الأحد ديسمبر 7, 2025

 

36#

معاصي اللسان

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي اللسان (وهي أكثر المعاصي التي يفعلها ابن آدم، كما ثبت في الحديث “أكثر خطايا ابن آدم من لسانه“. والحديث صحيح رواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله ﷺ. وليعلم أن كل ما يتكلم به الإنسان إن كان فى حال الجد أو الهزل أو فى حال الرضى أو الغضب يسجله الملكان قال الله تعالى ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ وقال تعالى ﴿إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد﴾ أى الملكان الكاتبان أحدهما قاعد عن اليمين وهو رقيب والآخر عن الشمال وهو عتيد. رقيب يسجل الحسنات وعتيد يسجل السيئات وأحدهما يسجل المباحات ثم تمحى المباحات وتبقى الحسنات والسيئات التى لم يتب منها. من استعمل لسانه فيما نهاه الله عنه فقد أهلك نفسه ولم يشكر ربه على هذه النعمة العظيمة فقد روى الترمذى عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أنه قال يا رسول الله أوإنا مؤاخذون بما ننطق به فقال ﷺ ثكلتك أمك وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم. فاللسان إذا لم يحفظه صاحبه يوقعه فى المهالك إما فى الكفر وإما فى المعصية وإما فى الكلام الذى لا فائدة فيه لذلك أمرنا رسول الله ﷺ بطول الصمت فإنه قال لأبى ذر الغفارى عليك بطول الصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك رواه ابن حبان وقال رسول الله ﷺ من صمت نجا رواه الترمذى. وطول الصمت معناه تقليل الكلام إلا من خير كذكر أو قراءة قرءان أو تعليم الناس علم الدين. فطول الصمت إلا من خير مطلوب لأنه يعين الشخص على أمر الدين وينجى صاحبه من كثير من المهالك فأكثر الكفر يكون بسبب كثرة الكلام. الشيطان إذا رأى المسلم قليل الكلام يتركه أما إذا رءاه كثير الكلام يشتغل به حتى يوقعه فى كفر أو معصية فمن أراد النجاة فلا يتكلم إلا بخير قال رسول الله ﷺ إنك ما تزال سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب عليك أو لك رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت ومعناه ما دام الإنسان ساكتا عن الكلام فهو سالم فإذا تكلم بخير كتب له وإذا تكلم بشر كتب عليه. قال رسول الله ﷺ خصلتان ما إن تجمل الخلائق بمثلهما حسن الخلق وطول الصمت، معناه هاتان الخصلتان فيهما خير كبير فينبغى للإنسان أن يتحلى بهما. وحسن الخلق معناه الإحسان إلى الناس وكف الأذى عن الناس وتحمل أذى الغير)

 

قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي اللسان الغيبة وهي ذكرك أخاك المسلم) صغيرا كان أو كبيرا حيا كان أو ميتا (بما يكرهه) لو سمع سواء كان مما يتعلق ببدنه أم نسبه أم خلقه أم غير ذلك (مما فيه في خلفه) فلو ذكره بما ليس فيه كان بهتانا والعياذ بالله وهو أشد من الغيبة.

