الأحد ديسمبر 7, 2025

 

#37

 قال المؤلف رحمه الله: (والشتم) للمسلم أي سبه ظلما والشتم مرادف للسب وهو التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه وروى البخاري أنه ﷺ قال (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أي أن سب المسلم من الكبائر بدليل تسميته فسوقا (و) كذلك (اللعن) كأن يقول لمسلم لعنك الله واللعن هو البعد من الخير، ولعن المسلم من الكبائر قال ﷺ (لعن المسلم كقتله) رواه مسلم

الشرح أن من معاصي اللسان شتم المسلم أي سبه (وذمه بغير حق)

فائدة: قال رسول الله ﷺ لصحابي يدعى أبا جري إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه فقال أبو جري فما سببت بعد ذلك ولا دابة، أي أنه امتثل كلام رسول الله ﷺ والحديث رواه أبو داود. ومعنى الحديث أن يسامح المسلم من سبه، ولا يرد عليه بالمثل، فإن ذلك أفضل وأكمل، ومن ترفع عن الرد، فهو أفضل وإن عيره الناس وظنوا أنه جبان، فلا يبالي، فالإحسان إلى من يسيء إليك في الشرع مطلوب. فإذا سب مسلم مسلما، فإنه إذا لم يرد عليه، فهو أفضل عند الله، وإن رد عليه بالمثل من غير كذب ولا تعد، فليس عليه إثم، ويكون قد أخذ حقه، أما إذا زاد في السب، فيؤاخذ عليه يوم القيامة. أما إذا شتمك شخص بقوله “يا لص، يا حرامي” وأنت تعلم أن الشاتم ليس فيه هذه الصفة، فلا يجوز لك أن ترد عليه بالمثل وتقول “أنت اللص، أنت الحرامي”. كذلك إذا زاد في السب، كأن قال له شخص يا ظالم، فرد عليه يا ظالم، يا خبيث، فهذا تعدى لأنه زاد في السب، أما لو قال له يا ظالم فقط، يكون قد أخذ حقه، وإن زاد في السب فيؤاخذ في الآخرة. وإذا دعا المظلوم على الظالم، كأن يقول اللهم انتقم منه، فلا إثم عليه، بل ورد في الحديث أن دعوة المظلوم لا ترد. وإذا شتم شخص شخصا، فلا يجوز للمشتوم أن يقتص منه بالضرب، إنما يجوز له أن يرد بالمثل، والسب بالسب، ولكن أكثر الناس اليوم لا يكتفون بالمثل، فهذا لا يجوز. وأما إن قال له يا أخا الزانية، فلا يجوز له أن يرد بالمثل، بل يشتكيه عند الحاكم حتى يقيم عليه الحد، فإن ثبت عند الحاكم ذلك، جلده ثمانين جلدة، وإن لم يكن هناك حاكم يقيم الحد فإما أن يسامحه وإما أن ينتظر ليأخذ حقه في الآخرة. والأحسن لمن سب أن يقابل السب بالسكوت ولا يرد، فإن خشي أن يتمادى الساب في سبه، فليقل له اتق الله. واعلم أن الرد على الإساءة بالإحسان ليس ضعفا، بل هو منهج الأنبياء والصالحين، والقوة ليست في رد الإساءة بمثلها، بل في ضبط النفس وكظم الغيظ، قال النبي ﷺ ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (متفق عليه). وقال تعالى ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ فادفع، يا أخي الكريم إساءة من يسيء إليك بالكلمة الطيبة والصبر والتسامح والصفح الجميل لا بالانتقام والعدوان، فإذا فعلت ذلك قد يتغير حال المعادي وتتحول عداوته إلى مودة فيصبح صديقا مقربا كأنه قريب حميم وذلك بسبب إحسانك في معاملته) روى البخاري أنه ﷺ قال (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أي أن سب المسلم من الكبائر بدليل تسميته فسوقا. وأطلق رسول الله ﷺ على قتاله لفظ الكفر لأنه شبيه بالكفر لا يعني أنه ينقل عن الملة لأن الله تعالى سمى كلتا الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين في قوله تعالى ﴿وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ الآية.

وأما اللعن فمعناه البعد من الخير. ولعن المسلم من الكبائر (ومعناه سب الشخص بالدعاء عليه بأن يقول لعنك الله أو لعنة الله عليك أو أنت ملعون أو أنت من أهل لعنة الله) قال ﷺ (لعن المسلم كقتله) رواه مسلم. (كما أن القتل ذنب كبير، فإن لعن المسلم أيضا ذنب عظيم، ولكنه ليس في مرتبة القتل، وإنما ورد التشبيه في الحديث للتحذير منه وتبيين خطورته. ويجوز لعن المسلم العاصي للتحذير منه، فمن رأى مسلما فاسقا كبائع خمر فلعنه، لا لزجره ولا لزجر الناس عن أن يفعلوا مثل فعله، ولو من غير أن يسمعه أحد، فلا يجوز.

