#25
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صَادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
كِتَابُ الْحَجِّ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً
الشَّرْحُ الْحَجُّ قَصْدُ الْكَعْبَةِ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْعُمْرَةُ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَالْحَجُّ فَرْضٌ بِالإِجْمَاعِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ كَفَرَ وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَرْكِهِ لِلْمُسْتَطِيعِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ وَفَرْضِيَّتِهِ فَلا يَكُونُ كُفْرًا (وُجُوبُ الحَجِّ عِندَ الشَّافِعِيِّ عَلَى التَّرَاخِيِّ وَلَيْسَ عَلَى الفَوْرِ. مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُسْتَطِيعًا أَنْ يَؤَدِّيَ الحَجَّ فَأَخَّرَهُ لِهَذِهِ السَّنَةِ بِنِيَّةِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِي السَّنَةِ القَادِمَةِ، ثُمَّ أَدَّاهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، فَقَدْ أَدَّى الفَرِيضَةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ. أَمَّا إِذَا أَجَّلَ الحَجَّ حَتَّى مَاتَ دُونَ أَنْ يُؤَدِّيَهِ، فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ عِندَئِذٍ. أَمَّا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ فَالْمُسْتَطِيعُ لِلحَجِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَلَى الفَوْرِ أَنْ يَحُجَّ، أَمَّا الحَنَفِيَّةُ فَعِندَهُمْ خِلَافٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَمِنْهُمْ مَن قَالَ بِوُجُوبِهِ عَلَى الفَوْرِ، وَمِنْهُمْ مَن قَالَ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِيِّ) وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَذَهَبَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ كَالْحَجِّ وَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ لَيْسَتْ فَرْضًا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْحَجِّ مَزِيَّةً لَيْسَتْ لِلصَّلاةِ وَلا لِلصِّيَامِ وَلا لِلزَّكَاةِ وَهِيَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ لِقَوْلِهِ ﷺ (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَعْنَى (فَلَمْ يَرْفُثْ) كَفُّ نَفْسِهِ عَنِ الْجِمَاعِ مَا دَامَ فِي الإِحْرَامِ بِخِلافِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّهَا لا تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَمَعَ ذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَرْتَبَتُهَا فِي الدِّينِ أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ الْحَجِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَزِيَّةَ لا تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ أَيْ أَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَزِيَّةً أَنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ بِخِلافِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهَا.
ثُمَّ الشَّرْطُ فِي كَوْنِ الْحَجِّ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَيَجْعَلُ الإِنْسَانَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ مِنَ الْفُسُوقِ أَيْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْجِمَاعِ (أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ)، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي يَتَزَوَّدُهُ لِحَجِّهِ حَلالًا (لِأَنَّ مَن يَحُجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ لَا يُثَابُ عَلَى حَجِّهِ، بَلْ يَكُونُ آثِمًا لِاِسْتِعْمَالِهِ الْمَالَ الْحَرَامَ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَدَّى أَرْكَانَ الحَجِّ كَامِلَةً، يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الحَجِّ، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُلْزَمًا بِالتَّوْبَةِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ)
تَنْبِيهٌ: مَنْ أَدَّى الحَجَّ لا تَسْقُطُ عَنْهُ الفَرَائِضُ الَّتِي تَرَاكَمَت عَلَيْهِ، فَالصَّلَوَاتُ الَّتِي لَمْ يَقْضِهَا، وَالصِّيَامُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّهِ، وَالزَّكَاةُ الَّتِي لَمْ يُخْرِجْهَا، كُلُّ ذَلِكَ يَظَلُّ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَسْقُطُ بِالحَجِّ. كَمَا لَا تَسْقُطُ حُقُوقُ العِبَادِ الَّتِي عَلَيْهِ، كَأَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ. وَعَلَيْهِ أَيْضًا قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، فَالحَجُّ لَا يُسْقِطُ هَذِهِ التَّبِعَاتِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا كَامِلَةً. فإِذًا الشَّرْطُ فِي كَوْنِ الْحَجِّ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَيَجْعَلُ الإِنْسَانَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْجِمَاعِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي يَتَزَوَّدُهُ لِحَجِّهِ حَلالًا) فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلا يَجْعَلُهُ حَجُّهُ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَكِنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ (يَعْنِي إِنْ حَصَلَ أَثْنَاءَ الْحَجِّ بَعْضُ الذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ مِنَ الْحَاجِّ أَوْ الْحَاجَّةِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَجُّ مَاحِيًا لِذُنُوبِهِمْ) فَلا يُقَالُ لِلَّذِي تَحْصُلُ مِنْهُ (مَعْصِيَةٌ مِنَ) الصَّغَائِرِ وَهُوَ فِي الْحَجِّ كَكِذْبَةٍ مِنَ الصَّغَائِرِ وَنَظْرَةٍ بِشَهْوَةٍ ذَهَبَ ثَوَابُ حَجِّكَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَجَدَ صَبِيحَةَ الْعِيدِ بِمِنَى (قَبْلَ نَحْوِ ثَمَانِينَ يَوْمًا مِنْ وَفَاتِهِ ﷺ) امْرَأَةً شَابَّةً جَمِيلَةً تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَجِّ فَجَعَلَ ابْنُ عَمِّهِ (الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ) يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَعْجَبَهُ حُسْنَهَا وَجَعَلَتْ هِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ أَعْجَبَهَا حُسْنَهُ فَصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُنُقَ ابْنِ عَمِّهِ الَّذِي كَانَ رَاكِبًا خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ إِلَى الشَّقِّ الآخَرِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَنْتَ أَذْهَبْتَ ثَوَابَ حَجِّكَ لِأَنَّكَ نَظَرْتَ نَظْرَةً مُحَرَّمَةً. هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ (فَلا يَجِبَانِ عَلَى الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ وُجُوبَ مُطَالَبَةٍ فِي الدُّنْيَا) الْحُرِّ (فَلا يَجِبَانِ عَلَى مَنْ فِيهِ رِقٌّ) الْمُكَلَّفِ (أَيِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فَلا يَجِبَانِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ) الْمُسْتَطِيعِ بِمَا يُوصِلُهُ (إِلَى مَكَّةَ) وَيَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ (مِنْ زَادٍ وَمَا يَتْبَعُهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ) فَاضِلًا (أَيْ زائدًا) عَنْ دَيْنِهِ (وَلَوْ مُؤَجَّلًا وَمَسْكَنِهِ (وَلَوْ كَانَ بِالأُجْرَةِ) وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَ (أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ) مُؤْنَةِ مَنْ (تَجِبُ) عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ (مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ فَقِيرَيْنِ وَنَحْوِهِمْ) مُدَّةَ ذَهَابِهِ (لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) وَإِيَّابِهِ (وَإِقَامَتِهِ هُنَاكَ)