الشرح من محرمات اللسان الغيبة، وهي ذكرك أخاك المسلم (ذكرا كان أو أنثى) الحي أو الميت (كبيرا أو صغيرا بما هو فيه في غيبته) بما يكرهه لو سمع، سواء كان مما يتعلق ببدنه أو نسبه أو ثوبه أو داره أو خلقه كأن يقول فلان قصير، أو أحول، أو أبوه دباغ أو إسكاف، أو فلان سيئ الخلق أو قليل الأدب، أو لا يرى لأحد حقا عليه، أو لا يرى لأحد فضلا، أو كثير النوم، أو كثير الأكل، أو وسخ الثياب، أو داره رثة، أو ولده فلان قليل التربية، أو فلان تحكمه زوجته، ونحو ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو بلغه (ولو كان ابن يوم، لأنه لو كان مدركا لكره أن يقال عنه ذلك، كما أن الميت لو كان حيا لكره أن يقال عنه ذلك. وبعض ما مر قد يذكر في غير الحالات التي يكره الشخص ذكره بها، فإنه قد يذكر رثاثة بيت الشخص مدحا له بالزهد والقناعة وخشونة العيش. وأحيانا يكون ذلك من باب المدح، كإذا قيل “دار فلان رثة” أي قديمة، ويقصد بذلك أنه زاهد في الدنيا، غير ملتفت إلى زخارفها، فهنا ليست غيبة. وكذلك لو قيل “فلان ثيابه قديمة”، لأنه لا يهتم بالمظاهر، بل كلما يأتيه مال يصرفه في سبيل الله، فلا يبقى معه مال ليشتري ثوبا جديدا. فهذا يكون في بعض الأحوال مدحا وليس ذما). قال الله تعالى ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه﴾ الآية (معناه تنفير للشخص عن الوقوع في الغيبة، كما أنه يكره وتنفر نفسه من أكل لحم أخيه ميتا). وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال (أتدرون ما الغيبة) قالوا الله ورسوله أعلم قال (ذكرك أخاك بما يكره) قال أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) (البهتان أشد من الغيبة، لأنك تتكلم عنه في خلفه بما لا يرضى وتكذب في ذلك. وكذلك إذا كتبت ولم تتلفظ، ذكرت مسلما بما يكره بما فيه، ولم تتلفظ به، لكنك ذكرته كتابة بما يكره مما فيه، فإن هذه الكتابة كالنطق) وقد اختلف كلام العلماء في الغيبة فمنهم من اعتبرها كبيرة ومنهم من اعتبرها صغيرة والصواب التفصيل في ذلك فإن كانت الغيبة لأهل الصلاح والتقوى فتلك لا شك كبيرة وأما لغيرهم فلا يطلق القول بكونها كبيرة لكن إذا اغتيب المسلم الفاسق إلى حد الإفحاش كأن بالغ شخص في ذكر مساوئه على غير وجه التحذير كان ذلك كبيرة، وعلى ذلك يحمل حديث (إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم) رواه أبو داود فإن هذه الاستطالة كبيرة بل من أشد الكبائر لوصف رسول الله ﷺ لها بأنها أربى الربا أي أنها في شدة إثمها كأشد الربا (المسلم الفاسق حرام أن يغتاب، إلا إذا كان لسبب شرعي، كأن يذكر ليحذر الناس فعله، فهذا يجوز لأنه لسبب شرعي، أما إن كان للتسلية فهو حرام. وأما إذا تكلم الشخص عن شخص في خلفه بما يكره، دون ذكر اسمه ودون أن يعرف السامعون من المقصود، فليس حراما. وليس من الغيبة أن يقال “هذا سعره مرتفع أكثر من سعر فلان” أو “بضاعة فلان أحسن من بضاعة فلان”، أو “فلان أعلم من فلان”). وكما تحرم الغيبة يحرم السكوت عليها مع القدرة على النهي ويحرم ترك مفارقة المغتاب إن كان لا ينتهي مع القدرة على المفارقة. (لأن الرسول ﷺ أمرنا بإنكار المنكر، فإذا كان الشخص مستطيعا أن ينكر الغيبة، فيحرم عليه أن يسكت ويسمعها. وبعض الناس يقول أنا ما تكلمت، ويسكت عن النهي مع قدرته عليه، فهذا يكون شاركهم في المعصية من حيث إنه سكت ولم ينكر المنكر، ولكن معصيته على السكوت لا تصل إلى حد معصية الذي اغتاب غيره. والمسلم في هذه الحالة ينبغي له أن ينكر بطريقة لطيفة، فإن لم ينته وكان لا يستطيع أن يمنعه، فعليه أن يفارق المجلس، لأن بقاءه فيه مع قدرته على المفارقة يعد تشجيعا للمغتاب على معصية الله تبارك وتعالى. وليس كما يفعل بعض الناس؛ يتركونه يغتاب الناس، ثم بعد ذلك يقولون له لماذا تستغيب أخاك؟!، فالأصل أن ينكر عليه في الحال، لا أن يؤخر النهي إلى بعد انتهائه)

وقد تكون الغيبة جائزة بل واجبة وذلك في التحذير الشرعي من ذي فسق عملي أو بدعة اعتقادية ولو من البدع التي هي دون الكفر كالتحذير من التاجر الذي يغش في معاملاته وتحذير صاحب العمل من عامله الذي يخونه وكالتحذير من المتصدرين للإفتاء أو التدريس أو الإقراء مع عدم الأهلية فهذه الغيبة واجبة. ومن الجهل بأمور الدين استنكار بعض الناس التحذير من العامل الذي يخون صاحب العمل احتجاجا بقولهم إن هذا قطع الرزق على الغير فهؤلاء يؤثرون مراعاة جانب العبد على مراعاة شريعة الله. وقد قسم بعض الفقهاء الأسباب التي تبيح الغيبة إلى ستة جمعها في بيت واحد قال من الوافر

تظلم واستعن واستفت حذر     وعرف واذكرن فسق المجاهر

تظلم أي إذا شخص ظلمك وشكوت ظلمه للحاكم ليأخذ حقك منه، فما دمت تتكلم لرفع الظلم فلا بأس عليك.

واستعن أي تستعين على نحو شخص أكل مالك وليس لك القدرة عليه، ولو كان لا يرضى أن تقول ذلك عنه، يجوز لأنك تقوله لمصلحة شرعية. رجل يستعين بقريب له على امرأته أو على جاره أو على رحمه، ففي هذه الحالة يجوز.

واستفت أي إن أتيت عالما لتستفتيه. شخص والده آذاه فجاء إلى القاضي أو المفتي وقال له أبي فعل كذا وكذا، فما الحكم؟. أبو سفيان مرة، زوجته بعد ما أسلمت، قالت للنبي ﷺ يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا ينفق علينا أنا وأولادي الصغار، أيجوز لي أن آخذ من ماله من غير علمه؟ فقال ﷺ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، أي بالقدر الذي يجب لكم مما لا يعطيكم. الرسول ﷺ ما أنكر عليها، لأنها كانت تستفتي.

حذر كأن تحذر من الذي يغش في أمور الدنيا، فإن كان التحذير ممن يغش في أمور الدنيا جائزا، فمن باب أولى التحذير ممن يغش الناس في أمور الدين، كأدعياء المشيخة الذين يروجون الفتاوى الباطلة.

وعرف أي تعرف الشخص بما فيه إذا اقتضت الضرورة. مثلا، شخص أصيب في يده فصار معروفا بـ”المصاب بيده”، فإذا قلت ذاك المصاب بيده، للضرورة، فهذا جائز. كتابعي كان به عرج، كان يروي الحديث ويرضى أن يذكر بذلك، ففي كتب الحديث يقولون عن الأعرج عن أبي هريرة، فهذا جائز. أو إن قلت بنية التعريف فلان الأعمى، لأنه مشهور بذلك، ولا يعرف إلا به، فهذا جائز. أما إذا كان يوجد صفة أخرى يعرف بها، فلا يجوز أن تذكر هذه الصفة.

