#30
فصل في الربا
|
قال المؤلف رحمه الله: (فصل) في بيان أحكام الربا.
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام الربا. (فليحذر المؤمن من جميع أنواع الربا، ولا يستهن بشيء منه، فإن عاقبة الربا وخيمة. وقد ظهر على بعض الناس بعد وفاتهم، وهم في قبورهم، آثار من العذاب، أي عذاب القبر، وكانوا معروفين بأكل الربا. في ناحية من نواحي الحبشة، كان هناك رجل معروف بالمراباة، ومع ذلك كان فيه تجبر على الناس، حتى إنه كان في موكب يوما، وهو راكب بغلة، فرأى امرأة أعجبته، وكان زوجها رجلا مسكينا ضعيفا، فأخذها منه قهرا. ثم مات هذا الرجل، فصار يطلع من قبره الدخان، فاجتمع أهله وأحضروا المشايخ، فقال لهم بعضهم استسمحوا له الناس الذين كان يأخذ منهم الربا. فجعلوا يدورون على الناس، ويقولون لهذا سامح فلانا، ولذاك سامح فلانا، وكثير من الناس قرءوا له القرءان على قبره. ثم بعد سبعة أيام، انقطع الدخان من قبره. فليحذر المؤمن من الربا كله، فإنه يؤدي إلى محق البركة واستحقاق العذاب)
قال المؤلف رحمه الله: (يحرم الربا فعله) أي عقده (وأكله) أي الانتفاع به (وأخذه وكتابته) أي كتابة وثيقة الربا (وشهادته) أي الشهادة على عقده. الذي يعمل عقد الربا عليه معصية كبيرة، والذي يأكل مال الربا عليه معصية كبيرة، والذي يتصرف فيه عليه معصية كبيرة، كذلك الذي يستلم ويأخذ مال الربا عليه أيضا معصية كبيرة، والذي يعمل في كتابة عقود الربا عليه معصية كبيرة. روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء (وهو) أي الربا أنواع، منها ربا القرض ومنها (بيع أحد النقدين) الذهب والفضة ولو مع التساوي (بالآخر نسيئة) أي لأجل وإن قصر وهو ربا النساء كأن يقول بعتك هذا الدينار بعشرة دراهم على أن أسلمك إياه بعد ساعة يعني بعد مدة من الوقت. طالما عين أجلا في العقد صار ربا (أو) بيع أحد النقدين بالآخر (بغير تقابض) أي أن يحصل العقد ثم يتفرقا قبل قبضهما أو قبض أحدهما وهو ربا اليد. بالافتراق وقع الربا، سواء لم يحصل القبض من الطرفين أم من طرف واحد، ففي كلا الحالين حصل الربا.
وكما يحصل الربا في مختلفي الجنس من النقد يحصل في متحدي الجنس كذهب بذهب وفضة بفضة كما أشار إلى ذلك بقوله (أو بجنسه) أي أو بيع أحد النقدين بجنسه كذهب بذهب أو فضة بفضة (كذلك أي نسيئة) أي لأجل (أو افترقا بغير تقابض) كما تقدم (أو متفاضلا) أي ويحصل الربا في متحدي الجنس من النقد مع التفاضل (أي مع زيادة في أحد الجانبين) الربويين (على الآخر بالوزن) كبيع دينار ذهب بدينارين أو درهم فضة بدرهمين. قال ﷺ الذهب بالذهب ربا إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة ربا إلا مثلا بمثل.
(و) يحرم بيع (المطعومات) وهي ما يقصد غالبا من البشر للأكل (بعضها ببعض كذلك أي) مع التأجيل أو الافتراق بغير تقابض سواء كانا مختلفي الجنس أم متحديه أو مع التفاضل إذا كانا متحدي الجنس كقمح شامي بقمح مصري أو تمر برني بتمر عجوة فإنه (لا يحل بيعها) أي المطعومات (مع اختلاف الجنس كالقمح مع الشعير إلا بشرطين) وهما (انتفاء الأجل وانتفاء الافتراق قبل التقابض، ومع اتحاد الجنس) كالقمح بالقمح (يشترط هذان الشرطان مع) شرط ثالث وهو (التماثل) أي عدم التفاضل. فما كان يوزن في زمن النبي ﷺ تعتبر المماثلة فيه بالوزن وما كان يكال تعتبر المماثلة فيه بالكيل، فأحيانا تعتبر بالوزن وأحيانا بالكيل، والمماثلة المعتبرة بالقمح والشعير تكون بالكيل.
يقع الربا في البيوع إذا جرى التبادل في أموال ربوية مع الإخلال بأحد شروط التساوي أو التقابض أو الحلول. والأموال الربوية هي النقدان، وهما الذهب والفضة، والمطعومات، كالقمح والشعير والتمر والأرز والملح.
فإذا اتحد العوضان في الجنس، مثل: ذهب بذهب، أو قمح بقمح، واتحدا في العلة، أي كلاهما إما نقد أو طعام، فلا يصح التبادل إلا بثلاثة شروط: التساوي بمعيار الشرع، أي الوزن في النقد والكيل في الطعام، وعلم المتعاقدين بالتساوي يقينا عند العقد. فإن فقد هذا الشرط، وقع ربا الفضل. والتقابض، أي استلام وتسليم العوضين في نفس المجلس. فإن فقد هذا الشرط، وقع ربا اليد. والحلول، أي عدم التأجيل في الدفع أو التسليم. فإن فقد هذا الشرط، وقع ربا النسيئة.
أما إذا اختلف العوضان في الجنس واتحدا في العلة، مثل بيع قمح بشعير أو ذهب بفضة، فيشترط شرطان فقط: الحلول، أي عدم التأجيل في الدفع أو التسليم. فإن فقد هذا الشرط، وقع ربا النسيئة. والتقابض، أي استلام وتسليم العوضين في نفس المجلس. فإن فقد هذا الشرط، وقع ربا اليد، وفي هذه الحالة، يجوز التفاضل في المقدار، أي يمكن بيع وزن أكبر مقابل وزن أقل فيما هو موزون كالذهب والفضة، وفيما هو مكيل كالقمح والشعير.
