#35
معاصي البطن
قال المؤلف رحمه الله: فصل.
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي البطن.
قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي البطن أكل الربا) بمعنى الانتفاع بما يصله من طريقه طعاما يأكله أو غير ذلك ويشترك في الإثم ءاخذ الربا ودافعه وكاتبه ومن يشهد على العقد (و) أكل (المكس) وهو ما يأخذه السلاطين الظلمة من تجارات الناس ونحوها بغير حق (و) أكل (الغصب) وهو الاستيلاء على حق الغير ظلما (و) أكل (السرقة) وهي أخذ مال الغير خفية (و) أكل (كل) مال (مأخوذ بمعاملة حرمها الشرع) كبعض المعاملات التي مر بيانها.
الشرح أن هذا الفصل وما بعده من الفصول عقد لبيان معاصي الجوارح فكل مال يدخل على الشخص بطريق الربا أكله حرام، والمراد بالأكل هنا الانتفاع به سواء كان أكلا واصلا للبطن أو انتفاعا باللبس أو انتفاعا بغير ذلك من وجوه التصرفات بأنواع الانتفاعات. وما كان واصلا إلى يد الشخص من طريق الربا من المال فهو كبيرة، سواء في ذلك الآخذ والعامل في ذلك بنحو الكتابة لعقود الربا بين المترابيين ومثلهما الدافع، لحديث (لعن رسول الله ءاكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) رواه مسلم وفي رواية لأبي داود (وشاهده) فاللعن المذكور في الحديث شمل الكاتب إن كان يكتب بأجرة أو بغير أجرة والشاهدين سواء كانا بأجرة أو بغير أجرة، وقد مر بيان أنواعه. (من أحرم البيوع بيع الربا، أي الذي فيه الربا، وهو محرم فعله، وأكله، وأخذه، وكتابته، وشهادته. فأما الفعل، فالمراد به إيقاع الاتفاق على عقد الربا، وذلك من الكبائر، وأما الأكل، فمعناه الانتفاع بما أخذ على طريق الربا، وهو أشد، لأن المقصود من الربا هو الانتفاع به، فمعصية الانتفاع به أشد من الاتفاق على العقد المؤدي إليه. وأما الأخذ، فالمراد به ما يأخذه الشخص الذي يلتزم الزيادة الربوية، فإذا طلب رجل من آخر أن يقرضه عشرة آلاف درهم على أن يرد له بعد ستة أشهر العشرة آلاف مع ألف أو مائة أو أقل، فأخذ صاحب الحاجة هذا المقدار على هذا الشرط، فهذا الآخذ ذنبه كذنب الذي أعطاه هذا المبلغ على أن يرده مع الزيادة، وإن كان إثم الذي يأخذ الزيادة أشد، لكنهما في أصل المعصية سواء. وأما الكتابة، فهي كتابة عقد الربا، وهي أيضا معصية، لأن فيها إعانة على المعصية، والله تعالى حرم أن يعين غيره على المعصية، وسواء كانت الكتابة بأجرة أم بغير أجرة، فالذي يكتب العقد الذي عقداه وقع في المعصية، وكذلك الشاهدان اللذان يشهدان على هذا العقد، فإنهما وقعا في معصية الله، فكل من الأربعة، أي الآخذ، والدافع، والكاتب، والشاهد، ملعون، بدليل حديث البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: “لعن رسول الله ﷺ آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده“. ويزيد الكاتب بأجرة أنه يحرم عليه ما يقبضه أجرة على هذه الكتابة، فإذا أكلها كان ظلمة في قلبه، وأما الكاتب بدون أجرة فمعصيته أخف، وهذا النوع من الربا يسمى “ربا القرض”. والربا من أحرم الحرام، ومن أعظم الذنوب. ولم ينزل الله تبارك وتعالى على نبينا ﷺ في بدء البعثة تحريم الربا، وإنما أنزل عليه ذلك بعد الهجرة بزمن، فكان المسلمون الذين يتعاطون الربا قبل نزول تحريمه غير مؤاخذين، وإنما أخر الله تعالى تحريم أكل الربا في أمة محمد ﷺ إلى ما بعد الهجرة، لأن العرب كانوا يتعاملون به بكثرة، فكان من الحكمة أن لا يعجل عليهم بتحريم هذا الأمر الفاشي المنتشر بينهم في معاملاتهم، ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام) ومن ذلك (أي ومن معاصي البطن) أكل المكس (أي الانتفاع بمال المكس) وهو ما يأخذه السلاطين الظلمة من أموال الناس على البضائع والمزارع والبساتين وغير ذلك. (المكس حرام بالإجماع وهو من الكبائر، في الزمان الأول الدول الإسلامية العادلة ما كانت تأخذ المكس، كانوا يأخذون لبيت المال من الفيء وأموال من يموت من المسلمين ولم يترك وارثا والزكاة، وإن لم يكفهم ذلك كان يجوز لهم أن يأخذوا من أموال الأغنياء قدر الضرورة لسد نفقات المسلمين ومعونة الجيش، والزكاة لا يصرفونها إلا لمن ذكرهم القرآن (معناه ما كانوا يأخذون هذه الأموال ظلما). الضرائب ما كانت أيام الخلفاء الراشدين، الرسول ﷺ قال إن صاحب المكس في النار. في بعض المدارس في هذه الأيام في بعض الكتب الثانوية يذكرون أن أبا بكر وأن عمر كانا يأخذان الضرائب، هذا غير صحيح، لذلك قال الشيخ رحمه الله: الضرائب ما كانت أيام الخلفاء الراشدين، كيف تكون أيام الخلفاء والرسول ﷺ يقول إن صاحب المكس في النار، معناه يستحق عذاب