واذكر فسق المجاهر كأن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، أو ظلم الناس، أو أخذ المكس، أو جباية الأموال ظلما، أو تولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغير ذلك من العيوب، إلا إذا كان لجوازه سبب آخر مما ذكر في السابق.

ومن الجهل القبيح قول بعض الناس حينما تنكر عليهم الغيبة (إني أقول هذا في وجهه) كأنهم يظنون أنه لا بأس إذا اغتيب الشخص بما فيه، وهؤلاء لم يعلموا تعريف الرسول ﷺ للغيبة بقوله (ذكرك أخاك بما يكره) قيل أرأيت يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول قال (إن كان فيه فقد اغتبته) إلى ءاخر الحديث وقد تقدم رواه مسلم وأبو داود.

والغيبة قد تكون بالتصريح (أي بكلام صريح، أي بكلام ليس له معنى إلا ذلك، كأن يقول فلان قليل الأدب) أو الكناية (ككلمة تحتمل معنيين معنى فيه ذم، ومعنى ليس فيه ذم، فهنا يكون الحكم على حسب النية، فإن نوى بها الغيبة، تكون غيبة بالكناية) أو التعريض (مثلا، إذا سألك أحد ما قولك في فلان؟، فلم تذكره بأي كلمة ذم، ولكن قلت الله يصلحنا، الله يرحمنا، الله يعافينا، وأنت تريد بذلك الإشارة إلى أن هذا الشخص ليس على حالة حسنة). ومن التعريض الذي هو غيبة أن تقول إذا سئلت عن شخص مسلم الله لا يبتلينا معناه أنه مبتلى بما يعاب به وأن تقول الله يصلحنا لأنك أردت به التعريض بأنه ليس على حالة طيبة.

 

قال المؤلف رحمه الله: (والنميمة وهي نقل القول) أي نقل قول بعض الناس إلى بعض (للإفساد) كأن يذهب إلى زيد فيقول له عمرو قال عنك كذا ثم يذهب إلى عمرو فيقول له زيد قال عنك كذا بقصد الإفساد بينهما، وقال رسول الله ﷺ (لا يدخل الجنة قتات) رواه البخاري، والقتات النمام، معناه لا يدخلها مع الأولين بل بعد عذاب مع الآخرين إن لم يعف الله عنه.

الشرح النميمة من الكبائر (مطلقا، سواء كانت بين صالحين أو بين اثنين من أهل الكبائر من المسلمين) وهي من جملة معاصي اللسان لأنها قول يراد به التفريق بين اثنين (أو أكثر) بما يتضمن الإفساد والقطيعة بينهما أو العداوة (والمراد هنا ما كان من غير كذب، أي أن ينقل ما قاله كل واحد عن الآخر للإفساد. فإن كان مع الكذب، كان أشد وأعظم إثما) ويعبر عنها بعبارة أخرى وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم (حتى يتباغضا ويتكارها بعد المحبة والألفة، حتى يصيرا عدوين. يقول لهذا “فلان قال فيك كذا وكذا” حتى يبغضه ويعاديه، ثم يذهب إلى الآخر ويقول له “فلان قال فيك كذا وكذا”، ليبغضه ويعاديه. هذه هي النميمة) قال الله تبارك وتعالى ﴿هماز مشآء بنميم﴾ وقال رسول الله ﷺ (لا يدخل الجنة قتات) رواه البخاري. والقتات النمام (ومعنى لا يدخل الجنة أي لا يدخل مع الأولين، لأن المسلمين يوم القيامة سيدخلون الجنة، ولكن بعضهم بلا سابق عذاب، وبعضهم بعد سابق عذاب. فعندما يقول الرسول ﷺ في مسلم عاص “لا يدخل الجنة“، فالمراد لا يدخل مع الأولين بل يدخلها مع الآخرين بعد العذاب إن لم يعف الله تعالى عنه. فهذا دليل على أنه واقع في كبيرة من الكبائر. والقتات هو النمام، والنميمة من أكبر معاصي اللسان) والنميمة والغيبة وعدم التنزه من البول من أكثر أسباب عذاب القبر( والذي لا يتنزه من البول هو كالذي لا ينتظر حتى يظن أنه لا تنزل بعد ذلك قطرة، فالذي لا يصبر ويمشي ويلوث جلده بالبول يستحق عذاب القبر. ولكن النميمة أشد من الغيبة، لأنها تؤدي إلى التقاتل وإحداث قطيعة بين المتحابين. ومن بين الكبائر، للنميمة مرتبة عالية وليست من أقل الكبائر. روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما مر رسول الله ﷺ على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إثم، قال: بلى، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول. ثم دعا ﷺ بعسيب رطب، فشقه اثنين، فغرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، ثم قال لعله يخفف عنهما. فالرسول ﷺ رآهما بحالة شديدة وأنهما يعذبان. وليس من شرط العذاب أن تمس النار جسده، فإن الله جعل عذابا كثيرا غير النار في القبر. والرسول ﷺ رأى ذلك، وبعض المؤمنين الصالحين يكاشفون بعذاب القبر ويرون النعيم. الشيخ محمد بن عبد السلام كان يمر بقبر عالم تقي صالح، فيقف عليه ويقول إنه في نعيم عظيم، لأنه كان يكاشف بذلك. فكان يرى موضع قبره منورا، وأنه موسع، وأنه مملوء بالخضرة وغير ذلك).

