فمن منا يدعي أنه أسلم نية من رسول الله ﷺ؟! وقد كانت المبايعة عند العرب تكون بوضع اليد في اليد، فلما جاءت النساء لمبايعة رسول الله ﷺ، قال “إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة” يعني أنا أبايعكن باللسان، وهذا الحديث ورد في صحيح مسلم)
قال المؤلف رحمه الله: (وتصوير ذي روح) سواء كان مجسما أم لا، حتى لو كان نصفيا فهو محرم. الذي يجوز إذا كان نصفيا هو استبقاؤه لكن لا يجوز فعله، يستطيع أن يبقيها عنده إذا كانت نصفية أما أن يعملها من الأصل فحرام ولو كانت نصفية إن كانت صورة ذي روح مجسمة أو غير مجسمة.
الشرح أن من معاصي اليد تصوير ذي روح (يعني رسم أو نحت أو نقش أو نسج صورة مخلوق حي مما له روح، مثل الإنسان والحيوان كتصوير ابن ءادم أو تصوير بقرة أو أي شىء له روح فهو حرام) سواء كان مجسما أو منقوشا في سقف أو جدار أو مصورا في ورق أو منسوجا في ثوب أو غير ذلك (لا يجوز ذلك إن كان لها ظل أو لم يكن لها ظل، في الحالين حرام حتى ولو كان لا يوجد على الحقيقة مثل هذه الهيئة، مثل فرس لها أجنحة مثلا، في الحقيقة لا يوجد فرس لها أجنحة، ومثل هذا يحسب مع تصوير ذي روح فلا يجوز فعله) وهذا متفق عليه في المذاهب الثلاثة المذهب الشافعي والمذهب الحنفي والمذهب الحنبلي (أما إن كانت الصورة مجسمة فبالإجماع). وأباح ذلك (أي تصوير ذي روح) المالكية إذا لم يكن مجسما (كالصورة التي ترسم لغير ما يعبده الكفار، هذا قيد عند المالكية، أما إن كانت من نحو الصور التي يعبدها أو يعظمها الكفار في دينهم، فلا يجوز) ويشترط لتحريم استبقاء الصورة أن تكون الصورة بهيئة يعيش عليها الحيوان. (فإن كانت الصورة بهيئة يعيش عليها الحيوان فلا يجوز استبقاؤها، وإن كانت بهيئة لا يمكن أن يعيش عليها الحيوان كمن يصنع تمثالا لإنسان ثم يقوم بقطع رأسه فإن هذا يشبه الحقيقة في كون الإنسان لا يحيا بدون رأس، وبناء على ذلك يجوز استبقاؤه) وصرح الشافعية بجواز استبقائها إذا كانت على أرض أو بساط يداس وقد نصوا على جواز استبقاء الصورة التي تكون في الدرهم والدينار والفلس وسائر ما يعد ممتهنا (ومعنى ذلك أنه إذا نقش شخص صورة إنسان كاملة على سجادة، فهذا حرام عليه، ولكن يجوز لغيره أن يبقيها إذا كانت على شيء ممتهن أي غير معظم كالبساط الذي يداس عليه. في أيام السلف كان المسلمون بعد ما صكوا عملة خاصة بهم فكانوا يتعاملون بالعملات التي صكها الروم والفرس، وهؤلاء كانوا يجعلون عليها صورا، ومع ذلك فإن المسلمين في زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يتعاملون بهذه العملات من غير إزالة الصور الموجودة عليها، لأن هذا يعتبر شيئا ممتهنا، ليس معظما، فهو ليس شيئا يعلق على الأبواب أو الحيطان، ومن هنا قال العلماء إذا كانت الصورة ممتهنة، جاز استبقاؤها، أي لا يجب إزالتها) ويستثنى من تحريم ذلك لعب البنات الصغار التي على هيئة البنت الصغيرة (أي على هيئة دمية بنت صغيرة، وليست على هيئة امرأة كبيرة كالتي تسمى “باربي” فإن هذه أي صورة المرأة الكبيرة