جهنم. في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن المرأة الزانية التي طهرت نفسها بالرجم، التي رجمت بأمر النبي ﷺ إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، إشعار لعظم معصية المكس، وليس المراد بهذا الحديث أن المكس أشد ذنبا من الزنا. في الماضي، في أيام النبي ﷺ، كانت امرأة قد زنت، ثم ندمت ندما شديدا، فجاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت أنا قد زنيت، وأصرت على كلامها، وهذه المرأة كانت متزوجة، يعني كانت محصنة، وحدها في الشرع الرجم. النبي ﷺ أمر برجمها، وهذه المرأة قبل أن ترجم تابت، وواحد من الصحابة وهو يرجمها، جاء شيء من الدم منها عليه، فتكلم بكلمة سوء في حقها، فلما عرف رسول الله ﷺ، بين أنه ما كان له أن يقول ذلك. هذا سبب الحديث الذي قاله النبي ﷺ إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. فالمكس حرام بالإجماع وهو من الكبائر، لكن ليس عند الله أشد من الزنا) ومن ذلك (أي ومن معاصي البطن) أكل الغصب أي المغصوب (أي الانتفاع بمال الغصب) والغصب هو الاستيلاء على حق الغير ظلما اعتمادا على القوة (هذا الإنتفاع معصية من المعاصي، ومن ذلك المستأجر المستعصي في المسكن بدون رضى المالك، وقد كان انتهت المدة التي أجري الاتفاق عليها، ثم مكث في المكان والمالك لا يرضى في مكثه إلا أن يزيد في الأجرة أو لا يرضى إلا بخروجه، فإنه إذا استعصى ومكث في المكان فإن صلاته فيه لا ثواب فيها، وهذا في حكم المكان المغصوب. أما ما لم تمض المدة التي اتفق عليها المستأجر مع المؤجر على الوجه الصحيح، فإذا تغيرت نية المؤجر بأن ندم لأنه آجره بأجرة خفيفة، فلا يؤثر ذلك، فإن المستأجر يستحق إتمام المدة التي جرى الاتفاق عليها بالإجارة الصحيحة شرعا. فهؤلاء الذين يسكنون البيوت بغير رضى الملاك، إما لعدم دفعهم الأجرة التي ترضيهم، أو لكونهم يريدون خروجهم فيستعصون، فإنهم يستحقون العذاب الشديد يوم القيامة، فقد قال رسول الله ﷺ لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، رواه الدارقطني من حديث عبد الله بن مسعود بإسناد قوي. معناه سواء مكث بحكم القانون أو بغير حكم القانون، فهذا يكون غصبا، وهذا هو الذي حرمه الله تبارك وتعالى) فخرج ما يؤخذ من الناس بحق كالذي يأخذه الحاكم لسد الضرورات من أموال الأغنياء إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك فإن ذلك ليس غصبا بل نص الفقهاء على أنه يجوز أن يأخذ الحاكم من أموال الأغنياء ما تقتضيه الضرورات ولو أدى ذلك إلى أن لا يترك لهم إلا نفقة سنة، وهذا من جملة النظام الإسلامي وأي نظام أحسن من هذا.
ومن ذلك (أي ومن معاصي البطن) أكل السرقة (أي الانتفاع بمال السرقة) وهي أخذ المال خفية ليس اعتمادا على القوة (من حرز مثله، أي من المكان الذي يحفظ فيه مثل ذلك الشىء عادة. كما لا يجوز الانتفاع بمال الغصب والمكس، كذلك لا يجوز الانتفاع بمال السرقة)
ويلتحق بذلك أكل كل مال مأخوذ بمعاملة حرمها الشرع مما مر بيانه. وقد قال رسول الله ﷺ (إن أناسا يتخوضون (أي يتصرفون) في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري من حديث خولة الأنصارية عن رسول الله ﷺ. (فٱلذي يأخذ مال ٱلزكاة وهو من غير أهله، وٱلذي يأكل مال ٱليتيم، وكذٰلك ٱلذي يأكل ٱلربا، كلهم يدخلون تحت هٰذا ٱلحديث).
قال المؤلف رحمه الله: (وشرب الخمر) وهي الشراب المسكر أي المغير للعقل مع نشوة أي سكر وطرب. والطرب خفة تصيب الإنسان تميل به إلى حزن أو سرور) (وحد شاربها أربعون جلدة للحر ونصفها) أي عشرون جلدة (للرقيق وللإمام الزيادة) إلى الثمانين (تعزيرا) كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه، والتعزير لغة التأديب وشرعا تأديب ممن له ولاية على ذنب لا حد فيه ولا كفارة غالبا.
الشرح من معاصي البطن شرب الخمر (سواء سكر أو لم يسكر، فقليله وكثيره حرام، لقول النبي ﷺ ما أسكر كثيره فقليله حرام، رواه الإمام أحمد) وهو من الكبائر وهي كما قال سيدنا عمر (ما خامر العقل) أي غيره رواه عنه البخاري في الصحيح في كتاب الأشربة وأما حد الخمر فهو في الأصل بالنسبة لشاربها الحر أربعون جلدة وللرقيق عشرون ثم إذا اقتضت المصلحة الزيادة على ذلك جاز إلى الثمانين (ومثل هذا حصل في زمن سيدنا عمر. زاد شرب الخمر بالنسبة إلى العصور السابقة زيادة كثيرة لكثرة الفتوحات ولكثرة ما دخل في الإسلام من الناس، فزاد عمر عند ذلك الجلد في شرب الخمر إلى الثمانين لزجر الناس عن ذلك، فارتدع الناس عن شرب الخمر)
قال المؤلف رحمه الله: (ومنها) أي معاصي البطن (أكل كل) جامد (مسكر) والإسكار هو تغيير العقل مع النشوة والطرب كما سبق.