الشَّرْحُ لِلْحَجِّ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَشَرْطُ صِحَّةٍ، فَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ فَهِيَ الإِسْلامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالِاسْتِطَاعَةُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَأَمَّا شَرْطُ الصِحَّةِ فَهُوَ الإِسْلامُ فَيَصِحُّ الْحَجُّ مِنَ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْمُسْتَطِيعِ وَغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ (كَرَجُلٍ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ نَفَقَةَ الحَجِّ، فَأَهْدَى لَهُ أَحَدُ الأَغْنِيَاءِ تَذْكَرَةَ الحَجِّ وَتَكَفَّلَ بِمَصَارِيفِهِ، فَإِذَا حَجَّ، فَحَجُّهُ صَحِيحٌ وَيُثَابُ عَلَيْهِ) وَ (يَصِحُّ الحَجُّ) مِنَ الصَّبِيِّ، فَيَصِحُّ مِنَ الْمُمَيِّزِ بِمُبَاشَرَةِ الأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ كَالْبَالِغِ (فَالْمُمَيِّزُ يُبَاشِرُ أَعْمَالَ الحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، دُونَ حَاجَةٍ لِوَلِيٍّ يَقُومُ بِذَلِكَ عَنْهُ) وَ (يَصِحُّ الحَجُّ كَذَلِكَ) مِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، بِطَرِيقِ وَلِيِّهِ فِيمَا لا يَتَأَتَّى مِنْهُ، فَإِذَا أَحْرَمَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ مُمَيِّزًا عَنْهُ أَيْ نَوَى جَعْلَهُ مُحْرِمًا (يَقُولُ بِقَلْبِهِ جَعَلْتُ ابْنِي هَذَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ مُحْرِمًا بِعُمَرَةٍ) وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرُ حَاضِرٍ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ أَحْضَرَهُ الْمَشَاهِدَ أَيْ طَافَ بِهِ الْكَعْبَةَ وَسَعَى بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَشْهَدَهُ عَرَفَةَ صَحَّ لِهَذَا الطِّفْلِ حَجُّهُ لِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَتْ بِوَلَدٍ تَحْمِلُهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ (نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ) فَإِذَا جَعَلَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ مُحْرِمًا يَفْعَلُ عَنْهُ مَا لا يَتَأَتَّى مِنَ الطِّفْلِ مِثْلُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ (كَالثِّيَابِ اَلْمُحِيطَةِ بِالْبَدَنِ بِخِيَاطَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّكَرِ). أَمَّا صِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ (أَيْ مُبَاشَرَةِ أَعْمَالِ الحَجِّ بِنَفْسِهِ كَالإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ) فَشَرْطُهَا التَّمْيِيزُ وَإِذْنُ الْوَلِيِّ (لِيَدْخُلَ فِي الإِحْرَامِ). وَأَمَّا صِحَّةُ وُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَذْرٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ (فَلا يَصِحُّ نَذْرُ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَصِحَّ الْحَجُّ وَفَاءً لِلنَّذْرِ. وَأَنْ يَكُونَ حَجَّ حَجَّةَ الْفَرْضِ قَبْلَهُ). وَأَمَّا وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ فَرْضِ الإِسْلامِ بِحَيْثُ لا يَجِبُ إِعَادَتُهُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً أُخْرَى فَشَرْطُهُ مَعَ التَّكْلِيفِ الْحُرِّيَّةُ التَّامَّةُ (مَعْنَاهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا وَحُرًّا حَتَّى يَكُونَ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلَامِ. حَجَّةُ الإِسْلَامِ مَعْنَاهَا الحَجُّ الفَرْضُ الَّذِي إِذَا أَدَّاهُ الْمُسْلِمُ بَشُرُوطِهِ الصَّحِيحَةِ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي عُمُرِهِ، فَهُوَ يَكْفِيهِ وَيُسْقِطُ عَنْهُ فَرِيضَةَ الحَجِّ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وُجُوبٌ بَعْدَ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا حَجَّ الصَّغِيرُ قَبْلَ البُلُوغِ، أَوِ الرَّقِيقُ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ، فَإِنَّ هَذَا الحَجَّ لَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الإِسْلَامِ. وَلَا بُدَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُعِيدَ الحَجَّ بَعْدَ البُلُوغِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى العَبْدِ الرَّقِيقِ أَنْ يُعِيدَهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا).
يُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لا يَجِبَانِ إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْكَامِلِ الْحُرِّيَّةِ الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ فَلا يُطَالَبُ الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ (كَاليَهُودِيِّ) بِأَدَائِهِمَا (أيْ فِي الدُّنْيَا لَا نُطَالِبُهُ. نَحْنُ لَا نَقُولُ لِكَافِرٍ حُجَّ وَلا نَقُولُ لَهُ صَلِّ وَلا نَقُولُ لَهُ صُمْ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ وَهُوَ كَافِرٌ إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ أَسْلِمْ ثُمَّ صَلِّ أَسْلِمْ ثُمَّ صُمْ. مِنْ حَيْثُ العُقُوبَةِ يُعَاقَبُ الْكَافِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْحَجِّ الَّذِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَاسْتَطَاعَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَعَلَى الصَّوْمِ الَّذِي لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَاسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَهُ وَهَكَذَا) حَتَّى لَوْ زَالَتْ عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةُ ثُمَّ أَسْلَمَ لا يَجِبَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَلا اسْتِطَاعَةٍ لَكِنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِمَا خِطَابَ عِقَابٍ فِي الآخِرَةِ (يَعْنِي لَوْ كَانَ الكَافِرُ قَادِرًا عَلَى الحَجِّ ثُمَّ فَقَدَ هَذِهِ القُدْرَةَ كَأَنِ افْتَقَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لَا يَجِبَانِ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَتْ لَهُ الاسْتِطَاعَةُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ الاسْتِطَاعَةَ فِي حَالِ الكُفْرِ لَا تُعْتَبَرُ شَرْعًا. وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُخَاطَبُونَ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَعَدَمِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ حَالَ كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى هَذَا، كَمَا يُعَذَّبُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ) وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيُخَاطَبُ بِهِمَا خِطَابَ لُزُومٍ فَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا فِي حَالِ رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَقَدِ افْتَقَرَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ثَبَتَا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ مَاتَ فِي زَمَنِ اسْتِطَاعَتِهِ مُرْتَدًّا لَمْ يُحَجَّ وَلَمْ يُعْتَمَرَ عَنْهُ.
وَيُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لا يَجِبَانِ عَلَى الْقِنِّ (حَتَّى لَوْ كَلَّفَ نَفْسَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُلْزَمٍ شَرْعًا بِذَلِكَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ) وَالْقِنُّ هُوَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ كُلُّهُ. وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ لا يَجِبَانِ عَلَيْهِ (لَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ). وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ (لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ) وَإِنْ كَانَ لَوْ تَكَلَّفَ (فَحَجَّ) بِاسْتِدَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَجْزَأَهُ (أَيْ صَحَّ مِنْهُ وَلَا يُلْزَمُهُ إِعَادَةُ الحَجِّ إِذَا تَوَفَّرَتْ لَهُ الاسْتِطَاعَةُ فِي مَا بَعْدُ. غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْتَرِضَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ، وَلَكِنْ إِنِ اقْتَرَضَ وَذَهَبَ جَازَ وَأَجْزَأَهُ، وَلَهُ ثَوَابٌ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).
وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ فِي شَرْحِ الِاسْتِطَاعَةِ (فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَّابِهِ». مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الِاسْتِطَاعَةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ اسْتِطَاعَةٌ حِسِّيَّةٌ وَاسْتِطَاعَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ فَالِاسْتِطَاعَةُ الْحِسِّيَّةُ أَنْ يَجِدَ الشَّخْصُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى مَكَّةَ وَيَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ مِنْ زَادٍ (أَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى الْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ، فَهَذَا لَا يَلْزَمُهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ مَا يُوصِلُهُ إِلَى مَكَّةَ وَيَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ مِنْ زَادٍ) وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ (أَيْ عَنْ دُيُونِهِ الْحَالَّةِ وَغَيْرِ الْحَالَّةِ) وَمَسْكَنِهِ (أَيْ الْمَسْكَنِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَلِيقُ بِهِ) وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ (أَيْ مَا يَحْتَاجُهُ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي يُسْتَرُ بِهَا الْعَوْرَةُ وَيُتَّقَى بِهَا الْحَرُّ وَالْبَرْدُ) وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ (أَيْ نَفَقَةِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، مِثْلُ الْأَبِ وَالْأُمِّ الْفَقِيرَيْنِ، وَالْأَوْلَادِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ الْفُقَرَاءِ) مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَّابِهِ (أَيْ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ مِنَ الْحَجِّ) مَعَ الأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ (وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الذَّهَابُ). وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَيِ الِاسْتِطَاعَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَمِنْهَا أَنْ تَجِدَ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا (أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَزَوْجٍ) يُرَافِقُهَا أَوْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ (أَيْ نِسَاءً دَيِّنَاتٍ تُرَافِقُهَا فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ) بِالِغَاتٍ أَوْ مُرَاهِقَاتٍ (أَيْ فَتَيَاتٍ قَارَبْنَ البُلُوغَ). قَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ وَجَدَتِ (الْمَرْأَةُ امْرَأَةً) ثِقَةً (تَقِيَّةً) وَاحِدَةً (تُرَافِقُهَا، فَهَذَا) يَكْفِي لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ (مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَقُولَ لَمْ أَجِدْ مَحْرَمًا فَلَا يَجِبُ عَلَيَّ الحَجُّ. بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الحَجُّ مَا دَامَتْ قَدْ وَجَدَتْ نِسَاءً ثِقَاتٍ يُرَافِقْنَهَا، أَوْ عَلَى الأَقَلِّ امْرَأَةً وَاحِدَةً تَقِيَّةً)، فَإِنْ كَانَ مَحْرَمُهَا لا يُسَافِرُ مَعَهَا لِلْحَجِّ إِلَّا بِالأُجْرَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وَاجِدَةً لِهَذِهِ الأُجْرَةِ أَيْ قَادِرَةً عَلَيْهَا، فَلا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ إِلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ جَازَ لَهَا (عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ) أَنْ تَخْرُجَ لِحَجِّ الْفَرْضِ وَحْدَهَا، أَمَّا لِغَيْرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ وَهُوَ النَّفْلُ فَلا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهَا وَلا مَعَ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ. وَيَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ سَفَرَهَا لِزِيَارَةِ الأَوْلِيَاءِ أَوْ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ ﷺ فَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ لِغَيْرِ الْفَرْضِ مِنْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ ﷺ (لا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وَفِي رِوَايَةٍ (مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَفِي رِوَايَةٍ (بَرِيدًا) (أَيْ مَسَافَةَ نِصْفِ نَهَارٍ) (إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةُ الإِسْنَادِ.
فَإِذَا كَانَ لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِلا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ لِحَجِ النَّفْلِ وَزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبِالأَوْلَى أَنْ لا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ وَحْدَهَا لِلتَّنَزُّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهَا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِهَا فِي بَلَدِهَا أَوْ لا تَجِدَ قُوتَهَا أَوْ لا تَجِدَ مَنْ يُعَلِّمُهَا دِينَهَا أَيْ عِلْمَ دِينِهَا الضَّرُورِيَّ. (فَائِدَةٌ: سَفَرُ الْمَرْأَةِ بِدُونِ مَحْرَمٍ وَبِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ بِالإِجْمَاعِ إِذَا كَانَتْ مَسَافَتُهُ تَزِيدُ عَلَى يَوْمٍ. أَمَّا عِندَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ مَسَافَةً أَقَلَّ مِنْ مَسِيرِ يَوْمٍ، أَيْ مَا يُقَارِبُ سِتَّ سَاعَاتٍ، بِلَا مَحْرَمٍ. أَمَّا إِذَا بَلَغَتِ الْمَسَافَةُ سَبْعَ سَاعَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَقُومَ بِهِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ نَحْوِهِ. سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَسَافَةُ نِصْفَ نَهَارٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَزْيَدَ)
وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ تُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةَ بِالنَّفْسِ، وَهُنَاكَ اسْتِطَاعَةٌ بِالْغَيْرِ وَذَلِكَ فِي الْمَعْضُوبِ الَّذِي قَطَعَهُ الْمَرَضُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ فَأَكْثَرَ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنِيبَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهَذَا النَّائِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلا يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ. (هَذَا الْمَعْضُوبُ إِذَا وَجَدَ عَدْلًا يَتَبَرَّعُ عَنْهُ، فَيَحُجُّ عَنْهُ بِلَا مَالٍ، بِلَا أُجْرَةٍ، وَلَوْ كَانَتِ النَّائِبَةُ أُنْثَى، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَوْ لَهَا، لأَنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا بِالْغَيْرِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلَّ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَيَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ. وَالْمَرْحَلَةُ مَسِيرَةُ يَوْمٍ كَامِلٍ بِالسَّيْرِ عَلَى الأَقْدَامِ أَوْ رُكُوبِ الإِبِلِ الْمُحَمَّلَةِ)
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ (فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَّابِهِ) أَنَّ الْحَجَّ لا يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ إِلَّا إِذَا وَجَدَ زَادًا لِلْحَجِّ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ (أَيْ هَذَا الَّذِي يَصْرِفُهُ فِي الْحَجِّ يَكُونُ زَائِدًا عَلَى دَيْنِهِ) وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا (كَأَنْ يَكُونَ اشْتَرَى شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ وَمَا حَلَّ الْأَجَلُ بَعْدُ وَيُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ، فَفِي هَذِهِ الحَالَةِ، يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَا يَجِدُهُ لِحَجِّهِ زَائِدًا عَلَى دَيْنِهِ الْمُؤَجَّلِ) أَوْ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ حَقًّا لِلْعِبَادِ كَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ لِشَخْصٍ أَوْ زَكَاةٌ مَا دَفَعَهَا وَكَانَ لَوْ حَجَّ فَاتَهُ أَدَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ أَدَاءُ الزَّكَاةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ.
وَيُشْتَرَطُ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ زَائِدًا أَيْضًا عَنِ الْمَسْكَنِ وَعَنِ الْكِسْوَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيْتٌ مِلْكٌ يَسْكُنُهُ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ أُجْرَتِهِ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ وَالْكِسْوَةُ لائِقَيْنِ بِهِ (أَيِ الْمَسْكَنُ وَاللِّبَاسُ الْمُنَاسِبَانِ لَهُ) فَإِنْ كَانَ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَهُوَ لا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ (أَيْ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَيْهِ) وَلا يَمْنَعُ الِاسْتِطَاعَةَ (لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي حُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ لَائِقًا بِهِ)، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ فَيَمْنَعُ الِاسْتِطَاعَةَ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ زَائِدًا عَنْ مُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ (أَيْ عَنْ مَصْرُوفِ مَنْ عَلَيْهِ مَصْرُوفُهُ) كَالزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ الْفَقِيرَيْنِ (وَأَوْلَادِهِ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْبُلُوغِ)، وَعَنْ إِعْفَافِ أَبِيهِ أَيْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ يَحْتَاجُ لِلزِّوَاجِ وَكَانَ الِابْنُ لا يَجِدُ مَا يَكْفِي لِزَادِ الْحَجِّ مَعَ مُؤْنَةِ تَزْوِيجِ الأَبِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ. اللَّهُ تَعَالَى أَكَدَّ أَمْرَ الْوَالِدِ فَإِنْ كَانَ الأَبُ بِحَاجَةٍ لِلزِّوَاجِ فَفَرْضٌ عَلَى الْوَلَدِ (وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) أَنْ يُسَاعِدَهُ فَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ فَهُوَ فَاسِقٌ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلأَبِ مَالٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ مِنْهُ (يَجِبُ عَلَى الِابْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ الْمُسْلِمَ الْفَقِيرَ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لِلزَّوَاجِ وَشَقَّتْ عَلَيْهِ الْعُزُوبَةُ. فَإِنْ أَهْمَلَ الْوَلَدُ إِعْفَافَ أَبِيهِ بِالزَّوَاجِ مَعَ كَوْنِ الْوَلَدِ مُوسِرًا، وَتَأَذَّى الْوَالِدُ إِيذَاءً شَدِيدًا مِنَ الْعُزُوبَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاقًّا لِأَبِيهِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُزَوِّجَ أَبَاهُ الْفَقِيرَ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَعَلَى زَوْجَةِ أَبِيهِ الْفَقِيرِ).
