الأحد ديسمبر 7, 2025

#2

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين، إمام الأتقياء العارفين، سيدنا وقائدنا وحبيبنا ونور أبصارنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، العالي القدر، العظيم الجاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

     (وكذلك من حدث حديثا كذبـا وهو يعلم أنه كذب فقال اللـه شهيد على ما أقول بقصد أن اللـه يعلم أن الأمر كما قلت) كفر (لأنه نسب الـجهل للـه تعالـى لأن اللـه يعلم أنه كاذب لـيس صادقا. وكذلك لا يـجوز القول كل واحد على دينه اللـه يعينه بقصد الدعاء لكل) من المؤمنيـن والكافرين لأنه لا يـجوز الدعاء للكافرين أن يعينهم اللـه على الكفر لأنه يتضمن الرضا بكفر الغـيـر ومن رضى بكفر غـيـره كفر وأما إذا أراد الإخبار أن اللـه يعيـن المؤمن على الإيـمان وفعل الصالـحات ويـعيـن الكافر على الكـفر والمعاصى فلا يكـفر لأن الإعانة معناها الـتمكيـن والإقدار ولـيس الرضا كما يتوهم بعض الـناس. فاللـه تعالـى هو الذى يـعيـن المؤمن على الإيـمان والكافر على الكفر ومـمن قال بذلك إمام الـحرميـن فـى كتابه الإرشاد والإمام مـحمد الأميـر المالكى فـى حاشية الأميـر ووافقه الشيخ مـحمد عليش المالكى مفتـى الديـار المصريـة فـى منح الـجليل شرح مـختصر خليل والشيخ مـحمد الـباقر الـنقشبندى.

     (ويكفر من يقول معمما كلامه الكلب أحسن من بنـى ءادم) لأن كلامه يشمل المؤمنيـن والكافرين والمؤمن له حرمة عند اللـه فلا يكون الكلب أحسن منه قال رسول اللـه ﷺ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة رواه الـتـرمذى (أو من يقول العرب جرب) بـمعنـى أن كل العرب لا خيـر فيهم فإنه يكفر لأن كلامه يشمل ذم جـميع العرب الأنبياء وغـيـرهم من المؤمنيـن. فهود وصالح وشعـيب ومـحمد عليهم الصلاة والسلام أنبياء من العرب (أما إذا خصص كلامه لـفظا) أى أتى بـما يدل على الـتخصيص كقوله الكلب أحسن من بنـى ءادم الكـفار فلا يكـفر لأن الكفار هم أحقر وأخس خلق اللـه وإن كانت صورتـهم صورة الـبشر لأنـهم أعرضوا عن الإيـمان باللـه ورسوله فكـفروا باللـه عز وجل ويدل على ذلك حديث ابن حبان لا تـحلفوا بآبـائكم الذين ماتوا فـى الـجاهلية والذى نفسى بيده إن الذى يدهدهه الـجعل بأنفه خيـر من هؤلاء المشركين (أو) خصص كلامه (بقرينة الـحال كـقوله الـيوم العرب فسدوا ثـم قال العرب جرب) مريدا ه ؤلاء الذين يعتقدهم فاسدين (فلا يكـفر) لكنه لا يسلم من المعصية لأنه ليس كل العرب الـيوم فاسدين.

     (ويكفر من يسمى الشيطان بـبسم اللـه الرحـمـٰن الرحيم) لأنه جعل هذه الكلمة الشريفة اسـما للشيطان (لا إن ذكر البسملة بنية الـتعوذ باللـه من شره) أى بقصد أن يـحفظه اللـه ببـركة الـبسملة من شر الشيطان فإنه لا يكفر.