تنبيه ليعلم أن قوله تعالى ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ معناه أن الشرك أشد من القتل (أما الفتنة بين اثنين فاسمها نميمة، وهي من كبائر الذنوب، لكن ليست أشد من القتل. فإذا عمل شخص فتنة بين اثنين فاختلفا، فبعد فترة قد يتصالحان، أما إذا قتل مسلما بغير حق فهذا قتل النفس التي حرم الله تعالى، وهو أكبر ذنب بعد الكفر. وكثير من الناس يقرأ الآية ويفهمها على غير وجهها. وفي آية أخرى ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾ المراد بالفتنة هنا الفتنة في الدين، أي الكفر بالله تعالى، وليس المراد بها النميمة أو الفتنة بين الناس، وهذا مما يخطئ فيه بعض الناس في فهم الآية) وليس معناه أن مجرد الإفساد بين اثنين أشد من قتل المسلم ظلما بل الذي يعتقد ذلك يكفر والعياذ بالله لأن الجاهل والعالم من المسلمين يعرفان أن قتل الشخص ظلما أشد في شرع الله من مجرد الإفساد بينه وبين ءاخر لا يخفى ذلك على مسلم مهما بلغ به الجهل. (فالذي يقول “الفتنة بين اثنين أشد من القتل ظلما وعدوانا” كذب الدين، ويجب عليه الرجوع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، لأن هذه مسألة معلومة من الدين بالضرورة. قال رسول الله ﷺ لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم” رواه النسائي في سننه)

 

قال المؤلف رحمه الله: (والتحريش) بالحث على فعل محرم لإيقاع الفتنة بين اثنين يحرش بينهما حتى يتخاصما وتقع الفتنة بينهما ولو كان ذلك (من غير نقل قول) بل باليد مثلا وهذا حرام (ولو بين البهائم) كما يفعله بعض الجهال بين كلبين أو ديكين أو كبشين لأن الكلاب منهي عن قتلها إلا الكلب العقور، أي الذي يجرح ويفترس ويعض، والديكة والكباش لا تؤكل إلا ذبحا فلا يجوز التحريش بينها، يعني هذه البهائم ليست من البهائم التي يجوز قتلها لا بين خنزيرين فلا يحرم، فيجوز التحريش بينهما لأنه يسن قتله.

الشرح من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر التحريش بالحث على فعل محرم لإيقاع الفتنة بين اثنين (فمن حث مسلما لضرب مسلم بغير حق، ولو من غير نقل قول، فقد وقع في الحرام، كمن قال لشخص ليؤذي آخر “أنت تستطيع أن تغلبه” أو “ما رأيناك تغلبه”، فهذا حرام. هنا ما قال له “فلان قال عنك كذاب أو محتال” بل صار يحرش، وهذا حرام. معناه أنه في الحالتين، سواء بنقل الكلام أو بغير نقل الكلام، يريد أن يوقع العداوة بينهما)، وكذلك التحريش بين الكبشين مثلا أو بين الديكين ولو من دون قول بل باليد ونحوها (حتى لو كان بين كبشين فهو حرام من الكبائر، وحكم المال الذي يوضع ليأخذه من راهن على الكبش أو على الديك الذي سيغلب حرام من الكبائر).

 

قال المؤلف رحمه الله: (والكذب وهو الإخبار) بالشىء (بخلاف الواقع) مع العلم بذلك أي مع علمه بأن هذا خلاف الواقع فإن لم يكن مع العلم بذلك فليس كذبا محرما سواء كان جادا أم مازحا.

الشرح من معاصي اللسان الكذب وهو عند أهل الحق الإخبار بالشىء على خلاف الواقع عمدا أي مع العلم بأن خبره هذا على خلاف الواقع (ولو كان لا يحصل منه ضرر، لأنه إخبار بخلاف الواقع، ولو كان على سبيل المزح) فإن لم يكن مع العلم بذلك فليس كذبا محرما (مثلا: إذا شخص ظن أن زيدا في البيت، فسأله عنه عمرو، فقال: “زيد في البيت”، لأنه ظن الأمر كذلك، فليس عليه معصية). وهو (أي الكذب) حرام بالإجماع (فمن استحله كفر، لذلك الشافعي رضي الله عنه كفر الخطابية لأنهم كانوا يستحلون الكذب) سواء كان على وجه الجد أو على وجه المزح (النبي ﷺ قال ويل للذي يحدث الناس فيكذب ليضحكهم، ويل له، ويل له) ولو لم يكن فيه إضرار بأحد كما ورد مرفوعا إلى رسول الله ﷺ وموقوفا بإسناد صحيح على بعض الصحابة (لا يصلح الكذب (معناه لا يجوز) في جد ولا في هزل) وروى مسلم في الصحيح (إياك والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب (أي يقصد الكذب مرة بعد مرة) حتى يكتب عند الله كذابا) روى الحديثين ابن ماجه في سياق واحد عن ابن مسعود. ومعنى قوله عليه السلام (يهدي إلى الفجور) هو وسيلة إلى ذلك أي طريق توصل إلى ذلك، وما أكثر من هلك باستعمال الكذب في الهزل والمزح. وأشد ما يكون من ذلك إذا كان يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال أو ترويع مسلم يظن أنه صدق، ومن أمثلة ذلك أن رجلا كان بين أصدقائه في مكان فأقبل أعمى فقال هذا الرجل قال الله تعالى (إذا رأيت الأعمى فكبه إنك لست أكرم من ربه) قاله لإضحاك الحاضرين لأن هذا أو ما أشبهه عند هؤلاء السفهاء الجاهلين بالدين من الطرف ولم يدر هذا ومن كان معه أن هذا يتضمن كذبا على الله بجعل هذا الكلام السفيه قرءانا وأنه يتضمن تحليل الحرام المعلوم من الدين بالضرورة حرمته لأنه لا يجهل حكم هذا الفعل مسلم أنه حرام مهما بلغ في الجهل.

الكذب أنواع، فقد يكون الكذب واجبا كمن يدفع القتل ظلما عن مسلم، فلو جاء رجل إلى بيتك وسألك عن مسلم ليقتله ظلما، فهنا وجب عليك أن تكذب إن لم تستطع دفعه إلا بذلك.

وقد يكون الكذب جائزا وهو كإصلاح ذات البين، كأن يسمع شخصا يذم آخر، فيأتي إليه ويقول “فلان مدحك” حتى يصلح بينهما، فهذا جائز وقد ورد حكمه في الحديث، يعني أن له أصلا في الشرع. وقد يكون الكذب صغيرة كمن كذب على مسلم بشيء لا يؤذيه به ولا يروعه ترويعا شديدا، أي كذب كذبة خفيفة، كمن يقال له “فلان ليس في البيت”، فهذه ليس فيها ترويع شديد ولا إيذاء.

وقد يكون الكذب كبيرة إذا كان فيه إلحاق ضرر بالمسلم، كأن يقال لشخص “ماتت أمك” كذبا، فهذا يروعه كثيرا. كذلك الكذب في البيوع يعد من المعاصي الكبائر، كمن يقول “هذه البضاعة جيدة” وهي ليست كذلك، وكثير من التجار يحلفون كذبا لبيع بضاعتهم، فهؤلاء وقعوا في الذنب الكبير لأنه ورد في حديث الرسول ﷺ.

وقد يكون الكذب كفرا كمن يقول “الله يعلم أن الأمر كما قلت” مع استحضاره في تلك اللحظة أن الأمر بخلاف ما قال، فهذا كفر لأنه نسب الجهل إلى الله. كذلك من يقول “الله شهيد على ما أقول” وهو يعلم أن الأمر بخلاف ما يدعي، فهذا يكفر أيضا.

أما الكذب على الله ورسوله ﷺ، فإنه إما أن يكون كبيرة، وإما أن يكون كفرا. فمن قال “الله أعطاني كذا وكذا” مما لم يعطه، فهذا كذب على الله، وهو من الكبائر. ومن نسب إلى الرسول ﷺ كلاما لم يقله، ليرغب الناس في عمل الخير، فهذا أيضا من الكبائر، لأن الكذب على النبي ﷺ ليس كسائر الكذب، فقد ورد في الحديث من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار.

أما الكذب على الله الذي يكون كفرا فهو كقول الذين ينسبون لله الجسم أو الأعضاء أو الجلوس على العرش ونحو ذلك، فهذا من الكذب الذي يخرج من الملة.

أما الكذب على الرسول ﷺ الذي يعد كفرا فهو كمن يكذب على النبي ﷺ بما لا يليق بمقامه الشريف، كأن يقول “كان النبي ﷺ يعدد الزواج لإشباع الشهوة لأنه متعلق القلب بالنساء” أو يصفه بأنه نسونجي والعياذ بالله، فهذا كفر.

أما المزح الذي ليس فيه كذب جائز، فقد قال النبي ﷺ إني لأمزح ولا أقول إلا حقا، معناه أن النبي ﷺ كان أحيانا يمزح، ولكن لا يقول إلا الحق، وهذا المزح ليس فيه ضرر لمسلم، ولا فيه إرعاب لمسلم. ليس كما يفعل بعض الناس في ما يسمى كذبة نيسان، حيث يقول أحدهم لآخر “أبوك مات” مثلا، أو “احترق بيتك”، فيرتعب ذاك الشخص، والعياذ بالله، فهذا من الكذب المحرم الذي يؤذي المسلمين، فلينتبه)

 

قال المؤلف رحمه الله: (واليمين الكاذبة) أي الحلف بالله أو بصفة من صفاته على شىء كذبا. (الذي يقول “والله” بالهاء الساكنة، أو “والله”، أو “والله”، فتثبت عليه اليمين، أما من نطق بدون الهاء فلا تثبت عليه اليمين، بل هو حرام، فمن ترك الهاء فقد حرف اسم الله، فعليه ذنب، وليس له ذرة من الثواب. الذي يقول “الله” بدون الهاء، لو قالها مليون مرة “اللا اللا” فليس له ذرة من الثواب، لأنه ما ذكر الله، ولو كان قصده ذكر الله، لأنه لم يذكره باسمه. وكثير من الناس يضيعون أنفاسهم لأنهم يحرفون اسم الله. فإن قال الشخص “أنا ما كنت أعلم”، يقال له “هذا ليس عذرا”، لأن الله تعالى قال في القرءان ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا﴾ أي لا تتكلم في ما لا تعلم. فالله تعالى جعل على الإنسان المكلف مسؤولية في لسانه، وفي سمعه، وفي بصره، وفي قلبه، وفي بطنه، وفي رجله، وفي يده فعليه أن يتعلم ماذا فرض الله عليه وماذا حرم الله عليه، حتى يتجنب الحرام ويؤدي الواجبات. والحاصل أن الحلف بغير الله ممنوع، حتى بالكعبة أو الرسول أو العرش. وهذا الحلف في بعض المذاهب مكروه، وفي بعضها حرام. فعند الإمام أحمد الحلف بغير الله حرام، أما عند الإمام الشافعي فهو مكروه كراهة شديدة. وذلك لأن الرسول ﷺ قال من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. أي ليسكت، فإن أراد الحلف فليحلف بالله، وإلا فلا يحلف بشيء من العالم. فلما قال الرسول ﷺ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت، علمنا أن الحلف بغير الله لا يثبت يمينا، فمن كسر الحلف الذي هو بغير الله فليس عليه كفارة. أما من يحلف بغير الله معظما له كتعظيم الله، فهذا كفر والعياذ بالله)

الشرح من معاصي اللسان اليمين الكاذبة وهي من الكبائر لأن الحلف بالله تبارك وتعالى بخلاف الواقع بذكر اسمه أو صفة من صفاته كقول وحياة الله أو والقرءان أو وعظمة الله أو وعزة الله أو نحو ذلك من صفاته تهاون في تعظيم الله تعالى.

