#30 3-9 سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام
الحمد لله مكوّن الأكوان الموجود أزلا وأبدًا بلا مكان أما بعد موضوعُ حلقةِ اليوم مِحنةُ يوسفَ عليه السلام مع امرأةِ العزيز. أقامَ يوسفُ عليه السلام في بيتِ عزيزِ مصرَ ووزيرِها مُنعمًا مُكرمًا وكان فائقَ الحسنِ والجمال، فلما شبَ وكبِر أحبته امرأةُ العزيزِ حبًّا جمًّا وعشِقته وشغفَها حبُّه لِما رأت من حسنِه وجمالِه الفائق. وذاتَ يومٍ وقيلَ: كان عُمُرُ يوسفَ سبعةَ عشرَ عامًا أرادتِ امرأةُ العزيزِ أن تحملَه على مُواقعتِها وما يريدُ النساءُ من الرجالِ عُنوة، وهي في غايةِ الجمالِ والمالِ والمنصبِ والشباب، وغلَّقتِ الأبوابَ عليه وعليها، وتهيأت له وتصنّعت ولبِست أحسنَ ثيابها وأفخرَها ودعته صراحةً إلى نفسِها من غيرِ حياءٍ وطلبت منه ما لا يليقُ بحالِه ومقامِه، والمقصودُ أنها دعته إليها وحَرِصت على ذلكَ أشدَ الحِرص، ولكن هيهات هيهات وهو النبيُ العفيفُ الطاهرُ المعصومُ عن مثلِ تلكَ الرذائِلِ والسفاهاتِ والفواحِش وهو نبيٌّ مِن سُلالةِ الأنبياءِ الذين يَستحيلُ عليهمُ الرذائلُ والفواحش. لذلك أبى يوسفُ عليه السلام ما دعتهُ إليه امرأةُ العزيزِ، وامتَنعَ أشدَ الامتِناع وأصرَّ على عِصيانِ أمرِها وقال: مَا عاذ الله، أي أعوذُ بالله أن أفعلَ هذا. وأمام إباءِ يوسف عليه السلام عن مطاوعةِ امرأةِ العزيز، وأمامَ عِفَّتِه وإصرارِه على عدمِ الوقوعِ معها في الحرام، ازدادَت هي إصرارًا على الهَمِّ بالرذيلة فأمسكت بهِ تريدُ أن تُجبِرَه على مُواقعتِها وارتكابِ الفاحشةِ معها من غيرِ حِشمةٍ وحياء، فصارَ عليه السلام يُحاولُ أن يتخلّصَ منها، فأفلَتَ منها فأمسكت ثوبَه من خلف فتَمَزَّقَ قميصُه، وظلّت تُلاحِقُه وهما يستبِقانِ ويتراكضانِ إلى البابِ هو يريدُ الوصولَ إليه ليفتَحَه ليتخلّصَ منها يدفعُه إلى ذلكَ الخوفُ من اللهِ مولاه، وهي تريدُ أن تَحولَ بينَه وبينَ البابِ تدفَعُها إلى ذلكَ الشهوةُ الجامِحَةُ والاستجابةُ لِوساوسِ الشيطان، وفي تلكَ اللحظاتِ وصلَ زوجُها العزيزُ فوَجَدَهُما في هذهِ الحالةِ، فبادرَته بالكلامِ وحرَّضتهُ عليه وحاولت أن تنسِبَ إلى يوسفَ عليه السلام محاولةَ إغوائِها والاعتداءَ عليها مُدَّعيةً أنها امتنعت وهربَت منه فنَسبت إلى يوسفَ الخيانة وبرّأت نفسها، لذلك ردَّ نبيُ الله يوسفُ عليه السلام التُهمةَ عن نفسِه وقال: هي راودتني عن نفسي، وأما قولُه تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فمعناهُ أنَّ امرأةَ العزيزِ همَّت بأنْ تدفَعَهُ إلى الأرضِ لتَتَمكّنْ من قضاءِ شهوتِها بعد وقوعِه على الأرض وهو هَمَّ بأن يدفَعَها عنه ليتمكّنَ من الخروجِ من البابِ لكنْ لم يفعلْ لأنَّ الله ألهمَه أنّه لو دفَعها لكان ذلكَ حجةً عليه عندَ أهلِها بأن يقولوا إنما دفَعها ليفعلَ بها الفاحِشة، وهذا معنى قولِ الله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أي لولا أنّهُ رأى برهانًا من الله لدفَعها، فلم يدفَعْها بل أدارَ لها ظهرَه ذاهبًا إلى البابِ فلحِقته فشَقَت قميصَه من خَلف