الشرح أن من معاصي البطن أكل كل مسكر (ويعني بذلك غير خمر العنب، فإن الخمرة الأصلية هي خمر العنب، وما سواها يأخذ نفس الحكم، مثل نبيذ العسل، ونبيذ الزبيب، ونبيذ التمر. ولكن قد يكون من الشراب ما يصنع من غير العنب ويسكر، كما كان يحدث في الماضي حيث كان الناس ينقعون التمر أو الزبيب أو العسل في الماء فيشربون ماء الزبيب أو ماء العسل أو ماء التمر وهذا يقال له نبيذ. فإذا نقع التمر في الماء حتى تنحل حلاوته فيه، فإن شربه حلال ما لم يبلغ حد الشدة المسكرة. فإذا حدثت فيه الشدة المسكرة، فهو حرام، قليله وكثيره، لأنه يدخل في حكم المسكرات. وذلك لأنه بعد أيام يطرأ عليه تغير فيصبح خمرا يسكر من شربه. وقد نهى أهل العلم عن ذلك، لأنه يدخل في حكم المسكرات، والدليل على ذلك قول سيدنا عمر رضي الله عنه ما خامر العقل فهو حرام)
وليعلم أن الإسكار هو تغيير العقل مع الإطراب (والإطراب يعني خفة في الروح تصيب الإنسان، تميل به إلى حزن أو سرور) أي مع النشوة والفرح (والنشوة والفرح لهما نفس المعنى. فالمسكر عند الإطلاق هو ما يعطي النشوة والطرب ويقترن به تغير العقل، فما كان في حد ذاته صالحا للإسكار فهو المسكر المحرم. وليس من شرط المسكر أن يسكر كل شخص، فإذا كان الشراب يسكر بعض الناس ولا يسكر بعضا، فهو حرام على الجميع، ويعني ذلك أنه لو قال قائل “أنا لا يسكرني”، فهو مع ذلك حرام عليه أن يشربه) وأما ما يغير العقل بلا إطراب وكذلك ما يخدر الحواس من غير تغيير العقل فلا يسمى خمرا ولكنه حرام فالمخدرات كالحشيشة والأفيون ونحوهما ليست مسكرة (فهي مخدرات وليست خمورا مسكرة، لذلك يقال لها “مخدر” ولا يقال لها “خمر مسكر”، فالحشيشة لم يرد ذكرها في حديث رسول الله ﷺ ولا في القرءان) ولكن تحريمها يفهم من قول الله تعالى ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ أفهمتنا الآية أن كل ما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك فهو حرام أن يتعاطاه. (هناك فرق بين المسكر وبين المخدر، وكلاهما حرام.
المخدرات تقود الإنسان إلى الهلاك، ومن تمادى فيها يهلك. وقد يصل بعض الناس إلى الموت بسبب الإدمان على المخدرات، والدليل على تحريمها قول الله تعالى ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ أي لا تعملوا أمرا يؤدي بكم إلى إهلاك أنفسكم، وهذا معناه. وأما ما يسمى بالبنج، فإن استعماله للتداوي يجوز، أما لتغيير العقل به أو بغيره، فلا يجوز. وقد نهينا عن تعاطي المسكرات وكذلك المخدرات، وقد ورد في الحديث “نهى رسول الله ﷺ عن كل مسكر ومفتر”،
والمفتر يطلق على المخدرات)
قال المؤلف رحمه الله: (و) أكل (كل نجس) كالدم السائل ولحم الخنزير ولحم الميتة (و) أكل كل (مستقذر) ولو طاهرا كالمخاط.
الشرح أكل النجاسات من جملة معاصي البطن كالدم المسفوح أي السائل (فأكل الدم حرمه الله تعالى، سواء كان دم ذبيحة من الحيوانات المأكولة أو دم غيرها، سواء كان دم هرة أو دم خروف، وسواء كان مائعا أو جمد بعد انفصاله من مخرجه. وكذلك الدم الذي يخرج من الذبيحة ثم يجمد بطريقة فنية، فحرام أكله، كما يفعل بعض الناس في بعض البلاد حيث يتناولونه كما نأكل البوظة، وهو من الكبائر وحرام بيعه وشراؤه. والدم الذي حرمه الله تعالى هو الدم المسفوح أي السائل، أما غير السائل فليس حراما، ولذلك فإن الكبد والطحال حلال، لأنهما ليسا دما مسفوحا، فمن أكل الكبد نيئا أو مطبوخا أو مشويا فهو حلال، وكذلك الطحال، لأن الله تعالى قال ﴿أو دما مسفوحا﴾ ولم يقل أو غير مسفوح) و (كذلك يحرم أكل) لحم الخنزير (يحرم أكله سواء كان بريا أو أهليا، فإن الخنزير كان محرما في جميع الشرائع، ومنها شرع السيد المسيح عليه السلام. ولكن لما حكم الملك قسطنطين في اسطنبول، أفشى أكل لحم الخنزير) و (كذلك يحرم أكل) الميتة (الميتة حرام في شرع سيدنا محمد ﷺ وفي كل شرائع الأنبياء الذين قبله من زمن آدم فمن دونه، فكلهم كانوا يحرمون الميتة. وهذه الثلاث الدم ولحم الخنزير والميتة ما أحلت في أي شريعة من الشرائع، بل هي محرمة في جميعها. والميتة معناها ما زالت حياتها بغير