لا يجوز بيعها ولا شراؤها) وصرح المالكية بجواز شراء ذلك للبنات الصغار (قالوا هذا لحكمة، لأن دمية البنت الصغيرة للصغيرة تعودها على أمور التربية، أما إعطاء الصبي دمية كدب أو أرنب أو ما يسمى سوبرمان وسبايدر مان أو نحو ذلك، فهذا محرم، وشراؤه يعد من الكبائر، وإبقاؤه في البيت يمنع دخول ملائكة الرحمة لقول الرسول ﷺ لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة. الشافعية فسروا معنى الصورة المذكورة في هذا الحديث بصورة الشخص الكاملة، أما المالكية ففسروها بتماثيل الأشخاص المجسمة. غير المالكية قالوا يحصلوها أي الدمية الصغيرة للبنت الصغيرة بغير الشراء، أما المالكية فيجيزون شراءها)
قال المؤلف رحمه الله: (ومنع الزكاة) أي ترك دفعها كلها (أو) ترك دفع (بعضها) مع دفع البعض (بعد) وقت (الوجوب والتمكن) من إخراجها بلا عذر شرعي (وإخراج ما لا يجزئ) عن الزكاة الواجبة عليه. مثلا عليه أن يخرج ذهبا فأخرج عملة ورقية، أو كان عليه أن يخرج إبلا فأخرج شياها (أو إعطاؤها من لا يستحقها) كإعطائها لبناء مسجد.
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر منع الزكاة (الواجبة عليه) أي ترك دفعها (كلها) أو إعطاء بعضها وترك بعض (كمن عليه مائة دولار زكاة فدفع خمسين، كل حرام من الكبائر لكن له أجر على ما دفعه كجزء من الزكاة ثم إن أراد فيما بعد أن يدفع بقية الزكاة يكمل ما بقي عليه) ومنها تأخير إخراجها بعد وقت الوجوب والتمكن من إخراجها بلا عذر شرعي فلا يجوز لمن وجبت عليه قبل رمضان كشهر رجب أو شعبان مثلا أن يؤخر إلى رمضان (أما إذا أراد تأخير الزكاة لأجل فقير قريب مسافر، فإنه يجوز له أن ينتظر حتى يدفعها إليه. وقد قال الإمام الزركشي “تأخير الزكاة عن الدفع كمنع الزكاة” يعني أن المنع حرام، وكذلك التأخير بغير عذر شرعي حرام) وليس رمضان موسما لإخراج الزكاة بل موسمها في الحولي وقت حولان الحول. وكذلك من معاصي اليد دفع ما لا يجزئ إخراجه ولو كان أكثر قيمة من المجزئ (فمن لزمه إخراج الذهب فأخرج فضة، فكأنه لم يخرجها، ومن كان عليه زكاة شاة فدفع جملا وإن كانت قيمة الجمل أكثر من الشاة فإنه لا يجزئه ذلك، لأن الأمر ليس مربوطا بالقيمة، ولكن بما يجوز شرعا وبما هو واجب عليه. فإن كان الواجب عليه أن يدفع شاة فليدفع شاة ثم إن أراد بعد ذلك أن يتبرع بجمل، فهذا شأنه. لأن الله تعالى يطاع على الوجه الذي أمر أن يطاع به) ويجوز إخراج القيمة عند الإمام أبي حنيفة وعليه عمل الناس اليوم (إن كان من عملة أو غيرها كالثياب وغير ذلك مما يساوي قيمة الزكاة). وكذلك يحرم إعطاؤها من لا يستحقها كإعطائها للجمعيات التي تصرف الزكاة في غير مصارفها (أي إعطاء الزكاة لغير الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في القرآن حرام، فمن دفع الزكاة في بناء مسجد، فإن الزكاة ما زالت في ذمته، والمال الذي دفعه في غير محله ليس له فيه أجر، بل عليه فيه إثم) وأما إن وكل المزكي جمعية يثق بأنها تصرف الزكاة في مصارفها كان ذلك جائزا.