     (وهناك بعض الشعراء والكتاب يكتب كلمات كفريـة) فيها شتم للـه (كما كتب أحدهم هرب اللـه فهذا من سوء الأدب مع اللـه الموقع فـى الكفر) لأن قائل هذه الكلمة شتم اللـه واستخف به ونسب إليه الـحركة والفرار والمكان (وقد قال القاضى عياض فـى كتابه الشفا) بتعريف حقوق المصطفى (لا خلاف أن ساب اللـه تعالـى من المسلميـن كافر).

     (و)كذلك (يكفر من يستحسن هذه الأقوال والعبارات) أى يعـتبـرها شيئا حسنا (وما أكثر انتشارها فـى مؤلـفات عديدة) فـى هذا الزمن.

     (وسوء الأدب مع الرسول ﷺ بالاستهزاء بـحال من أحواله أو بعمل من أعماله) أو بأمر من أوامره (كـفر) كالذى يستهزئ باستعمال السواك أو إعفاء اللحية أو نـتف الإبط أو الاستحداد أى حلق العانـة أو يستهزئ بلبس العمامة أو القميص الطويل الذى يعرف عند كثيـر من الـناس الـيوم بالـجلابية أو الدشداشة ونـحو ذلك مع علمه أن الرسول ﷺ فعل ذلك أو مدحه وكذا الذى يستهزئ بالأكل بالأصابع الـثلاثة الإبـهام والسبابة والوسطى لأن الرسول ﷺ كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يـمسحها رواه مسلم.    

     (و)كذلك (الاستهزاء) بالقرءان الكريـم أو (بـما كتب فيه شىء من القرءان الكريـم أو الأنبياء عليهم السلام) بأن نسب إلـيهم القبائح والرذائل كالذى يقول إن سيدنـا ءادم يشبه القرود أو إن سيدنـا موسى كان سيئ الـخلق أو إن سيدنا يوسف أراد الزنـا بامرأة العزيز أو إن سيدنـا مـحمدا كان شهوانـيا متعلق القلب بالـنساء وما أشبه ذلك (أو) الاستهزاء (بشعائر الإسلام) أى ما كان مشهورا من أمور الدين كالصلاة والصيام والـحج والزكاة والأذان والكعبة والمساجد وعيد الأضحى وعيد الفطر والطواف ورمى الـجمار. ومن الاستخفاف بشعائر الإسلام الاستهزاء بالسنة أو ذم العلوم الدينية كقول سيد قطب زعيم حزب الإخوان إن تعلم الفقه مضيعة للعمر والأجر ذكر ذلك فـى كـتابه المسمى فـى ظلال القرءان وهو معارض للقرءان والـحديث وإجـماع الأمة ويعد تصغيـرا لما عظم اللـه وكذلك ما يقوله بعض الـجهلة إن الـتعمق فـى الدين بـمعـنـى الـتمسك الـتام بالدين يعقد الإنسان أو يـجنـنه لأن الأنبياء كانوا أشد الـناس تـمسكا بالدين. فهذا ليس تعمقا فيه مـجاوزة الـحد المأمور به إنـما هو تعمق مـمدوح يـحبه اللـه. ومن شعائر الإسلام حجاب المرأة فمن استخف بستـر المرأة لرأسها كفر أو استخف بستـر المرأة لوجهها وكان عالما باستحباب ذلك فـى الشرع كأن جعل هذا تـخلـفا كفر لأنه ذم ما هو مـمدوح فعله فـى الشرع (أو) الاستهزاء (بـحكم من أحكام اللـه تعالـى) كأن علم شخص بـحكم الشرع أن للذكر مثل حظ الأنثـييـن من الـتـركة ثـم استخف به فإنه (كفر قطعا) أى بلا خلاف (وكذلك استحسان الكـفر من غـيـره) أى اعتبار الكفر شيئا حسنا كأن ضحك لقول شخص كلمة الكفر على وجه الموافقة له على قوله فإنه (كـفر لأن) استحسان الكـفر معناه الرضى به و(الرضى بالكفر كفر).