وقد قال بعض العلماء لا يجوز أن يلعن العاصي المعين، وقالوا ولا يجوز لعن الكافر المعين إلا إذا تحقق موته على الكفر، أو ورد نص يدل على أنه يموت على الكفر كإبليس وقارون وفرعون وهامان وأبي جهل وأمثالهم. وهذا غير صحيح، والصحيح أنه يجوز لعن الفاسق ولو كان معينا لسبب شرعي، لأن بعضهم زعم أنه لا يجوز لعن الفاسق والكافر المعين إلا إذا ورد نص بموته على الكفر أو ثبت بالدليل أنه مات على الكفر، وهذا رأي مردود لأن النصوص تدل على جواز لعن الفاسق المعين إذا كان لسبب شرعي. والدليل على جواز لعن الفاسق المعين لسبب شرعي، قول النبي ﷺ أيما امرأة باتت وزوجها غاضب عليها أي بحق، إما لكونها نشزت، أو منعته حقه من الاستمتاع، لعنتها الملائكة حتى تصبح. ومعناه أن الملائكة تلعن هذه المعينة العاصية، ومن هذا الحديث أخذ جمهور العلماء جواز لعن العاصي المعين إذا كان لسبب شرعي. وفي هذا الحديث زجر وتأديب، لأن المرأة إذا علمت أن الملائكة تلعنها إلى الصباح إذا فعلت ذلك، فإنها ستبتعد عن مثل هذا الفعل. أما ٱللعن بٱلوصف بلا تعيين، أي من حيث ٱلإجمال، فٱلكل متفقون على ٱلجواز، كأن يقول قائل لعنة ٱلله على ٱلكاذبين أو ٱلغشاشين أو ٱلظالمين أو أكلة ٱلربا، أو ٱلكافرين، هذا لا يوجد فيه خلاف. قال الله تعالى: ﴿إن ٱلله لعن ٱلكافرين وأعد لهم سعيرا﴾)

 

قال المؤلف رحمه الله: (والاستهزاء بالمسلم) بمعنى التحقير له (وكل كلام مؤذ) يقال (له) أي للمسلم بغير حق، وفي حكم الكلام المؤذي الفعل والإشارة اللذان يتضمنان ذلك.

الشرح أن من معاصي اللسان الاستهزاء بالمسلم أي تحقيره، وكذلك كل كلام مؤذ للمسلم أي إذا كان بغير حق (وهذا الإيذاء لو كان مع قول “قد يقال” فلا يتغير الحكم، يعني لو أن شخصا قال لشخص من المسلمين قد يقال أنت بلا فهم، فإن كلمة قد يقال لا تخلصه من المعصية، ولا ترفع عنه الإثم، لأن إيذاء المسلم بغير سبب شرعي حرام). وفي حكم الكلام المؤذي الفعل والإشارة اللذان يتضمنان ذلك (فقد يهين الشخص شخصا آخر بمجرد الإشارة بيده أو برجله، فيكسر قلبه بذلك، وهذا مثل الكلام المؤذي، حرام).

 

قال المؤلف رحمه الله: (والكذب على الله و) الكذب (على رسوله) ﷺ وقد يكون ذلك كفرا والعياذ بالله كأن ينسب إلى الله أو إلى رسوله ﷺ تحريم ما علم حله.

الشرح من جملة معاصي اللسان الكذب على الله سبحانه وتعالى وكذا الكذب على رسوله ﷺ، ولا خلاف في أن ذلك من الكبائر (حتى إذا قال رأيت الرسول ﷺ في المنام ولم يره، أو قال قال لي رسول الله ﷺ كذا في المنام وهو لم يحصل، فهذا من الكبائر، والكذب على الرسول ﷺ أشد من الكذب على غيره. قال رسول الله إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. رواه مسلم. فالكذب على الرسول ﷺ من أكبر الكبائر، وبعض الناس يكذبون على الرسول ﷺ بحجة تنشيط الناس على الذكر والطاعات، يا ويلهم! أيحسبون أن الدين بحاجة إلى كذبهم!؟ دين الله كامل وغير محتاج لما يفترون. وقد كان بعض السلف إذا قال “قال رسول الله ﷺ” اصفر وجهه وارتعد خوفا، لأنه كان يتذكر فورا ذنب الكذب على النبي ﷺ فيخاف أن يقع فيه. أما في زماننا فبعض الناس يجلسون في مجالس كلها كذب على الله وعلى رسوله، ولا يرف لهم جفن، ولا تطرف لهم عين! الله يرحمنا) بل من الكذب على الله ورسوله ما يؤدي إلى الكفر (يعني الكذب على الله والكذب على الرسول ﷺ نوعان نوع معصية كبيرة، ولا ينزل عن الكبيرة ونوع كفر) كأن ينسب إلى الله أو إلى رسوله ﷺ تحريم ما علم حله بالضرورة أو تحليل ما علمت حرمته بالضرورة. قال الله تعالى ﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة﴾ وقال رسول الله ﷺ (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم.

 

قال المؤلف رحمه الله: (والدعوى الباطلة) بأن يدعي على شخص ما ليس له اعتمادا على شهادة الزور مثلا. والزور يعني الكذب.

الشرح أن من جملة معاصي اللسان الدعوى الباطلة كأن يدعي على شخص ما ليس له اعتمادا على شهادة الزور أو على جاهه .

 

قال المؤلف رحمه الله: (والطلاق البدعي وهو ما) أي الطلاق الذي (كان) أي حصل من الزوج (في حال الحيض) أي في حال كون زوجته حائضا (أو) الطلاق الحاصل منه (في طهر جامع فيه) زوجته.

الشرح من معاصي اللسان الطلاق البدعي وهو أن يطلق امرأته في طهر جامعها فيه أو في حيض أو نفاس وقد تقدم بيانه. ومع حرمة ذلك فإن الطلاق يقع فيه (بلا خلاف، وينقسم الطلاق من حيث موافقته أو مخالفته للسنة أي للشريعة، إلى ثلاثة أنواع طلاق سني وطلاق بدعي وطلاق لا سني ولا بدعي. فالنوع الأول أي السني، هو أن يطلق زوجته في طهر لم يجامعها فيه، والنوع الثاني أي البدعي، هو ما تقدم شرحه، والثالث أي لا سني ولا بدعي، وهو طلاق الصغيرة التي لم تحض بعد، والآيس التي انقطع عنها دم الحيض، والحامل. وقولنا “سني” لا يعني أن له ثوابا في الطلاق على الإطلاق، وإنما المعنى أنه وافق الحال التي أذن فيها رسول الله ﷺ أن يوقع الطلاق فيها)           

 

قال المؤلف رحمه الله: (والظهار وهو أن يقول) الرجل (لزوجته أنت علي كظهر أمي) أو بطنها أو يدها (أي لا أجامعك) كما لا أجامع أمي وهو من الكبائر لما فيه من الإيذاء للزوجة.  

