#3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صَادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمُتَوَفَّى فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ (لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) وَذَلِكَ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بَيَانُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَقِيدَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي وَمُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَكَ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أُسْلُوبِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ لا لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ هَؤُلاءِ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ (لَا يَتَوَهَّمْ أَحَدٌ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ “عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ” أَنَّ فَقَطْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ قَالُوا ذَلِكَ، لَا. إِنَّمَا مُرَادُهُ هَذِهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنَّ الْعِبَارَاتِ مُسْبُوكَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ) وَمَعْنَى مَا قَالَهُ لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَكُونَ مَحْدُودًا وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا لَهُ حَجْمٌ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالشَّجَرِ أَوْ لَطِيفًا كَالنُّورِ وَالظَّلامِ (حَتَّى الْجِسْمُ اللَّطِيفُ لَهُ حَدٌّ، أَي لَهُ حَجْمٌ. ضَوْءُ الشَّمْعَةِ أَصْغَرُ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَضَوْءُ الْقَمَرِ أَصْغَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا. الظَّلَامُ أَيْضًا لَهُ حَدٌّ، أَي لَهُ حَجْمٌ، يَكُونُ الظَّلَامُ هُنَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَزُولُ، يَنْتَقِلُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَالظَّلَامُ لَهُ حَدٌّ. الْجِسْمُ، إِنْ كَانَ كَثِيفًا أَوْ لَطِيفًا، لَهُ حَدٌّ) فَإِذًا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْجُلُوسِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا وَالْمَحْدُودُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ (الَّذِي لَهُ حَدٌّ مَعْنَاهُ مُمْكِنٌ، جَائِزٌ عَقْلِيٌّ، وَالْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَالْمُحْتَاجُ لَا يَكُونُ إِلَهًا. الَّذِي لَهُ حَدٌّ لَهُ حَجْمٌ، وَالَّذِي لَهُ حَجْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ غَيْرُ هَذَا الْحَجْمِ مِنَ الْأَحْجَامِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ. إِذًا، إِذَا اتَّصَفَ بِهَذَا الْحَجْمِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ لِمَنْ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا) وَلا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّ نَفْسَهُ بِحَدٍّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ.
أَمَّا الآيَةُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَهِيَ أَصْرَحُ ءَايَةٍ فِي الْقُرْءَانِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى التَّنْزِيهَ الْكُلِّيَّ (تَنْزِيهُ اللَّهِ أَي نَفْيُ النَّقْصِ عَنْ اللَّهِ) وَتَفْسِيرُهَا أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْكَافُ فِي ﴿كَمِثْلِهِ﴾ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ (لَوْ قِيلَ اللَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، صَحَّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ الْكَافِ، وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، لَكِنْ بِوُرُودِ الْكَافِ، إِذَا قُلْتَ اللَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، هَذِهِ الْكَافُ أَعْطَتْ هَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّكَ تَقُولُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ) فَفِي الآيَةِ نَفْيُ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أَي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، السَّمْعُ صِفَةٌ لائِقَةٌ بِاللَّهِ وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّنْزِيهَ (الْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ) حَتَّى لا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ مِنَ اللَّطَائِفِ كَالنُّورِ وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَمِنَ الْكَثَائِفِ كَالشَّجَرِ وَالإِنْسَانِ. وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مَا لا يُضْبَطُ بِالْيَدِ وَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ مَا يُضْبَطُ بِالْيَدِ أَيْ مَا يُجَسُّ بِالْيَدِ وَهُوَ تَعَالَى لا يُشْبِهُ الْعُلْوِيَّاتِ (أَيْ مَا كَانَ فِي السَّمَوَاتِ) وَلا السُّفْلِيَّاتِ (أَيْ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ).
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهُوَ الْقَديِمُ (الَّذِي لا أَوَّلَ لَهُ) وَمَا سِوَاهُ (مِنَ الْعَالَمِينَ) حَادِثٌ (وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ) وَهُوَ الْخَالِقُ (لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ) وَمَا سِوَاهُ (أَيْ كُلُّ الْعَالَمِينَ) مَخْلُوقٌ (لَهُ بِدَايَةٌ).
الشَّرْحُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثُ الْجِنْسِ وَالأَفْرَادِ وَخَالَفَتِ الْفَلاسِفَةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قِسْمٌ مِنْهُمْ (الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ أَزَلِيٌّ بِمَادَّتِهِ وَأَفْرَادِهِ) وَمِنْ هَؤُلاءِ إِرَسْطُو وَتَبِعَهُ ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ (الْعَالَمُ قَديِمُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ حَادِثُ الأَفْرَادِ) وَهَؤُلاءِ مُتَأَخِّرُو الْفَلاسِفَةِ وَتَبِعَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ تَيْمِيَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْسُبَ نَفْسَهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ بَلْ نَسَبَ ذَلِكَ زُورًا وَبُهْتَانًا إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ (ابْنُ تَيْمِيَةَ خَبِيثٌ. الرَّأْيُ الَّذِي يُعْجِبُهُ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ لَا يَقُولُ “أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ”. مَثَلًا، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مَا قَالَ “كَمَا قَالَ الْفَلَاسِفَةُ”، إِنَّمَا قَالَ “كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ”. وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ وَاحِدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ هُوَ مُدَلِّسٌ. لِأَنَّ هَذَا الرَّأْيَ يُعْجِبُهُ، قَالَ “النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَذَا”، وَعِنْدَمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، قَالَ “كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ”، لِيُوهِمَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا بِذَلِكَ، وَهَذَا مَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ كُفْرٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. الْفَلَاسِفَةُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ “الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ أَزَلِيٌّ”، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ “الْعَالَمُ أَزَلِيُّ الْمَادَّةِ حَادِثُ الْأَفْرَادِ”، وَلَهُمْ فِي هَذَا كَلَامٌ يَذْكُرُونَهُ. الْفَيْلَسُوفُ الْمُجَسِّمُ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيُّ الضَّالُّ وَافَقَهُمْ فِي هَذَا، فَفِي بَعْضِ كُتُبِهِ يَقُولُ “لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ نَوْعُ الْعَالَمِ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ”، عَلَى زَعْمِهِ الْعَقْلُ لَا يَمْنَعُ. وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ). قَالَ الإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي (تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ) (وَضَلَّلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَفَّرُوهُمْ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ بِالإِجْمَاعِ.