(فائدة: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَذْهَبُونَ لِلْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا هُوَ مَصْلَحَتُهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ هُوَ التَّقْوَى. الْمَعْنَى أَنَّ التَّزَوُّدَ لِسَفَرِ الْحَجِّ عَمَلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْحَجِّ، وَلَكِنْ الْأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ. التَّقْوَى هِيَ كَلِمَةٌ شَامِلَةٌ، مَعْنَاهَا أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَاجْتِنَابُ مَا حَرَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ. مِنْ حَيْثُ التَّعْبِيرُ بِاللَّفْظِ، كَلِمَةٌ خَفِيفَةٌ، وَلَكِنْ مَعْنَاهَا وَاسِعٌ)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَرْكَانُ الْحَجِّ سِتَّةٌ (وَنَعْنِي بِالرُّكْنِ فِي بَابِ الْحَجِّ تِلْكَ الأَعْمَالَ الضَّرُورِيَّةَ الَّتِي لا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهَا وَلَا يُمْكِنُ جَبْرُ تَرْكِهَا بِـالدَّمِ أَيْ الذَّبِيحَةِ. فِي الحَجِّ، يُطْلَقُ مُصْطَلَحُ الرُّكْنِ عَلَى مَا يُعْتَبَرُ فَرْضًا، أَيْ مَا لَا يَتِمُّ الحَجُّ إِلَّا بِهِ. أَمَّا الْوَاجِبُ، فَهُوَ مَا إِذَا تَرَكَهُ الشَّخْصُ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَلَكِنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ أي فِدْيَةٌ. فَالرُّكْنُ) الأَوَّلُ الإِحْرَامُ وَهُوَ (نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ وَالنُّسُكُ هُوَ عَمَلُ الْحَجِّ أَوْ عَمَلُ الْعُمْرَةِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ) أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ دَخَلْتُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ (مَثَلًا إِنْ أَرَادَ الْحَجَّ) أَوْ (فِي عَمَلِ) الْعُمْرَةِ (إِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ وَلَهُ أَنْ يَقْرِنَ فِي النِّيَّةِ بَيْنَهُمَا. أَيْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ)
الشَّرْحُ الأَرْكَانُ هِيَ الأَعْمَالُ الَّتِي لا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهَا وَلا تُجْبَرُ بِالدَّمِ وَهِيَ سِتَّةٌ أَوَّلُهَا الإِحْرَامُ، وَمَعْنَى الإِحْرَامِ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، وَالنُّسُكُ هُوَ عَمَلُ الْحَجِّ أَوْ عَمَلُ الْعُمْرَةِ (فَالإِحْرَامُ هُوَ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ مَثَلًا “دَخَلْتُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ” أَوْ “نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِ” أَوْ “نَوَيْتُ الْعُمْرَةَ وَأَحْرَمْتُ بِهَا”)، فَلا تَجِبُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ إِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي قَلْبِهِ (دَخَلْتُ فِي النُّسُكِ) مَثَلًا (أَوْ نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، يَقُولُ نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِ عَنْ فُلَانٍ، وَمَعْنَى أَحْرَمْتُ أَيْ دَخَلْتُ فِي النُّسُكِ).
تَنْبِيهٌ قَصْدُ النُّسُكِ قَبْلَ الإِحْرَامِ لا يُسَمَّى إِحْرَامًا وَإِنَّمَا الإِحْرَامُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْجُهَّالِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْحَجَّ رُؤْيَةُ مَكَّةَ وَحُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ مَاذَا نَوَيْتَ يَقُولُ أَنَا نَوَيْتُ مَكَّةَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (فَإِذًا، النِّيَّةُ لَيْسَ مَعْنَاهَا مُجَرَّدَ لُبْسِ الثِّيَابِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ. مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الإِحْرَامَ هُوَ لُبْسُ الأَبْيَضِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ بِهِ وَهُوَ إِمَّا الحَجُّ فَقَطْ وَهُوَ الإِفْرَادُ أَوِ الحَجُّ وَالعُمْرَةُ مَعًا، وَهُوَ القِرَانُ. أَوْ أَنْ يَعْتَمِرَ الآنَ، ثُمَّ بَعْدَ العُمْرَةِ يَأْتِي بِأَعْمَالِ الحَجِّ، وَهُوَ التَّمَتُّعُ. فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ يُؤَدَّيَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، الأوَّلُ “الإِفْرَادُ“، وَهُوَ تَقْدِيمُ أَعْمَالِ الحَجِّ عَلَى أَعْمَالِ العُمْرَةِ. وَالثَّانِي”التَّمَتُّعُ“، وَهُوَ تَقْدِيمُ أَعْمَالِ العُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الحَجِّ. وَالثَّالِثُ “القِرَانُ“، بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا فِي أَشْهُرِ الحَجِّ. وَكُلٌّ مِنْهَا جَائِزَةٌ، وَلَكِنْ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَمَتِّعِ وَالقَارِنِ دَمٌ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الذَّبْحِ، صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثَلاثَةً فِي الحَجِّ، تُسْتَحَبُّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فِي الأَظْهَرِ)
ثُمَّ إِنَّ الإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا مِنْ دُونِ تَعْيِينٍ كَأَنْ يَقُولَ نَوَيْتُ الإِحْرَامَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَصْرِفُهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ أَوْ لِلْعُمْرَةِ وَحْدَهَا أَوْ يَصْرِفُهُ لَهُمَا أَيْ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. فَإِذَا كَانَ فِي بَدْءِ الأَمْرِ نَوَى الدُّخُولَ فِي النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْقِرَانِ بَيْنَهُمَا، كَانَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ جَعَلَهُ حَجًّا مُفْرَدًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عُمْرَةً مُفْرَدَةً وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ قِرَانًا أَيْ جَمْعًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الأَعْمَالَ قَبْلَ الصَّرْفِ أَيِ التَّعْيِينِ، لَكِنْ لَوْ صَرَفَ بَعْدَ الطَّوَافِ يَكُونُ هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْقُدُومِ (لِأَنَّهُ طَافَهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَى مَكَّةَ) وَالسَّعْيُّ الَّذِي بَعْدَهُ لا يَصِحُّ (لِأَنَّ سَعْيَهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَ نِيَّتَهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَنْتَظِرُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَيَسْعَى بَعْدَهُ)، هَذَا إِذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَيْ بَعْدَ دُخُولِ شَهْرِ شَوَّالٍ أَمَّا لَوْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَنْصَرِفُ إِحْرَامُهُ إِلَى عُمْرَةٍ وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ (لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَقْبَلُ الْحَجَّ، إِنَّمَا يَقْبَلُ الْعُمْرَةَ). حَتَّى لَوْ نَوَى الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ أَشْهُرُهُ انْقَلَبَ إِحْرَامُهُ إِلَى إِحْرَامٍ بِعُمْرَةٍ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَجَّ قَبْلَ وَقْتِهِ وَالْحَجُّ لا تَصِحُّ نِيَّتُهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ أَشْهُرِهِ. وَأَشْهُرُ الْحَجِّ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ (يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَيَدْخُلُ ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ فِي عِدَادِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَبَعْضُهَا مِنَ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ الأَرْبَعَةِ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٍ وَرَجَبٍ (سُمِّيَتْ بِالأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ الْقِتَالَ فِيهَا كَانَ مُحَرَّمًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ).