الشرح أن من معاصي اللسان الظهار وهو أن يقول لزوجته ولو رجعية أنت علي كظهر أمي وكذلك قوله أنت كيدها أو بطنها لما فيه من إيذاء للمرأة. وهو من الكبائر. ومثل الأم سائر المحارم فلو قال لزوجته أنت علي كظهر أختي أو يدها أو بطنها فهو ظهار محرم. (وحكم الظهار في الشريعة أن الشخص إذا قال لزوجته “أنت علي كظهر أمي” بمعنى أنه كما لا يجوز له أن يقترب من أمه بالجماع والاستمتاع فهو لا يفعل ذلك معها، فهذا في الشريعة يعد ظهارا وهو معصية من الكبائر، وعليه كفارة إن لم يطلق بعده فورا. أما إن طلق فورا فليس عليه كفارة، كمن قال “أنت علي كظهر أمي، طلقتك” فهو في هذه الحالة صادق في كلامه، وقد وقع الطلاق، ولكن قوله هذا لا يجوز لأنه يؤذيها. أما إن قال “أنت علي كظهر أمي” وسكت، فهو يعد راجعا عن كلامه، لأن زوجته ليست عليه كظهر أمه، فإذا أراد أن يجامعها فلا بد من أن يخرج الكفارة. وفي اللغة العامية، لا يستعمل الناس مثل هذا اللفظ، بل يقال بدلا منه “تحرمين علي” أو “أنت حرام علي” أو “علي الحرام من زوجتي” أو “علي الحرام” ويفهم منه الظهار. فإن قصد بذلك الطلاق فهو طلاق، وإن لم يقصد لا الظهار ولا الطلاق، فعليه كفارة يمين. وفي المذهب الحنفي، تعتبر هذه الكلمة شديدة، فمن قال “علي الحرام من زوجتي” فقد وقعت الثلاث طلقات عندهم، لأن الشخص إذا عقد نكاحه عند أبي حنيفة، فإنه يطبق العقد وأحكامه وفق المذهب الحنفي)

 

قال المؤلف رحمه الله: (وفيه كفارة) على الزوج (إن لم يطلق بعده) أي بعد الظهار (فورا و) كفارته (هي عتق رقبة) عبد أو أمة (مؤمنة سليمة) عما يخل بالكسب والعمل إخلالا بينا أي ظاهرا (فإن عجز) عن الإعتاق (صام شهرين) هلاليين (متتابعين) وجوبا وينقطع التتابع بيوم (فإن عجز) أيضا عن الصيام (أطعم ستين مسكينا) أو فقيرا (ستين مدا) كل مسكين أو فقير مدا مما يصح دفعه عن زكاة الفطرة أي من غالب قوت البلد، وتكون على الفور.

الشرح يترتب على الظهار إن لم يتبعه الزوج بالطلاق فورا الكفارة وحرمة جماعها قبل ذلك (معناه إذا قال لزوجته “أنت علي كظهر أمي أنت طالق”، فليس عليه كفارة ولكنه وقع في المعصية لأنه نطق بالظهار إلا أنه لم يلزم بالكفارة لأنه طلق فورا بعد الظهار. أما إن لم يطلق فورا وبقي زوجها، فإن الكفارة تثبت في حقه، ويلزمه إخراجها قبل أن يعاود الجماع). وكفارته إحدى ثلاث خصال على الترتيب. الأولى إعتاق رقبة مسلمة أي نفس مملوكة عبد أو أمة (كبيرا أو صغيرا، ولكن يسن أن يكون بالغا للخروج من الخلاف، لأن بعض الفقهاء اشترطوا البلوغ) سليمة عما يخل بالعمل والكسب إخلالا بينا (كأن يكون لا يستطيع المشي أو أعمى، أما إن كان فيه أمور لا تخل بالعمل، فهذا لا يؤثر، كأن يكون أصلع أو أقرع، ولكن لابد أن ينوي في قلبه أنه يعتقه عن كفارة الظهار، فيقول له “أعتقتك، أنت حر” وينوي في قلبه أنه يعتقه عن كفارة الظهار. فإن لم يكن يملكه ويستطيع أن يشتريه، فعليه أن يشتريه ويعتقه، فهذه هي كفارة الظهار. فإن لم يكن لديه عبد، أو لم يكن معه مال يكفي لشرائه، أو لم يجد فإنه يصوم شهرين هلاليين متتابعين كما سيأتي ذكره) والثانية صيام شهرين متتابعين أي إن عجز عن إعتاق الرقبة وقت الأداء (والعبرة في صيام الأشهر هي بالأشهر القمرية) وينقطع التتابع بفوات يوم من الشهرين (فإذا أفطر ولو يوما واحدا، كأن يصيبه مرض يجعله غير قادر على الصيام، وجب عليه إعادة الصيام من البداية. فلا بد أن يكون الشهران متتابعين بدون انقطاع في أيامهما) والثالثة إطعام ستين مسكينا أو فقيرا كل مسكين مدا مما يصح دفعه عن زكاة الفطرة فلا يصح دفعها لواحد بعينه كل يوم ويصح أن يجمع الستين في ءان واحد ويضعها بينهم فيملكهم.