وَذَكَرَ تِلْكَ الْعَقِيدَةَ الْفَاسِدَةَ أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِيٌّ بِنَوْعِهِ حَادِثٌ بِأَفْرَادِهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي سَبْعَةٍ مِنْ كُتُبِهِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمُوَافَقَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَكِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ النُّزُولِ وَكِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَكِتَابِ نَقْدِ مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ وَكِتَابِ الْفَتَاوَى وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الأَعْلَى. قَالَ شَيْخُنَا الْعَبْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ بِعَيْنِي فِيهَا اهـ.
(كِتَابُ مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ لِابْنِ حَزْمٍ، وَابْنُ حَزْمٍ ضَالٌّ عَقْلُهُ نَاقِصٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَقَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ والعياذ بالله من الكفر. وَيَقُولُ إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ فَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ الْقَلِيلُ يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ أَمَّا إِذَا بَالَ فِي إِنَاءٍ وَسَكَبَ الْبَوْلَ فِي الْمَاءِ لا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، مِثْلُ هَذَا لا يَكُونُ إِمَامًا وَلا يُؤْخَذُ بِنَقْلِهِ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ)
وَالْقَوْلُ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ كَالْقَوْلِ بِنَفْيِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمَا مِنْ أَكْفَرِ الْكُفْرِ فَإِنَّ الأَوَّلَ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ نَفْيٌ لِخَالِقِيَّةِ اللَّهِ (لِأَنَّ الَّذِي يَنْفِي حُدُوثَ الْعَالَمِ، يَقُولُ نَوْعُ الْعَالَمِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ، فَهَذَا نَفْيٌ لِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ لِلَّهِ) وَالْقَوْلُ بِنَفْيِ وُجُودِ ذَاتِ اللَّهِ أَشَدُّ وَهُوَ تَعْطِيلٌ لِلشَّرَائِعِ كُلِّهَا (يَعْنِي الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهَا) لِأَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ ذَاتِ اللَّهِ.
(وَقَالَ جَلالُ الدِّينِ الدُّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِ أَحْمَدَ بنِ تَيْمِيَةَ الْقَوْلَ بِالْقِدَم ِالْجِنْسِيِّ فِي الْعَرْشِ، وَالدُّوَانِيُّ (الدُّوَانُ بَلَدٌ فِي بِلَادِ فَارِسَ) مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ التَّاسِعِ تَرْجَمَهُ السَّخَاوِيُّ وَقَالَ سَمِعْتُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ أَخَذَ عَنِّي)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ (سَوَاءٌ كَانَ) مِنَ الأَعْيَانِ (أَيِ الْأَجْسَامِ) وَالأَعْمَالِ (الِاخْتِيَارِيَّةِ أَوْ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى) مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَ (كَذَلِكَ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ) مِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ وَ (الأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ مِنَ) النِّيَّاتِ وَالْخَوَاطِرِ (النيّاتِ جَمْعُ نِيَّةٍ وَهِيَ الْعَزْمُ. هَذَا مَعْنَى النِّيَّةِ الْعَزْمُ. وَهُوَ التَّصْمِيمُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَرَدُّدٌ) (وَالْخَوَاطِرِ جَمْعُ خَاطِرٍ وَهُوَ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ بِلا إِرَادَةٍ) فَهُوَ (أَيِ الْحَادِثُ الدَّاخِلُ فِي الْوُجُودِ) بِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ.
الشَّرْحُ الأَعْيَانُ هِيَ الأَشْيَاءُ الَّتِي لَهَا حَجْمٌ إِنَّ كَانَتْ صَغِيرَةً كَالذَّرَّةِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا أَوْ كَبِيرَةً كَالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا وَأَوْسَعُهَا مِسَاحَةً. وَالذَّرَّةُ هِيَ أَصْغَرُ الأَجْرَامِ الَّتِي تَرَاهَا الْعَيْنُ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْهَبَاءَ وَيُوجَدُ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْهَبَاءِ مِمَّا لا تَرَاهُ الْعُيُونُ وَلَهُ حَجْمٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَصْغَرُ حَجْمٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ (الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ) وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ (الْجُزْءُ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْقِلَّةِ، بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الصِّغَرِ فَلَا يَقْبَلُ الْاِنْقِسَامَ) هَذَا (الْحَجْمُ) وَمَا زَادَ عَلَيْهِ (أَيِ الْحَجْمُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ) اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهُ وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ وَعُلُومُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمُ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ بِدُونِ إِرَادَتِهِمْ وَنَظَرُهُمْ بِقَصْدٍ إِلَى شَىْءٍ وَطَرْفُ أَعْيُنِهِمْ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ أَمَّا الْعِبَادُ فَلا يَخْلُقُونَ شَيْئًا. (قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ فِي بَابِ الْقَوْلِ فِي خَلْقِ الأَفْعَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الأَفْعَالَ أَكْثَرُ مِنَ الأَعْيَانِ (أَيِ الْأَجْسَامِ) فَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقَ الأَعْيَانِ وَالنَّاسُ خَالِقِي الأَفْعَالِ لَكَانَ خَلْقُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ خَلْقِهِ وَلَكَانُوا أَتَمَّ قُوَّةٍ مِنْهُ وَأَوْلَى بِصِفَةِ الْمَدْحِ مِنْ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اﻫ)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا طَبِيعَةٌ وَلا عِلَّةٌ.
