الأحد ديسمبر 7, 2025

 

#38

قال المؤلف رحمه الله: والندب والنياحة

الشرح من محرمات اللسان التي هي من الكبائر الندب والنياحة فالندب هو ذكر محاسن الميت برفع الصوت كواجبلاه وواكهفاه (يعني أنت الذي نلجأ إليه، أو بنحو واسنداه؛ أي أنت الذي نستند عليه. هذا كان في الماضي، أما في زماننا، فيقولون أنت سندنا تركتنا وليس لنا غيرك، ونحو ذلك. خطاب الميت بهذه الطريقة التي فيها رفع الصوت مع ذكر محاسنه هو الندب. أما الثناء عليه ليقتدى به فيما فيه من الخير فليس حراما كقولهم هذا الرجل كان صالحا، كان زاهدا، كان عالما. فهذا ليس حراما)، وأما النياحة فهي الصياح (بعد موت الميت) على صورة الجزع (أي فقدان الصبر) لمصيبة الموت فتحرم إذا كانت عن اختيار (أي بإرادته) لا عن غلبة (أي دون إرادته. أما مجرد البكاء فليس ندبا ولا يحرم، فإذا بكى الإنسان لأجل وفاة ميت فهذا ليس فيه معصية). وقد روى البزار وغيره مرفوعا (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة) (مزمار عند نعمة يعني إذا نزلت بالإنسان نعمة، فمن فرحه يريد أن يحتفل بهذه النعمة، فينفخ بالمزمار، أو يأتي بمن ينفخ له بالمزمار، فهذا حرام، لأن هذا من الآلات المحرمة. ورنة عند مصيبة يعني الصراخ العالي على هيئة الجزع لوقوع المصيبة وهو حرام، والجزع هو عدم الصبر عند نزول المصيبة. أما ما ورد في الحديث من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فهو محمول على ما إذا أوصى أهله بأن يفعلوا الندب أو النياحة عليه، فإنه يعذب بذلك لأنه أمر بمعصية، وليس معناه أنه يعذب بمجرد بكاء أهله عليه. فقد ثبت أن الرسول ﷺ بكى لما مات ابنه إبراهيم، فسأله أحد الصحابة عن ذلك، فقال ﷺ هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من شاء من عباده)

 

قال المؤلف رحمه الله: (و) يحرم أيضا (كل قول يحث على) فعل شىء (محرم) كقول شخص لآخر اضرب زيدا أو اقتله بغير حق (أو يفتر عن) فعل شىء (واجب) كقول لا تصل الآن بل صل الصلاة في بيتك قضاء بعد خروج وقتها (وكل كلام يقدح في الدين) أي فيه ذم للدين وطعن فيه كقول بعضهم والعياذ بالله من الكفر تعلم الدين يجعل الشخص معقدا (أو) يقدح (في أحد من الأنبياء) كقول بعضهم عن يوسف عليه السلام إنه عزم على الزنى والعياذ بالله (أو) يقدح (في العلماء) كإطلاق بعضهم القول بأن العلماء عقدوا الدين (أو) يقدح في (القرءان) كمن يكذب شيئا مما ورد فيه (أو) يقدح (في شىء من شعائر) دين (الله) كالصلاة والزكاة والأذان والوضوء ونحوها.

الشرح كل كلام يشجع الناس على فعل المحرمات (حرام كمن يقول لآخر اشرب الخمر) أو يثبط هممهم عن فعل الواجبات (أي يضعف عزيمتهم، ويقلل من نشاطهم وحماسهم لأداء الواجبات الشرعية، مما يؤدي إلى التراخي أو التهاون فيها) كأن يقول لمسلم اقعد معنا الآن ولا تصل فإنك تقضي الصلاة فيما بعد فهو محرم. (أمثلة ترك الواجبات كثيرة كأن يعلم أن شخصا ينقصه تعلم فرض العين، وكان هذا الشخص موجودا في مكان التدريس والمدرس يدرس علم الحال الذي يحتاجه، فيقول له “تعال نخرج نشرب السيجارة في الخارج” مثلا، أو “تعال نتمشى في الخارج” والمدرس يدرس، فهذا عليه ذنب في قوله هذا. فالتشجيع على ترك الفرض حرام، والتشجيع على فعل المعصية حرام في شرع الله تبارك وتعالى. وكثيرا ما يقع الإنسان في ذلك بسبب أولاده أو أمواله. أحيانا من شدة محبة الشخص لأولاده يغلب ذلك عنده إلزامهم بطاعة الله تعالى فينساق معهم إلى ما يريدون من المعاصي، ومثل هذا داخل تحت قول الله تعالى ﴿إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم﴾ وقوله ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾ وعلى مثل ذلك ينطبق حديث رسول الله ﷺ عن الولد مبخلة مجبنة، رواه البزار. مبخلة أي سبب للبخل، ومجبنة أي سبب للجبن. وذلك مثل الذي لا يدفع الزكاة حتى يجمع المال لأولاده، أو لا يدفع ما يجب عليه دفعه في سد الضرورات، كمكافحة الكفر لأجل أن يجمع لأولاده المال. روي أن واحدا من السلف باع أرضا له بمال عظيم، فلما عرفت زوجته بذلك قالت له لو أنك تعطي هذا المال لإنسان يتاجر لنا فيه فيدخل علينا منه مال نتوسع به في المعيشة. في اليوم الثاني جاءها وقال لها وضعت المال في موضع لا نخسر فيه، بل على الأقل الربح عشرة أضعاف، ففرحت، ثم كل مدة كانت تسأله عن ذلك المال، فقال لها بعد وقت إنه تصدق به كله. ويروى عن أحد الصالحين أنه كان قبل أن يخرج من بيته، تقول له بنته يا أبي اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا من حلال) و (من معاصي اللسان) كل كلام يقدح في الدين أي ينقص الدين (يعد كفرا، كمن يقول “الدين رجعية” أو “هبل” أو “حماقة” أو يصفه بأنه “استخفاف بعقول الناس”) أو (يقدح) في أحد من الأنبياء (أي أن من طعن في أحد من الأنبياء فقد كفر، كمن ينسب لنبي من الأنبياء الكفر، أو كبيرة من الكبائر، أو رذيلة من الرذائل، فهذا يقال له قدح في الأنبياء، ويسمى طعنا في الأنبياء وهو كفر) أو (يقدح) في جميع العلماء (كمن لعن كل العلماء فقد كفر، لأنه يكون قد شمل الأنبياء) أو القرءان (وذلك كمن يقول “القرءان ركيك” أو “فيه نقص” أو “متناقض”، فكل هذا كفر) أو شىء من شعائر الله (أي معالم دين الله تعالى)  كالصلاة والزكاة والأذان والوضوء ونحو ذلك فهو كفر (وذلك كمن يعتبر الصوم لا فائدة فيه، أو يقول عن الصلاة “موضة قديمة”، أو يصف الحج بالوثنية، فكل هذا كفر، وكل ذلك من معاصي اللسان وهو كفر).