     (ولا يكـفر من نقل عن غــيـره كفريـة حصلت منه من غــيـر استحسان لـها) أى من غـيـر أن يكون الـناقل راضيا بالكـفر ولا مستحسنا له (بقوله قال فلان كذا) أى مـما هو كـفر (و)أما (لو أخر صيغة قال إلـى ءاخر الـجملة) أى ذكر الكـفر أولا قبل أن يذكر أداة الـحكاية أى قبل أن يقول قال فلان (فيشتـرط أن يكون فـى نـيته ذكر أداة الـحكاية مؤخرة عن الابتداء) أى يشتـرط أن يكون ناويـا أن يأتــى بأداة الـحكاية مؤخرة قبل أن يذكر كفره.

(ما يستثنـى من الكفر القولـى)

     (يستثنـى من الكـفر اللفظى) خـمس حالات لا يكـفر فيها قائله (حالة سبق اللسان) وهو أن يسبق لسانه إلـى الـنطق بكلام كـفرى (أى أن يتكلم بشىء من ذلك من غـيـر إرادة بل جرى على لسانه ولـم يقصد أن يقوله بالمرة) كأن أراد أن يقول وما أنـا من المشركيـن فسبق لسانه فقال وما أنـا من المسلميـن فإنه لا مؤاخذة عليه وقد مثل الرسول ﷺ لسبق اللسان برجل فقد دابته فـى الصحراء وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع فـى ظلها فبينما هو كذلك إذ هو بـها قائمة عنده فأخذ بـخطامها ثـم أراد أن يقول اللهم أنت ربـى وأنا عبدك فقال من شدة فرحه اللهم أنت عبدى وأنـا ربك رواه مسلم.  

     (وحالة غـيبوبة العقل أى عدم صحو العقل) فمن غاب عقله فنطق بكلام كفرى لا يـحكم عليه بالكفر لارتفاع الـتكليف عنه ويشمل هذا الـحكم الـنائم والمجنون ونـحوهـما كالولـى المستغرق فـى حب اللـه إذا غاب عقله لقوله ﷺ رفع القلم عن ثلاث عن الـنائم حتـى يستيقظ وعن الصبـى حتـى يـحتلم وعن المجنون حتـى يعقل رواه الإمام أحـمد.

    (وحالة الإكراه فمن نطق بالكـفر بلسانه مكرها بالقتل ونـحوه) أى مـما يؤدى إلـى الموت (وقلبه مطمئن بالإيـمان فلا يكـفر) أما إذا انشرح صدره بالكـفر أى رضى به فإنه يكفر. والمكره هو الذى هدده غـيـره بالقتل إن لـم يـأت بالكفر وكان قادرا على تنفيذ تـهديده وهو يصدقه أنه يفعل ولا يـجد طريقة للخلاص إلا بالإتيان بـما طلب منه. وأما غـيـر المكره فلا يشتـرط للحكم عليه بالكـفر انشراح الصدر فمن قال كلاما كفريـا كفر ولو كان غـيـر منشرح الصدر أى وإن كان غيـر راض بالكـفر ولا قاصد الكـفر. وأما ما ذكره سيد سابق المصرى فـى كتابه المسمى فقه السنة أن المسلم لا يعـتبـر خارجا عن الإسلام ولا يـحكم عليه بالردة إلا إذا انشرح صدره بالكـفر واطمأن قلبه به ودخل فـى دين غـيـر الإسلام بالفعل فهو باطل لأنه جعل بقوله هذا كل العباد فـى حكم المكره واللـه تعالـى استثنـى المكره فـى كتابه بـحكم خاص (قال تعالـى ﴿من كفر باللـه من بعد إيـمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيـمان﴾) أى أن المكره إذا نطق بكلمة الكـفر تـحت الإكراه وقلبه مطمئن بالإيـمان فليس عليه غضب من اللـه لأنه لـم يكـفر ولـم يعص (﴿ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من اللـه﴾).