(وليس شرطا أن يقول لهم “هذه كفارة” بل يمكنه أن يخاطبهم جميعا بقوله “ملكتكم هذا القمح” ثم هم يقتسمونه فيما بينهم، أو يسامح بعضهم بعضا. ولا يجوز له أن يجامع زوجته قبل أن يدفع الكفارة. وهذه الكفارة تؤدى على الترتيب وليس بالتخيير ككفارة اليمين، فإن كفارة اليمين تؤدى بالتخيير، وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم كإعطاء قميص أو ما يسمى “تي شيرت” لكل واحد من العشرة، أو تحرير رقبة مسلمة، فمن لم يجد، فعليه صيام ثلاثة أيام، وهذه الثلاثة أيام لا يشترط أن تكون متوالية، ولا يشترط أن يؤديها فورا بعد الحنث. فرق بين كفارة الظهار وكفارة اليمين)

 

قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي ومن معاصي اللسان (اللحن) أي مخالفة الصواب (في) قراءة (القرءان بما يخل بالمعنى أو) بما يخل (بالإعراب) فهو حرام أيضا (وإن لم يخل بالمعنى) ولا بد لكل مسلم من قراءة الفاتحة في الصلاة على الصحة.

الشرح من معاصي اللسان أن يقرأ القرءان مع اللحن ولو كان لا يخل بالمعنى ولم يغيره لكن تعمده (كالذي يقول “الحمد لله”، هذا لا يغير المعنى، أما اللحن الذي يغير المعنى كأن يقول “أنعمت”، ففي الحالين إن تعمد فهو حرام عليه)، ويجب إنكار ذلك عليه فإنه يجب تصحيح القراءة إلى الحد الذي يسلم فيه من تغيير الإعراب والحرف ومن قطع الكلمة بعضها عن بعض، وجوبا عينيا بالنسبة للفاتحة ووجوبا كفائيا بالنسبة لغيرها (أي يجب تصحيح قراءته للفاتحة وجوبا عينيا لأنه إن لم يحسن تقويم لسانه فحرف الإعراب لم تصح صلاته لأن الرسول ﷺ قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فيجب صرف جميع الوقت الذي يمكنه لتحصيل تصحيح الفاتحة فإن قصر بحيث لم تصح قراءته للفاتحة عصى ولزمه قضاء صلوات المدة التي أمكنه التعلم فيها فلم يتعلم.

فائدة: قال رسول الله ﷺ الماهر بالقرءان مع الكرام البررة، والذي يقرأ القرءان وهو عليه شاق ويتعتع فيه، له أجران (رواه مسلم). والماهر هو الذي يكثر قراءة القرءان ويجيدها بدون مشقة، لأن الله سهله عليه، أما من يقرأ ويصحح قراءته مع مشقة، فهذا له أجران، أجر القراءة وأجر المشقة. وأما الماهر فهو مع الملائكة البررة، ومعنى ذلك أنه أعلى درجة من الذي يقرأ مع المشقة. وهذا الحديث لا يعني أن للشخص أن يقرأ القرءان مع الغلط والخطأ كما قد يتوهم بعض الناس.

تنبيه: الذى يقرأ القرءان قراءة صحيحة من غير تلق من أحد فلا ثواب له.

 

قال المؤلف رحمه الله: (والسؤال للغني) أي للشخص المكتفي (بمال) بأن كان مالكا ما يكفيه لحاجاته الأصلية (أو) كان قادرا على تحصيل ذلك بسبب (حرفة) كسبها حلال.

الشرح من جملة معاصي اللسان أن يسأل الشخص المكتفي بالمال أو الحرفة بأن كان مالكا ما يكفيه لحاجاته الأصلية أو كان قادرا على تحصيل ذلك بكسب حلال وذلك لحديث (لا تحل المسألة (أي الطلب، الشحاذة) لغني (أي من عنده كفايته) ولا لذي مرة سوي) رواه أبو داود والبيهقي. والمرة هي القوة أي القدرة على الاكتساب والسوي (هو) تام الخلق (أي من يستطيع أن يعمل وليس فيه علة تمنعه من العمل. من كان غنيا بمال، أي كان عنده ما يكفيه لحاجاته الأصلية، أو غنيا بحرفة، أي أنه يعمل كل يوم ويحصل ما يكفيه لحاجاته الأصلية، كمن كان حدادا أو نجارا، وهذا مثال، فقد يكون طبيبا أو مهندسا، فهذا يقال له في الشرع “غني” أي مكتف. وهذا الشخص لا يجوز له أن يشحذ أي أن يسأل الناس المال، فمثلا إذا قال غني لآخر “أعطني قميصا” أو “أعطني مائة دولار”، فهذا يسمى شحاذة. أما إذا ذهب إلى بيت صديقه وقال له “اصنع لنا الشاي” فهذا شيء خفيف ويجوز، أما طلب مائة دولار فهو ثقيل. وإذا أراد هذا الغني تحصيل مثل هذا المبلغ ولم يكن معه مال في يده، فليشتر بالذمة، أي يقول “اشتريت منك هذا بمبلغ كذا وسأدفعه في وقت كذا” أو يقول “أقرضني كذا”، أما أن يشحذ فحرام عليه. وفي صحيح البخاري أن الذي يفعل ذلك يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وذلك لأنه أراق ماء وجهه في الدنيا بالشحاذة، فكان عقابه يوم القيامة مناسبا لذلك. فيوم القيامة، هذا الوجه الذي قابل به الناس ليسألهم، موهما إياهم أنه محتاج مع كونه غنيا، لا يكون عليه مزعة لحم. أما من كان من أهل الفقر وليس له سبيل لكفاية حاجاته إلا بالسؤال فسأل، فلا إثم عليه، وإن صبر وتعفف فهو خير له. وقد مدح الله في القرءان فقراء المهاجرين الذين كان الناس يحسبونهم من التعفف أغنياء، فقال تعالى ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف﴾)