تنبيه لا يجوز أن يقال وحياة القرءان لأن القرءان لا يوصف بالحياة ولا بالموت (الحلف بالقرءان بلفظ “والقرءان” أو “أقسم بالقرءان” جائز، أما بقول “وحياة القرءان” فهو فاسد، لأن القرءان لا يقال له حي ولا ميت. فالله تعالى هو المتصف بالحياة الأزلية الأبدية التي ليست بلحم ولا دم ولا روح. فالذي يجوز أن نحلف به بحياة الله، فيقال “أقسم بحياة الله” أو “وحياة الله” أو نحو ذلك، أما “وحياة القرءان” فهو ممنوع، لأنه كلام لا معنى له. والذين يحلفون بهذا الحلف يقصدون بقولهم “وحياة القرءان” و”كرامة القرءان”، ومع ذلك فهذا لفظ ممنوع، فالذي يقول “وحياة القرءان” ثم يكسر كلامه، لا كفارة عليه، لأنه لم يحلف بالله. ومن حلف بالله أو بصفة من صفاته على فعل شىء ثم فعل خلافه، ليس عليه معصية وعليه كفارة يمين وهى عتق رقبة مؤمنة عبد أو أمة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فإن عجز فصيام ثلاثة أيام. وهذه الثلاثة أيام لا يشترط أن تكون متوالية، ولا يشترط أن يقوم بذلك فورا عقب الحنث)

 

قال المؤلف رحمه الله: (وألفاظ القذف) بالزنى واللواط (وهي) ألفاظ (كثيرة حاصلها كل كلمة تنسب إنسانا أو واحدا من قرابته) كأمه وأخته (إلى الزنى) أو نحوه (فهي قذف لمن نسب إليه) ذلك والقذف (إما) أن يكون (صريحا) بنسبة ذلك إليه كأن يقول فلان زان أو لائط فيكون هذا الكلام قذفا صريحا (مطلقا) أي سواء نوى به القذف أم لم ينو، هذا معنى مطلقا (أو) أن يكون (كناية) وهو اللفظ المحتمل للقذف وغيره، وإنما يعد لفظ الكناية قذفا إذا كان (بنية) أي مع النية لذلك كأن يقول يا خبيث أو يا فاجر بنية القذف. روى مسلم أن رسول الله ﷺ قال اجتنبوا السبع الموبقات أي المهلكات قيل وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. ومعنى المحصنات، العفيفات اللاتي لم يمسهن الزنا ولا تعرف عليهن الفاحشة.

الشرح من جملة معاصي اللسان الكلام الذي يقذف أي يرمى به شخص بالزنى ونحوه (وهو من الكبائر). والقذف إن كان بنسبة صريح الزنى كأن يقول في رجل (مسلم) فلان زان أو في امرأة فلانة زانية (أو فلانة زنا بها فلان) وكذلك قوله فلان لاط بفلان أو لاط به فلان أو فلان لائط سواء نوى به القذف أو لم ينو يوجب الحد على القاذف (لأن اللفظ الصريح، ولو كان بالعامية لا يحتاج إلى نية، وكل مرة يقول فيه مثل هذه الكلمة يكون قد ارتكب ذنبا من الكبائر. فلو كان هناك خليفة يقيم الحدود لكان جلد هذا الشخص ثمانين جلدة. فإما أن يكون الشخص صادقا عدلا بأن يكون قد رأى بعينه فعل الزنا أو اللواط، ويأتي بثلاثة شهود عدول من الرجال معه قد رأوا بأعينهم، ولا يؤخذ بشهادة النساء في هذا، وإلا فإن الحاكم يقيم عليه الحد ثمانين جلدة. قال الله تعالى ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون﴾ المحصنات هن النساء الحرات المؤمنات. أما إن جاء الأربعة العدول وشهدوا أنهم رأوا بأعينهم هذا الشيء يقع من فلان، فحينئذ يقام الحد على هذا الشخص الزاني. والنظر إلى العورة هنا من الشهود ليشهدوا عند الحاكم على الزنا جائز للشهادة، ولكن بشهادة مفصلة. أي يشهد عند الحاكم بكيفية رؤيته للزنا، فلا يكفي أن يقول “رأيت فلانا يضاجع فلانة” يعني نائما عليها. أو “رأيت فلانا مع فلانة تحت لحاف واحد” فهذا لا يكفي) فإن كان كناية بأن كان اللفظ غير صريح بل يحتمل القذف وغيره كأن يقول لشخص يا خبيث أو يا فاجر أو يا فاسق ونوى القذف (أي ونيته بهذه الكلمات نسبته إلى الزنا) كان قذفا موجبا للحد أيضا. (أما إذا لم يقصد نسبته إلى الزنا فلا يكون قذفا، ولكنه حرام) وأما التعريض كقوله نحن أولاد حلال مريدا بذلك أن فلانا ابن زنى فإنه مع حرمته لا حد فيه (أو يقول “نحن لسنا أولاد حرام” يريد بذلك التعريض للسامع بأنك أنت ابن زنى، فهذا غير موجب للحد، ولكنه من الكبائر، ويستحق صاحبه التعزير من قبل الحاكم، أي يستحق أن يحبس أو يضرب أو يهان). روى مسلم أن رسول الله ﷺ قال (اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات قيل وما هن يا رسول الله قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ومعنى المحصنات العفيفات اللاتي لم يمسهن الزنا ولا تعرف عليهن الفاحشة (الرسول ﷺ عد سبعا، فلا يعني ذلك حصرها في السبع، بل معناه أن هذه السبع من أكبر الكبائر. فالرسول ﷺ لم يذكر كل الكبائر في هذا الحديث، لأنه ما ذكر ترك الصلاة وشرب الخمر، مع أن ترك الصلاة أشد من الفرار من الزحف والقذف المذكورين في هذا الحديث. أكبر الكبائر هو الكفر، ثم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم الزنا، ثم ترك الصلاة وأكل الربا، وترك الصلاة وأكل الربا في مرتبة واحدة. فلينظر المرء إلى عظم معصية ترك الصلاة، فهي أشد من عقوق الوالدين وأشد من شرب الخمر ومع ذلك الرسول ﷺ في حديث السبع الموبقات ما ذكرها. فيؤخذ من هذا أن الرسول ﷺ ما أراد الحصر في هذا الحديث، كما لا يريد الترتيب فيه)