أما إذا اختلف العوضان جنسا وعلة، مثل بيع قمح بذهب أو ثوب بفضة، فإنه لا يشترط شيء من هذه الشروط، فلا تنطبق عليهما شروط التساوي أو التقابض الفوري أو الحلول، فيجوز مثلا أن يبيع شخص مائة مد من القمح مقابل خمس غرامات من الذهب، لأنه لا يشترط التساوي في المقدار، كما يجوز تأجيل تسليم القمح أو تأجيل دفع الذهب، لأنه لا يشترط التقابض في المجلس، كما يجوز تأجيل الدفع إلى أجل محدد، لأنه لا يشترط الحلول، وبذلك، فإن هذا النوع من المعاملات لا يجري فيه حكم الربا، ويجوز فيه البيع بأي مقدار وبالتسليم الفوري أو المؤجل.
الشرح الربا (لغة: الزيادة، وشرعا) هو عقد يشتمل على عوض مخصوص (أي أن الربا لا يحصل في كل بيع، وإنما يقع في المطعومات والنقدين، ولذلك قيل هو عقد يشتمل على عوض مخصوص) غير معلوم التماثل في المعيار الشرعي حالة العقد (كما في بيع ذهب بذهب أو فضة بفضة، من غير أن يعلم أنهما متساويان بحسب المعيار الشرعي فما يوزن فيجب معرفة وزنه، وما يكال فيجب معرفة كيله. فلو كان العوضان متساويين في الحقيقة، ولكن جهل هذا التماثل، وعقدا العقد دون العلم بالتساوي، وقع ربا الفضل. قال ﷺ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر (يعني القمح بالقمح) والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح ربا إلا مثلا بمثل يدا بيد سواء بسواء جيده ورديئه سواء. الشافعي رضي الله عنه أخذ من هذا الحديث أن النقدين والقوت وما يقصد في العادة للأكل، إذا كان للتفكه أو للتداوي أو ما شابه، لا يجوز بيع الواحد منهما بجنسه مع التفاضل) أو مع تأخير في العوضين أو أحدهما (أي يقع الربا إذا كان هناك تأخير في دفع أحد العوضين، ويسمى ربا النسيئة). هذا الربا لم يكن معروفا مشهورا بين العرب في الجاهلية قبل نـزول ءاية التحريم وإنما الربا الذي كان مشهورا عندهم هو ربا القرض وهو أن يكون للرجل على الرجل دين إلى أجل ثم إذا حل الأجل يقول صاحب الدين للمدين إما أن تدفع وإما أن أزيد عليك، قال بعض الحنفية هذا أول ما نـزل تحريمه من الربا. (الذي يجمع أنواع هذا الصنف من الربا حديث البيهقي وغيره “كل قرض جر منفعة فهو ربا” اهـ. فلو أقرض شخص شخصا آخر ألف دينار على أن يردها ألفا، لكن بشرط أن لا يشتري ما يحتاج إليه إلا من عنده، فهذا قرض جر منفعة، فهو ربا، لأنه جعل شرطا في العقد، شرط جر المنفعة له، فجعله في العقد. هذا الحديث رواه البيهقي، ويدخل في ذلك ما لو كان المقرض مثلا خياطا، فقال للمقترض: أقرضك عشرة تردها عشرة، لكن بشرط أن تخيط ثوبك عندي، أو أقرضك عشرة تردها عشرة، لكن بشرط أن لا تبيع محصول حقلك إلا لي، أو بشرط أن تبيعني البضاعة بسعر أنقص مما تبيع غيري، كل هذا داخل في الربا. هذا الربا يقال له ربا القرض) وينقسم ذلك العقد (أي عقد الربا) إلى ثلاثة أنواع أحدها
ربا الفضل وهو بيع أحد العوضين الربويين (أي فيهما علة الربا، إما كونهما نقدين، وإما كونهما مطعومين، هذا معنى ربوي) وهما متفقا الجنس بالآخر زائدا عليه كبيع دينار بدينارين أو درهم بدرهمين أو صاع قمح بصاعي قمح. (يعلم من هذا أن النقدين، الذهب والفضة، إذا أراد الشخص أن يبيع النقد منهما بجنسه، يعني الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سواء كان الذهب مضروبا عملة أو غير مضروب، أو الفضة مضروبة عملة أو غير مضروبة، فإنه لا بد من التساوي في الجانبين، في الثمن والمثمن، فيما يعطي وفيما يأخذ. والعبرة في التساوي في الذهب والفضة بالوزن، أي لا بد أن يكون وزن الذهب الصافي، وزن ما كان صافيا من الذهب الذي يعطيه، مساويا للصافي من الذهب الذي يأخذه، وإلا فهو ربا، يقال له ربا الفضل، والفضل يعني الزيادة. مثال على ذلك: ذا كانت امرأة لها سوار من ذهب، وأرادت أن تبادله بعقد ذهب، لا بد أن يكون مقدار الذهب الصافي في السوار مساويا لمقدار الذهب الصافي في العقد، فإن لم يتساو الصافي من الذهب في الجانبين ووقع التبادل، فهو ربا الفضل، أي الزيادة. أما إذا كان في السوار والعقد مع الذهب مادة أخرى، فهذا يعتبر تبرعا ولا يتأثر بالتبادل، ونفس الحكم ينطبق على الفضة بالفضة. إذا كان عندك حلي من ذهب وأردت أن تبادله بحلي ذهب آخر من عند البائع وكان الوزن مختلفا، فإن الطريقة الصحيحة لذلك أن تبيعه هذا الذهب بالعملة الورقية مثلا، ثم تشتري بهذه العملة الذهب الذي عنده، فتقول له مثلا: بعتك هذا الذهب الذي لي بمائة دولار، ثم تقول: اشتريت منك هذا الذي عندك بسبعين دولارا، فيقول: بعتك، ثم بعد ذلك تتقاصان، أي تأخذ منه ثلاثين دولارا، وهكذا يكون التبادل صحيحا، فتأخذ منه الذهب الذي اشتريت وتعطيه الذهب الذي بعته وفوقه ثلاثين دولارا، وبهذه الطريقة يتم التبادل دون وقوع الربا، وهذا يسري حتى لو كان الذهب الذي معك مشغولا وقيمته أعلى والذهب الذي عند البائع غير مشغول وقيمته أقل، فإذا أردت بيع الذهب بالذهب، فلا