وَيُسَنُّ قَبْلَ الإِحْرَامِ الِاغْتِسَالُ (لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى السَّوَاءِ، حَتَّى لِلمَرْأَةِ الحَائِضِ أَوِ النُّفَسَاءِ، لأَنَّ هَذَا الِاغْتِسَالَ لَيْسَ لِرَفْعِ الحَدَثِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْإِحْرَامِ، وَيَحْصُلُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِحْرَامِ) وَ (يُسَنُّ قَبْلَ الإِحْرَامِ أَيْضًا) تَطْيِيبُ الْبَدَنِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَفْضَلُ الطِّيبِ الْمِسْكُ الْمَخْلُوطُ بِمَاءِ الْوَرْدِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسَ فِي اسْتِبْقَائِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّخُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ لِلإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ (أَيِ الطِّيبُ) عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ فَلا يَنْهَانَا). (فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَاهَا الرَّسُولُ ﷺ عَنِ التَّطَيُّبِ. وَلَا يُقَالُ هَذَا خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ، لِأَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطِّيبِ قَبْلَ الإِحْرَامِ سَوَاءٌ بِالإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الطِّيبُ يَحْرُمُ بَعْدَ الإِحْرَامِ لَا قَبْلَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ “الإِيضَاحِ” عِنْدَ ذِكْرِ سُنَنِ الإِحْرَامِ مَا نَصُّهُ ثُمَّ يَتَطَيَّبُ، يَعْنِي الْمُحْرِمَ، وَالأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَطْيِيبِ بَدَنِهِ دُونَ ثِيَابِهِ، وَأَنْ يَكُونَ بِالْمِسْكِ، إِلَى أَنْ قَالَ “وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الطِّيبِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ”) أَمَّا الثَّوْبُ فَتَطْيِيبُهُ مَكْرُوهٌ لَكِنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ، وَلَوْ نَزَعَ هَذَا الثَّوْبَ الْمُطَيَّبَ عَنْ جِسْمِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِلَيْهِ وَتَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ إِنْ فَعَلَ (لِأَنَّهُ صَارَ فِي الْحُكْمِ كَمَنْ وَضَعَ الطِّيبَ عَلَى جَسَدِهِ بَعْدَ الإِحْرَامِ) وَيُسَنُّ لِلرِّجَالِ أَنْ يَجْهَرُوا بِالتَّلْبِيَةِ أَيْ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ رَفْعًا قَوِيًّا بِهَا بَعْدَ الْمَرَّةِ الأُولَى، أَمَّا النِّسَاءُ فَلا يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّلْبِيَةِ لا فِي الْمَرَّةِ الأُولَى وَلا فِيمَا بَعْدَهَا (وَلا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ رَفْعُ أَصْوَاتِهِنَّ لِأَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ عَوْرَةً لَكِنْ لا يُسَنُّ بَلْ يُعْتَبَرُ مَكْرُوهًا) فَائِدَةٌ: كَانَتْ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. فَأَحْدَثَ عُمَرُ بن الخطاب شَيْئًا زَائِدًا فِي التَّلْبِيَةِ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالْعَمَلُ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ. فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى تَلْبِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ مَا يُوَافِقُهَا. لَبَّيْكَ مَعْنَاهُ أُطِيعُكَ طَاعَةً بَعْدَ طَاعَةٍ. وَسَعْدَيْكَ مَعْنَاهُ أُرْضِيكَ رِضًى بَعْدَ رِضًى. ثُمَّ هَذِهِ التَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمَنْ تَرَكَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَأْثَمُ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا لِلْحَجِّ. وَأَكْمَلُ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ. وَيُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُدَاوِمَ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ إِحْرَامِهِ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَعَ الحُجَّاجِ وَالِافْتِرَاقِ ءَاكَدُ، إِظْهَارًا لِشِعَارِ الحَجِّ وَتَذْكِيرًا بِالتَّوَحِيدِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللهِ. وَبَعْدَ التَّلْبِيَةِ يُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ. ثُمَّ الْحَاجُّ إِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ أَوْ مَا يَكْرَهُهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْهَنِيئَةَ الدَّائِمَةَ الَّتِي لا يَتَخَلَّلُهَا كَدَرٌ هِيَ الْحَيَاةُ الأُخْرَوِيَّةُ، أَمَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيَتَخَلَّلُهَا كَدَرٌ وَمَتَاعِبُ وَمَشَقَّةٌ)
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَ (الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ هُوَ) الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ (أَيْ أَنْ يَكُونَ الحَاجُّ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَةَ لِحَدِيثِ جَابِرِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَيَصِحُّ الوُقُوفُ فِي عَرَفَةَ وَلَوْ كَانَ مَارًّا بِهَا دُونَ أَنْ يَمْكُثَ، أَوْ كَانَ نَائِمًا فِيهَا، مَا دَامَ قَدْ دَخَلَهَا فِي الوَقْتِ الْمُخَصَّصِ وَهُوَ) بَيْنَ زَوَالِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ (وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَسْتَمِرُّ) إِلَى فَجْرِ لَيْلَةِ الْعِيدِ (أَيْ إِلَى فَجْرِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ)
الشَّرْحُ أَنَّ الرُّكْنَ الثَّانِي لِلْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِيمَا بَيْنَ زَوَالِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ (أَشَدُّ أَعْمَالِ الْحَجِّ احْتِيَاطًا هُوَ وَقُوفُ عَرَفَةَ لِضِيقِ وَقْتِهِ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَقْتُهُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ كَامِلٍ، فَمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الوُقُوفِ فِي عَرَفَةَ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الضَّيِّقَةِ، فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الحَجُّ عَرَفَةُ، مَعْنَاهُ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. فَالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ هُوَ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ فِي الحَجِّ، وَبِدُونِهِ لَا يَصِحُّ الحَجُّ. أَمَّا بَقِيَّةُ أَرْكَانِ الحَجِّ، فَإِنَّ أَوْقَاتَهَا وَاسِعَةٌ) وَيُجْزِئُ (أَيْ يَكْفِي وَيَصِحُّ) بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَةَ وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ دَّابَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَلَوْ كَانَ مَارًّا لَمْ يَمْكُثْ فِيهَا أَوْ كَانَ نَائِمًا (يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الحَاجُّ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَاجِدًا فِي نِطَاقِ أَرْضِ عَرَفَةَ خِلَالَ الوَقْتِ المُحَدَّدِ. فَيَصِحُّ الوُقُوفُ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ، أَوْ دَاخِلَ سَيَّارَةٍ، أَوْ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ، أَوْ حَتَّى فَوْقَ شَجَرَةٍ. كَمَا يُعْتَبَرُ الوُقُوفُ صَحِيحًا وَلَوْ كَانَ الحَاجُّ مَارًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْكُثَ أَوْ يَسْتَقِرَّ، أَوْ نَائِمًا عِنْدَمَا أُدْخِلَ إِلَى أَرْضِ عَرَفَةَ وَأُخْرِجَ مِنْهَا. فَالْمَطْلُوبُ لِصِحَّةِ رُكْنِ عَرَفَةَ هُوَ التَّوَاجُدِ فِي أَرْضِ عَرَفَةَ خِلَالَ الوَقْتِ الْمُخَصَّصِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا التَّوَاجُدُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرُّكْنَ).