الشَّرْحُ الطَّبِيعَةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الأَجْرَامَ (أَيِ الْأَجْسَامَ) وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْعَادَةُ (طَبِيعَةُ الْجِسْمِ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ هَذَا الشَّيءَ عَلَيْهَا. طَبِيعَةُ الشَّمْسِ، أَي صِفَةُ الشَّمْسِ، الْحَرَارَةُ، وَطَبِيعَةُ الثَّلْجِ، أَي صِفَةُ الثَّلْجِ، الْبُرُودَةُ، هَذَا مَعْنَاهُ. طَبِيعَةُ الْجِسْمِ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ الْجِسْمَ عَلَيْهَا، هَذِهِ طَبِيعَةُ الْجِسْمِ) (وَبَعْضُهُمْ قَالَ طَبِيعَةُ الْجِسْمِ هِيَ عَادَتُهُ، يَقُولُونَ طَبِيعَةُ النَّارِ الْإِحْرَاقُ، يَعْنِي الْعَادَةُ أَنَّ النَّارَ تَحْرُقُ، وَطَبِيعَةُ السِّكِّينِ الْقَطْعُ، يَعْنِي الْعَادَةُ أَنَّ السِّكِّينَ يَقْطَعُ، وَهَكَذَا) فَهَذِهِ (الطَّبِيعَةُ) لا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ خَالِقَةً لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ لا إِرَادَةَ لَهَا وَلا مَشِيئَةَ وَلا اخْتِيَارَ (وَالَّذِي لَا إِرَادَةَ لَهُ وَلَا مَشِيئَةَ وَلَا اخْتِيَارَ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا. الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ وَاخْتِيَارٌ، كَيْفَ يُخَصِّصُ الْمَعْدُومَ بِالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ؟ كَيْفَ يُخَصِّصُ الشَّيْءَ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ؟! هَذَا مُسْتَحِيلٌ). وَالسَّبَبُ هُوَ حَادِثٌ (أَيْ مَخْلُوقٌ) يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَادِثٍ ءَاخَرَ (مَثَلًا، الْأَكْلُ سَبَبٌ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الشِّبَعِ، وَالشُّرْبُ سَبَبٌ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الِارْتِوَاءِ) وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُسَبَّبُهُ عَنْهُ (مَعْنَاهُ قَدْ يُوجَدُ السَّبَبُ وَلَا يُوجَدُ الْمُسَبَّبُ، مَثَلًا قَدْ تَأْكُلُ وَلَا تَشْبَعُ، وَتَشْرَبُ وَلَا تَرْتَوِيَ، وَهَكَذَا). أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الِاصْطِلاحِ مَا يُوجَدُ الْمَعْلُولُ بِوُجُودِهِ وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهِ مِثْلُ حَرَكَةِ الإِصْبَعِ الَّذِي فِيهِ خَاتَمٌ فَحَرَكَةُ الإِصْبَعِ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ لِأَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ تَتْبَعُ حَرَكَةَ الإِصْبَعِ فَتُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا (فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ: نَقُولُ إِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْمَعْلُولُ، أَمَّا السَّبَبُ فَقَدْ يُوجَدُ وَلَا يُوجَدُ الْمُسَبَّبُ). (قَالَ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمِنَ الإِلْحَادِ تَسْمِيَّةُ اللَّهِ بِالْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلَّةِ اهـ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ رُكْنُ الإِسْلامِ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ [كما ذُكِرَ في كتاب الْمُسَامَرَة شَرْح الْمُسَايَرَة] مَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عِلَّةً أَوْ سَبَبًا فَقَدْ كَفَرَ اهـ.)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلْ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَيْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلا خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾.
الشَّرْحُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ أَيْ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الأَعْيَانِ أَيِ الأَجْسَامِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِنَ الأَعْرَاضِ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِهَا كَالأَعْمَالِ مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا وَمَا كَانَ مِنْهَا شَرًّا وَالنِّيَّاتِ وَالْخَوَاطِرِ الَّتِي لا نَمْلِكُ مَنْعَهَا مِنْ أَنْ تَرِدَ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَغَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ (فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ: الْجَوْهَرُ هُوَ مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَيُقَالُ عَنْهُ الْحَجْمُ. وَالْعَرَضُ هُوَ صِفَةُ الْحَجْمِ وَهُوَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى جَوْهَرٍ يَقُومُ بِهِ، كَالْأَلْوَانِ، وَالطُّعُومِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالْحَرَكَةِ، وَالسُّكُونِ) وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْ فِي أَفْعَالِ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَقَالَتْ إِنَّ الْعَبْدَ هُوَ خَالِقُهَا فَكَفَّرَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ كَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ (فِي أُصُولِ الدِّينِ) وَالإِمَامِ الْبُلْقِينِيِّ (فِي حَوَاشِي الرَّوْضَةِ) وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ شِيثِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَالِكِيِّ (فِي حَزِّ الْغَلاصِمِ فِي إِفْحَامِ الْمُخَاصِمِ) وَغَيْرِهِمْ وَكَذَّبَتْ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ وَقَوْلَهُ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الآيَاتِ. وَمَعْنَى الْخَلْقِ هُنَا الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَفْظَةُ شَىْءٍ فِي الآيَةِ الأُولَى شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ (أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ) النَّسَفِيُّ (كَلَامُ النَّسَفِيِّ هُنَا مَنْقُولٌ بِالْمَعْنَى، لَيْسَ بِالنَّصِّ) فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجًا بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ وَالْكَسْرُ وَالِانْكِسَارُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا الْكَسْبُ وَأَمَّا الْخَلْقُ فَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾.