ذكاة شرعية، والذكاة الشرعية لها شروط، وكل طريقة لذبح ٱلحيوان لا تطابق ٱلشروط ٱلشرعية للذبح فهي ميتة، حرام أكلها. البهيمة التي تموت بمرض فهي ميتة، لا يحل أكلها. وكذلك التي تموت بسم، كأن تأكل عشبا من الأعشاب السامة، فهي ميتة لا يحل أكلها. والحيوان الذي هو من جنس المأكول، إذا مات بمرض أو بسم، فهو ميتة. والحيوان غير المأكول، إذا ذبح ذبحا شرعيا، فهو أيضا ميتة، لأن أصله غير مأكول. ومن جملة الميتة ما زالت حياته بطريقة غير شرعية، كمن قتل الحيوان بآلة ليس لها حد فإذا وقع اللحم في يد المسلم، فلا يحل له أكله، إلا إذا علم أنه من ذبيحة مسلم، أو ذبيحة يهودي، أو ذبيحة نصراني. فإذا لم يعلم، فإنه حرام أكله. وهذا الأمر في زماننا كثير الوقوع، فالناس يشترون اللحوم من غير أن يعلموا مصدرها، لذلك علينا أن نراعي الأحكام الشرعية). وكذلك المستقذر يحرم أكله وذلك كالمخاط والمني وأما البصاق فيكون مستقذرا إذا تجمع على شىء مثلا بحيث تنفر منه الطباع السليمة أي بعد خروجه من الفم أما ما دام في الفم فليس له حكم المستقذر وكذلك البلل ليس له حكم المستقذر بالنسبة للأكل ونحوه فليتنبه لذلك. والمستقذر هو الشىء الذي تعافه النفس أي تنفر منه طبيعة الإنسان (حتى وإن كان في أصله طاهرا كالبصاق وغيره فلو تجمع البصاق على شيء، صار تعافه النفس فلا يجوز أكله بعد ذلك. مثلا، إذا بصق شخص فلا يحل له أن يعود ويأكله، لأنه مستقذر، والنفس تعافه. إذا أنتن الطعام وطلعت رائحته الكريهة، أو صار منظره بشعا، فإن النفس تنفر منه، ولو كان طاهرا في أصله، فإن أكله حرام. أما إذا وضع الشخص شيئا من الطعام في فمه، ثم أخرج شيئا منه وأطعم ولده الصغير، فهذا جائز، وهو معروف عند الناس، لأنه ليس عليه بصاق متجمع بحيث تعافه النفس. كذلك من يستاك فيخرج السواك، ثم يعيده إلى فمه، أو يدخل خيطا في فمه ليدخله في فتحة الإبرة ثم يخرجه ويعيده مرة أخرى إلى فمه، فكل هذا معروف أنه لا يؤثر ولا يعد مستقذرا. وكذلك إذا أخرج الطفل الحلوى من فمه وأعادها مرارا، فهذا ليس حراما، لأنه ليس بصاقا متجمعا، وإنما يقال له بلل)
قال المؤلف رحمه الله: (وأكل مال اليتيم) بغير حق (أو الأوقاف على خلاف ما شرط الواقف)
الشرح أن من معاصي البطن أكل مال اليتيم بغير حق وهو محرم بالنص. قال تعالى ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا﴾ فلا يجوز التصرف بمال اليتيم على خلاف مصلحته. (المراد باليتيم هنا من مات أبوه وهو دون البلوغ، ولا يجوز التصرف بماله على خلاف مصلحته، ولو كان ذلك من قبل القيم الذي عينه القاضي أو الوصي الذي أوصاه الأب قبل وفاته، وحتى إن أعطى اليتيم الفقير من ماله بطيب نفس فلا يجوز للفقير أن يأخذه، ولذلك يجب التنبه عند زيارة بيت فيه أيتام، لأنه في كثير من الأحيان عندما يموت والدهم لا تفرز أموالهم عن غيرها وتتصرف الأم أو بقية الورثة في المال جملة فيوزعون الشاي والبن على المعزين والزائرين، ويكون لليتامى حصة فيه، فلا يجوز أكله ولا شربه لأن ذلك لم يصرف لمصلحتهم، وأما إن أراد الوصي على اليتيم أن يستأجر له مسكنا أو معلما يعلمه الدين ودفع ذلك من مال اليتيم، فهذا لا يعد أكلا لماله بغير حق.
فائدة: إذا قال شخص “هذه الثياب لهذا اليتيم”، فلا تدخل في ملك اليتيم ما لم يقبلها له وليه، ويجوز التصرف فيها بحسب رضا صاحبها. فإن قال ولي اليتيم “قبلت له”، دخلت في ملك اليتيم، وإن كانت ملابس وصغرت على اليتيم الذي أعطيت له بعينه، فلا تعطى لغيره من إخوانه اليتامى أو غيرهم، وإنما تباع لمصلحته.
هذه المسألة (قبول الولي) ليست خاصة باليتيم، بل هو حكم عام في المذهب الشافعي، فإذا أعطي الولد الصغير الذي هو دون البلوغ شيئا، فإنه لا يدخل في ملكه إلا إذا قبله وليه له، وحتى لو كان الولي هو أباه، فإن أعطاه شيئا فلا يدخل في ملكه إلا إذا قبله الأب له، فإذا قال “أعطيت ابني كذا وقبلته له” صار ملكا لهذا الولد.
ومتى يدخل في ملكه بدون إذن الولي؟ إذا نذر له، أو إذا ورث إرثا، كأن تموت أمه ويرثها، أما مجرد الهبة فلا تجعله مالكا لها إلا إذا قبلها الولي له.
