#27 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
اعلم رحمك الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في جميع ما أخبر به وبلغه عن الله، وقد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ومن المنكر الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم معاصي البطن. فمن معاصى البطنِ أن يأكلَ الإنسانُ أىَّ شىء حرم الله تعالى أكله. والأكل هنا لا يُراد به مجرد الإدخال من الفم إلى البطن إنما يشمَل الانتفاع بما حرمَهُ الله تعالى. مثالُ ذلك: أكلُ مال الربا أي الانتفاع بمال الربا والسرقةِ والغصبِ (أى المال الذى يؤخذ من المسلم بالقوة بغير وجه حق) والمكسِ وما شابه ذلك. وقد جاء فى الحديث أنّ أول ما يُنْتِنُ من الإنسانِ بطنُهُ فى القبر. فإذا كان هذا مثالُ البطن، فلا ينبغى للإنسان أن يترك بطنَه يسوقُهُ إلى ما حرَّم الله. وقد قال عليه الصلاة والسلام: “كُلُّ لَحمٍ نَبَتَ من سُحتٍ فالنار أَوْلَى به”، رواه البيهقىّ، والسُحتُ يعني الحرام. فأخذُ المال بالحرام وصرفُه فيما حرم الله من كبائر الذنوب. نسأل الله أن يحفظنا من ذلك. ومن معاصي البطن شُرْبُ الخمرِ والذى يشربُ الخمرَ ما قلَّ منها أو ما كَثُرَ سَكِرَ أو لم يَسْكَر فحدُّه أن يُجْلَدَ أربعينَ جلدةً إن كان حرًا، يعني يَجْلِدُهُ الخليفة أو من يقوم مقامه أربعين جلدة. وأما العبد فحدُّه على النصفِ من حدِّ الحرّ. الله خَفّفَ عنه. وللخليفةِ أن يزيدَ على الأربعين من بابِ التعزير، فله أن يزيد إلى الثمانين إذا رأى مَصلحةً فى ذلك. ومثلُ هذا حصلَ فى زمنِ سيدِنا عمر رضي الله عنه. زاد شُرْبُ الخمرِ بالنسبةِ إلى العصورِ السابقةِ زيادةً كثيرة لكثرة الفتوحات ولكثرة ما دخل فى الإسلام من الناس، فزاد عمر عند ذلك الجلد فى شرب الخمر إلى الثمانين لزجرِ الناس عن ذلك. والخمر لها تعريف ذكره سيدنا عمر رضى الله عنه فيما رواه عنه البخارى فى الصحيح قال: الخمرُ ما خَامَرَ العقل إهـ.، يعنى الشرابَ الذى يُغَيّر العقلَ ويُعطِى نشوةً وطربًا. فكلّ شرابٍ يُعطِى ذلك كثيرُه أو قليلُه فهو خمر محرمة. لو كان القدر الذى يُسْكِرُ منه ستة عشر رِطلًا فالقليلُ ملء الكف منه حرام، ولو كان المقدارُ القليل لا يُسْكِرُ عادة لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “ما أَسْكَرَ الفَرَقُ منه فَمِلءُ الكَفِّ منه حرام”، رواه أبو داود. والفَرَقُ وعاءٌ كبيرٌ يسعُ ستةَ عشرَ رِطْلًا. وليعلم أنّ أكلَ النجاسات من معاصِى البطن، كالدَّمِ أى الدم السائل المسفوح وهو الدم الذي يخرج بقوةٍ من البهيمة عند الذبح، ولحمِ الخنزير والْمَيتَة. وكذلك كلُّ ما هو مستقذر. فما استقذَرَه العربُ فى زمنِ النبىِ صلى الله عليه وسلم واستخبثوهُ فلا يَحِلُّ أكلُه وَذَلِكَ كَالْمُخَاطِ مثلا. وَأَمَّا الْبُصَاقُ فَيَكُونُ مُسْتَقْذَرًا إِذَا تَجَمَّعَ عَلَى شَىْءٍ مَثَلًا