الشَّرْحُ الضَّرْبُ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ انْكِسَارٌ وَقَدْ لا يَحْصُلُ وَالْكَسْرُ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الزُّجَاجِ بِوَاسِطَةِ الرَّمْيِ بِالْحَجَرِ وَأَمَّا الِانْكِسَارُ فَمَا يَحْصُلُ مِنَ الأَثَرِ فِي الزُّجَاجِ (مِنْ تَشَقُّقٍ وَتَنَاثُرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ) فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَمَلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ إِلَّا الْكَسْبُ أَيْ تَوْجِيهُ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ نَحْوَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ (فَالْكَسْبُ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ لَهُ، مَعَ بُرُوزِ الْعَمَلِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مَعَ كَوْنِ الْعَمَلِ بَرَزَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ يُوَجِّهُ الْعَبْدُ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ وَلا يَعْمَلُهُ فَلا يَكُونُ مُكْتَسِبًا لِلْعَمَلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْهُ). قَالَ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الْخَيْرِ (أَيْ لِلنَّفْسِ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْهُ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ تَنْتَفِعُ بِذَلِكَ) ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الشَّرِّ (أَيْ وعَلَيْهَا وَبَالُ مَا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ عَمَلِ الشَّرِّ أَيْ يَضُرُّهَا ذَلِكَ) (كَسَبَ وَاكْتَسَبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَكِنْ هُنَا فِي الْآيَةِ ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ الْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ. وَإِلَّا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ “اكْتَسَبَ فُلَانٌ عَمَلَ خَيْرٍ”، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَفْظَةَ “اكْتَسَبَ” خَاصَّةٌ بِالشَّرِّ، لَا، وَلَكِنْ هُنَا فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهَا مَا اكْتَسَبَ مِنَ الشَّرِّ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ لِنَفْسِهِ وَتَمَدَّحَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ الْكَسْبَ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ. (وَمِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَيْ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ فَإِنَّ الْقَتْلَ لِلْكُفَّارِ حَصَلَ مِنْهُمْ وَنَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَعْنًى مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ أَيِ الْكَسْبُ وَنَفَاهُ عَنْهُمْ مِنْ حَيْثُ التَّكْوِينُ، كَذَلِكَ رَمْيُ الرَّسُولِ بِالْحَصَى الَّذِي مَلأَ أَعْيُنَهُمْ فَانْهَزَمُوا حَصَلَ مِنَ الرَّسُولِ كَسْبًا فَنَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ الْكَسْبُ وَنَفَى عَنِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ التَّكْوِينُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِرَمْيِهِ. ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ مَعْنَاهُ أَنْتُمْ مَا قَتَلْتُمُوهُمْ، أَي خَلْقًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، أَي اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، مَعَ أَنَّ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ هُمُ الصَّحَابَةُ. ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ مَعْنَاهُ “مَا رَمَيْتَ” أَيْ خَلْقًا، لَسْتَ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَ الرَّمْيَ، “إِذْ رَمَيْتَ” أَيْ إِذْ بَاشَرْتَ الرَّمْيَ، “وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى” أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ)
(فَائِدَةٌ: التَّرَدُّدُ فِي الْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ غَيْرِ الْكُفْرِ الْعَبْدُ مُعْفًى عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعَزْمِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَالْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ لا يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَبْدُ وَالْهَمُّ هُوَ التَّرَدُّدُ فِي الْفِعْلِ أَفْعَلُ أَوْ لا أَفْعَلُ أَمَّا الْعَزْمُ فَهُوَ الْجَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ الْهَمُّ هُوَ أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ فَإِنْ عَزَمَ اسْتَحَقَّ الْمُؤَاخَذَةَ وَالْعُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَلامُهُ قَدِيْمٌ كَسَائِرِ (أَيْ بَاقِي) صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ (أَيْ غَيْرُ مُشَابِهٍ. أَحْيَانًا بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ “غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ”، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ “مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ”. الْبَيْنُونَةُ تَأْتِي بِمَعْنَى الِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ، وَتَأْتِي بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُشَابَهَةِ، فَإِذَا قَالُوا “مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ”، يَكُونُ الْمَعْنَى “غَيْرُ مُشَابِهٍ”. وَإِذَا قَالُوا “غَيْرُ بَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ”، مَعْنَاهُ “غَيْرُ مُنْفَصِلٍ”، لِأَنَّهُ لَا مُنْفَصِلٌ وَلَا مُتَّصِلٌ، فَافْهَمُوا هَذَا حَتَّى لَا يُشْكِلَ عَلَيْكُمْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَلامُهُ قَدِيْمٌ كَسَائِرِ أَيْ بَاقِي صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ أَيْ غَيْرُ مُشَابِهٍ) لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (وَمَعْنَى (عُلُوًّا كَبِيرًا) تَنَزُّهًا مُؤَكَّدًا).
الشَّرْحُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ وَبَقَاءَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ فَهِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لِأَنَّ الذَّاتَ الأَزَلِيَّ لا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ (كُلُّ صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ، أَيِ الثَّابِتَةِ لَهُ، أَزَلِيَّةٌ، لِأَنَّ الذَّاتَ الْأَزَلِيَّ لَا تَقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ، لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الذَّاتِ، أَي لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الذَّاتِ، لِأَنَّ التَّغَيُّرَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ، لِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا اتَّصَفَ بِصِفَةٍ ثُمَّ انْعَدَمَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ وَاتَّصَفَ بِغَيْرِهَا، مَعْنَاهُ لَا يَتَرَجَّحُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى خُلُوِّهِ عَنْهَا، فَإِذَا اتَّصَفَ بِهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا خَلَا عَنْهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ، وَالِاحْتِيَاجُ يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ. فَإِذًا، حُدُوثُ الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الذَّاتِ. إِذًا كُلُّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ، وَمَا قُلْنَاهُ هُنَا يَكْفِي لِإِسْكَاتِ الْمُشَبِّهِ وَإِفْحَامِهِ بِمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ. تَقُولُ لِلْمُشَبِّهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ حَيَاةُ اللَّهِ حَادِثَةً، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ حَادِثًا يَتَجَدَّدُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ كَلَامٌ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِهِ. تَقُولُ لِلْمُشَبِّهِ لِمَ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِهِ؟! فَهُنَا أَيُّ شَيْءٍ يُجِيبُ بِهِ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ. أَيُّ شَيْءٍ يَحْتَجُّونَ بِهِ لِيَقُولُوا “لَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَيَاةُ اللَّهِ حَادِثَةً مَخْلُوقَةً”، حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ. أَيُّ شَيْءٍ يَحْتَجُّونَ بِهِ لِيَقُولُوا “لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللَّهِ حَادِثَةً”، يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ. أَيُّ شَيْءٍ يَحْتَجُّونَ بِهِ لِيَقُولُوا “لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ حَادِثًا”، يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يَقُولُونَ “لَا يَلِيقُ أَنْ تُوصَفَ صِفَةُ الْعِلْمِ لِلَّهِ بِالْحُدُوثِ”، أَمَّا صِفَةُ الْكَلَامِ فَيَلِيقُ أَنْ تُوصَفَ بِالْحُدُوثِ؟! هُمْ يُكَفِّرُونَ مَنْ يَقُولُ “اللَّهُ مَا عَلِمَ ثُمَّ عَلِمَ”، فَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ تَكْفِيرُ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ “مَا كَانَ مُتَكَلِّمًا ثُمَّ تَكَلَّمَ”. هُنَا يَسْقُطُ الْوَهَّابِيُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِكَلَامٍ آخَرَ. إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ كَلَامِهِ وَيَتَشَهَّدَ، وَإِمَّا أَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ عَلَيْهِ فَمَا لَهُ كَلَامٌ) فَكَلامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لا ابْتِدَاءَ لَهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلا يَكُونُ حَرْفًا وَصَوْتًا وَلُغَةً وَلا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ (لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَرْفًا وَصَوْتًا وَلُغَةً، وَلَهُ بَدَايَةٌ وَلَهُ نِهَايَةٌ، يَكُونُ مَخْلُوقًا، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَالَمَ مَخْلُوقٌ، فَإِذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِهَا، جَعَلُوا اللَّهَ مَخْلُوقًا. هَذِهِ الصِّفَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا حَادِثٌ، فَإِذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِهَا، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا “اللَّهُ حَادِثٌ”) وَلِذَلِكَ لا يُقَالُ عَنِ اللَّهِ نَاطِقٌ لِأَنَّ النُّطْقَ لا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ وَاللَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ بَلْ يُقَالُ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ (مَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَرَّةً قَالَ “اللَّهُ نَاطِقٌ”، لِأَنَّ النُّطْقَ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِالْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ. هَذَا هُوَ النُّطْقُ فِي اللُّغَةِ، لِذَلِكَ مَا قَالُوا “اللَّهُ نَاطِقٌ”، إِنَّمَا قَالُوا “اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ”، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، أَمَّا النُّطْقُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. بِالْقَامُوسِ الْمُحِيطِ، عِنْدَ ذِكْرِ “نَطَقَ”، يَقُولُ “تَكَلَّمَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ”. هَذَا تَعْرِيفُ النُّطْقِ، فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللَّهُ نَاطِقًا. كَلَامُنَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ اللَّهِ. كَلَامُنَا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، فِيهِ بَدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ وَتَقَطُّعٌ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا شَكَّ. الْوَهَّابِيُّ الَّذِي يَقُولُ “إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ مِثْلَنَا”، كَافِرٌ بِلَا شَكٍّ. لَوْ قَالَ لَكَ الْوَهَّابِيُّ “أَنْتَ كَلَامُكَ بِلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ هُوَ مَخْلُوقٌ”، تَقُولُ لَهُ “ذَاكَ الْحَجَرُ الَّذِي سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ وَلَا شَفَتَانِ، فَأَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ؟! كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ!؟” وَتِلْكَ الشَّجَرَةُ الَّتِي شَهِدَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ لَيْسَ لَهَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ، فَاَيْشٍ تَقُولُ؟! كَلَامُهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟! هَكَذَا تُكَسِّرُهُ أَمَامَ النَّاسِ بِمَا يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ).
الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ إِنْ قُصِدَ بِهَا الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَهِيَ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَتْ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَإِنْ قُصِدَ بِهَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي بَعْضُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبَعْضُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَبَعْضُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَهُوَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ وَهِيَ عِبَارَاتٌ (يُعَبَّرُ بِهَا) عَنِ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَلا بِأَنَّهُ عِبْرَانِيٌّ وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ أَيْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ (أَيِ الثَّابِتَةَ لَهُ) يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ وَاللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ فَتَبَيَّنَ (أَيِ اتَّضَحَ) أَنَّ الْقُرْءَانَ لَهُ إِطْلاقَانِ أَيْ لَهُ مَعْنَيَانِ الأَوَّلُ إِطْلاقُهُ عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا وَالثَّانِي إِطْلاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَانَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ وَالْكُفَّارُ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ وَلَيْسَ الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾). (وَذَلِكَ الْكَلامُ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا يُقَالُ لَهُ قُرْءَانٌ وَتَوْرَاةٌ وَإِنْجِيلٌ وَزَبُورٌ، أَمَّا أَلْفَاظُ الْقُرْءَانِ وَأَلْفَاظُ التَّوْرَاةِ وَأَلْفَاظُ الإِنْجِيلِ وَأَلْفَاظُ الزَّبُورِ الْمُنَزَّلَةُ فَهَذِهِ مَخْلُوقَةٌ اللَّهُ خَلَقَهَا، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَأْلِيفِ الأَنْبِيَاءِ وَلا جِبْرِيلَ إِنَّمَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُنْزِلَهَا عَلَى أُولَئِكَ الأَنْبِيَاءِ الأَرْبَعَةِ. جِبْرِيلُ عَرَفَ أَمْرَ اللَّهِ لَهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَسْمَعَهُ كَلامَهُ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَفَهِمَ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الَّذِي كُتِبَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَيُنْزِلَهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَفَعَلَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ الرَّسُولُ قَرَأَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ، جِبْرِيلُ قَرَأَ الْقُرْءَانَ عَلَى الرَّسُولِ – أَيْ أَسْمَعَهُ إِيَّاهُ – فَتَلَقَّاهُ الرَّسُولُ مِنْ جِبْرِيلَ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ ثُمَّ الصَّحَابَةُ تَلَقَّوْا مِنَ الرَّسُولِ، أَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ (حَتَّى الْكَافِرُ يَسْمَعُ) كَلامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَيَفْهَمُونَ عَنْ أَيِّ شَىْءٍ يَسْأَلُهُمْ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ (كُلُّ وَاحِدٍ يَفْهَمُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَفْهَمَهُ. كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ يَفْهَمُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَفْهَمَهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِذَلِكَ الْكَلَامِ.)، الْمُؤْمِنُونَ يَفْرَحُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أَمَّا الْكُفَّارُ فَيَنْزَعِجُونَ عِنْدَ سَمَاعِ كَلامِهِ. إذا سُئل الكافرُ ماذا أجبت النبي؟ ماذا يقولُ؟! هو أعلمُ بحاله فكيفَ يَفرح؟!) (فَإِذًا الْقُرْءَانُ لَهُ إِطْلاقَانِ أَيْ لَهُ مَعْنَيَانِ الأَوَّلُ إِطْلاقُهُ عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا وَالثَّانِي إِطْلاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ (أَيْ أَنَّ الَّذِي يُقَرِّبُ هَذَا إِلَى فَهْمِ النَّاسِ) أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ (اللَّه) عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِيٍّ قَديِمٍ أَبَدِيٍّ فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ مَا هَذَا يُقَالُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ الذَّاتُ الَّذِي نَعْبُدُهُ (كَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يَدُلُّ عَلَى الْكَلَامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ). (فَصِفَةُ الْكَلامِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرْفًا أَوْ صَوْتًا لِأَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مَخْلُوقَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ [أَيْ بِطَرِيقِ الْحِسِّ] الْحِسُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ. أَنْتَ عِنْدَمَا تَقُولُ “بِسْمِ اللَّهِ”، هَلْ هَذَا اللَّفْظُ كَانَ مَوْجُودًا بِاللَّحْظَةِ الَّتِي قَبْلَهَا؟ لَا، ثُمَّ وُجِدَ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ، فَهَذَا بِالْحِسِّ، بِالسَّمْعِ، يُعْرَفُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَلَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهِ)
(﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْءَانِ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (أُنْزِلَ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً)، قَالَ الْحَاكِمُ (صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ). وَكَانَ نُزُولُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نُجُومًا نُجُومًا، أَيْ مُتَفَرِّقًا، وَسُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِعِظَمِهَا وَشَرَفِهَا وَقَدْرِهَا)
(فَائِدَةٌ: الْقُرءَانُ مَعْنَاهُ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ. نَقُولُ “قَرَأَ يَقْرَأُ قُرْآنًا”، إِذًا الْقُرءَانُ هُوَ الْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالْمُتَكَلِّمِ. لَمَّا أَقُولُ “تَكَلَّمَ أَحْمَدُ كَلَامًا”، أَكُونُ أَتَكَلَّمُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِأَحْمَدَ الْمَوْصُوفِ بِهِ أَحْمَدُ، وَأَحْيَانًا قَدْ أُطْلِقُ لَفْظَ الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ. يَأْتِي حَسَنٌ وَيُعِيدُ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ؟ أَقُولُ لَهُ “هَذَا كَلَامُ أَحْمَدَ”، وَلَا أَعْنِي هُنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَيْنَهُ هُوَ كَلَامُ أَحْمَدَ، إِنَّمَا هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. إِذًا، بِالْأَصْلِ عِنْدَمَا أَقُولُ “كَلَامُ فُلَانٍ”، يَكُونُ مَعْنَاهُ الْكَلَامُ الَّذِي قَامَ بِهِ، الصِّفَةُ الَّتِي اتَّصَفَ بِهَا. الْقُرءَانُ مَعْنَاهُ الْكَلَامُ، فَلِذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ “الْقُرءَانُ ُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”، وَيُطْلِقُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَقُولُوا “الْقُرءَانُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقُرءَانَ مَعْنَاهُ الْكَلَامُ، أَيِ الَّذِي يَقُومُ بِالذَّاتِ، أَيِ الصِّفَةُ، وَعِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ “الْقُرءَانُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”. مَعْنَاهُ “الْقُرءَانُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”. لَمَّا قَالُوا “الْقُرءَانُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”، مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءَانِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. افْهَمُوا جَيِّدًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي حِمَارٌ مُشَبِّهٌ وَيَقُولُ لَكُمْ “السَّلَفُ قَالُوا الْقُرءَانُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”، وَكُلُّ ذِهْنِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُصْحَفِ، إِلَى اللَّفْظِ. تَقُولُونَ لَهُ “أَنْتَ لَا تَعْرِفُ لُغَةَ الْعَرَبِ، الْقُرءَانُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ هُوَ مَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ، لِذَلِكَ قَالُوا ‘الْقُرءَانُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ’، لِأَنَّ الَّذِي يَفْهَمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ (الْقُرءَانُ) عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ صِفَةُ الْكَلَامِ، مَعْنَاهُ صِفَةُ الْكَلَامِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ، السَّلَفُ كَانُوا لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَقُولُوا ‘الْقُرءَانُ مَخْلُوقٌ’، لِأَنَّ كَلِمَةَ (الْقُرءَانُ) عِنْدَ إِطْلَاقِهَا فَوْرًا يَنْصَرِفُ الْمَعْنَى إِلَى صِفَةِ الْكَلَامِ لِلَّهِ، لِذَلِكَ لَا يَقُولُونَ ‘الْقُرءَانُ مَخْلُوقٌ’، إِنَّمَا يَقُولُونَ ‘الْقُرءَانُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ’، مَعْنَاهُ ‘الْقُرءَانُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْكَلَامِ لِلَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ’، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لَا. أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا رَضِيَ، لِأَنَّ لَفْظَةَ “الْقُرءَانِ” إِذَا أُطْلِقَتْ تَنْصَرِفُ إِلَى صِفَةِ اللَّهِ، إِلَى كَلَامِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ مَا رَضِيَ أَنْ يَقُولَ “الْقُرءَانُ مَخْلُوقٌ”، لَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَالْأَوْرَاقَ وَالْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، لَا! إِنَّمَا لِأَنَّ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ كَانُوا يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَيَعْرِفُونَ الدِّينَ، لِذَلِكَ مَا رَضِيَ)
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ أَيْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الذَّاتِ أَيْ ذَاتُهُ لا يُشْبِهُ ذَوَاتَ الْمَخْلُوقَاتِ أَيْ حَقِيقَتُهُ لا تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ وَالصِّفَاتِ أَيْ صِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْفِعْلِ أَيْ فِعْلُهُ لا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَالْمَفْعُولُ حَادِثٌ. وَمَعْنَى سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى تَعَالَى تَنَزَّهَ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ أَيْ مُتَنَزِّهٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ أَيِ الْكَافِرُونَ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ هُوَ أَعْلَى الظُّلْمِ وَأَكْبَرَهُ وَأَشَدَّهُ أَطْلَقَ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ الظَّالِمِينَ وَأَرَادَ بِهِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ كُلَّ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ كَلا ظُلْمٍ. قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. الْكُفَّارُ هُمْ أَكْبَرُ ظُلْمًا أَيْ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَكُلُّ الظُّلْمِ دُونَهُ. (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ الظُّلْمَ إِلاَّ أَنْ يَظلمَ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا فِي بَدَنِهِ بِجَرْحِهِ أَوْ بِضَرْبِهِ أَوْ فِي مَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ مَاَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ بِغَيْرِ رِضَاه يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ هَذَا الظُّلْمُ عِنْدَهُم وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ أَكْبَرَ الظُّلْمِ أَنَّ رَأْسَ الظُّلْمِ هُوَ الكُفْرُ ﴿وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون﴾. اللهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِي هَذِهِ الآيَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الكُفْرَ هُوَ الظُّلْمُ الكَامِلُ وَمَا سِوَى الكُفْرِ مِنَ الظُّلْمِ فَهُوَ شَىْءٌ صَغِيرٌ شَىْءٌ قَلِيلٌ بِالْنِّسْبَةِ لِلْكُفْر ﴿وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ أَيْ بِكُفْرِهِم ولَوْ أَنَّ أَحَدَهُم لَمْ يَظْلِمْ إِنْسانًا فِي مَاِلِهِ أَوْ فِي بَدَنِهِ وقَضَى عُمَرَهُ عَلَى كفرِهِ، كُفْرُهُ هذا يَكْفِيهِ ظُلْمًا لِأَنَّهُ رَأْسُ الظُّلْمِ)
(الْمُشَبِّهَةُ هُنَا يَتَخَبَّطُونَ لِأَنَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ حَيَاةُ اللَّهِ قَدِيـمَةٌ وَلا يَقْبَلُونَ أَنْ يُقَالَ حَيَاةُ اللَّهِ شَىْءٌ يَحْصُلُ دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ وَهَذَا صَحِيحٌ وَمَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عِلْمُ اللَّهِ قَدِيمٌ وَلا يَقْبَلُونَ أَنْ يَقُولُوا شَىْءٌ يَحْصُلُ دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا يَقُولُونَ بِخِلافِ ذَلِكَ فِي كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ فَيَقُولُونَ كَلامُ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ تَحْصُلُ دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِي ثُمَّ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِي، فَيُقَالُ لَهُمْ إِذَا قُلْتُمُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، الْحُرُوفُ يَلْزَمُ مِنْهَا الْكَلامُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْبَشَرُ وَكَلامُ الْبَشَرِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُدُوثُ فَإِذًا وَصَفْتُمُ اللَّهَ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ وَلَيْسَ لَهُمْ مَهْرَبٌ إِلَّا الْعِنَادُ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِذَا قُلْتُمْ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ إِمَّا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ اللَّهُ يَنْطِقُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَهُمْ لا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ حَرْفًا بَعْدَ حَرْفٍ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ فَإِذَا قُلْتُمْ حَرْفًا بَعْدَ حَرْفٍ فَقَدْ نَسَبْتُمُ الْحُدُوثَ إِلَى اللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ، لَيْسَ لَهُمْ مَخْلَصٌ مِنْ هَذَا، لِأَجْلِ هَذَا كَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ دَائِمًا يَقُولُ كَمَا أَنَّ حَيَاةَ اللَّهِ قَدِيـمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَكَلامُهُ قَدِيـمٌ أَزَلِيٌّ فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لا يُوصَفُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً وَلا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الأَزَلِيِّ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ قَائِمٌ بِالذَّاتِ الأَزَلِيِّ بَلْ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلامِ الأَزَلِيِّ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ بَلْ هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ وَقَالَ أَيْضًا ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ وَالْمُرَادُ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى إِثْبَاتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْءَانِ (وَالْحَدِيثِ) إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنَى (تَكَرُّرًا) كَثِيرًا (وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّمَهَا كُلُّ أَحَدٍ) وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ أَيِ الأَزَلِيَّةُ وَالْبَقَاءُ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلامُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ (اشْتَهَرَ التَّعْبِيرُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مُخَالَفَةُ اللَّهِ لِلْحَوَادِثِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا من المخلوقات فَالْعِبَارَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ). (وَسَبْعٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ يُقَالُ لَهَا صِفَاتُ الْمَعَانِي (الْقُدْرَةُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْحَيَاةُ، وَالْكَلَامُ) وَالْوُجُودُ يُقَالُ لَهُ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ وَمُخَالَفَتُهُ لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ أَيْ أَنَّهُ لا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ فَتُسَمَّى صِفَاتٍ سَلْبِيَّةً، وَالسَّلْبِيَّةُ مَعْنَاهَا الَّتِي تَنْفِي عَنِ اللَّهِ مَا لا يَلِيقُ بِهِ؛ الْوَحْدَانِيَّةُ تَنْفِي عَنِ اللَّهِ التَّعَدُّدَ وَالْمِثْلَ، وَالْقِدَمُ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ الْحُدُوثَ، وَالْبَقَاءُ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ طُرُوءَ الْعَدَمِ عَلَيْهِ، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ تَنْفِي عَنِ اللَّهِ الشَّبِيهَ وَالْمِثْلَ، وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ الْحَاجَةَ إِلَى الْغَيْرِ، لِهَذَا سَمَّوْا هَؤُلاءِ صِفَاتٍ سَلْبِيَّةً أَيْ تَنْفِي عَنِ اللَّهِ مَا لا يَلِيقُ بِهِ أَمَّا الْوُجُودُ فَيُسَمُّونَهُ صِفَةً نَفْسِيَّةً لِأَنَّ الذَّاتَ لا يُتَعَقَّلُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ. أَمَّا الْبَقَاءُ فَالإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَضيَ اللهُ عَنهُ عَدَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَبَعْضُ أَتْبَاعِهِ عَدَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ)
الشَّرْحُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةَ لِلَّهِ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا بَلِ الْوَاجِبُ اعْتِقَادُ مَعَانِيهَا. وَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى اثْبِاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا إِمَّا بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ وَإِمَّا بِالْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي النُّصُوصِ أَيْ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَهِيَ:
(١) الْوُجُودُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. (فَائِدَةٌ: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الإِجْمَالِيِّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ فِي نَفْسِهِ الْكِتَابَةُ لا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَالْبِنَاءُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْكِتَابَةُ وَالْبِنَاءُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا الْعَالَمُ بِالأَوْلَى لا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَوْ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ أَنَا كُنْتُ بَعْدَ أَنْ لَمْ أَكُنْ وَمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُكَوِّنٍ فَإِذًا أَنَا لا بُدَّ لِي مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَنِي مَوْجُودٍ لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَهَكَذَا سَائِرُ أَفْرَادِ الْعَالَمِ لا بُدَّ لَهَا مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَهَا لا يُشْبِهُهَا بِحَالٍ)
(۲) وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَيْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَيْ لِلسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ءَالِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا (أَيْ لَمَا انْتَظَمَتَا. وَبُرْهَانُ وَحْدَانِيَّتِهِ هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَجُوزُ اخْتِلافُهُمَا فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِي اخْتِيَارِهِ، وَإِلَّا لَكَانَا مَجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِي شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ، وَمُحَالٌ تَمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِمَا أَيْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِي ءَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَهًا وَلا قَدِيـمًا، وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ).
(٣) وَالْقِدَمُ أَيْ أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾.
(٤) وَالْبَقَاءُ أَيْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ لا يَمُوتُ وَلا يَهْلِكُ وَلا يَتَغَيَّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أَيْ ذَاتُهُ. (وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ (وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ) اهـ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ذَاتُهُ) اهـ)
(٥) وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ أَيْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَالْعَالَمُ لا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.
(٦) وَالْقُدْرَةُ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ أَيْ كُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ مَا يَجُوزُ عَقْلًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ، فَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ. وَاللَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (وَقُدْرَةُ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَلا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الْوُجُودَ، وَوَظِيفَةُ الْقُدْرَةِ إِيْجَادُ الْمُمْكِنِ وَإِعْدَامُهُ، بِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ وَبِهَا يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلا تَتَعَلَّقُ لا بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ وَلا بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ لِذَلِكَ لا يُقَالُ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كَذَا مِنَ الْمُسْتَحِيلاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَلا يُقَالُ غَيْرُ قَادِرٍ، وَلَوْ تَعَلَّقَتِ الْقُدْرَةُ بِالْوَاجِبِ لَمَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَحِيلِ لَكَانَ مُمْكِنًا وَفِي ذَلِكَ قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ).
(٧) وَالإِرَادَةُ أَيِ الْمَشِيئَةُ وَهِيَ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ (أَيِ الْمَخْلُوقِ) بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
(٨) وَالْعِلْمُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَلا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ (أَمَّا مَا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ مِنَ الآيَاتِ تَجَدُّدَ عِلْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَلا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ مَعْنَاهُ اللَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَخَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ) لِأَنَّ عِلْمَهُ عِلْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ لِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ يَعْلَمُ بِهِ سُبْحَانَهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الكُفَّارِ ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾.
(٩،١٠) وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ كَسَمْعِ غَيْرِهِ وَيَرَى بِرُؤْيَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
(١١) وَالْحَيَاةُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/jy7CojfriGY
لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-3