 

قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي ومن معاصي اللسان (التزمير) وهو النفخ بالمزمار، وليس معنى ذلك التزمير بزمور السيارة، وعد هذا الفعل من معاصي اللسان لأن اللسان يشارك في التزمير.

الشرح أن من معاصي اللسان التزمير وهو النفخ بالمزمار وهو أنواع منها قصبة ضيقة الرأس متسعة الآخر يزمر بها في المواكب والحروب على وجه مطرب، ومنها ما هي قصبة مثل الأولى يجعل في أسفلها قطعة نحاس معوجة يزمر بها في أعراس البوادي. وتحريم ذلك كسائر ءالات اللهو المطربة بمفردها هو ما عليه الجمهور (آلات اللهو المطربة بمفردها، أي التي تعطي خفة للروح وتحرك إلى المعاصي، فالحكمة في تحريمها أنها تجر إلى المعاصي المحرمة. فكل آلة تطرب بمفردها فالاستماع إليها حرام، كالعود ونحوه. أما سيدنا داود عليه السلام فصوته أحلى من هذه الآلات المطربة، لذلك قال الرسول ﷺ في عبد الله بن قيس رضي الله عنه لما سمع قراءته وأعجب بها من حسن صوته بالقرءان لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، أي أن الصوت الحسن الذي أوتيه شبيه بالصوت الذي أوتيه داود عليه السلام. فالرسول ﷺ ما عنى أن داود عليه السلام كان يضرب بالمزمار، إنما عنى حسن الصوت) ولا يلتفت إلى القول الشاذ الذي قال به بعض الشافعية والحنفية (بعض الشافعية قالوا هذا يجوز، ولكن هؤلاء ليسوا مجتهدين، فلا يحتج بكلامهم. كذلك قد ورد مثل ذلك عن بعض فقهاء الحنفية، ولكنهم ما عرفوا أن رسول الله ﷺ حرمها في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه. قال رسول الله ليكونن في أمتي أناس يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف. أي يكون في الأمة أناس يسترسلون في هذه المعاصي ويكثرون من فعلها. الحر وأراد به الزنا. الحرير أي أن الرجال يلبسون الحرير الأصلي الذي يخرج من دودة القز، الخمر أي يشربون الخمر، المعازف أي يستعملون آلات المعازف المحرمة. فالقول المعتمد هو التحريم بنص الحديث وبنصوص الشافعية المعول عليهم، فلا التفات للذين شذوا) لكن لا يكفر مستحل ذلك إلا أن يعتقد أن الرسول ﷺ حرم ذلك ومع ذلك يقول عنه إنه حلال. (ومن الآلات المحرمة الشبابة التي يستعملها الراعي، وهي حرام لأنها مطربة. في بعض البلاد ينفخون في الشبابة فينام النمر لأنه ينطرب. ولا يوجد قول لأحد من الأئمة الأربعة بجواز الاستماع إلى صوت المزمار)

 

قال المؤلف رحمه الله: والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر

الشرح من معاصي اللسان السكوت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر بلا عذر شرعي بأن كان قادرا ءامنا على نفسه (أي لا يخاف على نفسه أن يقتل أو يقطع له يده أو رجله إذا تكلم) ونحو ماله (أي لا يخشى أن يؤخذ ماله إذا تكلم، ففي هذه الحال يجب عليه أن يأمر بالمعروف كأن يقول لشخص يا فلان صل، وأن ينهى عن محرم كأن يقول يا فلان لا تشرب الخمر أو لا تظلم الناس) قال الله تعالى ﴿لعن ٱلذين كفروا۟ منۢ بنىٓ إسرٰٓءيل علىٰ لسان داود وعيسى ٱبن مريم ۚ ذٰلك بما عصوا۟ وكانوا۟ يعتدون . كانوا۟ لا يتناهون عن منكرۢ فعلوه ۚ لبئس ما كانوا۟ يفعلون الله تبارك وتعالى ذم بني إسرائيل الذين كانوا بعد داود وعيسى ابن مريم لأنهم لم يتناهوا عن المنكر أي يسكت بعضهم عن بعض في فعل المحرمات. وقال الرسول ﷺ حتى متى ترعون أي تمتنعون عن ذكر الفاجر، أي الفاسق الذي يجب التحذير منه أو الكافر، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس، رواه الطبراني والبيهقي وغيرهما. بعض من سبقنا مسخهم الله تبارك وتعالى قردة وخنازير لامتناعهم عن إنكار المنكر. أما من يسكت لعذر شرعي، فليس عليه ذنب، إن كان ذلك الشخص يزداد في المعصية إذا أمر ونهي، فهنا يسكت. لا يجوز إن ظن أن الإنكار يزيد في المعصية إن كلمه. لذلك قال العلماء: لجواز إنكار المنكر يشترط أن لا يؤدي الإنكار إلى منكر أعظم، فإن أدى الإنكار إلى ذلك حرم، لأنه يكون عدولا عن الفاسد إلى الأفسد. كمثال شخص سب مسلما، وأنت تعلم أنك إن نهيته عن ذلك قد يقع في معصية أكبر من السب، كقتل هذا المسلم، فهنا لا يجوز أن تنهاه لأن ذلك يؤدي إلى فساد أكبر) وقد شرط الفقهاء لجواز إنكار المنكر أي المحرمات على فاعلها كون ذلك المنكر محرما بالإجماع (كشرب الخمر والزنا وأكل الميتة وأكل لحم الخنزير وغير ذلك مما هو مجمع على حرمته. فإن كان بالإجماع منكرا وجب الإنكار على فاعله، أما إن لم يكن بالإجماع، وكان الفاعل يرى ذلك محرما، فننكر عليه كذلك كما ذكر الفقهاء) فلا ينكر المختلف فيه بينهم إلا على من يرى حرمته وكونه لا يؤدي إلى مفسدة أعظم فإن أدى الإنكار إلى ذلك حرم. لكن لا مانع من أن يرشد الشخص إذا أخذ برخصة في مذهب يرخص له ما هو محرم في مذهبه إلى الأخذ بالاحتياط من دون إنكار عليه فيقال له لو فعلت كذا كان أحسن، كما إذا رأى رجلا يقتصر على ستر العورة المغلظة وهو لا يرى كشف الفخذ حراما لأنه يقلد إماما يجيز ذلك فيجوز أن يقال لهذا لو جعلت سترتك شاملة لما بين السرة والركبة أو أزيد. وترك الإنكار في ما اختلف في تحريمه الأئمة ذكره بعض الشافعية والمالكية كابن حجر الشافعي وعز الدين المالكي. (الإمام مالك والإمام أحمد لهما قولان في تحديد عورة الرجل. مرة قالا السوءتان، ومرة ما بين السرة والركبة، كما قال الشافعي. وقال محمد بن جرير الطبري وعطاء بن أبي رباح وداود الظاهري: العورة السوءتان. فمن أخذ بأحد هذه المذاهب المعتبرة لا ننكر عليه، بل نرشده إلى الأفضل بدون توبيخ، إلا إذا كان يعتقد أنه حرام ففعله، فننكر عليه لأنه خالف اعتقاده)