     و(حالة الـحكاية لكـفر الغــيـر فلا يكـفر الـحاكـى كـفر غــيـره) أى الذى ينقل عن غـيـره كفريـة حصلت منه كأن يقول قال فلان ويذكر كـفره (على غـيـر وجه الرضى والاستحسان) أى من غـيـر أن يكون الـناقل راضيا بالكـفر ولا مستحسنا له (ومستندنـا فـى استـثناء مسئلة الـحكاية قول اللـه تعالـى ﴿وقالت اليهود عزير ابن اللـه وقالت الـنصارى المسيح ابن اللـه﴾) وقوله تعالـى (﴿وقالت الـيهود يد اللـه مغلولة﴾. ثـم الـحكاية المانعة لكـفر حاكـى الكـفر) أى أداة الـحكاية التـى تـمنع عنه الكفر (إما أن تكون فـى أول الكلمة التـى يـحكيها عمن تكلم بكـفر أو بعد ذكره الكلمة عقبها وقد كان ناويـا أن يأتـى بأداة الـحكاية) مؤخرة (قبل أن يقول كلمة الكـفر فلو قال المسيح ابن اللـه قول الـنصارى أو قالته الـنصارى فهى حكاية مانعة للكـفر عن الحاكـى) أى تـمنع عنه الكـفر.

     (وحالة كون الشخص متأولا باجتهاده فـى فهم الشرع) أى فهم ءاية أو حديثا على خلاف ما جاء به الشرع (فإنه لا يكفر المتأول) فـى هذه الـحال (إلا إذا كان تـأوله فـى القطعيات فأخطأ) أى إلا إذا كان تـأوله يؤدى إلـى تكذيب أصل معـنـى الشهادتـيـن (فإنه لا يعذر كـتأول الذين قالوا بقدم العالـم وأزلـيته كابن تيميـة) وحدوث العالـم من القطعيات وهو ما يستـقل العقل بالعلم به فمن رد ذلك وزعم أزلـيته كفر. (وأما مثال من لا يكـفر مـمن تـأول) ءاية أو حديثا على خلاف المعـنـى المراد وكان تـأوله فـى غـيـر القطعيات (فهو كتأول الذين منعوا الزكاة) أى امتنعوا عن دفع الزكاة (فـى عهد أبـى بكر) الصديق رضى اللـه عنه (بأن الزكاة وجبت) علـيهم (فـى عهد الرسول) ﷺ (لأن صلاته كانت علـيهم سكنا لـهم أى رحـمة وطمأنينة وطهرة وأن ذلك انقطع بـموته فإن الصحابة لـم يكفروهم لذلك لأن هؤلاء فهموا من قوله تعالـى ﴿خذ من أموالـهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بـها وصل عليهم إن صلاتك سكن لـهم﴾ أن المراد من قوله ﴿خذ﴾ أى يا مـحمد الزكاة لتكون إذا دفعوها إليك سكنا لـهم وأن هذا لا يـحصل بعد وفاته فلا يـجب عليهم دفعها لأنه قد مات وهو المأمور بأخذها منهم ولـم يفهموا) من نصوص الشرع ولـم يعلموا (أن الـحكم عام فـى حال حياته وبعد موته وإنـما قاتلهم أبو بكر كما قاتل المرتدين الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب فـى دعواه الـنبوة لأنه ما كان يـمكنه أن يأخذ منهم) الزكاة (قهرا بدون قـتال لأنـهم كانوا ذوى قوة فاضطر) رضى اللـه عنه (إلـى القتال).