قال المؤلف رحمه الله: ومنع الأجير أجرته
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر ترك إعطاء الأجير أجرته (أي من استؤجر لعمل مباح فعمله. وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد “أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” وإن كان ضعيفا إلا أنه يعمل به( وقد صح الحديث القدسي (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي العهد ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري، ومعنى خصمته أنه مغلوب لا حجة له (يعني لا بد الحجة قائمة عليه) ومعنى أعطى بي العهد ثم غدر أعطى العهد باسمي ثم غدر كالذي يبايع إماما ثم يتمرد عليه كالذين غدروا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج وغيرهم بعد أن بايعه المهاجرون والأنصار في المدينة.
قال المؤلف رحمه الله: ومنع المضطر ما يسده وعدم إنقاذ غريق من غير عذر فيهما.
الشرح أن من معاصي اليد التي هي من الكبائر منع المضطر ما يسده أي ما يسد حاجته من غير عذر (وهو من الكبائر والمضطر هو الذى أشرف على الهلاك من الجوع أو العطش أو البرد) ولا فرق في المضطر بين القريب وغيره (معناه تسد ضرورة القريب وضرورة غير القريب) وهو يشمل الذمي (معناه حتى الذمي الذي التزم شروط الخليفة وهي الشروط التي وردت في الشرع بخصوص الذمي يسد ضرورته. ولكن لا ذمي اليوم). والمراد بالمضطر من اضطر لكسوة يدفع بها الهلاك عن نفسه ومن اضطر لطعام يدفع به الهلاك عن نفسه. (المضطر هو الشخص الذي يخاف الموت من الجوع أو العطش، وكذلك الذي لا يجد ما ينقذه من ضرر البرد. فإن منع ما يسد به ضرره، فهو حرام. فمن وجد شخصا مضطرا لا يجد ما يأكله ويموت إن لم يعطه، أو لا يجد ما يلبسه ويموت إن لم يعطه، فإن لم يعطه بلا عذر كان آثما. ويجب أن تسد ضرورته من بيت المال، فإن لم يكن بيت مال أو كان ولكنه خال مما يسد حاجته، فيجب على أغنياء المسلمين في البلد الذي يوجد فيه أن يسدوا ضرورته.
وهذا ليس من باب المستحب، بل هو فرض واجب على المستطيع، أوجبه الله تعالى على أغنياء المسلمين، لقوله تعالى ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾. وفي الحديث الصحيح “ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به” معناه إيمانه ليس كاملا، وهذا يقع في الكبيرة. وأما كيفية إعانة المضطر فإما أن تعطيه مجانا وإما أن تبيعه بثمن مؤجل في ذمته، كأن تقول له: “بعتك كذا بثمن كذا إلى سنة” ولا يجوز أن يترك للهلاك)
ومن معاصي اليد أيضا عدم إنقاذ غريق معصوم (أي ليس مهدور الدم) مع القدرة على ذلك (أي وأنت قادر على إنقاذه)، ولا إثم على من هو غير قادر. (حتى لو كنت تتقن السباحة، فإن إنقاذ الغريق أحيانا يكون سهلا، وأحيانا لا تستطيعه. فإذا كنت لا تستطيع أن تنقذه فليس عليك حرج، ولكن إن استطعت وتركته يغرق، فأنت آثم. والغرق هنا مثال، فقد يكون الإنقاذ من شيء آخر غير الغرق)
قال المؤلف رحمه الله: (وكتابة ما يحرم النطق به) من غيبة وغيرها بسائر أدوات الكتابة.
الشرح أن من معاصي اليد كتابة ما يحرم النطق به (الشيء الذي يحرم التلفظ به يحرم أيضا كتابته. فمثلا، الغيبة حرام، فمن كتب رسالة إلى شخص آخر يغتاب فيها مسلما بغير عذر، وبعثها إليه، فقد وقع في المعصية. وكذلك الكفر، فكما أنه لا يجوز النطق به، فلا يجوز كتابته). قال الغزالي في بداية الهداية لأن القلم أحد اللسانين فاحفظه عما يجب حفظ اللسان منه من غيبة وغيرها اهـ فلا يكتب به ما يحرم النطق به من جميع ما سبق. ومثل القلم في ذلك سائر أدوات الكتابة من آلات طباعة وحاسوب ونحوها.