 

قال المؤلف رحمه الله: (وكتم العلم الواجب) عليك عينا تعليمه (مع وجود الطالب) لذلك العلم. فإذا طلب شخص من ءاخر أن يعلمه العلم الدينى الواجب وكان أهلا لذلك فيحرم عليه كتمه ويجوز له أن يحيله إلى غيره ليعلمه إن كان أهلا. فينبغى لطالب العلم الذى أخذ العلم من أهله أن ينشره لقوله ﷺ بلغوا عنى ولو ءاية، رواه البخارى.

الشرح أن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر كتم العلم الواجب مع وجود الطالب (أي أن من الحرام كتم العلم الواجب تعليمه مع وجود الطالب، وكذلك ترك الإجابة للسائل عن ذلك بلا عذر) قال الله تعالى ﴿إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ (معناه عليه معصية كبيرة). وروى ابن ماجه والحاكم وابن حبان عن النبي ﷺ أنه قال (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) واللجام المذكور في الحديث هو مثل الذي يوضع في فم الفرس لكنه من نار (فإن جاءك شخص يطلب العلم الضروري وأنت قادر على تعليمه ولم تحله لغيرك ولا علمته فعليك معصية كبيرة، أما إذا جاءك شخص واستفتاك في مسألة وأنت لا تعرف الجواب فأحلته إلى مفت أعلم منك فليس عليك معصية)، فتعليم العلم يكون في حال فرض كفاية وفي حال فرض عين والأول محله كما إذا كان يوجد أكثر من واحد ممن تأهل لذلك (أي ممن تأهل للتدريس) وتحصل بكل منهم الكفاية (فلو درس من بين هؤلاء المدرسين واحد، فعند ذلك لا يكون على بقية المدرسين ذنب) والثاني كما إذا لم يكن هناك غير شخص واحد أهل فلا يجوز في هذه الحال أن يحيل المفتي الأهل أو العالم الذي هو أهل طالب العلم إلى غيره.

قال العلماء من تعلم علم الدين الضروري ثم نسي بعضه يجب عليه استعادة تعلم ما نسي (إما أن يذهب إلىٰ واحد متعلم يعيد علىٰ سمعه ما نسيه، أو يراجع مثلا في دفتره أو كتابه ٱلذي درس فيه، فيتذكر ما كان قد نسي). وقالوا يجب وجود عالم يصلح للفتوى في كل مسافة قصر (أي أن يكون بلغ درجة يستطيع بها استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، كالأئمة الأربعة، ويسمى مجتهدا مطلقا. أو يكون قادرا على استنباط الحكم من كلام الأئمة فيما لم يتناولوه نصا، وهذا يقال له مجتهد في المذهب، وهو أيضا يصلح للفتوى. ويوجد عالم أقل من ذلك، لا يستطيع الاستنباط من الكتاب والسنة، ولا من كلام الأئمة، ولكنه يكون حافظا لمعظم مسائل المذهب، فيعرف أن حكم هذه المسألة كذا، وهذه كذا، وهذا أيضا باصطلاح المتأخرين يصلح للفتوى) و (قال العلماء يجب وجود) قاض في كل مسافة عدوى أي نصف مرحلة (المرحلة مسير يوم، ولا بد أن يكون في كل مسافة عدوى قاض شرعي متأهل للقضاء، لأن من احتاج إلى رفع دعوى يتوجه إلى القاضي ويرجع في نفس اليوم، بحيث لا يضطر إلى السفر يومين أو ثلاثة لرفع دعواه). وذكر الغزالي أنه يجب وجود عالم يقوم بالرد على الملحدين والمشككين في العقيدة بإيراد الشبه في كل بلد (مثلا بيروت بلد، وطرابلس بلد، وصيدا بلد) أي بحيث يكون ذلك العالم عارفا بالحجج النقلية والعقلية، وذلك هو علم الكلام الذي عرف به أهل السنة ليس علم الكلام الذي عند المبتدعة كالمعتزلة لأنهم ألفوا كتبا عديدة أوردوا فيها شبها عقلية وتمويهات بالنصوص الشرعية ليغروا بها القاصرين في الفهم. (لابد أن يكون في كل زمن أناس أقوياء في علم أهل السنة يستطيعون أن يردوا شبهات الملحدين الذين لا ينتسبون إلى الإسلام، والكفار المنتسبين إلى الإسلام، كالذين يعتقدون أن الله جسم يصعد وينزل بذاته، وأنه ملأ العرش أو أقل من العرش أو أوسع منه. هذا فرض كفاية كما قال الفقهاء، لأن علم الدين قسمان، قسم يجب على كل مكلف، فمن لم يتعلمه فهو عاص فاسق، والقسم الآخر فرض كفاية، أي يجب على بعض المسلمين، وهو العلم الزائد على حاجات الشخص لنفسه بمقدار يمكنه من الإفتاء لغيره. والمفتي هو من يستطيع الإجابة عن المسائل في أمور العبادات والمعاملات كالبيع والشراء وغيرهما. وفي زماننا، كثير من البلاد خلت من المفتين، مع أن الواجب أن يوجد في كل بلد مفت يعينه العلماء لأهليته. لو كان حاكم تقي هو يعين من يصلح للفتوى)  