مسألة مهمة: البعض يملك من المال ما يكفيه، ولكنه يتظاهر بالفقر الشديد ليعطف الناس عليه، فيجمع ويأخذ المال منهم على وجه الصدقة والإحسان، فيكون ذلك حراما عليه وعذابا له في الآخرة. فمن كان عنده ما يكفيه وأخفاه وتظاهر بالفقر حتى يرحمه الناس ويعطوه، فهو يستحق عذابا أليما في الآخرة. الصحابي الذي قال فيه النبي ﷺ كية أو كيتان من النار كان يعيش مع أهل الصفة، وهم الفقراء في المدينة الذين كانوا يقيمون في ناحية من مسجد الرسول ﷺ وكان أهل المدينة يأتون إليهم بالصدقات. فلما مات هذا الصحابي، وجد معه دينار أو ديناران، فقال النبي ﷺ كية أو كيتان من النار، ومعناه أنه يعذب على هذا، لأنه كان يخفي ماله ويوهم الناس أنه فقير، وعلى هذا الوجه لا يرضى الناس أن يأخذ مالهم. أما الهدية فهي شيء آخر، فليس عليه ذنب إن أخذها. وقد روى عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ أنه علمه أن لا يعلق قلبه بالمال الذي في أيدي الناس، وقال فإن أحد أعطاك بطيب نفس فخذ. الرسول ﷺ قال له خذ.   

 

قال المؤلف رحمه الله: (والنذر بقصد حرمان الوارث) من التركة وهو نذر باطل، يحرم هذا النذر ولا يصح أي لا يثبت كأنه ما نذر أما لو لم يكن قصده بالنذر حرمان الوارث فلا يحرم.

الشرح أن من معاصي اللسان أن ينذر الرجل نذرا يقصد به أن يحرم وارثه (كأن ينذر ماله قبل الوفاة لشخص غير الوارث ويشهد على ذلك، ليطالب هذا الشخص بالمال عند وفاة صاحب المال، مستعينا بالشهود ليحكم له القاضي بذلك، ويكون قصد صاحب المال من هذا الأمر حرمان الوارث، فلو وقع ذلك من شخص لم يصح ذلك النذر. ومثله أن ينذر أمواله لبناته لأنه ليس له أولاد ذكور، حتى لا يرث إخوته من هذا المال، فإن هذا حرام والنذر غير ثابت) ولا يصح ذلك النذر، أما لو لم يكن قصده بالنذر حرمان الوارث فلا يحرم. (أما لو كان واحد عنده مال وأحسن إليه إنسان فأعطاه ماله مكافأة له، فهذا لا يحرم لأنه لا يقصد بذلك حرمان الوارث. أما العطية للأولاد، فإذا أحب الأب أن يعطي بعض أولاده شيئا وحرم البقية، فإن كان هذا من غير سبب أو عذر فهو مكروه. الإمام الشافعي قال “صح لكنه مكروه” لأن هذا الفعل قد يعرضهم للخصومة فيما بينهم وقد يوصلهم إلى ما لا تحمد عقباه، فلا ينبغي للشخص، أبا كان أو أما، أن لا يساوي بين أولاده في العطية إلا لعذر، كأن يكون واحد من أولاده قد أنفق عليه زيادة عن النفقة الواجبة كثيرا من ماله بخلاف بقية الإخوة، ثم صار للوالد مال، فأحب أن يكافئ ذلك الولد مقابل ما أنفق عليه، فهذا يجوز. مرة، واحد قال للنبي ﷺ أريد أن أشهدك على مال أعطيه لولدي، فقال هل لك غيره من الأولاد؟ قال “نعم” فقال أكل أولادك أعطيت مثله؟ قال “لا”، فقال فأشهد غيري، فلم يرض النبي ﷺ أن يشهد على ذلك. لذا قال الشافعي “لو كان حراما، ما قال له النبي ﷺ أشهد غيري، ولكن فعله ﷺ يدل على أنه مكروه، لأنه قال أنا لا أشهد، أشهد غيري على هذا. فالعطية شيء جائز، ولكن النبي ﷺ طلب من الأب أن يسوي بين أولاده حتى في القبل)   

 

قال المؤلف رحمه الله: وترك الوصية بدين أو عين لا يعلمهما غيره

الشرح من معاصي اللسان ترك الوصية بدين على الشخص أو عين لغيره عنده بطريق الوديعة أو نحوها فيجب على من عليه أو عنده ذلك أن يعلم به غير وارث يثبت بقوله ولو واحدا ظاهر العدالة إن خاف ضياعه بموته أو يرده حالا خوفا من خيانة الوارث فإن علم بها غيره كانت الوصية مندوبة. ويشمل ما ذكر ما كان دينا لله كالزكاة.

(من كان عليه ديون أو عنده أمانات وخشي أن تضيع هذه الأمانات أو الديون إن مات فإما أن يعلم أناسا يثق بهم من غير ورثته بأن لفلان عندي كذا أو أن يكتب وصية بذلك، ففي هذه الحالة الوصية واجبة، فإن تركها عصى الله تعالى. أما إن لم يكن كذلك كإن كان عندما تم البيع أو عندما أودعه الوديعة يوجد أناس كأن كان هناك خمسة أو ستة شهود مثلا فالوصية بهذه الحال تكون مستحبة وليست فرضا، لذلك قال ﷺ ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. رواه البخاري، ومعناه أن كتابة الوصية أمر حسن. لكن متى تكون الوصية واجبة؟ إن خشي ضياع الأمانة أو خشي أن تضيع الديون، ففي هذه الحال إما يوصي وإما يرد فورا)

 

قال المؤلف رحمه الله: (والانتماء) أي وأن ينتمي الولد (إلى غير أبيه أو) أن ينتمي المعتق وهو الذي أعتق (إلى غير مواليه) الذين أعتقوه.