     (وكذلك) لـم يكـفر الصحابة (الذين فسروا قول اللـه تعالـى ﴿فهل أنتم منتهون﴾ بأنه تـخييـر) بيـن شرب الـخمر وترك شربـها (وليس تـحريـما للخمر فشربوها لأن) هؤلاء ظـنوا أن الآية لا تعنـى تـحريـم الـخمر ولـم يبلغهم تـحريـم المسلميـن لـها لذلك سيدنا (عمر) رضى اللـه عنه (ما كفرهم وإنـما قال اجلدوهم ثـمانيـن ثـمانيـن ثـم إن عادوا فاقتلوهم رواه ابن أبـى شيبة) أى إن عادوا إلـى القول بأن شربـها جائز فاقتلوهم لكفرهم. أما فـى زماننا هذا فلا عذر لمن كان يعيش بيـن المسلميـن وينكر حرمة الـخمر متأولا الآية بعد أن بلغه تـحريـم المسلميـن لـها. و(إنـما كفروا) الصحابة (الآخرين الذين ارتدوا عن الإسلام لتصديقهم لمسيلمة الكذاب الذى ادعى) الـنبوة و(الرسالة) فكذبوا قول اللـه تعالـى ﴿وخاتـم الـنبييـن﴾ وقوله ﷺ وختم بـى الـنبيون، (فمقاتلتهم) أى مقاتلة الصحابة (لـهؤلاء الذين تـأولوا منع الزكاة على هذا الوجه) أى الذين تـأولوا الآية فامتنعوا عن دفع الزكاة (كان لأخذ الـحق الواجب علـيهم فـى أموالـهم وذلك كـقتال البغاة) الظالميـن الذين تـمردوا على سيدنـا علـى وهو الـخليفة الراشد (فإنـهم لا يقاتلون لكفرهم بل يقاتلون لردهم إلـى طاعة الـخليفة كالذين قاتلهم سيدنا علـى فـى الوقائع الثلاث وقعة الـجمل) مع من نكث بيعته من أهل الـبصرة (ووقعة صفيـن مع معاوية) ومن تبعه من أهل الشام (ووقعة الـنهروان مع الـخوارج) الذين لـم يصلوا إلـى حد الكـفر فإن سيدنـا عليا قاتلهم لردهم إلـى الـحق (على أن من الـخوارج صنفا هم كـفار حقيقة فأولئك لـهم حكمهم الـخاص).

(قاعدة) فـى تقسيم اللفظ عند العلماء

     قسم العلماء (اللـفظ) إلـى ظاهر وصريح والظاهر (الذى له معنيان أحدهـما نوع من أنواع الكـفر والآخر ليس كفرا وكان المعـنـى الذى هو كفر ظاهرا) أى كان المعنـى المتبادر للـفظ فيه كفر (لا يكفر قائله) أى لا يـجوز تكفيـره (حتـى يعرف منه أى المعنييـن أراد فإن قال أردت المعـنـى الكـفرى حكم عليه بالكـفر وأجرى عليه أحكام الردة وإلا فلا يـحكم عليه بالكـفر) فإن قال قائل الصلاة على الـنبـى مكروهة وأراد أن الصلاة على الـنبـى مـحمد مكروهة فهو كـفر لأنه تكذيب للشريعة قال اللـه تعالـى ﴿إن اللـه وملائكته يصلون على الـنبـى يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ وأما إن أراد أن الصلاة على الأرض المحدودبة مكروهة لأن الشخص لا يـخشع فـى صلاته عليها فلا يكـفر لأن لـفظ الـنبـى يأتـى فـى اللغة بـمعـنـى الأرض المحدودبة ويأتـى بـمعـنـى من أوحى إلـيه بالـنبوة (وكذلك إن كان اللـفظ له معان كثيـرة وكان كل معانيه كفرا وكان معـنـى واحد منها غيـر كـفر لا يكـفر) قائله (إلا أن يعرف منه إرادة المعـنـى الكـفرى وهذا هو الذى ذكره بعض العلماء الـحنفييـن فـى كتبهم) فعن مـحمد بن الـحسن رضى اللـه عنه أن الرجل لو قيل له صل فقال لا أصلـى فإن أراد لا أصلـى لأنـى صليت لا يكفر وإن أراد لا أصلـى لقولك لا يكفر وكذا إن أراد لا أصلـى أنـا متكاسل وأما إن أراد أنه لا يصلـى لأنه مستخف بالصلاة فإنه يكفر (وأما ما يقوله بعض الـناس من أنه إذا كان فـى الكلمة تسعة وتسعون قولا بالـتكفيـر وقول واحد بتـرك الـتكفيـر أخذ بتـرك الـتكفيـر فلا معـنـى له) أى إذا اختلف الـناس فـى الـحكم على قائل الكلمة الصريـحة فـى الكـفر على تسعة وتسعيـن قولا بالـتكفيـر وقول واحد بتـرك الـتكفيـر يؤخذ بـهذا القول الواحد فلا يـحكم بكـفره فهو باطل (ولا يصح نسبة ذلك إلـى مالك ولا إلـى أبـى حنيفة كما نسب سيد سابق) فـى كتابه المسمى فقه السنة (شبه ذلك إلـى) الإمام (مالك وهو شائع على ألسنة بعض العصرييـن فليتقوا اللـه) فيفهم من ذلك أن الكلام الذى فيه استخفاف بالدين أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة يكفر قائله ولو خالف فـى ذلك ألف إنسان ولا ينظر إلـى كـثرة المخالفيـن إنـما ينظر إلـى موافقة الـحق.