 

قال المؤلف رحمه الله: (والضحك) على مسلم (لخروج الريح) منه (أو) الضحك (على مسلم استحقارا له) لكونه أقل جاها من الضاحك ونحو ذلك.

الشرح من محرمات اللسان الضحك لخروج ريح من شخص أي إذا لم يكن الضاحك مغلوبا (معناه أن من المحرمات أن يضحك عمدا إذا خرج ريح من شخص لأنه إيذاء، أما إن ضحك بلا إرادة فلا معصية عليه). وكذلك الضحك لغير ذلك استحقارا لما فيه من الإيذاء. ومثل المسلم في هذه المسئلة الذمي (الذمي الذي يدفع الجزية للخليفة مع أنه غير مسلم، لا يجوز الاستهزاء به بهاتين الحالتين في وجهه استحقارا له).

 

قال المؤلف رحمه الله: (وكتم الشهادة) بلا عذر بعد أن دعي إليها.

الشرح أن من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر كتم الشهادة بلا عذر (من طلب ليشهد عند الحاكم في حق إنسان فكتم الشهادة، يكون حراما لأن في ذلك تضييعا للحق، كمن يعلم أن فلانا استدان من فلان مالا، ثم أنكر الذي عليه الدين، فقال الحاكم للدائن ألك شهود؟ فقال نعم، فطلب هذا الشخص الذي كان يعلم أن له على فلان مبلغ كذا، فامتنع وأبى أن يشهد، فهذا من الكبائر. لذٰلك قال ٱلمؤلف رحمه ٱلله) قال الجلال البلقيني إن ذلك مقيد بما إذا دعي إلى الشهادة اﻫ (جاء في حديث رواه الترمذي بإسناده إلى سليمان بن يسار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، يشهد أحدهم قبل أن يستشهد، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن. يظهر فيهم السمن أي من الأكل. السمن منه ما هو مذموم ومنه ما ليس بمذموم. فالسمن الذي يكون من كثرة الأكل فهو مذموم، والله تعالى لا يحب ذلك، أما السمن الذي يكون من المرض فهو غير مذموم لأنه ليس من اكتساب الشخص قصدا لإشباع شهوة بطنه. ووصفهم ﷺ بأنهم ينذرون ولا يفون أي يلزمون أنفسهم بعهود لله ولا يفون بها، فمن نذر ما ليس فيه معصية ولم يف به فقد خالف ما عاهد الله عليه، والنذر يجب الوفاء به. ووصفهم النبي ﷺ أيضا بأنهم يشهدون بدون أن يستشهدوا فقال يشهد أحدهم قبل أن يستشهد أي يقدم الشهادة في حق من حقوق العباد قبل أن يطلب منه ذلك، وهذا مذموم لأنه لا يدري إن كان صاحب الحق قد استوفى حقه بغير علمه أو قد سامح من عليه الدين. فلا ينبغي أن يشهد عند الحاكم قبل أن يستشهد، وقد ذم النبي ﷺ هذا الفعل لأنه عمل قبيح) ومراده في غير شهادة الحسبة (هي مأخوذة من الاحتساب، وهو طلب الأجر من الله سبحانه وتعالى) فإن شهادة الحسبة لا تتقيد بالطلب (فهنا إن دعي أو لم يدع، يجب عليه أن يشهد فيما كان حقا لله، ليس حقا لإنسان) كما لو علم اثنان ثقتان بأن فلانا طلق امرأته طلاقا يمنع معاشرتها بأن يكون طلاقا بائنا بالثلاث أو بانتهاء العدة قبل الرجعة ويريد أن يعود إلى معاشرتها بغير طريق شرعي (أي من غير عقد شرعي) وجب عليهما أن يشهدا عند الحاكم ولو من غير طلب منه (فإذا علم وحده ولم يكن معه شاهد آخر، يجب عليه أن يخبر القاضي؛ لأنه قد يأتي ثقة غيره ويخبر بمثل ما أخبر).

 

قال المؤلف رحمه الله: (وترك رد السلام الواجب عليك) رده كأن سلم مسلم مكلف على مسلم معين مع اتحاد الجنس وجب عليه رد السلام.

الشرح أن من معاصي اللسان ترك رد السلام الواجب رده وجوبا عينيا بأن صدر ابتداؤه من مسلم مكلف على مسلم معين (بالغ عاقل مع اتحاد الجنس، فيخرج بذلك من هو دون البلوغ، ولو سلم عليه بعينه) أو وجوبا كفائيا بأن صدر منه على جماعة مكلفين (أي لو رد واحد منهم سقط الوجوب عن الباقين، كذلك لو دخل مسلم على جماعة فقال “السلام عليكم جميعا” يبقى الرد على الوجوب الكفائي، وليس فرضا على كل واحد أن يرد) أي مع اتحاد الجنس (أي إذا سلم رجل مسلم على رجل مسلم، أو سلمت امرأة مسلمة على امرأة مسلمة، وهذا في غير المحارم، فإنه لو سلمت أم على ابنها وجب عليه الرد) لقوله تعالى ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها﴾ أما إذا اختلف الجنس بأن سلمت شابة على أجنبي لم يجب الرد فيبقى الجواز إن لم تخش فتنة وكذلك العكس. وأما السلام المكروه كالسلام على قاضي الحاجة في حال خروج الخبث أو الآكل الذي في فمه اللقمة ونحو ذلك فلا يجب رده، وكذلك لا يجب الرد على البدعي المخالف في الاعتقاد ممن لا تبلغ بدعته إلى الكفر. (ولا يجب الرد على الفاسق، ولا على من سلم يوم الجمعة في المسجد أثناء الخطبة. و يكره التحية برفع اليد فقط من دون قول السلام عليكم، فإذا قال السلام عليكم زالت الكراهة)