قال المؤلف رحمه الله: (والخيانة وهي ضد النصيحة فتشمل) الخيانة في (الأفعال( بأكل الوديعة مثلا (والأقوال) بجحد الوديعة مثلا (والأحوال) بأن يوهم غيره بأنه أهل لتحمل الأمانة وهو ليس أهلا.
الشرح أن من معاصي اليد الخيانة سواء كانت بالقول (كأن يأتي إليك شخص يسألك النصيحة فيمن جاء يخطب ابنته، فتقول له “حاله جيد”، وأنت تعلم أن هذا الشخص خبيث، فهذا ليس نصحا، بل هو خيانة) أو بالفعل (كأن يودعك شخص مالا أمانة، فتستعمله بغير إذنه، فهذه خيانة بالفعل) أو بالحال (كأن يعلم إنسان من نفسه أنه ليس أهلا لوظيفة معينة، ومع ذلك يتصرف بطريقة توهم الناس أنه أهل لها، فهذه خيانة بالحال. وقد تكون الخيانة بالكيل والوزن أيضا كمن يقول لغيره “أبيعك كيلوا من السكر بكذا”، ثم يزن له أقل من كيلو) قال الله تعالى ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ (فالآية وإن كان نزولها في مفتاح الكعبة، فهي عامة في جميع الأمانات) وتطلق الأمانة على ما يستأمن الناس بعضهم بعضا عليه من نحو الودائع (وتطلق الأمانة على ما ألزم الله عباده به من العبادات، فإذا صليت، عليك أن تراعي الأمانة في ذلك، فلا تدخل في الصلاة وأنت على غير طهارة، مثلا) كما تشمل الأمانة ما يأتمن الرجل عليه أجيره من العمل (يعني إذا استأجر إنسان شخصا ليدهن له كل البيت، فلم يقم إلا بدهن نصفه، فقد خان الأمانة ولم يؤدها كما يجب. وإذا استأجره ليعلم ولده، وجب عليه أن يعلمه على الوجه الذي اتفق عليه، دون غش أو تقصير. وهكذا في سائر الأمور) و (تطلق الأمانة على) ما يأتمن عليه الزوج زوجته في بيته بأن لا تخونه في فراشه أو ماله. روى الإمام أحمد وابن حبان من حديث أنس (لا دين لمن لا عهد له ولا إيمان لمن لا أمانة له) أي لا يكون من لا يحافظ على الأمانة مؤمنا كاملا ولا يكون دين من يضيع العهد كاملا (وهذا الحديث فيه تأكيد على وجوب الوفاء بالعهد، وتأكيد على حفظ الأمانة. فأما من لا يحافظ على العهد، فإيمانه ليس كاملا، هو مسلم مؤمن لأنه عرف الله ورسوله وتجنب الكفر، ولكنه لا يكون مسلما كاملا حتى يحفظ العهد، ولا يكون مؤمنا كاملا حتى يحافظ على الأمانة. وهذا الوصف قليل من يتصف به، بل إن أكثر الناس لا يعملون بهذا الحديث، فينبغي للمسلم أن يكلف نفسه الوفاء بالعهد وحفظ الأمانة)
معاصي الفرج
قال المؤلف رحمه الله: فصل.
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي الفرج.
قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي الفرج الزنى (واللواط)
الشرح أن من معاصي الفرج الزنى قال الله تعالى ﴿ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا﴾ والزنى عند الإطلاق إدخال الحشفة أي رأس الذكر (وهو القدر الذي كان من شأنه أن يكون مستترا بالجلدة قبل الختان) في فرج غير زوجته وأمته، فإدخال الحشفة كإدخال كل الذكر، فهذا هو الزنى الذي يعد من أكبر الكبائر ويترتب الحد عليه. وأما اللواط الذي هو من الكبائر فهو إدخال الحشفة في الدبر أي في دبر امرأة غير زوجته ومملوكته أو دبر ذكر وأما إتيان الرجل امرأته في دبرها فهو حرام لكنه ليس إلى حد اللواط (ولا يسمى لواطا، ولا حد فيه، ولكن يعزره الحاكم إن تكرر منه، ولا يكون موجبا للطلاق كما شاع عند بعض الجهال). روى الإمام أحمد في مسنده وغيره (لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في دبرها) أي لا يكرمه بل يهينه يوم القيامة. (إذا ورد في الحديث (لا ينظر الله) إلى من صفته كذا وكذا، فمعناه لا يكرمه، بل يكون مهانا، فلا ينظر الله إليه نظر الإكرام. وأما قوله ﷺ (أتى امرأته في دبرها) فمعناه أدخل ذكره في دبرها. ولم يقل ﷺ (أتى امرأته من دبرها) لأن قوله (من دبرها) يحتمل أن يكون الجماع في الفرج وإن كان من خلفها، ولذلك لا يقال “حرام أن يجامع الرجل زوجته من دبرها” بل يقال “حرام أن يجامعها في دبرها” وليعلم أن اسم نبي الله لوط ليس مشتقا من فعل اللواط الذي يفعله البشر ومما حرمه الله، فإن أسماء جميع أنبياء الله تعالى حفظها الله من أن تكون مشتقة من أمر خبيث)
قال المؤلف رحمه الله: ويحد الحر المحصن ذكرا كان أو أنثى بالرجم بالحجارة المعتدلة حتى يموت وغيره بمائة جلدة وتغريب سنة للحر وينصف ذلك للرقيق
الشرح يترتب على الزنى واللواط الحد أي يجب إقامته على الإمام الخليفة ومن في معناه. ويختلف الحد في المحصن وغير المحصن. والمحصن هو الذي وطئ في نكاح صحيح وكان حرا مكلفا ويحد إذا زنى بالرجم بالحجارة المعتدلة ونحوها حتى يموت (ذكرا كان أو أنثى، إن ثبت وقوعه في الزنا باعترافه أو بشهادة أربعة من العدول، ويعد محصنا ولو كان غير متزوج حاليا ما دام قد سبق له الزواج والدخول، أما من عقد نكاحا ولم يدخل فلا يعد محصنا، والمحصن إذا فعل الزنا أو اللواط يرجم بالحجارة المعتدلة حتى يموت، أما غير المحصن فعقوبته الجلد)، وذلك لأنه ﷺ رجم رجلا يسمى ماعزا ورجم المرأة الغامدية رواهما مسلم. وليس واجبا كون الحجارة معتدلة لكن ذلك يندب (بأن تكون كل واحدة منها بقدر ملء الكف، ويحرم الرجم بالمذفف، وهو أن يرمى بصخرة كبيرة تقتله في الحال، فإن حصل الرجم بها فقد وقع الحد، ولكنه حرام، كما لا يرجم بالحجارة الصغيرة لأن ذلك يطيل عليه العذاب، وإنما المقصود أن ينال المستحق حده، فلذلك استحب أهل العلم أن تكون الحجارة معتدلة، لا مذففة ولا صغيرة). وأما غير المحصن وهو الذي لم يطأ في نكاح صحيح فيكون حده جلد مائة وتغريب سنة هلالية إلى مسافة القصر من محل الزنى فما فوقها (أي ما فوق هذه المسافة مما يراه الإمام، ومعناه: ينقل من البلد التي وقع فيها الزنا مسافة قصر لمدة عام).