     (قال العلماء أما) اللـفظ (الصريح) فـى الكـفر (أى الذى ليس له إلا معـنـى واحد يقتضى الـتكفيـر فيحكم على قائله بالكـفر كقول) إنسان (أنـا اللـه) أو نـحن أبناء اللـه والعياذ باللـه تعالـى. أما من قال كلمة كفريـة لا تـحتمل إلا معـنـى واحدا بـحسب وضع اللغة لكـنه ظن أن لـها معـنـى ءاخر غـيـر كفرى فقالـها على هذا الوجه الذى ظـنه معنـى لـها فلا يكفر.

     واللفظ الصريح فـى الكـفر (حتـى لو صدر هذا اللـفظ من ولـى فـى حالة غيبة عقله) فإنه (يعزر) أى يزجر (ولو لـم يكن هو مكلـفا تلك الساعة قال ذلك عز الدين بن عـبد السلام وذلك لأن الـتعزير) أى الزجر (يؤثر فـى من غاب عقله كما يؤثر فـى الصاحى العاقل وكما يؤثر فـى الـبهائم فإنـها إذا جـمحت فضربت تكف عن جـموحها) أى إذا أساءت الـتصرف فصرخنا عليها أو ضربناها تكف وتغيـر هيأتـها (مع أنـها ليست بعاقلة كذلك الولـى الذى نطق بالكـفر فـى حال الغـيبة) أى فـى حال غـيبة عقله (عندما يضرب أو يصرخ عليه يكف للزاجر الطبيعـى) أى أنه يتوقف عن الكلام لأنه مـجبول على الكـف والانزجار خوفا من الـتوبيخ أو العقاب (على أن الولـى لا يصدر منه كـفر فـى حال حضور عقله إلا أن يسبق لسانه) فيتلـفظ به (لأن الولـى مـحفوظ من الكـفر بـخلاف المعصية الكبيـرة أو الصغيـرة فإن ذلك يـجوز على الولـى) وقد سئل الـجنيد الـبغدادى رضى اللـه عنه هل يقع الولـى فـى ذنب كبيـر فقال ﴿وكان أمر اللـه قدرا مقدورا﴾ أى إذا شاء اللـه له ذلك حصل منه (لكن لا يستمر عليه بل يتوب عن قرب. وقد يـحصل من الولـى معصية كبيـرة قبل موته بقليل لكن لا يـموت إلا وقد تاب) منها (كطلحة بن عبيد اللـه والزبيـر بن العوام رضى اللـه عنهما) وهـما من العشرة المبشرين بالـجنة (فإنـهما خرجا على أميـر المؤمنيـن علـى) بن أبـى طالب (رضى اللـه عنه) أى تركا طاعته وخالـفاه (بوقوفهما مع الذين قاتلوه فـى الـبصرة فذكر علـى كلا منهما حديثا) سـمعه من رسول اللـه ﷺ (أما الزبيـر فقال له) قبل نشوب الـحرب (ألـم يقل لك رسول اللـه إنك لـتقاتلن عليا وأنت ظالـم له فقال نسيت فذهب منصرفا عن قـتاله) تائبا (ثـم لـحقه فـى طريقه رجل من جيش علـى) فطعنه برمح فـى ظهره (فقتله فتاب) رضى اللـه عنه (بتذكيـر علـى له فلم يـمت إلا تائبا. وأما