تنبيه: قال الحليمي في مسئلة السلام على الأجنبية كان النبي ﷺ للعصمة مأمونا من الفتنة فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم اﻫ فتبين من ذلك حكم جواز تسليم المرأة الأجنبية على الرجل والعكس (إذا لم يخش الفتنة) خلاف ما قال بعض المتأخرين من الشافعية ممن ليسوا من أصحاب الوجوه بل مبلغهم في المذهب أنهم من النقلة فقط، وهذه الطبقة لا يثبت المذهب بكلامها إنما يثبت المذهب بنص الإمام الشافعي رضي الله عنه ثم بالوجوه التي يستخرجها أصحاب الوجوه كالحليمي. وأما قول عمرو بن حريث (لا تسلم النساء على الرجال (الأجانب)) فليس فيه التحريم الذي قاله بعض المتأخرين إنما غاية ما فيه الكراهة التنـزيهية (معناه الأحسن أن لا يفعلن، وليس معناه أنه حرام).

فائدة: متى يكون رد السلام فرض عين ومتى يكون فرض كفاية.

        إذا سلم مسلم غير فاسق على مسلم معين فرد السلام عليه فرض عين أما لو سلم على جماعة فرد السلام عليه فرض كفاية أى يكفى أن يرد عليه واحد منهم. وأما من بلغه أن فلانا يسلم عليه فيقول وعليه السلام وكذلك إذا كتب إليه شخص رسالة سلم عليه فيها. وإذا سلم رجل أجنبى على مسلمة وكانت وحدها فلا يجب عليها رد السلام عليه ولا يجب على المرأة أن ترد السلام إذا قيل لها فلان أى الأجنبى يسلم عليك وكذلك إذا كتب إليها رسالة سلم عليها فيها. أما لو سلم رجل أجنبى على جماعة من النساء فيجب رد السلام عليه وجوبا كفائيا. أما رد السلام على الطفل فالقول المعتمد أنه يجب. وإذا التقى شخصان فقالا فى نفس اللحظة السلام عليكم فيجب على كل واحد منهما أن يرد على الآخر. وإذا سلم شخص على شخص معين فلا يجوز لشخص غيره رد السلام لأن هذا عبادة فاسدة.

 

قال المؤلف رحمه الله: (وتحرم القبلة للحاج والمعتمر) أي للمحرم بالحج والعمرة إذا كانت القبلة (بشهوة و) تحرم القبلة أيضا (لصائم فرضا) من رمضان أو نذر أو كفارة (إن خشي الإنزال) أي إنزال المني بسبب القبلة أما إن كان لا يخشى الإنزال فليست حراما، سواء قبلها بشهوة أو بدون شهوة (و) تحرم قبلة (من لا تحل قبلته) كالأجنبية.

الشرح أن من معاصي اللسان القبلة بشهوة إذا كانت من المحرم بالنسك (للحج أو للعمرة، فإذا كان الشخص محرما بالحج أو العمرة حرم عليه أن يقبل زوجته بشهوة. ويجوز له أن يقبلها قبلة شفقة بغير شهوة، كما لو بلغه وفاة والدها فقبلها للتواسي والتعزية، فهذا لا يحرم. فإذا كان حراما عليه أن يقبل زوجته بشهوة وهو محرم فغير زوجته بالأولى أنه حرام أن يقبلها)، وكذلك الصائم صوم فرض إن خشي الإنزال بأن كان من رمضان (أداء أو قضاء) أو نذرا أو كفارة أو نحو ذلك وقيل يكره، بخلاف النفل فإنه يجوز قطعه (أما إذا كان يصوم صيام نفل فيجوز له تقبيلها بشهوة ولو خشي الإنزال، لأنه يجوز له أن يفطر ويقطع صيام النفل) ولا يبطل صوم الفرض بها (أي بالقبلة) إن لم ينزل. ومن معاصيه أيضا (أي من معاصي اللسان) قبلة من لا تحل قبلته كالأجنبية وهي في عرف الفقهاء من سوى محارمه وزوجته وأمته.

 

معاصي الأذن

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي الأذن.

قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي الأذن الاستماع إلى كلام قوم) يتحدثون ولا يريدون اطلاعه عليه بل (أخفوه عنه) وهو نوع من التجسس المحرم.

الشرح أن من معاصي الأذن الاستماع إلى كلام قوم علم أنهم يكرهون اطلاعه عليه وهو من الكبائر ونوع من التجسس المحرم (إن لم يكن له عذر شرعي، كأن كانوا يكيدون للمسلمين فاستمع إليهم بقصد دفع الضرر عن المسلمين فيجوز) وقد صح أن النبي ﷺ قال (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) رواه البخاري، والآنك بمد الألف وضم النون الرصاص المذاب (بالنار. وهنا نذكركم بحديث عظيم الفائدة، قال رسول الله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. معناه أن المؤمن إذا ترك ما لا ينفعه من القول والعمل، فإن هذا يعينه على تقوى الله عز وجل)

 

قال المؤلف رحمه الله: (و) الاستماع (إلى المزمار والطنبور) لكونهما من ءالات اللهو المحرمة (و) الطنبور (هو ءالة) مطربة (تشبه العود) لها أوتار (و) يحرم الاستماع إلى (سائر الأصوات المحرمة وكالاستماع إلى الغيبة والنميمة ونحوهما) من معاصي اللسان من غير أن ينكر مع قدرته على ذلك (بخلاف ما إذا دخل عليه السماع قهرا) بلا استماع منه (وكرهه) بقلبه (ولزمه الإنكار إن قدر) على ذلك بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ولزمه حينئذ مفارقة مجلس المنكر. مثلا إذا كان شخص يغتاب شخصا مسلما ونهيته فلم ينته ليس شرطا أن تترك كل هذه القاعة إنما تفارقه بحيث لا تكون مؤانسا له ولأجل هذا يترك مجلس المنكر.