بد من التساوي في الجانبين. ومثل الذهب والفضة في ذلك المطعومات، وهي ما يقصد منه في الأصل، في الغالب، أكله، سواء كان يؤكل قوتا أو إداما أو فاكهة أو للتداوي، لكن الناس يقصدونه في الغالب لأجل الأكل، فمثلا التفاح وإن كان له رائحة طيبة، إلا أنه يعتبر مما يقصد في الأصل للأكل، وإن كان في الماضي يوضع بين الثياب لتكتسب رائحة طيبة، فإن هذا ليس الغالب في قصده، وعلى هذا المقياس، فإن المطعومات إذا أراد أحد أن يبيع شيئا منها بشيء منها وهما من نفس الجنس كما في بيع القمح بالقمح، والشعير بالشعير، والذرة بالذرة، والرز بالرز، والعدس بالعدس، والحمص بالحمص، فلا بد من التساوي في الجانبين، فإن لم يوجد التساوي وقع الربا مثل الذهب بالذهب والفضة بالفضة، ولو كان أحد النوعين أجود من الآخر، أو اختلفت صفاتهما وقيمتهما، وفي الذهب والفضة يعتبر التساوي بالوزن، وفي المطعومات يعتبر بما كان يكال أو يوزن في زمن النبي ﷺ، فما كانت العادة فيه الكيل في زمنه ﷺ يعتبر فيه الكيل، وما كانت العادة فيه الوزن في زمنه ﷺ يعتبر فيه الوزن، وأما غير الذهب والفضة والمطعومات، فيجوز بيعها بمثلها أو بالفضل، كالحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، والألماس بالألماس، والتراب بالتراب، وهذا هو الحكم في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
الخلاصة أن ربا ٱلفضل هو بيع جنس واحد من ٱلأموال ٱلربوية مع ٱلفضل في ٱلمقدار، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة أو مطعوم بمطعوم مع زيادة في أحدهما، وهذا محرم لمخالفته قول ٱلنبي ﷺ مثلا بمثل، سواء بسواء، فإذا ٱختل ٱلتساوي في ٱلمقدار وقع ٱلربا)
والثاني ربا اليد وهو بيع أحد العوضين الربويين بالآخر مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما (كأن يكون البائع أعطى لكن المشتري لم يعط) بأن يفترق المتبايعان قبل القبض بشرط اتفاق العوضين في علة الربا بأن يكون كل منهما مطعوما أي مقصودا للأكل غالبا تقوتا (كالقمح والشعير) أو تأدما (أي بكونه يؤتدم به، معناه يؤكل بالخبز) أو تفكها (كأن يؤكل على سبيل أنه فاكهة كالتين) أو تداويا (كالذي يؤخذ للتداوي كالزعفران) أو غيرها وذلك كالبر بالشعير أو الملح بالزعفران والتمر بالزبيب والتفاح بالتين (هنا مطعوم بمطعوم لكن اختلف الجنس، فلا يشترط التساوي وإنما يشترط التقابض في المجلس، لأن الرسول ﷺ قال فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فإذا بيع القمح بالشعير، والتمر بالزبيب، والتفاح بالتين، جاز ذلك، ولا يشترط التساوي في القدرين، وإنما يشترط التقابض في مجلس العقد) أو أن يكون كل منهما نقدا (والنقد هو الذهب أو الفضة) وإن اختلف الجنس كالذهب بالفضة والعكس (يعني إذا بعت ذهبا بفضة، فكما ورد بع كيف شئت إذا كان يدا بيد، وكذلك إذا بعت قمحا بشعير، فبع كيف شئت إذا كان يدا بيد. أما إذا كنت تشتري قمحا بعملة ورقية، فهنا لا يشترط أن يكون يدا بيد، فكلامنا عن أشياء معينة الذهب والفضة والمطعومات. الخلاصة أن ربا ٱليد هو بيع ما يشترط فيه ٱلتقابض، كبيع ٱلذهب بٱلذهب، أو ٱلفضة بٱلفضة، أو ٱلفضة بٱلذهب، أو ٱلمطعوم بٱلمطعوم، من غير ٱلتقابض في نفس ٱلمجلس، أي دون الاستلام وٱلتسليم في ٱلحال، فبمجرد ٱلٱفتراق قبل ٱلتقابض يقع ٱلربا، لمخالفة قول ٱلنبي ﷺ يدا بيد)
والثالث ربا النساء بفتح النون أي التأجيل وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس (أي إذا كان ٱلعوضان من نفس ٱلجنس مثل ذهب بذهب أو قمح بقمح) أو المختلفيه (أي إذا كان ٱلعوضان من جنسين مختلفين، مثل ذهب بفضة أو قمح بشعير) أحدهما بالآخر لأجل ولو كان الأجل قصيرا جدا كلحظة أو دقيقة أي أن يشرط ذلك لفظا بأن يقول أحدهما بعتك هذا الدينار بهذا الدينار أو هذا الدينار بهذه الدراهم أو هذا القمح بهذا القمح أو هذا القمح بهذا الشعير ويزيد في كل من ذلك شرط الأجل كأن يقول على أن تسلمنيه غدا أو في ساعة كذا أو لساعة كذا أو في الدقيقة السادسة من الآن أو نحو ذلك فهذا ربا محرم. ولا يحصل الأجل بدون الذكر (يعني عند ذكره ٱلأجل وقع في ٱلربا). وإنما كان الربا خاصا بالنقد دون الفلوس مثلا من بين الأثمان لأن النقد هو المذكور في حديث الربا الذي فيه قوله ﷺ (الذهب بالذهب ربا إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة ربا إلا مثلا بمثل) ولأن النقد أي الذهب والفضة مرجع الأثمان. (ربا ٱلنسيئة أي ٱلتأجيل، فإذا بيع ٱلذهب بٱلذهب مثلا بمثل مع ٱشتراط تأجيل ٱلتسليم إلىٰ أي مدة، وقع ٱلربا. فمثلا إذا قلت “بعتك هذا ٱلذهب بٱلذهب ٱلذي معك، وهما متساويان، علىٰ أن أسلمك إياه غدا، أو علىٰ أن تسلمني ما معك غدا، أو بعد ساعة، أو بعد دقيقة”، فقد وقع ٱلربا. ويجري هذا ٱلحكم في ٱلمطعومات كما يجري في ٱلذهب وٱلفضة، فلا بد من ٱلابتعاد عن ٱلتأجيل في جميع هذه ٱلمبادلات.