وأما حد اللائط والملوط به فقد اختلف فيه والمعتمد أن حد الفاعل حد الزنى فإن كان محصنا، رجم بالحجارة المعتدلة حتى يموت، وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة وغرب سنة. ومثل ذلك يفعل بالمرأة التي زنت، ويكون محرمها هو من يوصلها إلى حيث تغرب) وأما المفعول به فحده جلد مائة وتغريب عام. وما مر هو حد الحر المكلف ذكرا كان أو أنثى وأما الرقيق كله أو بعضه (فقد خفف الله في حقه الحد) فحده نصف ذلك فيجلد خمسين جلدة ويغرب نصف عام. ولا يثبت الزنى إلا ببينة أو باعتراف الزاني. وبينة الزنى أربعة من الرجال العدول ولا بد أن تكون البينة مفصلة (بأن يشهدوا بما رأوا بأعينهم، فيقولوا “رأيت فلانا يدخل حشفته في فرج فلانة زانيا بها”، ويجوز أن يضيفوا في شهادتهم “كما يدخل المرود في المكحلة”، ليكون الوصف واضحا وقطعيا في إثبات الحد) وذلك لأن من الناس من يظن أن الزنى يثبت بمجرد أن يرى رجل وامرأة تحت لحاف واحد أو أن يرى راكبا لها من غير رؤية غيبوبة الحشفة في الفرج ومنهم من يعتقد أن مجرد التلاصق مع العري زنى وليس ذلك بالزنى الموجب للحد.
قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي معاصي الفرج (إتيان البهائم) أي جماعها (ولو) كانت هذه البهائم (ملكه، والاستمناء) بيده أو (بيد غير الحليلة الزوجة وأمته التي تحل له).
الشرح أن من محرمات الفرج التي هي من الكبائر إتيان البهيمة (أي جماع البهائم) ولو ملكه وذلك لأنه يدخل تحت قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون (أي يحفظونها عن المحرمات كالزنا ونحوه) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (وهذا استثناء للزوجات والإماء، لأنه يجوز الاستمتاع بهن فيما أحل الله) فمن ابتغى ورآء ذلك (أي من أتى البهائم أو استمنى بيده أو زنى أو رجل فعل اللواط أو امرأة فعلت السحاق، فكل هؤلاء داخلون تحت قوله تعالى) فأولئك هم العادون (أي المتجاوزون لـحدود الله والمتعدون على ما حرمه) فيؤخذ من قوله تعالى ﴿فأولئك هم العادون﴾ تحريم ذلك. وفي حكمه تحريم سحاق النساء فيما بينهن (والسحاق هو مضاجعة النساء بعضهن بعضا للتلذذ، أي ملامسة جسد إحداهن لجسد الأخرى بطريقة تقصد منها الشهوة، وهو حرام، وليس فيه حد معين كالزنا، ولكن فيه تعزير يقدره الحاكم وفقا لما يراه من مصلحة وردع). وتدل الآية على تحريم الاستمناء أيضا (وهو طلب إخراج المني باليد أو نحوه) فلا حاجة إلى ما يروى في ذلك عن رسول الله ﷺ وليس من كلامه وهو قول بعضهم إن من استمنى بيده يأتي يوم القيامة ويده حبلا فهذا كذب لا صحة له عن رسول الله ﷺ (الاستمناء حرام على الرجال والنساء، إن كان بيد نفسه أو بيد نفسها).
قال المؤلف رحمه الله: (والوطء) الحاصل (في) حال (الحيض أو النفاس) ولو بحائل (أو) الوطء الحاصل (بعد انقطاعهما) أي انقطاع دمهما (وقبل الغسل) منهما (أو) الوطء الحاصل (بعد الغسل) إذا كان (بلا نية) مجزئة (من المغتسلة أو) كان مع النية لكن (مع فقد شرط من شروطه) كأن اغتسلت مع وجود مانع من وصول الماء إلى المغسول.