الشرح أن من معاصي الأذن الاستماع إلى المزمار والطنبور وهو بضم الطاء ءالة معروفة لها أوتار من ءالات اللهو المطربة بمفردها (ولو لم يكن معها شيء. الطنبور مثل العود لكن أصغر، وحكمه كحكم العود، فلا يجوز الاستماع إليه. وكل آلة تطرب بمفردها وتعطي خفة في النفس، فإن الاستماع إليها حرام، والعزف عليها أيضا حرام) وإلى ما فيه معنى ذلك من الآلات (المطربة) أما الصنج وهي قطعتان من نحاس تضرب إحداهما بالأخرى فليست من ءالات اللهو المطربة بمفردها وقد مال إمام الحرمين إلى عدم حرمتها وهو الصحيح (كذلك الدف ليس من الآلات المطربة، بل ينشط فقط ولا يطرب، وكذلك الطبل ينشط ولا يطرب، فيجوز الضرب به. وطبل المسحر الذي يضرب به في ليالي رمضان لإيقاظ الناس للسحور، فهو جائز أيضا ولكن الفقهاء أجمعوا على تحريم صنف واحد من الطبول، لكونه من عادات المخنثين، الفساق، الفجرة، وهو الطبل الذي يكون طرفاه واسعين ووسطه ضيقا، ويسمى “الدربكة”، ويعرف أيضا بـ”الكوبة” وهذا الطبل المحرم أجمع أهل المذاهب الأربعة على تحريمه، وذلك رغم أنه لا يطرب بمفرده، والدليل على ذلك أنه من عادات المخنثين، وقد ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود من تشبه بقوم فهو منهم). وأما إذا دخل عليه السماع قهرا بلا استماع منه فليس عليه ذنب لكن يشترط في ارتفاع الإثم في السماع إذا كان بلا قصد أن يكره ذلك. ويشترط للسلامة من الإثم الإنكار لما يحرم من ذلك بيده أو لسانه إن قدر وإلا فيجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة المجلس إن كان جالسا فيه. (ٱلسماع يختلف عن ٱلاستماع، ٱلسماع هو وصول ٱلشيء ٱلمحرم إلىٰ أذنه بدون قصد منه، كٱلذي يسمع صوت ٱلموسيقىٰ بفعل جاره وهو يكره ذٰلك في قلبه، ولا يستطيع إنكاره لعلمه بأن ذٰلك ٱلشخص لا يقبل منه، ففي هٰذه ٱلحالة ليس عليه معصية، أما ٱلاستماع فهو قصد ٱلإنصات للصوت ٱلمحرم)

 

معاصي اليدين

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي اليدين.

قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي اليدين التطفيف في الكيل والوزن والذرع) وهو أنه إذا أراد الشراء يستوفي حقه كاملا وأما إذا أراد البيع ينقص فيأخذ من المشتري الثمن كاملا ويعطيه المبيع ناقصا.

الشرح أن من معاصي اليدين التطفيف في الكيل والوزن والذرع وهو من الكبائر قال الله تعالى ﴿ويل للمطففين الذين إذا ٱكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾ والويل هو شدة العذاب. وقد فسرت الآية المطففين بأنهم هم الذين إذا اكتالوا على الناس أي من الناس يستوفون حقوقهم منهم أي يأخذونها كاملة وإذا كالوهم أو وزنوهم أي كالوا أو وزنوا من أموالهم للغير يخسرون أي ينقصون. وفي حكم ذلك التطفيف في الذرع بأن يشد يده وقت البيع ويرخيها وقت الشراء.

 

قال المؤلف رحمه الله: والسرقة ويحد إن سرق ما يساوي ربع دينار من حرزه بقطع يده اليمنى ثم إن عاد فرجله اليسرى ثم يده اليسرى ثم رجله اليمنى.

الشرح أن السرقة من الكبائر المجمع على تحريمها المعلومة من الدين بالضرورة، وهي في الأصل أخذ مال الغير خفية ليس اعتمادا على القوة في العلن أو على الهرب في العلن فإن الأول من هذين (أي أخذ مال الغير اعتمادا على القوة في العلن يقال له) غصب والثاني (أي أخذ مال الغير اعتمادا على الهرب يقال له) اختلاس (السرقة حرام، والغصب حرام، والاختلاس حرام، ولكن الغاصب والمختلس لا تقطع أيديهما، إنما يسترد منهما المال، والحاكم يعاقبهما أيضا، لأنه لم يرد فيهما حد) ويقام الحد على السارق إن سرق ما يساوي ربع دينار من الذهب الخالص المحض (أو أكثر، وذلك إذا أخذه) من حرزه (أي من المكان الذي يحفظ فيه الشيء عادة، كالمال يحفظ في خزانة مقفلة) والحرز يختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات فحرز الدراهم والدنانير مثلا غير حرز أثاث البيت (الجيب الذي له سحاب يعد حرزا يحفظ فيه المال، كذلك المحفظة في الجيب تعد حرزا إذا كان الجيب مقفلا بأزرار أو سحاب. أما في كثير من السراويل المعاصرة التي لا يوضع فيها سحاب ولا زر، فإنها لا تعد حرزا لمثل المال. فإذا أعطي الإنسان مالا أمانة، فالأولى أن يحمله بيده أو يضعه في جيب ذي سحاب ويقفله. كذلك الحزام المحكم الذي يوضع على الخصر ويحوي جيوبا بسحاب يعد حرزا). وكيفية الحد أن تقطع يده اليمنى من الكوع ولو سرق مرارا قبل القطع (لو سرق شخص ما يوجب الحد مرارا قبل القطع، كمن سرق عشر مرات وأخذ بعد العاشرة، فلا تقطع يداه ورجلاه فورا، بل يبدأ بقطع يده اليمنى فقط، فإن عاد إلى السرقة بعد ذلك، يطبق عليه الحد بحسب الترتيب الشرعي) ثم إن عاد بعد قطع اليمنى إلى السرقة ثانيا فبقطع رجله اليسرى من الكعب ثم إن عاد ثالثا فبقطع يده اليسرى ثم إن عاد رابعا فبقطع رجله اليمنى من الكعب ثم إن عاد خامسا عزر كما لو كان ساقط الأطراف أولا (أي إذا كان بلا يدين ولا رجلين وقام بالسرقة، فلا يقام عليه الحد لانتهاء محل القطع، وإنما يعاقب بالتعزير والتأديب بحسب ما يراه القاضي مناسبا لردعه وزجره) ولا يقتل (والتعزير هو ضرب أو حبس أو إهانة، وذلك بحسب ما يراه الحاكم مناسبا لزجر المخالف وردعه عن مخالفته). ويغمس محل القطع في الزيت المغلى لتنسد أفواه العروق. (ومن سرق أقل من ربع دينار فإنه يعزر ولا يقطع، وكذلك إذا سرق مالا من غير حرزه، أي من غير المكان الذي يحفظ فيه ذلك المال عادة، فإن السارق لا يقطع بذلك، وإنما يعزر)