ومنها (أي من معاصي البطن) أكل مال الأوقاف على ما يخالف شرط الواقف بأن لم يدخل تحت شرط الواقف (قال رسول الله ﷺ المسلمون عند شروطهم) فمن وقف بيتا لسكن الفقراء فلا يجوز للأغنياء أن يسكنوه ومن وقف بيتا لسكن طلبة الحديث فلا يجوز لغيرهم أن يسكنوه ومن وقف بيتا لسكن حفظة القرءان فلا يجوز لغيرهم أن يسكنوه. (من معاصي البطن أكل مال الوقف على خلاف ما شرط الواقف، والوقف هو شيء يخرجه الإنسان من ملكه ويرصده لوجه معين فيه نفع جائز مع بقاء عينه، أي ينتفع به مع بقاء ذاته، مثل بناء مسجد. فإذا وقف بقعة أرض لتكون مسجدا، فمعناه أنه أخرج هذه الأرض من ملكه وجعلها مخصصة للصلاة، فينتفع بها في هذا الأمر من غير أن تذهب هذه الأرض بالانتفاع بها. فلا يصح أن يقف الإنسان طعاما، أي لا يصح أن يقول “وقفت هذا الطعام للفقراء” لأن انتفاعهم به يكون بأكله فلا تبقى عينه، فمثل هذا لا يسمى وقفا. أما لو وقفت أرض لدفن موتى المسلمين، فإن هذه المنفعة تتحقق مع بقاء الأرض، فيكون ذلك وقفا صحيحا. فإذا شرط الواقف مثلا أن يكون البناء الذي وقفه مسجدا، فلا يجوز بعد ذلك لإنسان أن يلغي الانتفاع به كمسجد ليحوله دارا لسكنى الفقراء مثلا. وإذا وقف إنسان دارا لتكون مدرسة للحنفية، فلا يجوز لإنسان أن يحولها مدرسة للشافعية. ولو وقف شخص بستانا ليعود ريعه على ذريته، فلا يجوز لهؤلاء الذرية أن يتفقوا فيبيعوه ويتقاسموا المال فيما بينهم، لأن رسول الله ﷺ قال “المسلمون عند شروطهم“، يعني أن الشروط المعتبرة شرعا لا بد من مراعاتها، والحديث رواه البيهقي.
المسلم إذا قال “وقفت هذا البيت لطلاب العلم الشافعي” فيجب أن لا يتصرف في هذا البيت بالانتفاع به إلا لهؤلاء، فلو جاء مثلا طلاب العلم الحنفية فليس لهم أن ينتفعوا بهذا البيت، لأن الوقف كان خاصا بطلاب العلم الشافعي، وكذلك لو أوقف شخص أرضا وقال “هذه الأرض وقفتها مسجدا”، فإنها تصير مسجدا للصلاة فيه، فلو جاء شخص وحولها إلى مقبرة أو بناية سكنية فهذا حرام، لأن الواقف وقفها مسجدا، والمسجد هو المكان الذي وقف لتقام فيه الصلوات الخمس، وليس مجرد بناء صورة مسجد يجعله يحكم له بأحكام المسجد إلا إذا قال المالك “وقفت هذا مسجدا”، فيصير له حكم المسجد. والأمر ليس خاصا بالأرض، بل لو أن إنسانا يملك بيتا كسائر البيوت وقال “أوقفت هذا البيت مسجدا” صار له حكم المسجد، ولو أن إنسانا بنى بناء وجعل في داخله محرابا وفي خارجه مئذنة، فلمجرد ذلك لا يصير له أحكام المسجد. فإذا قال شخص “أوقفت هذه الأرض مسجدا” صار حكمها كحكم المسجد، فما بني عليها مباشرة أو دونها أو فوقها يأخذ نفس الحكم أي حكم المسجد، فلا يؤخذ منها شيء للخلاء ولا للوضوء ولا لغرف الاجتماعات ولا لغرفة خاصة بالإمام للراحة إلا إذا أوقف البناء بعد أن بني، ولذلك في المساجد القديمة لا نرى فيها مواضع للخلاء أو الوضوء، لأن الأرض أوقفت مسجدا قبل البناء، فلا يستعمل شيء منها لغير ما أوقفت له، لما ورد عن النبي ﷺ أنه قال المسلمون عند شروطهم)
قال المؤلف رحمه الله: (و) أكل (المأخوذ بوجه الاستحياء) كمن يطلب من شخص مالا أمام جمع حتى يعطيه إياه بطريق الحياء فيعطيه إياه (بغير طيب نفس منه) أي من المعطي.
الشرح من جملة معاصي البطن أكل ما يؤخذ هبة من الغير بغير طيب نفس منه كأن يكون أعطاه استحياء منه أو استحياء ممن يحضر ذلك المجلس (فلو أحرج إنسان إنسانا آخر في موقف معين حتى أعطاه مالا بغير طيب نفس منه، وإنما حياء، وهو يعلم أنه أعطاه المال حياء، فإنه لا يحل للآخذ أن يأكل هذا المال، بل ما زال هذا المال في ملك الأول ويجب عليه أن يرده أما إن اشتراه استحياء فلا يحرم) وذلك لأنه يدخل تحت حديث (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه الدارقطني والبيهقي فالذي يأخذ شيئا من مسلم بطريق الحياء حرام عليه أن يأكله ولا يدخل في ملكه ويجب عليه أن يرده.
معاصي العين
قال المؤلف رحمه الله: فصل.
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان معاصي العين.
قال المؤلف رحمه الله: (ومن معاصي العين النظر) أي نظر الرجال (إلى النساء الأجنبيات) أي غير المحارم (بشهوة) أي تلذذ (إلى الوجه والكفين) وأما النظر إليهما بلا شهوة فلا يحرم لأنهما ليسا بعورة وإن كان بعضهم نقل الاتفاق على ذلك إلا أن الحنابلة لهم كلام في الكفين أما الوجه فبالإجماع لا يجب عليها تغطيته (و) يحرم النظر (إلى غيرهما) أي إلى غير الوجه والكفين (مطلقا) أي سواء كان النظر بشهوة أم لا ولا يخفى أن الزوجة ليست مرادة هنا فإنه يجوز لزوجها النظر إليها بشهوة وكذا أمته غير المتزوجة (وكذا) يحرم (نظرهن) أي النساء (إليهم) مطلقا أي إلى الذكور سوى الزوج والسيد سواء كان بشهوة أم لا (إن كان) النظر (إلى) العورة وهي (ما بين السرة والركبة) ولا يحرم نظرهن إلى ما سوى ما بين السرة والركبة إلا أن يكون بشهوة (و) يحرم (نظر العورات) ولو مع اتحاد الجنس كرجل ينظر إلى ما بين السرة والركبة من رجل ءاخر وامرأة تنظر إلى ما بين السرة والركبة من امرأة أخرى.