بِحَيْثُ تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ أَيْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفَمِ أَمَّا مَا دَامَ فِي الْفَمِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ، وَأَمَّا الْبَلَلُ الْخَفِيفُ الَّذِي يَعْلَقُ بِالْخَيْطِ مَثَلًا أَوْ مِلْعَقَةِ الطَّعَامِ وَالسِّوَاكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ. وَالْمُسْتَقْذَرُ هُوَ الشَّىْءُ الَّذِي تَعَافُهُ النَّفْسُ أَيْ تَنْفِرُ مِنْهُ طَبِيعَةُ الإِنْسَانِ. و كذا يحرمُ أكلُ ما يَضُرُّ البَدَن كالسُّم. ومن معاصي البطن أكلُ مالِ اليتيمِ بغير حقّ والمراد باليتيم هنا من ماتَ أبوه وهو دونَ البلوغ. ومن معاصِى البطنِ أكلُ مالِ الوقف على خلافِ ما شَرَطَ الواقف. والوَقْفُ هو شىءٌ يخرجُهُ الإنسانُ من مُلكِه ويرصُدُه لوجهٍ مُعَـيّن فيه نفعٌ جائزٌ مع بقاءِ عينه أى يُنْتَفَعُ به مع بقاءِ عينِهِ مثلُ بناء مسجد. فإذا وقف بُقعةَ أرضٍ لتكون مسجدًا، معناه أخرجَ هذه الأرضَ من مِلكِهِ وجعلَها مخصصةً للصلاة فيُنتَفَعُ بها فى هذا الأمر من غير أن تذهبَ هذه الأرضُ بالانتفاع بها. فلا يصح أن يَقِفَ الإنسان طعامًا مثلا يعني لا يصح أن يقول وقَفْتُ هذا الطعامَ للفقراء، لأنَّ انتفاعهم به يكون بأكله فلا تبقى عينُه، فمثل هذا لا يُسمى وقفًا. أمّا لو وُقِفَت أرضٌ لدفن موتى المسلمين، فإنّ هذه المنفعة تتحصل مع بقاء الأرض فيكون ذلك وقفًا صحيحًا. فإذا شرط الواقف مثلًا أن يكون البناءُ الذى وقفه مسجدًا فلا يجوز بعد ذلك لإنسان أن يُلغِىَ الانتفاع به كمسجدٍ ليحوله دارًا لسُكنى الفقراء مثلًا. وإذا وَقَفَ إنسانٌ دارًا لتكونَ مدرسةً للحنفية لا يجوزُ لإنسانٍ أن يحوِلَهَا مدرسةً للشافعية. ولو وقفَ شخصٌ بُستانًا ليعودَ رَيْعُهُ على ذريتِه لا يجوز لهؤلاء الذريةِ أن يتفقوا فيبيعوه ويتقاسموا المال فيما بينهم، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “المسلمونَ عندَ شروطِهِم”. يعنى أنّ الشروطَ المعتبرة شرعًا لا بدّ من مراعاتها. والحديث رواه البيهقىّ. وليعلم أنه لو أحرج إنسانٌ إنسانًا ءاخرًا فى موقفٍ مُعَـيّن حتى أعطاه مالًا بغير طيب نفسٍ منه، إنما حياءً، وهو يعرف أنه أعطاه المال حياءً فإنه لا يحلّ للآخذ أن يأكل هذا المال بل ما زال هذا المالُ فى مِلكِ الأوّل، لأنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: “لاَ يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه” رواه الدارقطنىُّ والبيهقىّ. ومن المعاصي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو متعلق بالعين. فمن معاصِى العينِ أن ينظرَ الرجلُ إلى أى جزءٍ من بدن المرأةِ الأجنبيةِ بشهوةٍ، وكذا بدونِ شهوةٍ إلا الوجهَ والكفين. والمراد بالأجنبيةِ هنا غيرُ المحرم، يعنى غيرَ النساء اللواتى لا يجوز له الزِواج منهن بأيةِ حال، كأمه وأخته وعمتِه وخالتِه وأمِه من الرَّضَاع وجَدَّتِه من الرَّضاع وأُختِهِ من الرَّضاع وبنتِ أختِهِ من الرَّضاع ونحوهن. وأمّا الوجهُ والكفّانِ فيجوز له أن ينظرَ إليهما إن كان نظرُهُ بغيرِ شهوةٍ. وأمّا مع الشهوةِ فحرام، إلا بالنسبةِ للزوجةِ ونحوِها أى أَمَتِهِ غيرِ المتزوجة. ويفهم من هذا أنّ وجه المرأة ليس عورةً، وهذا إجماع. فلا عبرةَ بقولِ بعضِ المتأخرين الذين زعموا أنّ وجه المرأة عورةٌ فإنّ قولَهم مخالف للإجماع. وقد نقل هذا الإجماعَ أكثرُ من واحدٍ من العلماء منهم القاضى عياضٌ المالكىُّ وابنُ حجر الهيتَمِىُّ الشافعىُّ وغيرُهُمَا. ويحرُمُ على المرأةِ النظرُ إلى ما بين السرةِ والركبةِ من الرَّجُلِ، سواءٌ كان ذلك بشهوةٍ أم بغير شهوة. وأمّا سائرُ بدَنِهِ فيجوزُ لها ذلك إن لم يكن بشهوة. وما قالَه بعضُ الشافعيةِ من أنها لا تنظرُ منه إلا ما ينظرُ منها فهو قولٌ غير معتمد. وليعلم أنه يحرُمُ على الرجل أن ينظرَ أيضًا إلى ما بين السرةِ والركبةِ من رجل ءاخر. والمرأةُ مع المرأةِ كذلك. وأما أمام الكافرةِ فلا تكشِفُ المسلمةُ إلا ما يظهرُ منها عادة عند العمل فى البيت، يعني كالشعر والساعد والقدم والرقبة ونحو ذلك. وليس لها أن تكشِفَ فَخِذَهَا أمامَها ولو كانت عادتُها هى أن تلبَس سراويل قصيرة عند العمل فى البيت، بل ليس للمرأة أن تكشِفَ فخذها حتى أمام أُمّـِهَا وأُختِهَا ونحوهما. ويحرُمُ على الرجُلِ والمرأةِ كشفُ السوأَتَينِ فى الخَلوةِ لغيرِ حاجَةٍ. يعني لا يجوز للشخص أن يكشِفَ سوأَتَيهِ إذا كان خاليًا من غير حاجة. فإذا كان وحدَه فى البيت ليس معه أَىُّ إنسان ءاخر لا يجوز له أن يكشف سوأتيه إلا لحاجة، ولو لم يكن يراه أحدٌ ءاخر. ومقتضى ذلك أنه يجوز له أن يكشِفَهُمَا فى الخلوة للحاجة كأن يريد التبرد أو تغيير الثياب أو الاغتسال أو ما شابه ذلك. ومن معاصي العين النظرُ بالاستحقارِ إلى المسلمِ. و من معاصى العين أن ينظر الإنسانُ إلى داخل بيتِ الغير بغير إذنه مما يتأذى ذلك الغيرُ عادةً لو نظرَ الإنسانُ إليه. وذلك كأن يكونَ صاحبُ الدارِ مكشوفَ العورة أو أن يكونَ أحدُ أهلِهِ مكشوفَ العورَةِ. وكذلك لو أخفَى إنسانٌ شيئًا يتأذّى باطّلاع غيره عليه، حرامٌ على ذلك الغير أن يَطَّلعَ عليه بغير إذنه. ومن المعاصي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو متعلق باللسان وهى أكثرُ المعاصِى التى يفعلُها ابنُ ءادم كما ثبتَ فى الحديث: “أكثرُ خطايا ابنِ ءادَمَ مِنْ لِسَانِهِ”. والحديث صحيح رواه الطبرانى عن عبد الله بنِ مسعود عن سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن محرمات اللسان الغيبة. والغيبةُ كما عَرَّفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هى أن تقولَ عن مسلمٍ فى خلفِهِ كلامًا لا يحبُ أَنْ يقالَ عنه مما فيه ذمٌّ أى مما فيه نسبةُ نقصٍ إليه مما هو فيه. ومثالُ ذلك أَنْ يقولَ الشخصُ عَنْ ءاخر: فلانٌ قصيرٌ، أو فلانٌ سَىّءُ الخُلُقِ، أو فلانٌ وَلَدُه قَليلُ الأدبِ، أو فلانٌ لا يرى لأحدٍ فَضْلًا، أو فلانٌ تحكمُهُ زوجتُه، أو فلانٌ كثيرُ النومِ أو كثيرُ الأكلِ، أو وَسِخُ الثيابِ، أو بيتُهُ غيرُ مرتبٍ، وما شابه ذلك. فلو تَعَلَّقَتْ مثلُ هذهِ الألفاظِ بنفسِ المسلمِ الآخرِ أو بأحدٍ من عائلتِهِ أو ببيتِهِ أو بثوبِهِ أو بنحوِ ذلك فهى غيبةٌ محرمةٌ. لكنَّ قِسمًا من مثل هذه الألفاظِ قد تُستعملُ أحيانًا للمدحِ فلا تكونُ غيبةً كأَنْ يقالَ أثاثُ بيتِ فلانٍ عتيقٌ ويرادُ بذلك وصفُهُ بالزهدِ وعدمِ التعلقِ بالدنيا. فهنا لا يكونُ هذا ذمًّا بل يكونُ مدحًا فلا يكون حرامًا. والغيبةُ قد تكونُ كبيرةً وقد تكونُ صغيرةً. فإذا كانَ الْمُغتابُ -أى الشخصُ الذى يُغْتابُ أى يُتَكَلَّمُ عنه بالغيبةِ- تقيًا فغيبتُه كبيرةٌ. أما إذا كانَ الْمُغْتَابُ فاسقًا فلا تعتبرُ غيبتُه كبيرةً، إلا إذا وصلَ الأمرُ إلى حدِّ التفاحشِ بغيبتِه بحيث يغتابُهُ كثيرًا فهنا تصيرُ كبيرةً، لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مِنْ أَربَى الرّبَا اسْتِطَالةَ الرجلِ فى عِرْضِ أَخِيهِ المسلمِ”. ومعنى الاستطالةِ أَنْ يكثرَ من ذمّهِ، فيكون هذا ذنبًا كبيرًا والعياذ بالله تعالى. والحديث رواه أبو داود. كلُّ هذا إذا كانَ الكلامُ الذى يقالُ فى ذَمِّ ذلكَ المسلمِ فيه. فإن كان كذبًا فالمعصيةُ أشدُّ، وتسمى البهتانَ. وكما يحرمُ أن يتكلمَ الشخصُ بالغيبة يحرمُ عليه أن يسكتَ عن إنكارها مع القدرة. وأما التحذيرُ من أهلِ الفسادِ والغِش فلا يدخُلُ تحت الغيبة المحرَّمة، وإنما يدخلُ فى بابِ الغيبةِ الواجبةِ. وذلك مثلُ أنْ يَعْرِفَ أنّ عاملًا يعمل عند شخص ويخونُه، فهنا لا بدّ أن يُبَـيّن لصاحب العمل. كذلك لو عَرَفَ أنّ إنسانًا يتصدّرُ للتدريس وهو ليس أهلًا ففى هذه الحال لا بدّ أن يُحذّر منه. ومن معاصي اللسان النَّميمةُ، ومعناها أن ينقل كلامًا بين اثنين من واحدٍ لآخر ومن الآخر للأول وهكذا حتى يُفْسِدَ ما بينهما. فهذا حرامٌ من الكبائر. وقد صحّ فى الحديث “لا يدخُلُ الجنةَ قَـتَّات” والقتات النمّام. يعنى لا يدخُلُها مع الأولين، إنما يدخلُها بعدَ عذابٍ مع الآخِرين، والحديث فى البخارى وغيرِه. والنميمةُ من أكثرِ أسبابِ عذابِ القبر. ومثلُ النميمةِ فى تسبيبِ عذاب القبر بعضُ الذنوب الأخرى كالغيبة وعدمِ التنـزهِ من البول. ومن معاصي اللسان التحريشُ بين اثنين بقولٍ أو بغير نقلِ قولٍ بينهما. أى إن حرّك كلًا منهما حتى يعادِىَ الآخرَ ويخاصِمَهُ ويؤذيَهُ. وكذلك التحريش بين البهائم حرام، مثل أن يحرّش بين دِيكين أو جَدْيَيْنِ ليتقاتلا، فإنّ هذا حرام لا يجوز فى شرع الله، ولو لم يصاحِبْهُ رهانٌ على مال. ومن معاصي اللسان الكذبُ، والكذب معناه أن يخبر الإنسانُ عمدًا بما يَعْلَمُ أنه خلافُ الواقع أى وهو يعرف