 

قال المؤلف رحمه الله: ومنها النهب والغصب  والمكس والغلول

الشرح أن من معاصي اليدين النهب وهو أخذ المال جهارا والغصب وهو الاستيلاء على حق الغير ظلما وهما من الكبائر لقوله عليه الصلاة والسلام (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة) أي أن الأرض تخسف به يوم القيامة فتكون تلك البقعة في عنقه كالطوق (أي تطول عنقه فيعلق به ذلك الشبر متصلا به إلى سبع أراضين فضيحة له يوم القيامة، ثم إن كان مسلما فلا بد أن يدخل الجنة بعد ذلك).

وأما المكس فهو ما يؤخذ من التجار كالعشر وما أشبه ذلك (يعني سواء أخذ العشر أو أكثر أو أقل من ذلك، لكن في الماضي كانوا يأخذون من التجار العشر) وهو من الكبائر وقد مر الكلام عليه (في معاصي البطن. وأيام الخلفاء الراشدين، ما كان يؤخذ من التجار إلا الزكاة، وأما أخذ الضرائب فقد حدث بعد الخلفاء الراشدين). وأما الغلول فهو الأخذ من الغنيمة قبل القسمة الشرعية وهو من الكبائر. قال رسول الله ﷺ في رجل كان على ثقله (أي متاعه ﷺ) في غزوة مات وقد غل (إنه في النار) رواه البخاري. (صحابي يدعى مدعم، كان عبدا مملوكا للنبي ﷺ شارك معه في غزوة خيبر. أثناء عودتهم في وادي القرى، أصابه سهم مجهول المصدر فمات، فقال بعض الصحابة هنيئا له الجنة، فرد النبي ﷺ لا، رأيت شملته تشتعل عليه نارا. وذلك لأنه سرق من الغنيمة قبل تقسيمها الشرعي. في السابق، عندما كان المسلمون يستولون على أموال الكفار بالقوة في الغزوات، كانت هذه الغنائم تصبح حلالا للمسلمين، ولكن بشرط أن يقوم الإمام بتقسيمها وفقا للشرع. هذا الصحابي أخذ من الغنيمة قبل القسمة الشرعية، فكان ذلك من الكبائر بدليل قول النبي ﷺ إنه في النار)  

 

قال المؤلف رحمه الله: والقتل وفيه الكفارة مطلقا و هي عتق رقبة مؤمنة سليمة فإن عجز فصيام شهرين متتابعين وفي عمده القصاص إلا إن عفا عنه الوارث على الدية أو مجانا وفي الخطإ وشبهه الدية و هي مائة من الإبل في الذكر الحر المسلم ونصفها في الأنثى الحرة المسلمة وتختلف صفات الدية بحسب القتل.

الشرح أن من معاصي اليدين قتل المسلم عمدا أو شبه عمد. قال ﷺ في الحديث الذي فيه بيان السبع الموبقات (أي المهلكات) (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أخرجه البخاري في الصحيح. والقتل (أي قتل الآدمي) ظلما (عمدا بغير حق) هو أعظم الذنوب بعد الكفر كما ثبت في حديث البخاري وغيره (فقد سئل النبي ﷺ أي الذنب أعظم عند الله تعالى؟ فقال أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قيل ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. هذه الرواية رواها البخاري ومسلم، وهي تفيد أن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك هو القتل. وتصح توبة القاتل عمدا، فإن الكافر تصح توبته، فالقاتل أولى بذلك، ولا يتحتم عذابه، بل هو في خطر المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، ولكنه لا يخلد في النار إن دخلها، كسائر أصحاب الكبائر غير الكفر. وأما قوله تعالى ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها﴾ فالمراد بالخلود هو المكث الطويل في النار، وليس الخلود الأبدي، وقد ورد في تأويل هذه الآية عدة وجوه، أحدها أن المراد بالخلود هو الخلود النسبي لأنه لم يقل خالدا فيها أبدا، والثاني أن المراد بها من يقتل المؤمن مستحلا لقتله بغير حق فهذا يكفر، والثالث أن المراد من يقتل المؤمن لإيمانه فهذا يكون كافرا أيضا). وأما قول الله تعالى ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ فالمراد به أن الكفر أشد من القتل كما تقدم.

والقتل ثلاثة أنواع: إما عمد، وإما خطأ، وإما شبه العمد، ويسمى الأخير أيضا شبه الخطإ لأنه من ناحية يشبه العمد ومن ناحية أخرى يشبه الخطأ.

فالقتل العمد أن يعمد إلى ضرب شخص بما يقتل في العادة، قاصدا قتله، كمن يضربه بالسيف على أم رأسه فيقتله، فهذا يعتبر قتلا عمدا

والقتل الخطأ أن يريد إصابة شيء آخر فيصيب الإنسان خطأ، كمن يريد اصطياد بهيمة فيصيب سلاحه مسلما خطأ فيقتله، فهذا يسمى قتلا خطأ، وليس فيه إثم ولا قصاص لكن تجب فيه الكفارة والدية

والقتل شبه العمد أن يقصد ضرب الإنسان بما لا يقتل غالبا، فيموت منه، كمن يغرز إبرة في فخذ شخص فيموت بسببها، فهذا يعتبر قتلا شبه العمد.