طلحة فقال له علـى ألـم يقل رسول اللـه ﷺ من كنت مولاه فعلـى مولاه) أى من كنت ناصره فعلـى ينصره (فذهب) طلحة (منصرفا) عن قـتاله تائبا (فضربه مروان بن الـحكم) أى رماه بسهم (فقتله وهو) رضى اللـه عنه (أيضا تـاب وندم عند ذكر علـى له هذا الـحديث فكل منهما) أى كل من الزبيـر وطلحة (ما مات إلا تائبا. وكلا الـحديثيـن صحيح) الأول رواه الـحاكم فـى المستدرك والثانـى رواه الـتـرمذى فـى سننه (بل الـحديث الثانـى متواتر) كما قال الـحافظ السيوطى فـى الأزهار المتناثرة (وقد ذكر الإمام أبو الـحسن الأشعرى) رضى اللـه عنه (أن طلحة والزبيـر مغفور لـهما لأجل البشارة التـى بشرهـما رسول اللـه بـها مع ثـمانية ءاخرين فـى مـجلس واحد) قال عليه الصلاة والسلام أبو بكر فـى الـجنة عمر فـى الـجنة عثمان بن عفان فـى الـجنة علـى بن أبـى طالب فـى الـجنة طلحة بن عبيد اللـه فـى الـجنة الزبيـر بن العوام فـى الـجنة سعد بن أبـى وقاص فـى الـجنة أبو عبيدة بن الـجراح فـى الـجنة عبد الرحـمـٰن بن عوف فـى الـجنة وسعيد بن زيد فـى الـجنة رواه الـتـرمذى وأبو داود (فهذا من الإمام أبـى الـحسن الأشعرى إثبات) منه (أنـهما أثـما) أى وقعا فـى المعصية. (وكذلك قال فـى حق عائشة) رضى اللـه عنها إنـها مغفور لـها (لأجل أنـها مبشرة أيضا وكانت ندمت ندما شديدا من وقوفها فـى) معسكر (المقاتليـن لعلـى حتـى كانت حيـن تذكر سيـرها إلـى الـبصرة ووقوفها مع المقاتليـن لعلـى تبكى بكاء شديدا يبتل من دموعها خـمارها) رواه ابن سعد وابن عبد الـبـر (وهذا متواتر أيضا وقال) الإمام أبو الـحسن الأشعرى (فـى غـيـرهـما من مقاتلـى علـى من أهل وقعة الـجمل) الذين نكثوا ببيعته أى بايعوه ثـم خرجوا عن طاعته (ومن أهل صفيـن الذين قاتلوا مع معاوية عليا) ولـم يبايعوه إن ذنبهم (مـجوز غفرانه والعفو عنه كما نقل ذلك الإمام أبو بكر بن فورك عن أبـى الـحسن الأشعرى فـى كتابه مـجرد مقالات الأشعرى) وفـى هذا دليل على أنـهم وقعوا فـى الإثـم (وابن فورك تلميذ تلميذ أبـى الـحسن الأشعرى وهو أبو الـحسن الباهلـى رضى اللـه عنهم. وما يظن بعض الـجهلة من أن الولـى لا يقع فـى معصية فهو جهل فظيع فهؤلاء الثلاثة طلحة والزبيـر وعائشة من أكابر الأولياء) ومع ذلك صدرت منهم معصية.