فَائِدَةٌ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِنًى يَوْمَ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَيَبِيتَ فِيهَا وَيُصَلِّيَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ ءَاخِرُهَا صُبْحُ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ يَذْهَبُ بَعْدَ الإِشْرَاقِ إِلَى نَمِرَةَ وَهِيَ أَرْضٌ مُلاصِقَةٌ لِعَرَفَةَ وَيَمْكُثُ فِيهَا إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ نَمِرَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهَذَا الْمَسْجِدُ جُزْءٌ مِنْهُ مِنْ عَرَفَةَ وَجُزْءٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْهَا ثُمَّ يَدْخُلُ عَرَفَةَ)
ثُمَّ الأَفْضَلُ لِلرِّجَالِ (فِِي عَرَفَةَ) أَنْ يَقِفُوا فِي مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ الْمُفْتَرَشَةِ أَسْفَلَ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَللنِّسَاءِ حَاشِيَةُ الْمَوْقِفِ حَتَّى لا يُزَاحِمْنَ الرِّجَالَ، وَيُسَنُّ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا (وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً لِأَنَّهُ خَالَفَ الأَفْضَلَ. أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، ثُمَّ يَرْحَلُ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مُزْدَلِفَةَ (وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ مِنًى وَعَرَفَات).
تَنْبِيهٌ: مَا شَاعَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا صَادَفَ يَوْمُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُغْفَرُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فَلَيْسَ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِنْ صَادَفَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَكُونُ الْحَجَّةُ بِسَبْعِينَ أَوْ بِسَبْعٍ فَلَيْسَ صَحِيحًا. وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ فَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَلَيْسَ ذَاكَ الَّذِي شَاعَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَالرُّكْنُ) الثَّالِثُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ (أَيْ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَسُمِّيَ بِالإِفَاضَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَيُسَمَّى طَوَافَ الرُّكْنِ. وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَيْ لَيْلَةِ عِيدِ الْأَضْحَى)
الشَّرْحُ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ (أَيْ بِالْكَعْبَةِ) وَلا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ (أَيْ لَيْلَةِ الْعِيدِ). وَمَعْنَى الطَّوَافِ هُوَ أَنْ يَدُورَ الْحَاجُّ حَوْلَ الْكَعْبَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ (يَقِينًا، فَإِنْ شَكَّ الحَاجُّ فِي عَدَدِ الأَشْوَاطِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالأَقَلِّ، وَالْعِبْرَةُ بِاعْتِقَادِهِ هُوَ. يَعْنِي إِذَا طَافَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ طَافَ سَبْعًا بِلَا شَكٍّ، فَأَتَاهُ وَاحِدٌ وَقَالَ لَهُ: “أَنْتَ فَعَلْتَ سِتَّةً” فَالْعِبْرَةُ بِيَقِينِ الْحَاجِّ الَّذِي طَافَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ. فَإِذًا الطَّوَافُ هُوَ أَنْ يَدُورَ الْحَاجُّ حَوْلَ الْكَعْبَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ) وَقَدْ جَعَلَ الْبَيْتَ أَيِ الْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ مَارًّا لِجِهَةِ الْحِجْرِ (أَيْ حِجْرِ إِسْمَاعِيلَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، فَإِنْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَشَى أَمَامَهُ أَوْ مَشَى الْقَهْقَرَى أَيْ إِلَى خَلْفٍ أَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ أَمَامَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ أَوْ جَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ وَمَشَى الْقَهْقَرَى لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ.
وَمِنْ شُرُوطِ (صِحَّةِ) الطَّوَافِ أَنْ يَبْدَأَ (الطَّائِفُ طَوَافَهُ) بِالْحَجَرِ الأَسْوَدِ (أيْ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ) وَ (يُشْتَرَطُ) أَنْ يُحَاذِيَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فِي أَوَّلِ طَوَافِهِ، فَيَجِبُ فِي الِابْتِدَاءِ (أي فِي بَدَايَةِ الطَّوَافِ) أَنْ لا يَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنْهُ (أي مِنْ جِسْمِ الطَّائِفِ كَكَتِفِهِ أَوْ قَدَمِهِ) عَلَى (أَيِّ) جُزْءٍ مِنَ الْحَجَرِ (الأَسْودِ) مِمَّا يَلِي الْبَابَ (أَيْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ نَحْوَ بَابِ الكَعْبَةِ).
وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ) النِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّوَافُ دَاخِلًا فِي النُّسُكِ (كَطَوَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ. أَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي النُّسُكِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ وَطَوَافُ الْعُمْرَةِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَإِنْ نَوَى كَانَ أَحْسَنَ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لِلطَّوَافِ الدَّاخِلِ فِي النُّسُكِ مُسْتَحَبَّةٌ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِإِحْرَامٍ بَلْ كَانَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَجِبُ النِّيَّةُ فَلا يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ) أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الطَّوْفَاتِ سَبْعًا يَقِينًا فَلَوْ شَكَّ فِي الْعَدَدِ أَخَذَ بِالأَقَلِّ كَالصَّلاةِ (أَمَّا إِنْ شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّوَافِ، فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الطَّوَافِ، كَمَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَالْعِبْرَةُ بِيَقِينِ نَفْسِهِ) وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ) أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَلَوْ عَلَى سَطْحِهِ وَأَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ خَارِجَهَا وَخَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وَالْحِجْرِ (أَيْ حِجْرِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِجَمِيعِ بَدَنِهِ. وَالشَّاذَرْوَانُ جُزْءٌ مِنْ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ مُرْتَفِعٌ قَدْرَ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا فَهُوَ (يُعْتَبَرُ) مِنَ (بِنَاءِ) الْكَعْبَةِ (نَفْسِهَا) لِذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ الإِنْسَانُ وَشَىْءٌ مِنْ بَدَنِهِ مُحَاذٍ لَهُ (مَثَلًا أَنْ يَطُوفَ وَيَدُهُ فَوْقَ الشَّاذَرْوَانِ، أَوْ فَوْقَ حِجْرِ إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الحَالَةِ) وَمِنْهَا (أَيْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّوَافِ) الطَّهَارَةُ (التَّامَّةُ) عَنِ الْحَدَثَيْنِ (الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ) وَالنَّجَاسَةِ (أَيْ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ. أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ، فَهِيَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فِي الطَّوَافِ. مَثَلًا إِذَا كَانَ أَحَدٌ يُصَلِّي، فَزَرَقَ عَلَيْهِ حَمَامٌ وَنَزَلَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الطَّوَافِ كَمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ).
وَلا يُشْتَرَطُ الْمَشْيُ بَلْ يَصِحُّ الطَّوَافُ لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَقَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَاكِبًا الْبَعِيرَ وَشَرْطُ جَوَازِ ذَلِكَ أَنْ لا يَحْصُلَ بِسَبَبِهِ تَقْذِيرٌ لِأَرْضِ الْمَسْجِدِ بِرِجْلِ الْبَعِيرِ فَإِنْ كَانَ فِي حَالٍ يَحْصُلُ مِنْهُ تَقْذِيرٌ لِلْمَسْجِدِ بِمَا عَلَى رِجْلِ الْبَعِيرِ مِنْ رَوْثٍ أَوْ غَيْرِهِ حَرُمَ لِأَنَّ تَقْذِيرَ الْمَسْجِدِ وَلا سِيَّمَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ حَرَامٌ.
وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ (الْمَشْيُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ جَائِزًا لَكِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ حَتَّى لِلنِّسَاءِ. وَالْحَفَاءُ أَيْ أَنْ يَكُونَ حَافِيًا، وَلَوْ طَافَ لابِسًا حِذَاءً نَظِيفًا طَاهِرًا جَازَ بِلا كَرَاهَةٍ لَكِنَّهُ خِلافُ الأُولَى إِلَّا لِعُذْرٍ كِشِدَّةِ حَرٍّ تَضُرُّهُ، وَسُنِّيَّةُ الْحَفَاءِ لا تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ تَقْصِيرُ الْخُطَى أَيْ كَوْنُهَا مُتَقَارِبَةً. وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ) اسْتِلامُ الْحَجَرِ (الأَسْوَدِ أَيْ لَمْسُهُ بِاليَدِ اليُمْنَى) وَتَقْبِيلُهُ بِلا صَوْتٍ (إِنْ تَيَسَّر، أَوْ الإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِاليَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الاقْتِرَابُ مِنْهُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ قَبَّلَهُ وَوَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ صَوْتٌ، وَيُسَنُّ وَضْعُ جَبْهَتِهِ عَلَيْهِ وَتَكْرِيرُ كُلٍّ مِنْهَا ثَلاثًا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ وَالأَوْتَارُ ءَاكَدُ. وَلا يُسَنُّ لِغَيْرِ الذَّكَرِ اسْتِلامٌ وَتَقْبِيلٌ وَوَضْعُ جَبْهَةٍ إِلَّا بِخَلْوَةِ الْمَطَافِ عَنِ الأَجَانِبِ أَيْ إِلَّا إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ وَقْتًا يَخْلُو الْمَطَافُ فِيهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِهَا)، وَ (مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ) الأَذْكَارُ الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ فِيهِ، فَمِنَ الْمَأْثُورِ (رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً (أَيْ عَمَلًا صَالِحًا) وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً (أَيِ الْجَنَّةَ) وَقِنَا (أَيْ جَنِّبْنَا) عَذَابَ النَّارِ) إِذْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَكْثَرُ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ (وَمَنْ شَغَلَ وَقْتَ طَوَافِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ كَانَ حَسَنًا. وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ الرَّمَلُ وَهُوَ الإِسْرَاعُ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى فِي الأَشْوَاطِ الثَّلاثَةِ الأُولى، أَمَّا بَاقِي الأَشْوَاطِ فَيَمْشُونَهَا كَالْعَادَةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَمْشِينَ كَالْعَادَةِ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ. وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ الِاضْطِبَاعُ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدَ جَانِبَيْ رِدَائِهِ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ الأَيْمَنِ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْكَتِفِ الأَيْسَرِ .وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُسَنُّ لَهُنَّ أَنْ يَلْبَسْنَ فَوْقَ الْخِمَارِ الْجِلْبَابَ. وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ الْقُرْبُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَالْمُوَالاةُ بَيْنَ الطَّوْفَاتِ، وَلَوْ لَمْ يُوَالِ بَلْ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي أَثْنَاءِ الطَّوْفَاتِ أَوْ لِيَشْرَبَ شَيْئًا جَازَ، وَأَمَّا لَوْ طَافَ جُزْءًا ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَكْمَلَ الْبَقِيَّةَ فَفِيهِ خِلافٌ.
وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ صَلاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَالأَفْضَلُ فِعْلُهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ أَيْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ إِنْ تَيَسَّرَ.
ثُمَّ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَمَنْ تَرَكَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَفِي قَوْلٍ مَنْ لَمْ يُصَلِّهِمَا عَلَيْهِ دَمٌ. ثُمَّ لَوْ صَلَّى فَرْضًا مَا أَوْ نَفْلًا مَا بَدَلَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عَقِبَ الطَّوَافِ حَصَلَ الثَّوَابُ لَكِنْ أَقَلُّ مِمَّا لَوْ صَلَّى بِنِيَّةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَمَنْ نَوَى بِتِلْكَ الصَّلاةِ سُنَّةَ الطَّوَافِ وَغَيْرَهَا حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ).
(فَائِدَةٌ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ حَجَرٌ كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ بِنَائِهِ لِلْكَعْبَةِ وَكَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ مُلْتَصِقًا بِالْكَعْبَةِ بَيْنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَبَيْنَ بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَزَاحَهُ السَّيْلُ عَنْ مَكَانِهِ فَبَقِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالآنَ فِي عَصْرِنَا هَذَا مِنْ أَجْلِ تَوْسِيعِ الْمَطَافِ عَلَى النَّاسِ أُزِيحَ مِنْ مَكَانِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، وَهَذَا الْحَجَرُ كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْجَنَّةِ كَالْحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْمَقَامَ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ نَزَلا مِنَ الْجَنَّةِ وَهُمَا يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ ثُمَّ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلا ذَلِكَ لَأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ ثُمَّ اسْوَدَّ مِنْ تَمَسُّحِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَفَرَ أَهْلُ مَكَّةَ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً.
فَائِدَةٌ: حِجْرُ إسماعيل يُقَابِلُ بِلادَ الشَّامِ أَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَرُكْنُ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيُقَابِلانِ الْيَمَنَ وَالْحَبَشَةَ وَمَا يُسَامِتُهُمَا مِنَ الْبِلادِ الْجَنُوبِيَّةِ وَيُقَالُ لَهُمَا الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَّانِ، وَيُقَالُ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ، فَالْكَعْبَةُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ رُكْنَانِ شَامِيَّانِ وَرُكْنَانِ يَمَانِيَانِ، فَالَّذِينَ يَكُونُونَ فِي جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ قِبْلَتُهُمْ إِلَى الْجَنُوبِ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ فِي جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ قِبْلَتُهُمْ إِلَى الشَّمَالِ، وَأَهْلُ الشَّامِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الْجَنُوبِ يَكُونُونَ تَوَجَّهُوا إِلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنَ الْكَعْبَةِ .
فَائِدَةٌ: الطَّوَافُ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ وَالأُمُورُ التَّعَبُدِيَّةُ فِيهَا إِظْهَارُ انْقِيَادِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِنْ دُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ لِمَاذَا الطَّوَافُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ وَلَيْسَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَالْحِكْمَةُ مِنَ الطَّوَافِ إِظْهَارُ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَأَنَّ الطَّائِفَ يَقُولُ مَهْمَا دُرْتُ وَحَيْثُ مَا كُنْتُ أَثْبُتُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَالرُّكْنُ) الرَّابِعُ السَّعْيُ بَيْنَ (جَبَلِ) الصَّفَا وَ (جَبَلِ) الْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ (يَبْتَدِئُ السَّعْيَ بِالصَّفَا وَيَنْتَهِي بِالْمَرْوَةِ وَيَكُونُ السَّعْيُّ) مِنَ الْعَقْدِ إِلَى الْعَقْدِ (وَهُوَ الْعَلامَةُ الَّتِي كَانَتْ جُعِلَتْ فِي كُلٍّ مِنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلدِّلالَةِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لا بُدَّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ لِيَصِحَّ السَّعْيُّ وَقَدْ هُدِمَتْ فِي أَيَّامِنَا وَجُعِلَ بَدَلَهَا عَلامَةٌ أُخْرَى)
الشَّرْحُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ، وَوَاجِبَاتُهُ ثَلاثَةٌ (أي وَاجِبَاتُ السَّعْيِ ثَلَاثَةٌ) الأَوَّلُ (مِنْ وَاجِبَاتِ السَّعْيِ) الْبَدَاءَةُ فِي الأَوْتَارِ بِالصَّفَا وَفِي الأَشْفَاعِ بِالْمَرْوَةِ (أَيْ يَبْدَأُ الحَاجُّ أَوِ الْمُعْتَمِرُ الشَّوْطَ الأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَالْخَامِسَ وَالسَّابِعَ مِنَ الصَّفَا، وَيَبْدَأُ الشَّوْطَ الثَّانِي وَالرَّابِعَ وَالسَّادِسَ مِنَ الْمَرْوَةِ) وَالْعَقْدُ (وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمُقَوَّسُ) الَّذِي عَلَى الصَّفَا عَلامَةٌ عَلَى أَوَّلِهِمَا فَمَنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ (أَيْ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي كَانَ فِي الْمَاضِي، عِنْدَ بَدَايَةِ الصَّفَا وَكَذَلِكَ عِنْدَ بَدَايَةِ الْمَرْوَةِ) وَمَنْ شَاءَ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِنَ الصَّخَرَاتِ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَبَدَأَ بِالْعَقْدِ صَحَّ، وَالصَّفَا جَبَلٌ (فِي السَّابِقِ) وَالْمَرْوَةُ جَبَلٌ (فِي السَّابِقِ) كَانَ بَيْنَهُمَا وَادٍ، مُنْخَفَضٌ ثُمَّ هَذَا الْوَادِي طُمَّ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ فَصَارَتِ الأَرْضُ سَهْلَةً. وَالثَّانِي (مِنْ وَاجِبَاتِ السَّعْيِ) كَوْنُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ (سَوَاءٌ كَانَ طَوَافَ الْقُدُومِ أَوْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَنَاسِكِ). وَالثَّالِثُ (مِنْ وَاجِبَاتِ السَّعْيِ) كَوْنُهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ (وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْ نِصْفِ الشَّوْطِ إِلَى خَارِجِ الْمَسْعَى وَلَمْ يَعُدْ إِلَى حَيْثُ كَانَ بَلْ أَكْمَلَ إِلَى أَمَامِهِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّوْطُ، فَإِنْ أَتَى بِغَيْرِ هَذَا الشَّوْطِ صَحَّ، فَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى الْغَدِ أَعَادَ السَّعْيَ كُلَّهُ. وَمَنْ زَادَ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ السَّعْيِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَاسِدَةٌ وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الأَشْوَاطِ يَأْخُذُ بِالْيَقِينِ. وَتُسْتَحَبُّ الْمُوَالاةُ فِي السَّعْيِ وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ فِي أَثْنَاءِ السَّعْيِ (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ) وَيُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ الْهَرْوَلَةُ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ. والعَلَمَانِ الأَخْضَرَانِ هُمَا عَلَامَتَانِ مُمَيَّزَتَانِ بِلَوْنِهِمَا الأَخْضَرِ فِي مَسْعَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، يُحَدِّدَانِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُسَنُّ فِيهِ الإِسْرَاعُ فِي السَّعْيِ لِلرِّجَالِ).