فلو قلت “بعتك هذا ٱلقمح بهذا ٱلشعير علىٰ أن أسلمك إياه غدا” وقع ٱلربا. وكذلك لو قلت “بعتك هذا ٱلذهب بهذه ٱلفضة، علىٰ أن تسلمني إياها غدا” فقد وقع ٱلربا. فإن ٱلذهب مع ٱلذهب، وٱلفضة مع ٱلفضة، وٱلفضة مع ٱلذهب، وكذلك ٱلمطعومات جميعا، لا بد أن يكون ٱلعقد فيها خاليا من ٱلتأجيل. أما إذا ٱشتريت بٱلنقد مطعوما، فيجوز ٱلتأجيل. فلو ٱشتريت بٱلذهب قمحا، يجوز أن يؤجل ٱلدفع إلىٰ شهر أو أسبوع، أو نحو ذٰلك. وأما في غير ذٰلك، كبيع ٱلحديد بٱلحديد وٱلنحاس بٱلنحاس، فلو شرط ٱلتأجيل، لا يكون ربا. وذٰلك لأن ٱلنبي ﷺ لم يذكر في حديث ٱلربا إلا ٱلنقد وٱلمطعومات، فٱختص ٱلربا بهما.
الخلاصة أن ربا ٱلنسيئة هو بيع ما يشترط فيه ٱلتقابض في نفس ٱلمجلس مع تأجيل أحد ٱلعوضين، كبيع ذهب بذهب أو فضة بفضة أو مطعوم بمطعوم مع الاتفاق على ٱلتسليم في وقت مؤجل، وهذا محرم لمخالفته قول ٱلنبي ﷺ يدا بيد، فإذا ٱفترق ٱلمتبايعان قبل ٱلتقابض وقع ٱلربا)
وأما ربا القرض فهو كل قرض شرط فيه جر منفعة للمقرض أو له وللمقترض سواء كان الشرط جر منفعة له وحده أو له وللمقترض سواء كانت المنفعة زيادة أو غير زيادة فالربا الذي هو بالزيادة هو الربا الذي بالبنوك ونحوها مما يشترط فيه الزيادة (كأن قال له أقرضك ألف دولار على أن تردها ألفا ومائة من الدولارات، هذا قرض جر منفعة فهو حرام ومن الكبائر، وإن كان من غير جنس المقرض، كأن قال له أقرضتك هذه الألف دولار على أن تردها ألفا ومائة دولار من الليرات اللبنانية، فهذا أيضا حرام. ولا يشترط في حرمة ربا القرض أن يكون القدر الذي يشترطه المقرض من الزيادة عند رد القرض كثيرا، بل القليل والكثير في الحرمة سواء، لقول الله تعالى ﴿وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون﴾ أي إن أردتم التوبة من معصية الربا فاقتصروا على رأس المال ولا تطلبوا شيئا سوى رأس المال) أما الربا الذي بغير الزيادة في قدر الدين فهو مثل ما يفعله بعض الناس من أن أحدهم يقرض شخصا مالا إلى أجل ويشترط عليه أن يسكنه بيته مجانا أو بأجرة مخففة إلى أن يؤدي الدين (كأن يقول له أقرضتك ألف دولار ترد بعد سنة دون زيادة لكن بشرط أن تسكنني في دارك مجانا. فبالرغم من عدم ٱلزيادة ٱلمالية في ٱلدين، إلا أن ٱشتراط ٱلمنفعة للدائن يحول ٱلمعاملة إلىٰ ربا محرم من كبائر ٱلذنوب، لأن كل قرض جر منفعة للمقرض فهو ربا) ويسمونه في بعض البلاد استرهانا وقد مر ذكره وهو حرام بالإجماع اتفق على تحريمه المجتهدون الأئمة الأربعة وغيرهم. (فإن أراد المقترض مكافأة المعروف بالمعروف فرد الدين مع زيادة من تلقاء نفسه كان جائزا لأن القرض حسنة من الحسنات إذا كان على الوجه الشرعي أي فيه ثواب. وقد فعل الرسول ﷺ ذلك فقد روىٰ مسلم في صحيحه أنه ﷺ اقترض من رجل بكرا من الإبل أي سنا صغيرا ورد رباعيا وهو سن أكبر منه، وهذا شىء جائز. معنى ٱلحديث أن ٱلنبي ﷺ ٱقترض من رجل بكرا أي جملا صغيرا، وهو ما لم يتجاوز سنه أربع سنوات، فلما جاء وقت ٱلسداد، أعطى ٱلمقرض رباعيا أي جملا أكبر سنا، وهو ما أتم أربع سنوات ودخل في ٱلخامسة، أي إنه رد له ما هو أفضل مما أخذ. وقد مدح رسول الله ﷺ من يفعل ذلك بقوله (خيركم أحسنكم قضاء) رواه مسلم. ومن الجائز أيضا أن يقرض ماله لشخص لينتفع به وغرضه من هذا القرض أن يبقى له هذا المال كما هو لأنه إن تركه عنده يخشى أن يصرفه فأقرضه لشخص وقصده أنه إن أقرضه صار محفوظا له وأما إن تركه عنده فإنه يصرفه في أمور شتى فإن هذا جائز بالإجماع)
ومن (أنواع) الربا ما يفعله بعض الناس من أنهم يبيعون الشىء بأقساط مؤجلة إلى ءاجال معلومة (كأن يحدد بداية كل شهر) مع شرط أنه إن أخر شيئا من هذه الأقساط يضاف عليه (مبلغ) كذا من الزيادة (في ٱلثمن كأن يقال له مثلا يزاد عليك ٱثنان بٱلمائة مع تكلفة ٱلمحاماة إذا صار هناك دعوى، كل هذا فاسد وحرام) ولولا هذا الشرط (أي لولا ٱشتراط ٱلزيادة) لكان بيعا جائزا مهما حصل من الربح بسبب التقسيط مما هو زائد على ثمن النقد فأصل بيع التقسيط جائز إذا افترقا على البيان أي بيان أنه يريد بيع النسيئة لا النقد (أي لا نقدا حالا. أي ٱلبيع ٱلمؤجل، سواء كان ٱلدفع دفعة واحدة في ٱلمستقبل أو علىٰ أقساط) أو النقد (أي نقدا حالا) لا النسيئة (كأن يقول ٱلبائع للمشتري إن أردت ٱلكتاب نقدا فسعره خمسون دولارا، وإن أردته بٱلتقسيط فسعره مائة وخمسون دولارا، فيختار ٱلمشتري أحد الاثنين، فهذا جائز ليس حراما. فإذا قال له أريده نقدا، يقول له خمسون دولارا، وإذا قال له أريده تقسيطا، فيقول له مائة وخمسون) وأما إذا تفرقا قبل البيان ثم أخذ الشىء فهو حرام وذلك كأن يقول البائع للمشتري بعتكه بكذا نقدا أو بكذا نسيئة فيقول المشتري قبلت من غير أن يبين أنه اختار النقد أو النسيئة فيأخذ المبيع من غير بيان وهو المراد بما ورد النهي عنه من بيعتين في بيعة.