 

قال المؤلف رحمه الله: (ويحد القاذف الحر ثمانين جلدة و) يحد (الرقيق نصفها) أي أربعين.

الشرح أن الله تبارك وتعالى أنزل في شرعه حكم القاذف فالقاذف إما أن يكون حرا أو عبدا فالحر حده ثمانون جلدة بسوط والعبد حده نصف ذلك وهو أربعون جلدة، وهذا الحكم مجمع عليه. (يستثنى من الحد قاذف ولده، فإنه لا يحد، ولكنه وقع في المعصية. كذلك الوالد إذا سرق من ابنه فهو حرام عليه، ولكن لا يحد، أي لا تقطع يده. وكذلك إذا قتل الوالد ابنه فإنه حرام، ولكنه لا يحد، أي لا يقتل به. قال رسول الله ﷺ لا يقتل والد بولده، أي إذا قتل الوالد ابنه فإنه حرام، ولكن لا يقتل به)

 

قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي من معاصي اللسان (سب) كل (الصحابة) فيكون كفرا أو سب فرد من أفرادهم كأبي بكر وعمر فهو كبيرة.

الشرح من معاصي اللسان سب أصحاب رسول الله ﷺ قال الله تعالى ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ هؤلاء هم أولياء الصحابة وسب أحدهم أعظم إثما وأشد ذنبا من سب غيره.

وليس من سب الصحابة القول إن مقاتلي علي منهم بغاة لأن هذا مما صرح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين فقد قال ﷺ (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) (أي يعطف قلبي على عمار، لما يحصل له من الظلم) رواه البخاري وغيره وهو حديث متواتر، وقال ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه. وروى البيهقي في السنن الكبرى وابن أبي شيبة في مصنفه عن عمار بن ياسر أنه قال لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا اﻫ يعني بأهل الشام المقاتلين لأمير المؤمنين علي في وقعة صفين، ومعلوم من هو عمار، هو أحد الثلاثة الذين قال فيهم رسول الله ﷺ (إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة) الحديث، وقال فيه (عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه) (أي إلى رؤوس عظامه. رواه النسائي وغيره. ومرة جاء عمار إلى الرسول ﷺ، فقال له الرسول ﷺ مرحبا بالطيب المطيب رواه البخاري ومسلم في الصحيح. الرسول ﷺ لا يمدح إنسانا بشيء من غير أن يكون هو كذلك) والحاصل الذي تلخص مما تقدم أن سب الصحابة على الإجمال كفر وأما سب فرد من الأفراد منهم فهو معصية إلا أن يعيبه بشىء لسبب شرعي فلا حرمة في ذلك

 

قال المؤلف رحمه الله: (وشهادة الزور) أي أن يشهد على شىء كاذبا وهي من الكبائر.

الشرح أن من معاصي اللسان شهادة الزور. والزور الكذب. وشهادة الزور من أكبر الكبائر (كأن يقول شخص “أشهد أن لفلان على فلان كذا” وهو يعلم أنه ليس له عليه، أو العكس، كأن يشهد أن فلانا ليس له على فلان كذا، والحقيقة خلاف ذلك، فهذه المعصية من الكبائر. وأحيانا بعض الناس يفعلون ذلك من أجل المال أو القرابة. ومن عظم هذا الذنب، النبي ﷺ شبهه بالشرك بالله تعالى) قال ﷺ (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) أي شبهت به وليس المراد أنها تنقل فاعلها عن الدين. والحديث رواه البيهقي.

 

قال المؤلف رحمه الله: (ومطل الغني أي تأخير دفع الدين) والمماطلة به بعد أن طالبه الدائن بأدائه (مع غناه أي مقدرته) على الدفع، وعد من جملة معاصي اللسان لأنه يتضمن الوعد بالقول بالوفاء ثم يخلف.