الشرح من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن ينتمي الرجل إلى غير أبيه (كأن يقول أنا ابن فلان وهو ليس ابنه قال رسول الله ﷺ من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة حرام عليه رواه البخارى، معناه لا يدخلها مع الأولين إنما يدخلها بعد سبق عذاب إن لم يعف الله عنه) أو أن ينتمي المعتق إلى غير مواليه أي الذين هم أعتقوه فلهم عليه ولاء عتاقة لأن في ذلك تضييع حق (لأن العتق يثبت به شرعا أحكام، ومنها أن المعتق يرث المعتق إن لم يكن له ورثة من الأقارب، فإذا ادعى هذا المعتق أن شخصا آخر أعتقه، ضاع هذا الحق. وكذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر أنه يكون ولي معتقته في النكاح إن لم يكن لها ولي من أقاربها، فلو سمت هذه المعتقة شخصا آخر غير معتقها على أنه مولاها المعتق، ضاع هذا الحق). روى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله ﷺ قال (من ادعى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله). (وهذا دليل على أنه كبيرة من الكبائر)

 

قال المؤلف رحمه الله: (والخطبة على خطبة أخيه) في الإسلام أي أن يخطب الرجل امرأة (أي يطلبها للزواج) وقد كان قد سبقه مسلم بخطبتها وأجيب بالقبول ممن يعتبر قبوله من غير إذن الخاطب الأول وقبل إعراضه. الخطبة بكسر الخاء هي الوعد بالتزويج.

الشرح من معاصي اللسان أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أي أخيه في الإسلام. وإنما يحرم ذلك بعد الإجابة ممن تعتبر منه من ولي مجبر (وهذا بالنسبة للبكر، وليس المراد بالمجبر هنا المكره بضرب أو نحوه، إنما المراد من له إجراء عقد نكاح البكر على كفء لها من غير اشتراط إذنها، وهما الأب والجد فقط) أو منها (وهذا بالنسبة للثيب)، أو منها ومن ولي (وهذا بالنسبة للبكر مع غير ولي مجبر وبالنسبة للثيب) أي بدون إذن الخاطب الأول (الولي في النكاح له ترتيب يذكره الفقهاء، أبوها، فإن لم يكن أبوها، فجدها، فإن لم يكن هناك لا أب ولا جد، تنتقل الولاية إلى غيرهما من العصبات على الترتيب: الأخ، فابن الأخ، فالعم، فابن العم، فإن لم يكن أحد من أوليائها ولا من عصباتها، فيجري الحاكم العقد، والمقصود بالحاكم هنا القاضي الشرعي. ثم إن كان الولي مجبرا، فلا يشترط أن توكله البكر لأن له إجبارها على الزواج بمن هو كفء لها، ولكن الأفضل والأحسن أخذ إذنها. أما الثيب العاقلة أي من تزوجت من قبل ثم مات زوجها أو طلقت، فلا يجوز للولي المجبر أن يزوجها إلا بإذنها. والولي المجبر هو الأب والجد فقط، أما إذا كان الولي هو الأخ فلا بد أن تقول البكر والثيب وكلتك في تزويجي بفلان، فالثيب لا يعقد النكاح عليها إلا بإذنها مطلقا. ففي الحال التي يجوز فيها للأب إجبارها، إذا جاء شخص إلى أبيها فخطبها، فقبل الأب واتفقا على الأمر، لا يجوز أن يأتي شخص آخر ويقول للأب افسخ الخطبة وأخطبني أنا، فهذا يقال له الخطبة على خطبة أخيه. وكذلك في الحال التي لابد فيها من إذنها مع إذن الولي، إذا جاء شخص وتحدث معها ومع وليها، ووافقا على خطبته، فلا يجوز بعد ذلك لأحد آخر أن يأتي ويقول افسخوا الخطبة وأخطبوني) وذلك لما في الخطبة على خطبة أخيه من الإيذاء وما تسببه من القطيعة (بين المسلمين) فأما إن أذن فلا حرمة في ذلك وكذلك إن أعرض عنها. وقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له) (يعني إذا ترك الخاطب الأول يجوز وإذا أذن له يجوز، وإلا فلا).

 

قال المؤلف رحمه الله: (والفتوى) بمسائل الدين (بغير علم) بذلك.