(وفي حكم القرض الذي فيه ربا ما يفعله بعض الناس باسم التأمين حيث يدفعون مبلغا معينا إلى شركة في أوقات معينة على شرط أنه إن أصابه في نفسه أو في سيارته حوادث تكلفه صرف مال، تكفيه الشركة هذا الصرف وهو ليس معلوما عنده ماذا يحصل له من إصابات في المستقبل هذا يعتبر قرضا لأنه ليس هبة ولا بيعا ولا شراء ولا صدقة ولا إباحة ولا هدية فإذا هو قرض محرم فاسد يعتبر من ربا القرض لأنه شرط ما فيه منفعة لنفسه لأنه يخشى إن لم يفعل هذا أن يتكلف غرامات في المستقبل. ومثل هذا ما يسميه بعض الناس بالجمعية فيجتمع عدد من الأشخاص ويتفقون على أن يدفع كل منهم مبلغا في كل شهر مثلا ثم يعطى المجموع لواحد منهم ويتناوبون علىٰ ذٰلك فإن هذا أيضا يعتبر قرضا جر منفعة لأن كل واحد منهم لم يدفع إلا وهو يطمع بأخذ مال الجميع مجموعا وأن يصله الدور)
فصل فيما يحرم بيعه
قال المؤلف رحمه الله: (فصل) في بيان بعض البيوع المحرمة
الشرح أن هذا فصل معقود لبيان المعاملات المحرمة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويحرم بيع ما لم يقبضه) أي أنه لا يجوز بيع المبيع قبل أن يقبضه المشتري فلو اشترى زيد من عمرو صاع قمح لم يكن له بيعه لثالث حتى يقبضه. ويختلف القبض باختلاف المبيع فيحصل في غير المنقول بالتخلية وتفريغ المبيع من أمتعة غير المشتري، وفي المنقول بتناوله إن كان مما يتناول وإلا فبنقله إلى مكان لا يختص بالبائع. إذا ٱشترىٰ ٱلإنسان شيئا مباحا منتفعا به شراء صحيحا وفقا للشرع، فبمجرد إجراء عقد ٱلبيع ٱلصحيح يدخل هٰذا ٱلشيء في ملكه. ولٰكن ٱلكلام هنا ليس عن دخول ٱلشيء في ملك ٱلمشتري، بل عن بيعه للشيء ٱلذي ٱشتراه.
فإذا ٱشترىٰ ٱلشخص شيئا، فلا يجوز له بيعه قبل أن يقبضه)
الشرح من البيوع المحرمة بيع المبيع قبل قبضه، (أي إنه لا يجوز بيع ٱلمبيع قبل أن يقبضه ٱلمشتري، فلو ٱشترىٰ زيد من عمرو صاع قمح، لم يكن له أن يبيعه لثالث حتىٰ يقبضه)، وهذا الحكم عند الإمام الشافعي رضي الله عنه عام شامل لجميع أنواع البيع سواء كان المبيع مطعوما أو غيره (وأما عند مالك، فيجوز بيع ما لم يقبضه إلا في المطعومات. فإذا ٱشترىٰ شخص قمحا ولم يقبضه هو ولا وكيله، ثم باعه لآخر، فلا يصح ذٰلك عند أحد من ٱلمجتهدين أما إذا ٱشترىٰ آلات أو بيتا، فله بيعه عند مالك قبل قبضه، ويختلف ٱلقبض بٱختلاف ٱلمبيع) ويحصل القبض بالتخلية أي التمكين في العقار كالأرض فإن كان بيتا اشترط مع ذلك تفريغه من أمتعة غير المشتري وتمكينه من التصرف بتسليمه المفتاح، (إذا ٱشترىٰ أحد بيتا، فإن قبضه يكون بتفريغه من ملك ٱلبائع وتسلم ٱلمشتري مفتاحه، فبذٰلك يكون قد قبض ٱلبيت. وأما ما يتناول بٱليد، كٱلكتاب، فإن قبضه يكون بٱلمناولة) ويحصل القبض فيما ينقل بالنقل إلى مكان لا يختص بالبائع (فقبض السيارة يكون بنقلها)، وبالمناولة فيما يتناول باليد كالثوب (وليس شرطا أن يتناوله بنفسه إما هو أو وكيل عنه).
قال المؤلف رحمه الله: (و) يحرم بيع (اللحم بالحيوان) مأكولا كان الحيوان أم غيره.
الشرح يحرم بيع اللحم بالحيوان (أي الحي) من مأكول وغيره سواء كان اللحم مأخوذا من جنس هذا الحيوان أو غيره لحديث (نهى رسول الله ﷺ عن بيع اللحم بالحيوان) وهي مسألة خلافية بين الأئمة. (مثلا إذا كان لأحدهما خمسون كيلوغراما من ٱللحم، وللآخر شاة، فقال “ٱشتريت منك ٱلشاة ٱلتي عندك بهٰذا ٱللحم ٱلذي عندي” فهٰذا لا يصح. وأما بيع ٱللحم بٱللحم، فإذا كانا من نفس ٱلجنس، فلا يباع ٱللحم بٱللحم وهو رطب، أي قبل أن يجفف.