الشرح أن هذا الفصل معقود لبيان معاصي العين. وأورد فيه حكم النظر إلى النساء الأجنبيات فالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها بشهوة حرام. بخلاف النظر إلى ما سوى الوجه والكفين فإنه يحرم ولو بلا شهوة أو خوف فتنة فإن نظر بلا قصد بأن وقع بصره على عورتها فيجب عليه صرفه أو مع القصد إلى الوجه والكفين بلا شهوة ثم شعر من نفسه التلذذ وجب عليه صرف نظره أيضا فالنظرة الأولى لا مؤاخذة فيها (لأنها كانت بغير قصد التلذذ). روى الترمذي وأبو داود من حديث بريدة مرفوعا (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية) (معناه إذا نظرت إلى غير عورة المرأة نظرا لا شهوة فيه، فليس عليك معصية، فإذا وجدت الشهوة حرم عليك إدامة النظر، وكذلك من نظر بلا قصد إلى عورتها، فيجب عليه صرف بصره) ونقل بعض الفقهاء الإجماع على جواز النظر بلا شهوة إلى الوجه والكفين. (من معاصي العين أن ينظر الرجل إلى أي جزء من بدن المرأة الأجنبية بشهوة، وكذا بلا شهوة إلا الوجه والكفين. والمراد بالأجنبية هنا غير المحرم، يعني غير النساء اللواتي لا يجوز له الزواج منهن بأية حال، كأمه وأخته وعمته وخالته وأمه من الرضاع وجدته من الرضاع وأخته من الرضاع وبنت أخته من الرضاع وهكذا. وأما الوجه والكفان فيجوز له أن ينظر إليهما إن كان نظره بغير شهوة، وأما مع الشهوة فحرام، إلا بالنسبة للزوجة وأمته غير المتزوجة. ويفهم من هذا أن وجه المرأة ليس عورة، وهذا إجماع، فلا عبرة بقول بعض المتأخرين الذين زعموا أن وجه المرأة عورة، فإن قولهم مخالف للإجماع. وقد نقل هذا الإجماع أكثر من واحد من العلماء، منهم القاضي عياض المالكي. ويحرم على المرأة النظر إلى ما بين السرة والركبة من الرجل، سواء كان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، وأما سائر بدنه فيجوز لها ذلك إن لم يكن بشهوة، وما قاله بعض الشافعية من أنها لا تنظر منه إلا ما ينظر منها فهو قول غير معتمد)
مسألة: يجب على المرأة أن تغطى شعرها أمام الأجنبى المراهق وهو الذى قارب البلوغ وأما الصبى غير المراهق فلا يجب عليها أن تغطى شعرها فى حضرته.
فائدة: إذا راهقت البنت أى قاربت البلوغ يجب على الأهل أمرها بستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين أمام الأجانب أى غير المحارم.
فائدة: لم يقل إمام مجتهد إن وجه المرأة الحرة وكفيها عورة، بل كل المجتهدين يقولون إن وجه المرأة وكفيها ليسا بعورة. والدليل على ذلك ما رواه مسلم في الصحيح أن أحد الصحابة خطب امرأة، فقال له النبي ﷺ هل نظرت إليها؟ فقال لا، فقال له ﷺ اذهب فانظر إليها، أي إلى الوجه والكفين، لأنهما ليسا بعورة. وهذا يعني أنه يستحب للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها، لئلا يوهموه أنها على صفة معينة، ثم يراها بعد الزواج على غير ما توهم، فيكون ذلك سببا في طلاقها، وينكسر خاطرها ويقع في ذلك ما لا يحمد. فلذلك يستحب أن ينظر إليها قبل العقد.
وقال الفقهاء: لما قال له النبي ﷺ اذهب فانظر إليها، كان المراد بذلك الوجه والكفين، لأنهما ليسا بعورة.
وقوله تعالى ﴿ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها﴾ أي إلا الوجه والكفين، كما قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما وجمهور المفسرين. فليس للذين يقولون إن وجه المرأة وكفيها عورة دليل، وليس لهم متمسك شرعي، وإنما هذا رأي لا يؤخذ به. ولم يقل واحد من المجتهدين المعتبرين إن وجه المرأة عورة، أو إنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، حتى النساء الأنصاريات كن يغطين عينا ويكشفن عينا، فلو كان يجب تغطية الوجه لغطين العين الأخرى، إنما فعلن ذلك من باب المبالغة في الستر.
ونقول: يندب للمرأة أن تغطي وجهها، أي فيه ثواب، ولكن العدل أن نقول لا يجب عليها أن تغطي وجهها، فلا يغير واحد منا الشريعة برأيه، حتى لو صار في زمن كثرت فيه الفتنة. نقل القاضي عياض الإجماع في حاشية “الإيضاح” على جواز خروج المرأة كاشفة لوجهها، وقال “وعلى الرجال غض البصر”، ومعناه إذا كان الرجل يخشى على نفسه الفتنة، فهو الذي يجب عليه أن يغض البصر. وهذا كله يفيد أن الوجه ليس من العورة، ولا الكفين من العورة.