الشرح أن من محرمات الفرج التي هي من الكبائر الوطء أي الجماع في الحيض أو النفاس (أي أثناء نزول الدم) سواء كان بحائل (على الذكر) أو بدون حائل، وكذلك (يحرم جماع الزوج للزوجة) بعد الانقطاع وقبل الغسل، وكذلك يحرم بعد الغسل الذي لم تقترن به نية (لأنه لا يكون غسلا معتبرا في الشرع يرفع به الحدث إلا إذا كان بالنية. فلو اغتسلت بعد انقطاع الدم للنظافة فقط ولم تنو رفع الحدث، فهذا الغسل لا يكفي ولا يجوز للزوج أن يجامعها إلا بعد أن تغتسل مرة ثانية بنية رفع الحدث. والكلام هنا عن حال من انقطع دم حيضها ولم تغتسل أو اغتسلت دون نية. أما الزوج الذي جامع زوجته، فيجوز له أن يجامعها مرة ثانية ولو لم تغتسل بعد المرة الأولى) وكذلك (يحرم الجماع) بعد الغسل بنية لكن من غير استيفاء شروط الغسل (كأن تغتسل وهناك ما يمنع وصول الماء إلى العضو المغسول، فلا يصح غسلها، ولا يجوز لزوجها أن يجامعها). ويقوم مقام الغسل التيمم بشرطه (كما لو فقدت الماء أو كان يضرها الماء، عند ذلك تتيمم، ويجوز عند ذلك أن يجامعها زوجها بعد تيممها، فيقوم التيمم مقام الغسل). قال الفقهاء يكفر مستحل وطء المرأة في حال الحيض لأن حرمته معلومة من الدين بالضرورة.
أما الاستمتاع بغير الوطء فهو جائز إن كان فيما عدا ما بين السرة والركبة ويحرم فيما بين السرة والركبة إن كان بلا حائل، وفي المذهب الشافعي قول بجواز الاستمتاع بالحائض بغير الجماع مطلقا (أي بغير إدخال الحشفة في الفرج) أي أكان بحائل أو بلا حائل وهو ظاهر حديث مسلم (اصنعوا كل شىء إلا النكاح). (فيجوز له على هذا القول أن يستمتع بزوجته بما بين السرة والركبة، ولو بغير حائل، ما عدا الجماع، أما الجماع فهو حرام بالإجماع في حال الحيض والنفاس)
قال المؤلف رحمه الله: (و) من معاصي الفرج (التكشف عند من يحرم نظره إليه) أي كشف العورة عند من يحرم عليه أن ينظر إليها (أو) كشف العورة (في الخلوة لغير غرض) أما لغرض كالتبرد فيجوز كما تقدم.
الشرح أن من محرمات الفرج كشف العورة عند من يحرم نظره إليها (لا يجوز للشخص كشف عورته أمام من يحرم نظره إليها، ولا يكفي أن يغمض الآخر عينيه أو يولي ظهره، إلا إذا كان هناك ستر كأن حمل سترا وولاه ظهره فيجوز. ولا فرق في ذلك بين رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة، فكشف ما بين السرة والركبة حرام. ويحرم كذلك كشف العورة بحضور نائم دون ستر) وكذا في الخلوة لغير غرض (أي لغير حاجة أما لحاجة فيجوز). وعلم مما مضى أنه يجوز التكشف أي كشف ما بين السرة والركبة في الخلوة حتى العورة المغلظة لغرض كالتبرد ونحوه (كالاغتسال وتغيير الثياب).
تنبيه مشتمل على بعض ما مر وزيادة. لا يجوز إنكار كشف الرجل ما سوى السوأتين أمام غيره إن كان لا يعتقد حرمة ذلك وأما من يعتقد حرمة ذلك فينكر عليه وذلك لأن من شروط إنكار المنكر أن يكون المنكر مجمعا على تحريمه وقد تقدم ذلك وليس ما سوى السوأتين كالفخذ مما أجمع على وجوب ستره بالنسبة للذكر بل جواز كشفه مذهب الإمام المجتهد التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح الذي قال فيه أبو حنيفة ما رأيت أفقه منه وثبت أنه أحد قولي مالك وأحمد بن حنبل.
