#38 أنواع محرمة من المعاملات
الحمد لله المجيد والصلاة والسلامُ على سيدِنا محمدٍ الحكيمِ الرشيدِ وعلى آلهِ وأصحابِه إلى يومِ القيامةِ الأكيد أما بعد نتابع الكلام في بيانِ أنواعٍ محرمةٍ من البيوعِ والمعاملات فنقول بتوفيق الله تعالى يحرم بيع ما ليس مملوكًا، فلا يصحُ بيعُ الإنسانِ الحُرِّ، ولا يصحُّ بيعُ البحرِ لأنّه لا يدخل تحت المِلكِ، ولا بيعُ الأرضِ الْمَوَاتِ قبلَ إحيائِهَا أى قبل أن يتملكها الشخص بالطريق الشرعىّ.
و يحرم بيعُ المَجْهُولِ لأنّ من شروطِ صحة البيعِ أن لا يكون المَبِيعُ مجهولًا، وأن لا يكونَ الثَمَنُ مجهولًا. مثالُ البيعِ المجهول الذى لا يصح أن يقول له: بعتُك إحدى سيارَتَىَّ هاتينِ من غيرِ تحديدِ واحدةٍ منهما، أو أن يقولَ له: بعتُكَ عَشْرَةَ صناديقَ من هذه البِضَاعَةِ التى عندى من غيرِ تعيين العشرة له.
ولا يصح بيعُ النَّجِسِ كالدَّمِ. ويحرم بيعُ كُلِّ مُسْكرٍ أي أنَّ كُلَّ ما يُغَـيّرُ العقلَ مَعَ نَشْوَةٍ وطَرَب يحرم بيعه، سواء كان مصنوعًا من عِنَبٍ أو شعيرٍ أو عسلٍ أو تَمْرٍ أو غيرِ ذلك.
ومِنَ البيوعِ المحرمةِ بيعُ كلِّ ءَالةِ لَهْوٍ محرّمة، كالعُودِ والكُوبَة وهو الطبل الضيقُ الوَسط والنَّرْد. وَيَحْرُمُ بيعُ الشىءِ الحلالِ الطاهرِ على مَنْ تَعْلَمُ أنَّه يُريدُ أن يَعْصِىَ به كالعِنَبِ لمن يُرِيدُهُ للخَمْرِ والسلاحِ لمن يَعتَدِى به على الناسِ. بيعُ الشىءِ الحلالِ الطاهر حرامٌ إذا كان البائعُ يعلم أنَّ المشترِىَ يريدُ أن يستعمِلَهُ فى معصيةِ الله، لأنّ فى ذلك إعانةً على المعصية وربُّـنَا قال: {ولا تَعاوَنوا على الإثمِ والعُدوان}. فيحرُمُ بيعُ العنب لمن يريد أن يعصرَهُ خمرًا، وبيعُ السلاحِ لمن يريدُ أن يعتَدِىَ به على الناس بغير حق، وبيعُ الخشب لمن يتّخِذُ منه ءالةَ لهوٍ مُحَرَّمَة.
وَيحرم بَيْعُ الأشياءِ الْمُسْكِرَةِ، فهو حرام سواءٌ كان للشربِ أو لغيرِ الشربِ من أمور الاستعمال، كالذى يشترى الإسبيرتو ليستَعْمِلَهُ وَقُودًا، فإنّ هذا البيعَ حرام ولو كان لا يريدُه للشُربِ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ ورسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخمرِ والْمَيْتَةِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ والأصنامِ”. قيل يا رسولَ الله أرأيتَ شحومَ الميتَةِ تُطْلَى بها السفن ويَستصبِح بها الناسُ (يعنى إذا باعها الإنسان لأجل ذلك هل يجوز)؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “لا، هو حرام” رواه البخارىُّ ومسلم. وهذا شاهدٌ لحُرمَةِ بيعِ الإسبيرتو ونحوِه ولو لغير الشرب.
وَيحرم بيعُ الْمَعِيبِ بلا إِظهارٍ لِعَيْبِهِ. فالإنسان إذا أراد أن يبيعَ شيئًا فيه عيب وهو يعرف أنّ هذا العيبَ فيه، يجبُ عليه أن يُخْبِرَ الْمُشْـتَرِىَ عن هذا العَيْب قبل أن يَبِيعَهُ، فإن كَتَمَ العيبَ فهو ءاثمٌ وصَحَّ البيعُ، لكن المشتَرِى له خِيَارُ الرّد لَمَّا يَرَى العيب.
واعلموا رحمكم الله أنّه إذا اتّفق اثنانِ على إيقاع بيعٍ، واتّفقا على الثمن، ثم قبل أن يُوقِعَا البيعَ عَرَفَ إنسانٌ ثالثٌ بالأمر فقال للبائع: لا تبعْهُ، أنا أشترِى منك بأغلَى، أو قال للمُشترِى: لا تشترِ من ذلك الإنسان أنا أبيعُك بأرخص، أو أبيعُك خيرًا منه بمثلِ سعرِهِ، فهذا حرام لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السَّوْمِ على سَوْمِ أخيه. والحديثُ رواه البخارىّ.