أما إذا كان ٱلبيع بين جنسين مختلفين، كبيع لحم ٱلشاة بلحم ٱلبقر، فهو جائز ولو كانا رطبين، لأنهما من جنسين مختلفين. وأما بيع ٱلحيوان بٱلحيوان، فهو جائز، فيجوز بيع شاة بشاة، أو بيع جمل ببقرتين، أو بقرة ببقرة)
فائدة. لا يجوز بيع الحيوان وزنا (أي بٱلوزن) أي لا يجوز بيعه على أن يكون ثمن الرطل كذا و (تحريم بيع الحيوان بالوزن) لا يأباه قواعد مذهبنا معشر الشافعية (أي لا يتعارض مع قواعد مذهب الشافعية) لأنه إذا بيع حيوان بشرط الوزن كما هو معروف اليوم يدخل (ما لا يباع شرعا) كالقذر الذي في جوفه في المقابلة بالثمن فينصرف قسم من الثمن إلى القذر والقسم الآخر إلى ما سواه كاللحم والعظم، والقذر لا يقابل بمال.
والخلاص من ذلك أن لا يعتبر الوزن شرطا وإن ذكر لتخمين السعر، فإنه لو قال البائع هذا وزنه كذا ليساعد المشتري على تخمين السعر من غير أن يقول بعتك كل رطل بكذا. ثم قال بعتكه بكذا فقال المشتري اشتريته بما ذكرت صح البيع. (لو قال ٱلبائع “هٰذا وزنه كذا، فأبيعك كل كيلو منه بكذا”، فيرد ٱلمشتري “أنا لا أشتريه بشرط ٱلوزن، إنما أعطيك ٱلثمن ٱلذي تريده علىٰ حسب تخمينك”، ثم يتفقان علىٰ ٱلسعر دون ٱشتراط سعر لكل كيلو، كأن يقول ٱلبائع “بعتك هٰذا ٱلخروف بثلاث مائة دولار”، فيقول ٱلمشتري “قبلت”، فيكون ٱلبيع صحيحا.
وأما ٱلممنوع، فهو أن يكون ٱلبيع مشترطا بٱلوزن، لأنه بذٰلك يجعل جزءا من ٱلثمن يقابل ٱلنجاسات، وهي مما لا يباع شرعا، فيصبح ٱلبيع غير صحيح. فلو قال ٱلبائع “أبيعك هٰذا ٱلخروف ٱلذي وزنه خمسون كيلو، بسعر كذا لكل كيلو”، فهٰذا حرام ولا يصح، لأن ٱلثمن يوزع علىٰ أجزاء ٱلحيوان، ويدخل فيه ما لا يباع كٱلدم وٱلقذر، مما يفسد ٱلعقد)
قال المؤلف رحمه الله: )و( يحرم بيع )الدين بالدين( (فمثال ذٰلك إذا كان لزيد علىٰ عمرو دين يستحق بعد شهر وقيمته مائة درهم، وكان زيد يحتاج بعد خمسة أيام إلىٰ خمسين درهما ولا يملكها، فقال لبكر أبيعك ٱلدين ٱلذي لي علىٰ عمرو، وهو مستحق بعد شهر ومقداره مائة درهم، بخمسين درهما تعطيني إياها بعد يومين فهٰذا يعني أنه قد باع دينا بدين، وهو محرم، فإذا عقد هٰذا ٱلبيع كان باطلا.
وكذٰلك إذا قال لبكر أبيعك ٱلدين ٱلذي لي علىٰ عمرو، وهو يستحق بعد شهر ومقداره مائة درهم، بخمسين درهما تعطيني إياها ٱلآن، فهٰذا أيضا بيع دين بدين وهو محرم، وإذا عقد هٰذا ٱلبيع فهو باطل.
أما إذا كان لزيد علىٰ عمرو دين وقد حل وقته، ولٰكنه لم يقبضه بعد من عمرو، ثم قام زيد ببيعه لبكر بمال حال، فهٰذا يجوز.
خلاصة ٱلمسألة: يحرم بيع ٱلدين ٱلذي لم يحل بثمن مؤجل أي بدين، وكذٰلك لا يصح بيع ٱلدين ٱلذي لم يحل ولو بثمن حال، وأما بيع ٱلدين ٱلحال بثمن حال فهو جائز ويصح بلا خلاف)
الشرح يحرم بيع الدين بالدين، (أي لا يجوز أن يبيع ٱلشخص دينا له علىٰ أحد بدين آخر) وله صور متعددة (مثال ذٰلك إذا كان لأحدهما دين علىٰ زيد وحل ٱلأجل وأراد ٱستيفاء ماله، ولٰكن قبل حلول ٱلأجل جاء لعمرو وقال له لي دين علىٰ زيد، أقرضته إياه علىٰ أن يرجعه لي بعد نهاية شهر، فأنا أبيعك إياه بخمسمائة دولار، علىٰ أن تقبضني ٱلآن، أو قال له علىٰ أن تقبضني بعد خمسة عشر يوما، فقبل عمرو وٱشترىٰ منه هٰذا ٱلدين، فهٰذا يعتبر بيع ٱلدين بٱلدين، وهو حرام ومحرم شرعا)
كأن أسلم إلى رجل دينارا في (صاع) قمح مؤجل إلى أجل معين (مثلا يقول له أسلمت لك هذا المال في قمح صفته كذا، فأصبح له في ذمته هٰذا ٱلقمح ٱلمسمىٰ، فهٰذا صار دينا علىٰ ٱلشخص ٱلآخر، وهٰذا عقد سلم صحيح) ثم (قبل أن يستلم ٱلقمح من البائع) يبيع ذلك القمح من شخص ءاخر (أي لشخص ثالث) بدينار مؤجل (أي باع ٱلقمح ٱلذي لم يقبضه بعد، علىٰ أن يكون ٱلثمن مؤجلا، فٱلذي له هٰذا ٱلقمح باعه لشخص آخر. في هٰذه ٱلحالة، يكون قد باع دينا بدين، وهو محرم، لأن ٱلمبيع (ٱلقمح) ما زال دينا في ذمة ٱلبائع ٱلأول، وٱلثمن ٱلجديد (ٱلدينار) أيضا مؤجل، فٱجتمع دين مع دين، وهو حرام) وذلك لحديث (نهى رسول الله ﷺ عن بيع الكالئ بالكالئ) (يعني الدين بالدين) رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما. (أما بيع ٱلدين لغير من عليه ٱلدين بثمن حال بعد حلول ٱلدين ٱلآخر فيجوز، وصورة هٰذه ٱلمسألة أن يكون لبكر علىٰ عمرو دين وقد حل وقته، فباع بكر هٰذا ٱلدين لزيد بثمن حال وقبض منه ٱلمال في ٱلحال، فهنا حل ٱلدين وقبض منه ٱلثمن فيجوز، ثم زيد يقبض من عمرو، وأما قبل حلول الدين فهو حرام)