قال المؤلف رحمه الله: (واستقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط من غير) أن يكون (حائل) بينه وبين القبلة (أو) كان حائل لكنه (بعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع) أو لم يكن مرتفعا ثلثي ذراع فأكثر فهذا حرام (إلا في المعد لذلك أي إلا في المكان المعد لقضاء الحاجة)
الشرح أن من معاصي الفرج استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط في غير المكان المعد لقضاء الحاجة من غير حائل بينه وبين القبلة والأصل في ذلك حديث الصحيحين (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا) وأما مع الحائل فيجوز ذلك بشرط أن يكون ارتفاع الحائل ثلثي ذراع فأكثر وأن لا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع (فمن كان في الصحراء مثلا وأراد قضاء حاجته، فتوجه إلى القبلة أو استدبرها من غير حائل، فهو حرام، وإن وجد الحائل ولكن كان بعيدا أكثر من ثلاثة أذرع، لم يكف ولم يسلم من المعصية، وكذلك إن كان ارتفاعه أقل من ثلثي ذراع، فلا يجزئ. والذراع هو المسافة من رءوس الأصابع إلى المرفق باعتبار يد معتدلة، ويقدر تقريبا بخمسة وأربعين سنتيمترا). وكذلك يجوز استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو بالغائط في المكان المعد لقضاء الحاجة. فإذا علم ذلك فما لهؤلاء الذين يحرمون مد الرجل إلى القبلة في حال الجلوس ونحوه (معناه أن مد الرجل إلى القبلة في حال الجلوس أو النوم ونحو ذلك ليس حراما)
قال المؤلف رحمه الله: (و) من معاصي الفرج (التغوط على القبر) أو التبول عليه سواء كان في مقبرة المسلمين أم كان قبر مسلم منفردا.
الشرح أن من جملة المعاصي التغوط على القبر. قال ﷺ (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) رواه مسلم من حديث أبي هريرة. والمراد بالجلوس (على القبر، هو) الجلوس للبول أو الغائط (فلا يحرم مجرد الجلوس عليه لغير ذلك، ولكنه مكروه. كذلك يكره الدوس على القبر، إلا إذا كان عليه آيات قرآنية، فيكفر حينئذ إن داس عليها أو جلس عليها عمدا مع علمه بوجودها).
قال المؤلف رحمه الله: (والبول في المسجد ولو) كان ذلك (في إناء، و) البول (على المعظم) أي ما يعظم شرعا.
الشرح أن من معاصي الفرج البول في المسجد (وهو المكان الموقوف للصلاة، أما البول في بيوت الخلاء المخصصة خارج المسجد فيجوز. والبول في المسجد حرام) ولو كان في إناء (ولو لم ينزل بول على أرض المسجد فهو حرام لا يجوز، لأن المسجد يصان عن مثل ذلك) بخلاف الفصد والحجامة فيه في الإناء فإن ذلك لا يحرم فليس حكمه كالبول لأن البول أفحش. ويحرم البول على معظم أي ما يعظم شرعا (كالأوراق الشرعية وما أشبهها، فالبول على ما فيه ذكر الله تعالى لا يجوز، وهو كفر) وكذلك قضاء الحاجة في موضع نسك ضيق كالجمرة (لأنها موضع عبادة ولكن لا يدخل في ذلك سائر أرض منى أو عرفة، فيجوز البول فيها).
قال المؤلف رحمه الله: وترك الختان للبالغ ويجوز عند مالك.
الشرح أن من محرمات الفرج ترك الختان بعد البلوغ فإنه يجب على المكلف غير المختون الختان إن أطاق ذلك، ويحصل ذلك بقطع قلفة الذكر (أي بقطع شيء من الجلدة التي تغطي الحشفة). ويجب عند الإمام الشافعي ختان الأنثى أيضا بقطع شىء يحصل به اسم القطع من القطعة المرتفعة كعرف الديك من الأنثى. ومذهب مالك وغيره من الأئمة (وبعض الشافعية) أنه غير واجب على الذكر والأنثى وإنما هو سنة، ومن هنا ينبغي التلطف بمن يدخل في الإسلام وهو غير مختتن فلا ينبغي أن يكلم بذلك إن كان يخشى منه النفور من الإسلام. (وإذا مات الإنسان قبل الختان، فلا يختن وهو ميت)
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/fe3Dg6dpwDQ
للاستماع إلى الدرس: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-39