ثم من أحكام القتل في الدنيا وجوب الكفارة في قتل العمد وغيره (سواء كان عمدا أو خطأ أو شبه خطإ) وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة عما يخل بالكسب والعمل إخلالا ظاهرا، فإن عجز بأن لم يملكها ولا ثمنها فاضلا عن كفايته وكفاية من عليه نفقته صام شهرين متتابعين كما مر في الظهار غير أنه لا إطعام هنا.

وفي قتل العمد وهو ما كان بقصد عين من وقعت عليه الجناية بما يتلف غالبا جارحا كان كالسيف والخنجر أو مثقلا كالصخرة القصاص إلا إذا عفي عن القاتل على الدية أو مجانا فإذا عفا ورثة القتيل عن القاتل على الدية أو على مال غيرها أو مجانا سقط القتل (القتل العمد عقوبته القصاص، أي يقتل القاتل إلا إذا كان أحد الورثة أو جميعهم لا يريدون القتل، وإنما يريدون الدية، فعندئذ تؤخذ الدية ولا يقتل القاتل. فإذا كان عدد الورثة عشرة، وواحد منهم طلب الدية، وتسعة طلبوا القصاص، فلا يقتل القاتل، لأن الدم لا يتجزأ، فإما أن يأخذوا الدية، أو يعفوا عنه بلا مقابل. فإن لم يعفوا عنه، يمكن الحاكم ورثة القتيل من قتل القاتل، ويكون ذلك تحت إشرافه لمنع حدوث الثأر وسفك الدماء بغير حق. وأما في غير حال القتل العمد، فلا قصاص وإنما تؤدى الدية، والدية في حق الرجل الحر المسلم مائة إبل، ونصفها في حق المرأة. وتختلف صفات الدية بحسب نوع القتل،

ففي القتل العمد تكون الدية حالة في مال القاتل، وتكون مثلثة، أي ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين حاملا في بطونها أولادها.

أما في حال شبه العمد، فالدية مثلثة كذلك، ولكنها مؤجلة.

وفي حال القتل الخطأ، فالدية مخمسة، وتتكون من عشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض، وعشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين ابن لبون، وتكون على العاقلة أي أقاربه من جهة الأب وليس في مال القاتل، وتؤجل في ثلاث سنين. ولذلك قال المؤلف رحمه الله) وأما القتل الخطأ بأن لا يقصد عينه بفعل كأن زلق ووقع عليه فمات وشبهه (وهذا قتل يقال له شبه عمد وشبه خطء لأنه من جهة يشبه العمد ومن جهة يشبه الخطأ) بأن يقصده بما لا يتلف في الغالب كغرزه بإبرة في غير مقتل فتجب الدية فيهما (أي في القتل شبه العمد أو شبه الخطأ) لا القصاص و (الدية) هي مائة من الإبل في الذكر الحر المعصوم المسلم، ونصفها في الأنثى الحرة المسلمة المعصومة ومثلها الخنثى.

فائدة يثبت القصاص أيضا (أي إن كان متعمدا) في الأطراف والجراحات. (القصاص بالمثل يجوز عن طريق الحاكم، سواء كان في القتل، كإقامة الحد على القاتل، أو في الجنايات التي دون القتل. فإذا اعتدى إنسان على آخر ظلما، فلا يقتص بيده فورا، بل يرفع أمره إلى الحاكم الشرعي. الحاكم الذي يقضي بشرع الله ينظر في الدعوى، ويثبتها إما باعتراف الجاني أو بشهادة شاهدين عدلين، ثم يحكم القصاص. وله أن يمكن المظلوم من الاقتصاص بنفسه، بشرط ألا يزيد على مقدار الاعتداء الذي وقع عليه، أو أن يتولى الحاكم تنفيذ القصاص نيابة عنه. وكما يثبت القصاص في النفس، أي أن القاتل يقتل، فكذلك يثبت في الأطراف، فمن قطع يدا تقطع يده، ومن قطع قدما تقطع قدمه، وهكذا)

تتمة: من المحرمات الكبائر قتل الإنسان نفسه فقد روى البخاري (من قتل نفسه بشىء عذب به في جهنم) لكن لا يكفر قاتل نفسه كما أنه لا يكفر قاتل نفس غيره، وأما قول الجهال فيمن قتل نفسه إنه كافر فهو باطل. (يزعم بعض الناس الجاهلين أن الانتحار كفر مخرج من الملة، وليس الأمر كذلك، إنما الانتحار هو أعظم الذنوب بعد الكفر ولكنه لا يخرج من الإسلام. فلا يجوز أن يقال عن المسلم الذي ينتحر “فلان مات كافرا” إلا إذا استحله. وقد ورد في الحديث أن صحابيا من المهاجرين أصيب بمرض، فقطع براجمه بحديدة، فنزف دمه حتى مات، فرآه صاحبه في الرؤيا بهيئة حسنة، ولكن يديه غطيتا بالبياض. فسأله ماذا فعل الله بك؟ فأجابه “غفر لي بهجرتي إلى نبيه”. فقال له وما بال يديك؟ فقال “قيل لي (أي ملك قال له) لن نصلح لك ما أفسدت”. فلما أخبر هذا الصحابي رسول الله ﷺ بما رأى، قال النبي ﷺ اللهم وليديه فاغفر، رواه مسلم في صحيحه. فالشاهد من هذه الحادثة أن هذا الصحابي الذي قتل نفسه لو كان كافرا لما استغفر له الرسول ﷺ، لأن الله تعالى قال ﴿ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾ وقال تعالى أيضا ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾. فاستغفار الرسول ﷺ لهذا الصحابي المنتحر دليل واضح على أن المنتحر ليس بكافر)

 والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/TNl9EeoHJpQ

للاستماع إلى الدرسhttps://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-38