فائدة: الإمام مالك رضي الله عنه قال “عورة الرجل السوءتان”، أي القبل والدبر. والإمام أحمد له قولان. قول بأن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وقول بأن عورة الرجل هي السوءتان فقط. وهذا أيضا قول عطاء بن أبي رباح التابعي المجتهد المشهور، وقول الإمام ابن جرير الطبري. فكل هؤلاء من المجتهدين ولهم قول بأن عورة الرجل هي السوءتان فقط. واستدلوا على ذلك بما ثبت أن الرسول ﷺ كان جالسا وقد حسر ثوبه، أي رفعه عن فخذه، فدخل أبو بكر فلم يغط الرسول ﷺ فخذه، ثم دخل عمر فلم يغط فخذه، ثم دخل عثمان فغطى الرسول ﷺ فخذه. فسألته عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهتش له، أي لم تغط لدخوله، ودخل عمر فلم تهتش له، ودخل عثمان فغطيت؟ فقال ﷺ أفلا أستحي ممن تستحي منه الملائكة. ومعناه أن عثمان رضي الله عنه كان شديد الحياء، فلذلك الرسول ﷺ غطى فخذه. وروى هذا الحديث مسلم.
ومن جملة معاصي العين النظر إلى العورات ولو مع اتحاد الجنس وهو على الرجل نظر ما بين السرة والركبة من الرجل، وعلى المرأة النظر إلى ما بين السرة والركبة من المرأة (ولو من دون شهوة. سبق بيان قسم من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر، وبقي أن نذكر أنه يحرم على الرجل أن ينظر أيضا إلى ما بين السرة والركبة من رجل آخر، والمرأة مع المرأة كذلك ولو من دون شهوة. وأما أمام الكافرة فلا تكشف المسلمة إلا ما يظهر منها عادة عند العمل في البيت، أي كالشعر والساعد والقدم والرقبة ونحو ذلك. فليس معنى ذلك أن تكشف فخذها أمامها ولو كانت عادتها أن تلبس سراويل قصيرة عند العمل في البيت، بل ليس للمرأة أن تكشف فخذها حتى أمام أمها وأختها ونحوهما)
قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم على الرجل والمرأة كشف العورة) أي القبل والدبر من الرجل وما بين السرة والركبة من غيره (في الخلوة لغير حاجة) وأما إن كان ذلك لحاجة كتبرد جاز. والحاجة تختلف عن الضرورة، فالتبرد ليس ضرورة لكنه حاجة، والاغتسال قد لا يكون ضرورة لكنه حاجة، وكذا تغيير الثوب قد لا يكون ضرورة لكنه حاجة، فيجوز كشف السوأتين للرجل في الخلوة للحاجة ولو لم يكن هناك ضرورة لكشفهما.
الشرح أن مقتضى ذلك جواز كشفها في الخلوة لأية حاجة كتبرد. وعورة الرجل في الخلوة السوأتان والمرأة ما بين السرة والركبة (فلا يجوز للشخص أن يكشف سوءتيه إذا كان خاليا من غير حاجة، فإذا كان وحده في البيت وليس معه أي إنسان آخر، فلا يجوز له أن يكشف سوءتيه إلا لحاجة، ولو لم يكن يراه أحد آخر. ومقتضى ذلك أنه يجوز له أن يكشفهما في الخلوة للحاجة، كأن يريد التبرد، أو تغيير الثياب، أو الاغتسال، أو ما شابه ذلك)
قال المؤلف رحمه الله: (وحل مع المحرمية) كأب مع بنته (أو الجنسية) كرجل مع رجل ءاخر وامرأة مسلمة مع امرأة أخرى مسلمة (نظر ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان) النظر (بغير شهوة) وإلا حرم، أما أمام الكافرة، فلا تكشف المسلمة من بدنها إلا ما تحتاج لكشفه في العمل البيتي، كالقدم والذراع والرقبة والشعر ونحو ذلك. وإن كانت بين الرجل والمرأة محرمية، يجوز النظر إلى ما سوى ما بين السرة والركبة بغير شهوة، أما مع الشهوة فيكون حراما، ولو كان بينهما محرمية.
الشرح أن مقدار عورة المرأة مع محارمها ما بين السرة والركبة وكذلك العورة مع اتحاد الجنس أي عورة المرأة مع المرأة هذا القدر من بدنها هذا إذا كانت مسلمة وأما أمام الكافرة فلا يجوز للمسلمة أن تكشف من جسدها إلا ما تكشفه عند العمل (في البيت) عادة كالرأس والساعد والعنق ونصف الساق. (عورة المسلمة أمام الكافرة هي كل بدنها، ما عدا ما تكشفه أثناء العمل في البيت، فيجوز لها أن تكشف فقط ما تحتاج إلى كشفه، كالساق والقدم واليدين والعنق والشعر، أما ما زاد على ذلك، فلا يجوز لها أن تكشفه أمام المرأة الكافرة) وكذلك عورة الرجل مع الرجل ما بين السرة والركبة (عند الإمام الشافعي، وكذلك بالنسبة للمرأة المسلمة مع المرأة المسلمة، فهي ما بين السرة والركبة، ولا فرق بين أن تكون هذه المرأة ابنتها أو أمها أو غيرهما، فالحكم واحد. وقد يجهل بعض النساء ذلك من شدة الجهل، فلا يعرفن أنه لا يجوز أن تكشف المرأة فخذها أمام ابنتها الكبيرة أو أختها أو أمها فلينتبه. ولا يجوز للأم أن تكشف فخذها أمام ولدها المميز). ويحل النظر بلا شهوة لما سوى العورة. (فإذا يجوز للرجل أن ينظر إلى بدن الرجل الآخر إلا ما بين سرته وركبته، ويجوز للمرأة المسلمة أن تنظر إلى بدن المرأة الأخرى إلا ما بين سرتها وركبتها. ونضيف أنه يجوز للرجل أن ينظر إلى بدن محرمه، وللمرأة أن تنظر إلى بدن محرمها إلا ما بين السرة والركبة، إن كان بغير شهوة، وأما مع الشهوة فلا يحل. ومقتضى قولنا “ما بين السرة والركبة” أن نفس السرة ونفس الركبة ليسا عورة، وإنما العورة ما بينهما، ولكن لا بد من ستر شيء منهما على الأقل حتى يتيقن من ستر ما بينهم)
فائدة: الطفل الصغير قبل التمييز كابن سنة أو سنتين أو ثلاث لا عورة له، فإذا ميز الطفل، حرم على الأب والأم النظر إلى عورته المغلظة، سواء كان ذكرا أو أنثى، إلا للضرورة. وأما في حال الضرورة كالعلاج، نحو استخدام التحميلة فيجوز النظر بقدر الحاجة. وأما أمر الاستنجاء، فتعلمه الأم أو الأب من غير أن ينظرا إلى عورته.
قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم النظر بالاستحقار إلى المسلم) لكونه فقيرا مثلا.
الشرح من محرمات العين النظر إلى المسلم بالاستحقار والازدراء (أو التكبر) إما لفقره أو لكونه ضعيف الجسم أو نحو ذلك. (النظر بالازدراء والاستحقار إلى المسلم من محرمات العين، وهو من أسوإ الأخلاق، لأنه يدل على الكبر والتعالي على الخلق. وقد جاء في الحديث لا يدخل الجنة (أي مع الأولين) من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. رواه مسلم. ومن صور هذا النظر المحرم أن ينظر الإنسان إلى أخيه المسلم بازدراء لفقره، أو لضعف جسمه، أو لقلة ماله، أو لقلة علمه، أو لنقص جاهه ومنزلته في الدنيا، وهذا ينافي ما جاء به الدين من التواضع وإكرام المسلم لأخيه. وقد جاء في الحديث رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره. رواه مسلم. وهذا يدل على أن الإنسان لا يقاس بمظهره وثيابه وماله، فقد يكون الرجل فقيرا متواضع المنظر، مهموشا في المجتمع، لا يؤبه له، ولكنه عند الله ذو منزلة رفيعة، حتى إنه إذا دعا الله أجابه. فمن استحقر الفقراء والضعفاء لقلة مالهم أو لهيئتهم، فليعلم أنهم قد يكونون خيرا منه وأقرب إلى الله، فليتق الله، وليهذب نفسه بالتواضع وحسن الخلق)
قال المؤلف رحمه الله: (و) يحرم (النظر في بيت الغير) إلى ما يتأذى صاحب البيت بالنظر إليه (بغير إذنه أو) النظر إلى (شىء أخفاه كذلك) أي مما يتأذى بنظر غيره إليه بغير إذنه.
الشرح أنه يحرم النظر في بيت الغير (أي إلى داخل بيت الغير) بغير إذنه أي مما يكره عادة ويتأذى به من في البيت وذلك كالنظر في نحو شق الباب أو ثقب فيه إلى من في البيت أو ما يحتوي عليه البيت مما يتأذى صاحب البيت بالنظر إليه كأن يكون صاحب الدار مكشوف العورة أو بها محرمه كبنته أو نحوها كزوجته. وكذلك النظر إلى شىء أخفاه الغير مما يتأذى بالنظر إليه. (أما مجرد الجلوس والنظر إلى ما في الصالون ونحوه فلا يحرم، لأن صاحب البيت قد أدخل الزائر باختياره. وإنما الكلام هنا على ما قصد صاحب البيت إخفاءه ويتأذى بالنظر إليه)
ما الدليل على فرضية الحجاب للمرأة.
اعلم أن وجوب تغطية المرأة لرأسها ثابت بالقرءان والحديث والإجماع أى إجماع العلماء المجتهدين بلا خلاف بينهم فمن أنكر ذلك فهو كافر مكذب لله ورسوله قال الله تعالى فى سورة النور ﴿ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن﴾. والمراد بقوله تعالى ﴿ولا يبدين زينتهن﴾ الزينة الباطنة أى مواضع الزينة من البدن كالمواضع التى يكون فيها الحلق فى الأذن والخلخال فى الرجل والسوار فى اليد والعقد فى الصدر. والمراد بقوله تعالى ﴿إلا ما ظهر منها﴾ الوجه والكفان قاله ابن عباس وعائشة والمسور بن مخرمة وسعيد بن جبير وغيرهم كثير. قال تعالى ﴿وليضربن بخمرهن على جيوبهن﴾ أمر الله المؤمنات أن يغطين رؤوسهن وجيوبهن أى أعناقهن بالخمر والخمار هو غطاء الرأس ولا ينبغى أن يكون رقيقا بحيث يظهر منه لون الشعر. فتبين من هذه الآية أنه يجب على المرأة أن تغطى رأسها وعنقها ويجوز لها كشف الوجه والكفين. وروى أبو داود أن رسول الله ﷺ دخل يوما إلى بيته فوجد أسماء بنت أبى بكر أخت السيدة عائشة فلما نظر إليها أشاح بوجهه (أى نظر إلى جهة أخرى) لأنها كانت تستر رأسها بشىء رقيق وقال لها إن المرأة إذا بلغت لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وهذا وأشار إلى الكف. هذا هو حكم الشرع وعلى هذا جميع علماء المسلمين وعامتهم فلا يجوز للإنسان أن يخرج عما أجمع عليه المسلمون قال تعالى ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾.
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/tuD8TTCQaFE
للاستماع إلى الدرس: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-35