#36 9-9 سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام
لما عرّفَ يوسفُ عليه السلامُ إخوتَهُ بنفسِه سألهم عن حالِ أبيه الذي طالَ الفِراقُ بينَهما واشتدَّ بهِ الشوقُ والحنينُ للقائِه فقالوا له: قد هَزُلَ جِسمُه ولانَ عظمُه وذهبَ بصرُه من شدةِ البكاءِ والحزن فأخذت يوسفَ عليه السلام الشفقةُ والرحمةُ على أبيه يعقوب، ثم أعطاهم قميصَه وهو الذي يلي جَسدَه الشريف، وأمرَهم أن يذهبوا به فيَضعوهُ على عيني أبيه فإنّه يرجِعُ إليه بصرُه ويعودُ بصيرًا كما كان سابقًا وهذا من خَوارِقِ العادات ودلائِلِ النبوة، ثم أمرَهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين إلى ديارِ مِصرَ الخَيِّرة. وكان يوسفُ عليه السلام لَمّا أعطاهُم قميصَه ليَذهبوا به إلى أبيه، قال له أخوهُ يهوذا: أنا أذهبُ بهِ إليه لأني ذهبتُ إليهِ بالقميصِ مُلَطخًا بالدم وأخبرتُه أن يوسفَ أكلَه الذئب، فأنا أُخبِرُه أنه حيّ فأُفرِحَه كما أحزنتُه، وكان هو البشير. لم يَطُلِ الانتظارُ حتى جاءَ البشيرُ يعقوبَ عليه السلام فبشرَهُ بلقاءِ يوسفَ عليه السلام، ثم ألقى هذا البشيرُ قميصَ يوسفَ على وجهِ أبيه فعادَ مُبصِرًا بعينيه كما كانَ سابقًا بعدما كان ضريرًا، ثم قال لأولاده: ألم أقل لكم إني أعلمُ من سلامةِ يوسف ما لا تعلمون وأنَّ الله سيجمَعُ شملي بيوسف. ولما اجتمعَ عندَ نبيِ الله يعقوبَ عليه السلام أولادُه ورأوا قميصَ يوسفَ وخبرَه طلبوا من أبيهم أن يستغفِرَ لهمُ الله عزّ وجلّ عمّا ارتكبوا وفعلوا من الإساءة في حق أخيهم يوسف وأبيهم. فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وأخبرَهم أنه سوف يستغفرُ ربَه لهم إنه هو الغفور الذي يغفرُ الذنوبَ الرحيمُ بعبادِه. ورُوِيَ أنه بعثَ يوسفُ عليه السلام معَ البشيرِ إلى يعقوبَ جَهازًا ومِائتي راحلة وسألَه أن يأتيَه بأهلِه وأولادِه، فلمّا ارتَحَلَ يعقوبُ عليه السلام هو وأولادُه وجميعُ أهلِه من بلادِ الشامِ في فلسطين ودنا من بلادِ مصر للقاءِ يوسفَ الصدّيق ملكِ مصر، استقبلَه يوسفُ فخرجَ عليه السلام في أربعة ءالافٍ من الجُند وخرجَ معَهم أهلُ مصر، وقيلَ إنَّ الملِكَ العام خرج معهم أيضًا، وعندما جاءَ يعقوبُ عليه السلام مع أهلِه وأولادِه إلى مصر دخلوا على يوسفَ عليهِ السلام فآوى إليهِ أبويه واجتَمع بهما خُصوصًا وحدَهما دونَ إخوتِه، ورحَّبَ بأهلِه جميعًا وقال لهم: ادخلوا مصرَ واستوطنوا ءامنين مُطمئنين، قيل: وكان جُملةُ من قدِم مع يعقوبَ من بنيه وأولادِهم ثلاثةً وستينَ إنسانا، ورفَعَ يوسفُ عليه السلامُ أبويهِ على العرشِ أي أجلسَهُما معه على سريرِ المملكة، ثم خَرّ له أبوه وأمُه وإخوتُه الأحدَ عشَر وسجدوا له سجودَ تحيةٍ واحترام لا سجودَ عبادةٍ وكان هذا السجود للتحيّة جائزًا لهم في شريعتِهم، ولم يزل ذلك معمولًا به في سائرِ شرائِع الأنبياء حتى حرّم الله ذلكَ في شريعةِ نبيِنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال نبيُ الله يوسفُ عليه السلام لأبيه يعقوب: يا أبتِ هذا تأويلُ رُؤيايَ من قَبل، أي إنَّ هذا السجودَ الذي سجدتَه أنت وأمي وإخوتي لي هو تصديقُ وتعبيرُ الرؤيا التي كنتُ رأيتُها من قبل، وقيل: إنّ المدةَ التي كانت بين رؤيا يوسفَ عليه السلام وبينَ تأويلِها وتحقيقِها أربعونَ سنة، ثم قال: وقد أحسنَ بي ربّي إذ أخرجني من السجن، أي بعد الهمِّ والضيقِ والحزنِ وجعلني ملِكًا وحاكِمًا نافِذَ الكلمةِ في الديارِ المصرية حيثُ شئت، وقد جاءَ بكم ربّي بمشيئتِه وقدرتِه من البادية من بعدِ ما أفسدَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي بما فعلوا من تلكَ الأفاعيلِ الخسيسة، إنّ الله هو العليمُ بجميعِ الأمورِ فلا يَخفى عليه شيء. ثم إنّ يوسفَ عليه السلام لما رأى نعمةَ الله عليه قد تمت وشَمْلَه مع أبيهِ وأهلِه قد اجتَمع، أثنى على ربِه بما هو أهلُه واعترَف له بعظيمِ إحسانِه وفضلِه وسألَه أن يتوفاهُ ويُميتَه على الإسلام الذي فيهِ السعادةُ الأبديةُ في الآخِرة. ويقالُ إنَّ يوسفَ عليه الصلاة والسلام عاشَ بعدَ جمعِ شملِه معَ أهلِه ثلاثًا وعِشرينَ سنة، وقيلَ: عاشَ مائةً وعشْرَ سنوات. وكانت وفاتُه عليه السلام بعد مولِدِ جَدِه إبراهيمَ عليه السلامُ بإحدى وسِتينَ وثَلاثِمِائةِ سنة. والله أعلمُ وأحكم. نسأل الله تعالى أن يتقبّل منّا الأعمال الصالحة وأن يزيد أنبياءه شرفا وتعظيمًا. والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وأبدا .