الشرح أن مطل الغني من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر لأنه يتضمن الوعد بالقول بالوفاء ثم يخلف (إذا شخص عليه دين وحل الأجل، وعنده مال يدفعه فصار يماطل أي لا يدفعه لصاحب الدين، فهذا وقع في ذنب كبير. هذا الذي يقال له مطل الغني، والمقصود بالغني هنا أن يكون عنده ما يزيد عن حاجاته الأصلية مما يستطيع به رد الدين. مثلا شخص عليه دين قدره ألف دولار، ولا يملك نقودا في يده ولكن عنده زائد عن ما يلبسه خمسة أثواب أخرى ويملك تلفزيونا وأجهزة إلكترونية وسيارة وبرادا وغسالة، فكل هذه الأشياء زائدة عن حاجاته الأصلية. فإذا كان لديه ما يزيد عن حاجاته وحاجات زوجته وأولاده الصغار وأبويه الفقيرين، وطالبه الدائن بالدين، فليس له أن يقول “أنا ما عندي” بل يبيع ما عنده من الزوائد ويرد الدين. وكثير من الناس يقعون في مثل هذا لأنهم تعودوا على التنعم. والخلاص في هذا أن يأتي الشخص المدين إلى الدائن ويدفع الدين إن كان الدائن لا يرضى إلا بذلك). روى أبو داود في سننه لي الواجد يحل عرضه وعقوبته. معنى الحديث أن لي الواجد أي مماطلة الغني القادر على الدفع يحل عرضه وعقوبته أي يحل أن يذكر بين الناس بالمطل وسوء المعاملة تحذيرا (أي له أن يقول مثلا “فلان لا تتعامل معه، هذا يقترض ثم لا يرد”، أو “يشتري منك ثم لا يدفع الثمن”. هذا يجوز، ولكن ليس على وجه التسلية، إنما على وجه التحذير من هذا الفعل، حتى يحذره الناس) ويحل عقوبته بالحبس والضرب ونحوهما (من قبل الحاكم الإسلامي، وهو يرى ما يراه في عقوبة هذا الشخص الذي فعل هذه المعصية التي لم يسم في الشرع لها حد خاص، ولكن ضمن شرع الله، يفعل به هذا حتى يرغمه على دفع الحقوق لأصحابها. ليس كما فعل مرة أحد الحكام، إذ جاءت إليه امرأة فقالت له “فلان من جنودك جاء إلي وقال لي عندك لبن أي حليب؟ قلت: نعم، فأخذه مني بالقوة بغير مال فشربه. فقال لها “أتعرفينه؟” قالت “نعم”، فدلته عليه. فقال لها “إن كنت غير صادقة أقتلك”. قالت “أنا صادقة” فأخذ السيف وضرب بطنه، فخرج الحليب من بطنه. هذا لا يجوز. ليس هكذا شرع الله تعالى.

 كثير من الناس يؤخرون دفع الدين ويماطلون به بعد أن طالبهم الدائن بأدائه مع مقدرتهم على الدفع بسبب حبهم للتنعم، ولذلك كان شيخنا رحمه الله يوصي بترك التنعم. ترك التنعم من خصال الأنبياء والأولياء. والتنعم هو التوسع فى الملذات المباحة من أكل وشرب ولبس الثياب الفاخرة واتخاذ الأثاث الجميل. والتنعم يؤدى إلى ترك مواساة المحتاجين وقد يؤدى إلى مد اليد إلى المال الحرام أو ترك الواجبات. أما ترك التنعم فإنه يساعد على الاستعداد للآخرة ويقوى القلب للعطف على الفقراء لذلك أوصى رسول الله ﷺ معاذ بن جبل بترك التنعم فقال له إياك والتنعم فإن عباد الله (يعنى الصالحين) ليسوا بالمتنعمين، رواه أحمد فى مسنده أى إن خير عباد الله ليسوا متنعمين. وقال ﷺ لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، رواه الترمذى أى حتى يصير العبد تقيا لا بد أن يترك بعض المباحات خشية الوقوع فى الحرام. أما الذى لا يقلل من التنعم فإنه يقع فى أحد أمرين إما فى الحرام وإما فى الغفلة والغفلة هى عدم إشغال الوقت بما هو نافع وهى سبب المعاصى والمكروهات. فينبغى للمؤمن أن يكتفى بالقليل من الرزق فقد ورد فى الحديث ما قل وكفى خير مما كثر وألهى رواه ابن حبان، معناه الرزق القليل الحلال الذى يكفى الشخص خير من الكثير الذى يلهى عن طاعة الله. وليعلم أن كثرة الأكل ليس مستحبا فى الشرع فقد كان الأنبياء يحرصون على قلة الأكل أى بحيث لا تنضر أجسادهم لأن قلة الأكل المؤدية إلى ضرر الجسم حرام، أما القدر الذى لا يؤدى إلى ضرر الجسم فهو محمود عند الله. قال رسول الله ﷺ بحسب ابن ءادم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس رواه الترمذى. فينبغى تعويد الولد على تقليل الأكل ولا ينبغى الإكثار من أنواع الطعام فإنه مكروه إلا إذا أكثر الأصناف لضيف دعاه ليأكل عنده ليدخل السرور إلى قلبه أو كان ضيفا فأكثروا له الأصناف فأكل ليدخل السرور إلى قلوبهم فله ثواب. ورسول الله ﷺ كان يمضى عليه الشهر والشهران ولا يوجد فى بيته شىء ساخن، تمر وماء تمر وماء وسيدنا عيسى عليه السلام كان أكله الشجر ولباسه الشعر. فينبغى الاقتداء بالأنبياء فإنهم سادات الخلق وعاداتهم سادات العادات.

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/7VDE0WQ2TJU

للاستماع إلى الدرسhttps://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-36