فكانَ الدليلُ والحُجةُ عليها، ولو ضَربها ودفَعها لكان ضربُه ودفعُه إياها حُجةً لها عليه، لأنها تقول: راودَني فمنعتُه فضَربني. والذي يجِب أن يُعتقَدَ أنَّ الله تبارك وتعالى عَصَمَ نبيَه يوسفَ عليه السلام ونزَهَهُ عن الفاحشةِ وحماهُ عنها وصانَه منها كما صانَ وعصَم سائرَ أنبيائِه ورسلِه عليهمُ الصلاة والسلام، ولهذا قالَ الله تبارك وتعالى في حقِّ يوسف عليهِ السلام نافيًا عنهُ السوءَ والفحشاءَ ومُطهِرًا إيّاهُ من قَصدِ الفاحِشةِ والهمِ بالزنى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. لذلكَ لا يَصِحُ ما يُروى عن بعضِ المفسرين أنّه حَلّ سروالَه وقعَدَ منها مَقعدَ الرجلِ من امرأتِه، فإنّ هذا باطلٌ لا يليقُ بنبيٍ من أنبياءِ الله تعالى، وكذلكَ ما في تفسيرِ الجلالينِ وغيرِه أنَّ يوسفَ قصَدَ الزنى بها فإنّه لو كانَ حصَلَ هذا من يوسف لكانَ فيه دليلٌ على العزمِ والأنبياءُ صلواتُ الله عليهم معصومونَ من العزمِ على الزنى والفاحِشَةِ ومُقدِماتها، قال الله تعالى في بيانِ براءةِ نبِيِه يوسُف عليه السلام: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. وبعدَ أن اتهمتِ امرأةُ العزيزِ يوسفَ عليه السلام بأنهُ حاولَ الاعتداءَ عليها بالفاحشةِ وبرّأتْ نفسَها ردّ يوسفُ عليه السلام هذه التُهمةَ عنه وقال: هي راودَتني عن نفسي، وفي هذا الموقِفِ أنطقَ الله القادِرُ على كلِ شيءٍ شاهِدًا من أهلِها وهو طِفلٌ صغيرٌ في المهدِ لتندَفِعَ التُهمةُ عن يوسفَ عليه السلام وتكونَ الحجةُ على المرأةِ التي اتهمتهُ زورًا ولتظهرَ براءةُ يوسفَ عليه السلام واضحةً أمامَ عزيزِ مصرَ ووزيرِها، فقالَ هذا الشاهِدُ من أهلِها: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} أي لأنهُ يكونُ قد راودَها فدفعتْه حتى شقّتْ مُقَدَّمَ قميصِه فتكونَ التُهمةُ بذلكَ على يوسف، ثم قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} أي لأنّهُ يكونُ قد ترَكَها وذَهبَ فتبِعتهُ وتعلقتْ بهِ من خلفٍ فانشقَّ قميصُه بسببِ ذلك وتكونُ التُهمةُ بذلك على امرأةِ العزيزِ، فلما وجدَ العزيزُ أنّ قميصَ يوسفَ قد انشقَ من خَلف خاطبَ زوجتَه وقالَ لها: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي هذا الذي جَرى مِن مَكْرِكُنّ، أنت راودتِه عن نفسِه ثم لتدفعي التُهمةَ عن نفسِك اتهمْتِيه بالباطلِ والبُهتان. ثم قالَ زوجُها ليوسفَ عليه السلام بعد أن ظهرت براءتُه: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تذكُرُهُ لأحد لأنّ كِتمانَ مِثلِ هذهِ الأمورِ في ذلك الحينِ أحسن، ثم أمرَ زوجتَه بالاستِغفارِ لذنبِها الذي صدرَ منها والتوبةِ إلى ربِها. وبذلك ظهرت براءةُ يوسفَ عليه السلام ظهورَ الشمسَ في وضَحِ النهار، وظهرَ للعزيزِ عِفَّةُ يوسفَ عليه السلام، وأنهُ نزيهُ العِرضِ سليمُ الناحية، وأنهُ مُنزهٌ عنِ التُهمةِ التي اتهمَتهُ بها امرأتُه زورًا وبُهتانًا. والله أعلم وأحكم. في الحلقة القابلة من سلسلة قصص الأنبياء بإذنِ الله سيكونُ موضوعُ حلقتنا دخولُ يوسفَ السجن فتابعونا وإلى اللقاء.