فيحرم ما يفعله بعض الناس من أن الشخص يكون له في ذمة شخص ثمن مبيع مقسط إلى ءاجال ثم يأتي إلى موظف بنك أو شخص ءاخر قبل حلول الدين فيقول له لي كذا وكذا في ذمة فلان فأبيعكه بمبلغ كذا فهذا حرام لأنه من بيع الكالئ بالكالئ (أي بيع ٱلدين بٱلدين) وهو مما اتفق على تحريمه. (مثلا شخص باع سيارته لزيد بعشرة آلاف دولار مقسطة علىٰ عشرة أشهر، فأعطاه زيد عشرة شيكات، كل شيك بقيمة ألف دولار لكل شهر. فقبل أن يحل أجل هٰذه ٱلشيكات، ذهب هٰذا ٱلشخص إلىٰ موظف بنك أو طرف آخر وباعه هٰذا ٱلدين بثمن حال أو مؤجل. فهٰذا من بيع ٱلدين بٱلدين وهو حرام)
قال المؤلف رحمه الله: (و) يحرم )بيع الفضولي أي بيع) الشخص (ما ليس له عليه ملك ولا ولاية( فمن باع ما ليس ملكا له ولا له عليه ولاية بطريق من الطرق الشرعية كأن كان المالك قد وكله بأن يبيعه لم يصح بيعه. ٱلفضولي أي ٱلحشور بٱلعامية، وهو ٱلذي يتدخل فيما ليس من شأنه ويتصرف في ملك غيره بدون إذن أو ولاية شرعية)
الشرح الفضولي هو الشخص الذي يبيع ما ليس ملكا له ولا له عليه ولاية بطريق من الطرق الشرعية فلا يجوز بيعه هذا، وأما من كان له ولاية على مال غيره بأن يكون ولي يتيم (أو إذا كان أبا فباع مال طفله لمصلحته، يجوز لأن له ولاية عليه) أو وكيلا عن المالك فبيعه صحيح ويشترط أن يراعي مصلحة موليه أو موكله. (إذا دخل شخص دكانا، وهو لا يملكه، ولا هو وصي علىٰ صاحبه، ولا موكل بٱلبيع، ثم جاء مشتر وقال له “بعني هٰذا البراد” فقام ببيعه، فهٰذا يسمىٰ بيع ٱلفضولي، وهو بيع غير جائز ولا يصح شرعا، لأنه تصرف في ملك غيره بغير إذن أو ولاية)
قال المؤلف رحمه الله: )و (يحرم بيع )ما لم يره( المتعاقدان أو أحدهما قبل العقد، )ويجوز( بيعه )على قول للشافعي) رضي الله عنه (مع الوصف(
الشرح يحرم بيع عين غير مشاهدة للمتعاقدين أو أحدهما وهذا مذهب الشافعي، وجمهور الأئمة يجوزونه (ولٰكن) على أن يكون له (أي للمشتري) الخيار إذا رءاه (فله أن يقبل أو يرد)، وللشافعي قول بصحته إذا وصفه (أي إذا وصف البائع ٱلمبيع) وصفا يخرج به من الجهالة المطلقة (ثم إذا ظهر ٱلمبيع مطابقا للوصف ٱلمتفق عليه، ثبت ٱلبيع، وإلا فللمشتري ٱلحق في رده. من ٱلبيوع ٱلمحرمة بيع ما لم ير، وقد تكلمنا في هٰذه ٱلمسألة في ٱلدروس ٱلماضية فقلنا إنه إذا كان ٱلمبيع مما لم يره ٱلبائع ولا ٱلمشتري أو رآه ٱلبائع ولم يره ٱلمشتري أو رآه ٱلمشتري ولم يره ٱلبائع، فهٰذا من حيث ٱلأصل لا يصح بيعه في مذهب ٱلشافعي رضي ٱلله عنه، ومثال ذٰلك أن يوكل شخص غيره لشراء شيء وصفه له، فإذا ٱشتراه ٱلوكيل وعلم بذٰلك ٱلموكل، لكنه لم يره بعد وباعه لشخص آخر قبل رؤيته، فهٰذا بيع غير صحيح، وكذٰلك لو رآه ٱلمشتري دون ٱلبائع، أو رآه أحدهما قبل زمن طويل يحتمل ٱلتغير في ٱلعادة، فإن ٱلرؤية ٱلسابقة لا تكفي ويكون ٱلبيع باطلا، كما لو رأىٰ ٱلمشتري حملا صغيرا، ثم كبر وصار شاة، فلا تكفي رؤيته ٱلسابقة. وقد قال ٱلشافعي في قول آخر بجواز ٱلبيع إذا وصف ٱلمبيع وصفا يرفع ٱلجهالة، بحيث إذا رآه ٱلمشتري بعد ذٰلك يقول: “نعم، هٰذا هو ٱلذي وصف لي”، فإن وجده مطابقا للوصف ثبت ٱلبيع، وإلا فله ٱلخيار في رده. وعند ٱلشافعية، تجب رؤية كل ٱلمبيع إلا إذا كان مما تكفي فيه رؤية بعضه، فإن كان كتابا فلا بد من رؤية صفحاته، وإن كان دارا فلا بد من رؤية غرفها، أما إذا كان كومة قمح، فيكفي رؤية ظاهرها لأن أجزاءها متشابهة)
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصح بيع غير المكلف وعليه) أي وشراؤه (أي لا يصح بيع المجنون والصبي( وشراؤه لأنه لا يجوز أن يكون أحد المتعاقدين غير مكلف أي مجنونا أو دون البلوغ في مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه (و) إن كان (يجوز بيع الصبي المميز( بإذن وليه )في مذهب الإمام أحمد) بن حنبل رضي الله عنه.