الشرح من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن يفتي الشخص بفتوى بغير علم (ولو صادف جوابه الصواب، فذنبه أنه أفتى بغير علم). قال الله تعالى ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا﴾ أي لا تقل قولا بغير علم (فهذه الآية تنهى عن القول بغير علم، وتنهى عن تحريم شيء بغير دليل، كما تنهى عن إيجاب شيء بغير دليل، ويحرم على الإنسان أن يحكم على أمر بأنه سنة أو واجب أو محرم من غير دليل) فمن أفتى فإن كان مجتهدا أفتى على حسب اجتهاده (أي إن تحلى بصفات المجتهد، ومنها أن يكون حافظا لآيات الأحكام وأحاديثها، عارفا بلغة العرب وقواعدها، مدركا للمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وأن يكون مسلما، مجتنبا للكبائر، غير مصر على الصغائر، محافظا على مروءة أمثاله، وأن يكون وقاد القريحة، فمثل هذا إذا أفتى يفتي على حسب اجتهاده) وإن لم يكن مجتهدا فليس له أن يفتي إلا اعتمادا على فتوى إمام مجتهد أي على نص له أو وجه استخرجه أصحاب مذهبه من نص له، ولا يغفل كلمة لا أدري (وقد روى إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن مالك عن محمد بن عجلان قال إذا أغفل العالم لا أدري فقد أصيبت مقاتله، ومعناه هلك الذي يجيب في كل شيء ولا يقول لا أدري. ومقاتل جمع مقتل، وهي المواضع التي إذا ضرب فيها جسد الإنسان يسرع إليه الموت، وهي مواضع معروفة عند أهل الخبرة. فشبه محمد بن عجلان رحمه الله إغفال كلمة لا أدري بإصابة الشخص في مقاتله) فقد جاء عن مالك رضي الله عنه أنه سئل ثمانية وأربعين سؤالا فأجاب عن ستة عشر وقال عن البقية (لا أدري) اﻫ روى ذلك صاحبه هيثم بن جميل (لتأكيد عدم الفتوى بغير علم، ذكر الشيخ رحمه الله ما ورد عن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن بعض المسائل فقال لا أدري. وفسر ذلك بعض العلماء بأن مالكا لم يستحضر تلك الساعة الاجتهاد فيها، أي لم يعمل فكره في الاجتهاد حتى يصل إلى جوابها، ولو اشتغل باستخراجها لاستطاع. المجتهد يحتاج إلى تأمل وإعمال فكره، فلا يدرك أجوبة المسائل في اللحظة، بل يحتاج أحيانا إلى وقت لاستخراج الجواب. وقد جاء رجل إلى الإمام مالك فسأله عن مسألة، فقال مالك لا أدري. فقال السائل الآن إذا رجعت إلى أهلي، ماذا أقول لهم؟ فقال مالك تقول لهم جئت إلى مالك فسألته فقال لي لا أدري. هكذا بكل بساطة). وروي عن سيدنا علي أنه سئل عن شىء فقال (وابردهـا على الكبد أن أسـأل عن شىء لا علم لي به فأقول لا أدري) اﻫ رواه الحافظ العسقلاني في تخريجه على مختصر ابن الحاجب الأصلي (ولا عبرة بفتاوى كثير من الناس الذين يقولون رأينا كذا وكذا ممن لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد المطلق، ولا إلى درجة أصحاب الوجوه في المذهب، فإنه إذا كان بعض أقوال المجتهدين لا تعتبر لمخالفتها النصوص الصريحة، فكيف بقول من لم يبلغ درجة الاجتهاد، ممن تسور مرتبة ليس أهلا لها؟ نسأل الله أن يحفظنا من ذلك. وقد قال بعض الجهال الاجتهاد سهل هذه الأيام، يشتري الإنسان صحيح البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة، وعنده المصحف، فيستحصلها ويجتهد. وهذا كمثل من يقول أشتري خمسة خيول من أفضل الخيول، فأصبح فارس البلد! ومنشأ هذا الزلل الجهل والعجب والغرور. نسأل الله العصمة من ذلك. فينبغى من المسلم قبل أن يجيب فى مسألة أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه فى الآخرة ثم يجيب)

 

قال المؤلف رحمه الله: (وتعليم) أي أن يعلم غيره (وتعلم) أي أن يتعلم هو كل (علم مضر) شرعا كعلم السحر والشعوذة (لغير سبب شرعي) يبيح له ذلك.

الشرح من معاصي اللسان تعليم الشخص غيره كل علم مضر شرعا وتعلم الشخص ذلك لأن من العلم ما هو محرم كالسحر والشعوذة وعلم الحرف الذي يقصد لاستخراج الأمور المستقبلة أو الأمور الخفية مما وقع (يقسمون الحروف إلى أربعة، ثم يقولون من اسمه مركب من كذا وكذا يصلح له كذا وليحترز من كذا من الغيبيات وهذا يسمونه «علم الحرف» وهو حرام) وقد عد هذا العلم من العلوم المحرمة السيوطي وغيره. أما السحر فمنه ما يكون كفرا، ومنه ما هو دون ذلك، لكن إن لم يصل إلى درجة الكفر فهو كبيرة من الكبائر، كمن تعلمه ليعمل به أو علمه لمن يعمل به. أما إذا كان السحر لا يمكن تعلمه ولا تعليمه إلا بارتكاب كفر، فهو كفر مخرج من الملة. كذلك من العلوم المحرمة «الفلسفة» وهي ما كان على رأي أفلاطون وأرسطو وأمثالهما مما يؤدي إلى التشكك في العقائد وما ينافي الوحي والشرع. ومن العلم المحرم علم التنجيم الذي فيه الحكم على المستقبل والتكهن بحوادث الغد، اعتمادا على تحركات النجوم ومواقعها. قال رسول الله ﷺ ليس منا من تسحر أو تسحر له، أو تكهن أو تكهن له رواه الطبراني، أي ليس منا من عمل السحر، وليس منا من طلب أن يعمل السحر لأجله، وليس منا من تكهن أو طلب من الكهنة والمنجمين أن يخبروه عن المفقود أو المسروق ونحوه كمن يقول “سرق لي كذا، من سرقه؟” أو “فقد لي شيء، أين هو؟” أو الاستفسار عن المستقبل كمن يسأل “ماذا سيحدث لي في هذا الأمر في المستقبل؟”، وكل من يفعل ذلك أو يطلبه فهو مرتكب لكبيرة من أكبر الذنوب عند الله تبارك وتعالى)

 

قال المؤلف رحمه الله: (والحكم بغير حكم الله) وشرعه الذي أنزله على رسوله ﷺ فإن قرن ذلك بجحد حكم الله أو تفضيل غيره عليه أو مساواته به كان كفرا والعياذ بالله وإلا فهو كبيرة.