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَالرُّكْنُ) الْخَامِسُ الْحَلْقُ (وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الشَّعَرِ بِالْمُوسَى) أَوِ التَّقْصِيرُ (وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ ثَلاثُ شَعَرَاتٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ الْعِيدِ)
الشَّرْحُ الْخَامِسُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ. (مَعْنَاهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحَلْقُ، فَلَوْ قَصَّرَ صَحَّ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي نَبَتَ أَصْلُهُ فِي حَدِّ الرَّأْسِ، وَهُوَ مِنْ مَنَابِتِ الشَّعْرِ عَادَةً إِلَى نُقْرَةِ الْقَفَا، فَلَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَى الْكَتِفِ وَلَكِنْ أَصْلُهُ نَبَتَ فِي الرَّأْسِ وَقَصَّ مِنْهُ، صَحَّ. أَمَّا لَوْ قَصَّ مِمَّا نَبَتَ خَارِجَ حَدِّ الرَّأْسِ فَلا يَكْفِي) وَالْحَلْقُ هُوَ اسْتِئْصَالُ الشَّعَرِ بِالْمُوسَى (وَهَذَا لِلرِّجَالِ فَقَطْ. أَمَّا الَّذِي لَا شَعْرَ لَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِ شَارِبِهِ وَشَيْئًا مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ، مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، لَا مِنْ بَابِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ أَقْرَعُ، أَيْ لَا شَعْرَ لَهُ فِي رَأْسِهِ، فَهَذَا سَقَطَ عَنْهُ هَذَا الرُّكْنُ الَّذِي هُوَ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ)، وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَىْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ، فَفِعْلُ أَحَدِ هَذَيْنِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ (أَيْ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ هُنَا عَيْنَ ذَلِكَ، فَلَوْ نَتَفَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ نَتْفًا، صَحَّ، أَوْ أَحْرَقَهَا، صَحَّ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُضُرُّهُ). وَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ ثَلاثِ شَعَرَاتٍ (كُلِّهَا أَوْ جُزْءٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ) بِالْقَصِّ أَوِ النَّتْفِ أَوِ الْحَرْقِ أَوْ أَيِّ كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى لَكِنِ اسْتِعْمَالُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ لا يَجُوزُ (يَعْنِي إِذَا كَانَ إِحْرَاقُهَا يُسَبِّبُ لَهُ ضَرَرًا، فَلَا يَجُوزُ).
(وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ) قَالُوا (وَلِلْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ) قَالُوا (وَلِلْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ثُمَّ قَالَ (وَلِلْمُقَصِّرِينَ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، أَعَادَ ذِكْرَ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّتَيْنِ لِتَأْكِيدِ أَفْضَلِيَّتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ حَلَقَ فِي غَيْرِ النُّسُكِ إِنَّمَا كَانَ يُقَصِّرُ، أَحْيَانًا كَانَ يَصِلُ شَعَرُهُ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَأَحْيَانًا إِلَى مَنْكِبَيْهِ.
أَمَّا النِّسَاءُ فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ (كُنَّا أَزْوَاجَ الرَّسُولِ ﷺ نَأْخُذُ مِنْ شُعُورِنَا حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَالْوَفْرَةُ هُوَ مَا يَصِلُ إِلَى الأُذُنِ. فَالتَّقْصِيرُ جَائِزٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا هُوَ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ لَكِنَّ الْحَلْقَ بِالْمُوسَى حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَكْرُوهٌ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ)
وَوَقْتُ إِجْزَاءِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ حَرَامٌ أَنْ يَنْتِفَ الْحَاجُّ شَعَرَةً وَاحِدَةً مِنْ شَعَرِ بَدَنِهِ.
وَالتَّقْصِيرُ جَائِزٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا هُوَ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ لَكِنَّ الْحَلْقَ بِالْمُوسَى حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ (فَمَثَلًا، إِذَا أَصَابَتْهَا عِلَّةٌ وَاحْتَاجَتْ لِحَلْقِ شَعْرِهَا كَجُزْءٍ مِنَ العِلَاجِ، فَقَامَتْ بِحَلْقِهِ لِغَرَضِ التَّدَاوِي، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَكْرُوهٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ (فَالْمَرْأَةُ تَكْتَفِي بِالتَّقْصِيرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَحْلِقَ، يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ جَوَانِبِ الرَّأْسِ شَيْئًا مِنَ الشَّعْرِ، وَلَوْ قَلِيلًا، وَهَذَا الأَفْضَلُ. أَمَّا الْحَلْقُ فَهُوَ أَفْضَلُ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَعَا مَرَّتَيْنِ لِلْمُحَلِّقِينَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ). وَوَرَدَ أَنَّ لِلْحَالِقِ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (لِذَلِكَ الْحَلْقُ أَحْسَنُ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ) (وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ لِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصِّرَ لِنَفْسِهَا).
ثُمَّ إِنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ (أَيْ يَوْمِ الْعِيدِ، الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) وَالأَفْضَلُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ طَوَافِ الرُّكْنِ وَالسَّعْيِ (كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ). وَيُسَنُّ الْبَدَاءَةُ بِيَمِينِ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَمُقَدَّمِهِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَالتَّكْبِيرُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ وَحَلْقُ جَمِيعِهِ لِلذَّكَرِ وَتَقْصِيرُ جَمِيعِهِ لِغَيْرِ الذَّكَرِ (فَالْمَرْأَةُ تَقْصُرُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِهَا، فَهَذَا أَحْسَنُ، وَلَا تَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَقَط. وَأَيْضًا، الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ التَّقْصِيرَ وَلَمْ يَحْلِقْ، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ).
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/Iqh74eLRwMg
لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-25