أنّ الواقع غيرُ ذلك. هذا هو الكذب المحرَّم. أما إن لم يكن يعلم أنّ الأمرَ على خلاف ما هو أخبر بل اعتقد أنّه الواقع فهذا ليس الكذب المحرّم. والكذبُ معصيةٌ سواءٌ كان فى جِدٍّ أو فى مزح. وهو مراتبُ منه ما يَبْلُغُ درجةَ الكفر، ومنه ذنبٌ كبير دونَ الكفر، ومنه ما هو من صغائر الذنوب. و من معاصى اللسان اليمينَ الكاذبةَ وهى من كبائر الذنوب. ويقال لها اليمينُ الغَمُوسُ، لأنها تغمِسُ صاحبَهَا غَمْسًا فى الذنب. وأمّا إذا حلف الشخص باللهِ أو بصفاتِهِ وهو صادق فلا إثم فى ذلك. أمّا إن حلف صادقًا بغيرِ الله تعالى كأن حلف بالنبىّ أو بالكعبة فقد اختلف علماء الأمّة فى ذلك. واليمينُ الكاذبة عُدت من كبائر الذنوب لأنّ تَجَرُّءَ الإنسانِ على أن يَحْلِف بالله مع كونه كاذبًا أى تَجَرُّؤَهُ على أن يوردَ اسمَ الله أو صفةً من صفات الله فى الحلف الكاذب فيه تهاونٌ فى تعظيم الله عزّ وجلّ، ولذلك هى من كبائر الذنوب. وليعلم أنّ من معاصى اللسان قذفَ المسلمِ بالزنى، سواء كان ذلك صريحًا أو كناية بنية. مثال ذلك أن يقولَ شخصٌ لآخر يا زاني ، أو أن يقول له يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، أو أن يقول له يا لائِطُ، وكلّ هذا صريح. كذلك لو قال له يا فاجرُ ونيتُه بكلمةِ فاجر نسبَتُهُ إلى الزنا فهذا أيضًا قذف، أو قال له يا فاسق ومرادُه نسبته إلى الزنا فهذا أيضًا يُعَدُّ قذفًا. والقذفُ من كبائرِ الذنوب وفيه الحدُ أى فيه عقوبةٌ مبينةٌ ومحددةٌ فى شرع الله تعالى. أما لو عَرَّضَ تعريضًا به فهذا وإن كان حرامًا فلا حَدَّ فيه. وذلك كأن يقولَ بقصدِ أن يطعن به: يا ابن الحلال ونيتُه عكسُ ذلك، أو كأن يقول: أما أنا فلستُ بزانٍ ونيتُه أنك أنت زاني. هذا يقال له تعريض وهو حرام، لكن لا حَدَّ فيه فكلّ ما مَرّ من القذف هو ذنب كبير لكن فى الحالة الأخيرة لا حدَّ فيه إنما فيه التعزير، أى عقوبةٌ يراها الحاكمُ مناسبةً لزجره. وَيُحَدُّ القاذفُ الحُرُّ ثمانينَ جلدةً بالسوط، هذا إذا كان القاذف حرًا فحدُّه ثمانونَ بالإجماع. وأما العبدُ فحدُّه على النصفِ من ذلك أى أربعونَ جلدة. ومن معاصي اللسان سبُّ الصحابة. فإنْ سَبَّهُمْ شخصٌ كُلَّهُمْ أى إن شَمَلَهُم كلَّهم بالسب والاستهزاء فهو كافر، لأنّه بهذا يهدِمُ دين الله، لأنّ أحكام الدين ما وصلتنا إلا من طريقهم. فالذى ينسب إليهم كلّـهِم عدمَ العدالة يكون مُؤَدَّى كلامه رفعَ الثقة بالشرع الذى نقلوه وتكذيبَ ءاياتِ القرءان وهذا كله كفر. وقد قال الله تعالى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان: رضى الله عنهم ورضُوا عنه . فمَن زعم أنّ كلَّ الصحابةِ مذمومون فقد كذَّب هذه الآية. أمّا الذى يشتُمُ واحدًا من أتقياءِ الصحابة فهو ءاثمٌ بلا شك. و من معاصى اللسانِ شهادة الزور. والزورُ معناه الكذب وهو أكبر الكبائر أي شهادة الزور من أكبر الكبائر. بل إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شبّهَها بالشرك من عُظْمِهَا من غير أن تكون كفرًا. ومن معاصي اللسان مطلُ الغَنِىِّ، أى تأخيرُ دفعِ الدّيْنِ مع غِناَهُ أى مقدِرَتِهِ وهو من جملةِ معاصِى اللّسان لأنّه يتضمّنُ الوعدَ بالقول بالوفاء أى يَعِدُهُ أنه يَفِى له ثم يُخْلِفُ. فمن هذه الحيثية له علاقة باللسان، فمَن فعلَ ذلك جازَ للحاكم أن يعاقبه حتى يفِىَ بالدّين وأن يُحَذَّرَ منه، وذلك لحديث أبى داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَىُّ الواجدِ مَطْلٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ”. والواجد يعنى الذى عنده ما يدفَعُ به الدَين، واللَّىُّ يعنى المطل والتأخير. يعنِى إذا كان يستطيع السَّدَاد وحان الأجل فَتَمَنَّعَ عن دفع الدَين جاز أن يُذَمّ للتحذير منه وحلَّ أن يُعاقَب أى بالحبسِ والضرب ونحو ذلك. ومن معاصي اللسان شتمُ المسلم بغيرِ حق، وهو ذنبٌ كبيرٌ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فُسُوق، كما روى ذلك مسلم. ومثل ذلك لعنُهُ من غير عذرٍ شرعىٍ، فإنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام شبَّهَهُ من عُظْمِهِ بقتل المسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: “لَعْنُ المسلمِ كَقَتْلِهِ” رواه مسلمٌ وغيره. وأما لعذر شرعى فهو جائز وذلك إذا كان فاسقًا للتحذير منه أو لزَجْرِهِ عن معصيتِه. ومن مِنْ جُملةِ معاصِى اللسانِ الاستهزاءُ بالمسلمِ أى التحقيرُ له. وكذلك كلُّ كلامٍ مؤذٍ له أى بغيرِ حقٍ. ومثل الكلام المؤذى للمسلم الفعلُ والإشارةُ اللذان يتضمنانِ ذلك. فقد يُهينُ الشخصُ شخصًا ءاخرَ بمجرد الإشارة بيده أو برجله فيكسر قلبه بذلك، هذا مثل الكلام المؤذى حرام. و من معاصى اللسان الكذِبُ على الله عزّ وجلّ وهو من كبائرِ الذنوب. ومثل ذلك فى كونِه كبيرةً الكذبُ على الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم هذا الكذب قد يَصل إلى درجةِ الكفر وقد لا يصل. وذلك مثلُ الذين كذَبُوا على الله فزَعَمُوا أنّ الملائكةَ بناتُ الله، هذا كذبٌ على اللهِ وهو كفرٌ. ومثلُ ذلك فى كونه كفرًا مَنْ يَضَعُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا يعلمُ أنَّ فيه تكذيبٌ لشريعةِ الرسول. وقد جاء فى الزَّجْرِ عن الكذبِ على الرسول عليه الصلاة والسلام حديثٌ متواتِرٌ رواه البخارىُّ وغيرُه: “مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمّـِدًا فَليَتَبَوّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النار”. وهذا زجرٌ بَلِيغٌ عن الكذبِ على الرسول عليه السلام حتى لو كَذَبَ الإنسانُ لترغيبِ الناسِ فى فعلِ طاعة فهو كبيرةٌ من الكبائر، مثلُ أن يقولَ “قال رسولُ الله من صلَّى صلاة الوتر فله كذا وكذا من الثواب” هذا حرام، وهو يعرف أنّ الرسول ما قال هذا الكلام. فهذا من كبائر الذنوب والعياذ بالله.