الشرح لا يصح بيع المجنون والصبي ماله من غيره (أي لغيره) ولا يجوز للمكلف أن يبيعه ماله (أي أن يبيع ماله هو للمجنون وللصبي لأن المجنون لا يصح أن يبيع ماله لغيره ولا يصح أن يشتري، وكذلك الصبي الذي لم يبلغ بعد ولو كان مميزا) وأجاز بعض الأئمة بيع الصبي المميز بإذن وليه (سواء كان ذلك ببيع أو شراء، كأن يقول له وليه: “اشتر بهذا كذا” أو “بع هذا بكذا”) وذلك مذهب أحمد وءاخرين (أما في مذهب الشافعي، فلا يصح أن يبيع الصبي ولا أن يشتري، سواء كان مميزا أو غير مميز، أذن له الولي أم لم يأذن، وإنما يتولى وليه البيع والشراء له وفقا للمصلحة). ويدخل في حكم ما مر من عدم صحة بيع غير المكلف عدم صحة بيع المكره وكذلك شراؤه، والمكره (في باب المعاملات) هو من هدد بنحو القتل أو قطع الأطراف أو الضرب الشديد أو نحو ذلك فلا يصح بيعه لأنه غير مكلف بالنسبة لما أكره عليه كما يفهم من حديث (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الترمذي، (ففي بعض الأحوال، يكون الضرب الشديد إكراها، كما هو الشأن في باب المعاملات، وفي بعض الأمور لا يعد إكراها، كمن أكره بالضرب الشديد على سب الله، فإنه لا يعتبر إكراها منجيا لصاحبه من الكفر، فلينتبه) فإذا حرم إكراهه على بيعه حرم شراؤه منه مع العلم بأنه مكره إلا أن يكون أكره بحق شرعي. (المكره بحق شرعي يصح شراؤه وبيعه، كمن توجه عليه حق كبيع ماله لوفاء دين، فأكرهه الحاكم على ذلك. والدليل على اشتراط عدم الإكراه قوله تعالى ﴿إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم﴾ وقوله ﷺ “إنما البيع عن تراض” رواه ابن حبان وابن ماجه. أما المجنون والطفل، فمن يعاملهما في البيع والشراء يقع في الذنب، أما هما فليس عليهما ذنب)
قال المؤلف رحمه الله: (أو( بيع ما )لا قدرة له على تسليمه( فهو حرام أيضا كبيع الضال والمغصوب، يعني إذا كان واحد عنده بيت مغصوب مثلا فلا يستطيع أن يبيعه لآخر إلا أن يكون المشتري قادرا على تسلمه، من غير كبير مؤنة أو كلفة فيجوز ويصح البيع.
الشرح من البيع المحرم أن يبيع ما لا قدرة له على تسليمه (للمشتري)، يستثنى ما لو كان المشتري قادرا على تسلمه فيجوز ويصح البيع، فلا يصح بيع ضال (وهو المال المفقود الذي لا يعرف مكانه) و (لا بيع) مغصوب (وهو المأخوذ من صاحبه ظلما وعدوانا بغير حق) وناد (وهو الحيوان الهارب الذي لا يمكن ضبطه) لمن (أي للمشتري الذي) لا يقدر على رده (أي رد المبيع. أما إذا كان المشتري قادرا على استرداد المبيع دون بذل جهد شاق أو تكاليف كبيرة، فيصح البيع ولذلك قال المؤلف رحمه الله) بخلافه لقادر على ذلك بلا كثير مؤنة أو كلفة فيجوز. (فعلى هذا لو اغتصب له دار أو سيارة ولا يستطيع أن يسلمها لا يجوز له أن يبيعها إلا لمن يستطيع أن يخلصها من الظالم بلا كثير مؤنة أو كلفة وينتفع بها)
قال المؤلف رحمه الله: (و (يحرم بيع )ما لا منفعة فيه( كالخبز المحترق والحشرات التي لا منفعة فيها كالخنفساء والعقرب. لأن بعض الحشرات فيها منفعة كالعلق. الآن يستعملونه في بعض المستشفيات في كندا لأن فيه منفعة معتبرة.
الشرح لا يجوز شراء ما لا منفعة فيه حسا كالخبز المحترق الذي لا يقصد للأكل أو شرعا مع وجودها حسا كالآت اللهو وصلبان الذهب والفضة والصور التي هي لذوي الأرواح التي تكون بهيئة يعيش بها ذلك الحيوان، وكذلك الحشرات وهي صغار دواب الأرض كالحية والعقرب والفأرة والخنفساء وإن ذكر لها أصحاب ذكر خواص الحيوانات خواص فلا يجوز بيعها ولا شراؤها بخلاف ما ينفع منها كالضب لأكله والعلق لامتصاصه الدم. وكذلك لا يجوز بيع السباع التي ليس لها نفع معتبر كالأسد والذئب والنمر بخلاف ما ينفع منها كالضـبع للأكل في مذهب الشافعي رضي الله عنه والفهد للصيد والفيل للقتال. ويشترط في الثمن مثل ذلك (أي يشترط أن يكون العوض المدفوع في البيع أيضا مما له منفعة معتبرة شرعا، فلا يجوز أن يكون الثمن نفسه شيئا محرما أو لا منفعة فيه). (القاعدة في البيع المحرم أنه لا يصح بيع ما لا منفعة فيه، لأنه لا يعد مالا، وأخذ المال في مقابلته ممتنع، سواء كانت منفعته معدومة حسا أو شرعا. فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها كالحية والعقرب، ولا يلتفت إلى ما يذكر من منافعها في الخواص. كذلك لا يجوز بيع السباع والطير التي لا نفع معتبرا لها، كالأسد والذئب والحدأة، ولا يعتبر نفع جلدها بعد الموت، ولا ريشها في النبل، ولا اقتناؤها للهيبة والسياسة.
كذلك لا يصح بيع ما لا منفعة فيه لقلته، كحبة قمح أو شعير، ولا بيع الخبز المحترق الذي لا يقصد للأكل، ولا آلات اللهو المحرمة، لأن المنفعة فيها كأنها معدومة شرعا، وكذلك الصور المجسمة لذوات الأرواح إذا كانت على هيئة يعيش عليها ذلك الحيوان، كصورة حصان بثلاثة أرجل، فإن اقتناءها وبيعها محرم، إلا ما استثناه الإمام مالك من اللعبة التي على هيئة بنت صغيرة لتلعب بها البنات، وأما عند الشافعية، فيجوز إعطاؤها للبنت دون شرائها، ولا يجوز تمكين الطفل من اللعب بها. أما ما كان له نفع معتبر، فيصح بيعه، كالفهد للصيد، والفيل للقتال، والنحل للعسل، والطاووس للأنس بلونه، وكذلك الضبع لأنه يؤكل)
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/NiPus-EVXT0
للاستماع إلى الدرس: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-30