وإذا تمّ العقدُ بين البائع والمشترى لكن اشْتَرَطَا مدةَ خِيَار لكلَيهِمَا أو لواحدٍ منهما ثم جاء ثالثٌ ليفتّـِر رغبة مَن له الخيار ليفسخ البيع فيبيعَه هو أو يشترىَ منه فهو ءاثم أيضا، لحديث البخارىِّ فى تحريم البيع على بيع أخيه أى إلا إن أذِنَ من يَلْحَقُهُ الضرر فلا إثم عند ذلك.
ويحرم أنْ يَشْتَرِىَ الطعامَ وقتَ الغلاءِ والحاجةِ ليحبسَهُ وَيَبِيعَهُ بأَغْلَى. وهذا هو الاحتكار المحرم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خاطئ ” أى ءاثم. ومعنى ذلك أن يشتَرِىَ الطعامَ فى وقتِ الغلاءِ والحاجةِ أى عندما يكونُ سعرُ الطعامِ عاليًا والناسُ فى حاجةٍ إليه وذلك ليحبِسَهُ حتى يَبِيعَه بأغلى. هذا هو الاحتكارُ الْمُحَرَّم، وقال بعضُ الشافعيةِ: كلُّ ما تَعُمُّ حاجةُ الناسِ إليه هو مثلُ الطعام يحرمُ احتكارُه، وقَصَرَ بعضُهم تحريم الاحتكار على القوتِ.
ومن المحرمات أَنْ يَزِيدَ فِى ثَمَنِ سِلْعَةٍ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ. وهذا هو النَّجَشُ الذى نهى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “ولا تَنَاجَشُوا”، والحديثُ متفقٌ عليه -أى رواه البخارى ومسلم- ومعناه أن يزيدَ فى ثمنِ السّلعَة حتى يُوهِمَ المشترِىَ أنّ ثَمَنَهَا فى السوقِ أعلى وهو ليس كذلك. مثال ذلك أن يتفقَ معَ إنسان فيقولَ له كُلَّمَا رأيتَ إنسانًا جاء يشترِى مِنّـِى البضَاعة تبذُل أنت ثمنًا أغلى فى البِضاعة حتى يظنَّ المشترِى أنها تساوى ذلك الثمن الأعلى (وهى لا تساوى). فهذا هو النَّجَشُ الْمُحَرَّم. ومثلُه فى التحريم إذا مدحَ السلعةَ بالكذِبِ لِيُرَوِّجَهَا.
وليعلم أنّ الغِشَ حرامٌ فى البيع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “منْ غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا” رواه مسلم. فالذى يخون فى الكيل أو الوزن أو الذرع -أى القياس بالأذرع- أو يخونُ فى العدّ كأن يوهم المشترى أنّه يعطيه عشر بيضات وهى فى الحقيقة تسعة أو ثمانية فهو واقعٌ فى الإثم. وقد قال تعالى: {ويل للمطففين} والويلُ هو الهلاكُ الشديد، والمطفّـِف هو الذى له مِكيَالان يَستوفِى بمكيالٍ تامٍ ويبيع بمكيالٍ ناقصٍ، أو له عياران للوزن يَستوفى بعيارٍ تامٍ ويبيع بعيارٍ ناقصٍ، فالله تعالى تَوَعَّدَ هؤلاء بالويل أى أنهم يستحقون بذلك عذاب النار. وهذا يدلُّ على أنّ هذا الفعلَ من كبائر الذنوب.
وكَذَا يحرم جُمْلَةٌ مِنْ معاملاتِ أهلِ هذا الزمانِ، وأكثرُهَا خارجةٌ عن قانونِ الشرع. أي أنّ كثيرًا جدًا من معاملاتِ أهلِ هذا الزمن لا توافقُ شرعَ الله تعالى. فمن أراد رِضَا الله تعالى فعليه أن يَتَجَنَّبَهَا. ولا يستطيعُ أن يَتَجَنَّبَهَا إلا إذا تعلَّم ما يحتاج إلى تَعَلُّمِهُ من علمِ الدين مما يَتَعَلَّق بالمعاملات فإنه لا يجوزُ تناوُلُ رِزْقٍ من حرام.
فَعَلَى مريد رِضا اللهِ سبحانَهُ وتعالى وَسَلامة دِينِهِ وَدُنْياهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحِلُّ ومَا يَحْرُمُ مِنْ أهل المعرفة والثقة فلا يجوز استفتاءُ العالِمِ الفاسِق، ولا يجوز استفتاءُ مَنْ لَيسَ له كَفَاءَةٌ فِى العلم. فيا أيها الناس إنَّ هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمَّن تأخذون دينَكم رحمكم الله. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يرزقنا رزقا حلالا واسعا طيبا مباركا فيه والحمد لله رب العالمين.