الشرح من معاصي اللسان الحكم بغير حكم الله أي بغير شرعه الذي أنـزله على نبيه ﷺ قال الله تعالى ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ الآية. والحكم بغير ما أنزل الله من الكبائر إجماعا (قال الله تعالى ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ فالحكم الذي جاء في القرءان هو الصواب وكل حكم يخالفه فهو باطل، والحكم بغير ما أنزل الله على نبيه محمد ﷺ من الكبائر بإجماع العلماء، وذلك إذا لم يعتقد الحاكم أن هذا الحكم أفضل من القرءان أو مساو له، أما إذا اعتقد أن الحكم المخالف للشرع يساوي حكم القرءان أو أفضل منه فهذا كفر، ولذلك فإن مجرد الحكم بغير الحكم الشرعي ليس كفرا كما يقول سيد قطب وجماعته، إذ إنهم يزعمون أن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله يعتبر كفرا يخرج الإنسان من الملة). وأما الآيات الثلاث التي (نزلت في اليهود) في (سورة) المائدة وهي ﴿ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ والتي فيها ﴿ ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ والتي فيها ﴿ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾ فقد روى مسلم عن البراء بن عازب أن اليهود حرفوا حكم الله الذي أنزله في التوراة حيث حكموا على الزاني المحصن بالجلد والتحميم (وهو الدهن بالفحم) وقد أنزل الله الرجم في التوراة فنـزلت فيهم الآيات المذكورة (لأنهم كانوا يبدلون حكم الله ويعتبرون هذا التبديل حقا، فكان الحكم في التوراة أن الزاني المحصن يرجم، كما هو الحكم في شريعة سيدنا محمد ﷺ لكن اليهود كانوا إذا زنى الشريف منهم يركبونه على الدابة عرضا ويكتفون بالتحميم، ويجعلون هذا حد الشريف، أما الضعيف المحصن إذا زنى فإنهم يقيمون عليه الحد برجمه، فنزلت هذه الآيات فيهم. وفي يوم مر رسول الله ﷺ برجل يهودي محمم مجلود، فرآه ﷺ وسأل واحدا منهم “هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟” فما أرادوا أن يجيبوا النبي ﷺ بالحكم الذي أنزله الله في التوراة الأصلية، فسأل واحدا من علمائهم وقال “أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟” فقال “لا، ولولا أنك نشدتني بهذا ما أخبرتك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم”. هكذا فعل اليهود، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم هذه الآيات الثلاث) ومعنى الآيات أن من جحد حكم الله أو رده فقد كفر، وليس في الآية الأولى تكفير الحاكم المسلم لمجرد أنه حكم بغير الشرع فإن المسلم الذي يحكم بغير الشرع من غير أن يجحد حكم الشرع في قلبه ولا بلسانه وإنما يحكم بهذه الأحكام العرفية التي تعارفها الناس فيما بينهم لكونها موافقة لأهواء الناس متداولة بين الدول وهو غير معترف بصحتها على الحقيقة ولا معتقد لذلك وإنما غاية ما يقوله إنه حكم بالقانون، لا يجوز تكفيره أي اعتباره خارجا من الإسلام. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ءاية ﴿ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ليس الذي تذهبون إليه الكفر الذي ينقل عن الملة بل كفر دون كفر اهـ أي ذنب كبير وهذا الأثر عن ابن عباس صحيح ثابت رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافق على تصحيحه الذهبي. وهذا التفسير للآية يشبه تفسير الحديث الذي رواه البخاري أنه ﷺ قال عن قتال المسلم إنه كفر اهـ (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، أي كفر دون كفر، معناه معصية كبيرة) ومن عقائد أهل السنة المتفق عليها أنه لا يكفر مسلم بذنب إن لم يستحله وإنما يكفر الذي يستحله أي على الوجه المقرر عند أهل العلم فإن المسألة يدخلها تفصيل فإنه إن استحل معصية معلوما حكمها من الدين بالضرورة كأكل لحم الخنـزير والرشوة فهو كفر أي خروج من الإسلام وإن لم يكن حكمها معلوما من الدين بالضرورة لم يكفر مستحلها إلا أن يكون إستحلاله من باب رد النص الشرعي بأن علم بورود الشرع بتحريمها فعاند فاستحلها لأن رد النصوص كفر كما قاله النسفي في عقيدته المشهورة والقاضي عياض والنووي وغيرهم. فإذا عرف ذلك علم أن ما يوجد في مؤلفات سيد قطب من تكفير من يحكم بغير الشرع تكفيرا مطلقا بلا تفصيل لا يوافق مذهبا من المذاهب الإسلامية، وإنما هو من رأي الخوارج الذين قاعدتهم تكفير مرتكب المعصية، فقد ذكر الإمام أبو منصور البغدادي أن صنفا من الطائفة البيهسية من الخوارج كانت تكفر السلطان إذا حكم بغير الشرع وتكفر الرعايا من تابعه ومن لم يتابعه، ذكر ذلك في كتابه تفسير الأسماء والصفات، فليعلم أن سيد قطب ليس له سلف في ذلك إلا الخوارج (أي إن سيد قطب لم يوافق في كلامه أئمة المذاهب الأربعة ولم يوافق أحدا من الأئمة المعتبرين، إنما وافق الخوارج. يقول سيد قطب في كتابه المسمى “في ظلال القرآن” إن الذي يحكم بغير الشرع ولو في قضية واحدة يكون اعتدى على ألوهية الله. معنى كلامه أن الذي يحكم بغير شريعة الله ولو في مسألة واحدة يكون كأنه قال (أنا الله) وهذا غير صحيح لأن الرسول ﷺ لم يكفر الذي حكم بغير الشريعة ولو في مسألة واحدة. فسيد قطب ومن اتبعه هم على مذهب الخوارج الذين يقولون بكفر الحاكم والمحكوم الذي يعيش تحت ظل هذا الحكم ولا يثور عليه، لذلك سيد قطب قال ارتدت البشرية بجملتها حتى الذين يرددون على المآذن كلمات (لا إله إلا الله) في مشارق الأرض ومغاربها، بلا مدلول ولا واقع اهـ. فكلام سيد قطب مخالف للقرءان والسنة والإجماع)

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/ogFQgxc3qX8

للاستماع إلى الدرس:   https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-37