     (قال إمام الـحرميـن) عبد الملك (الـجوينـى) فـى كتاب الإرشاد (اتفق الأصولـيون) أى علماء أصول الدين وعلماء أصول الفقه (على أن من نطق بكلمة الردة أى الكـفر وزعم أنه أضمر تورية) أى زعم أنه أراد بـها معـنـى بعيدا لا تـحتمله اللغة (كـفر ظاهرا وباطـنا) أى هو كافر عندنـا وعند اللـه عز وجل (وأقرهم على ذلك أى) وافقهم عليه (فلا ينفعه الـتأويل البعيد كالذى يقول يلعن رسول اللـه ويقول قصدى برسول اللـه) الذى ألعنه (الصواعق) أليس اللـه يرسلها، وهذا الـتأويل لا ينفعه لأن اللغة لا تـحتمل هذا المعـنـى الذى ادعاه. (وقد عد) أى ذكر (كثيـر من الفقهاء) من المذاهب الأربعة (كالفقيه الـحنفى بدر) الدين (الرشيد وهو قريب من القرن الثامن الـهجرى) والقاضى عياض المالكى فـى كتابه الشفا (أشياء) أى ألـفاظا (كثيـرة) مـما هو كـفر وردة تـحذيرا للناس منها (فينبغى الاطلاع عليها) للحذر منها (فإن من لـم يعرف الشر يقع فيه) وأعظم الشرور هو الكفر (فليحذر فقد ثبت عن أحد الصحابة أنه أخذ لسانه وخاطبه) قائلا (يـا لسان قل خيـرا تغـنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم) أى قل خيـرا تكسب ثوابـا وأمسك لسانك عما فيه معصية تسلم من مهالك كثيـرة وإن مت على غـيـر هذا فإنك تندم يوم لا ينفع الـندم (إنـى سـمعت رسول اللـه ﷺ يقول أكثر خطايـا ابن ءادم من لسانه) أى أكثر المعاصى سببها اللسان (ومن هذه الـخطايـا الكـفر والكبائر وفـى حديث ءاخر للرسول ﷺ إن العبد لـيتكلم بالكلمة ما يتبيـن فيها يهوى بـها فـى الـنار أبعد مـما بيـن المشرق والمغرب رواه الـبخارى ومسلم من حديث أبـى هريرة) أى أن الإنسان قد يتكلم بكلمة لا يرى فيها ضررا يستوجب بـها الـنزول إلـى قعر جهنم كما يدل على ذلك حديث الـتـرمذى إن العبد لـيتكلم بالكلمة لا يرى بـها بـأسا يهوى بـها فـى الـنار سبعيـن خريفا أى أن الإنسان قد يتكلم بكلمة لا يرى فيها ضررا ولا يعتبـرها معصية ينزل بسببها فـى نـار جهنم سبعيـن عاما حتـى يصل إلـى قعرها ولا يصل إلـى قعر الـنار إلا الكافر. فهذا الـحديث دليل على أن الـجاهل بالدين لا يعذر لأن الـنبـى ﷺ حكم على قائل الكلمة الكفريـة بالعذاب فـى قعر الـنار مع كونه غيـر عالـم بالـحكم أى لا يعرف أن ما قاله كـفر لأنه لا يظن فيه ضررا كما جاء فـى الـحديث.

(فائدة مهمة)

     (حكم من يـأتـى بإحدى أنواع هذه الكـفريـات هو أن تـحبط أعماله الصالـحة وحسناته جـميعها) أى أن المسلم إذا حصل منه كـفر فإنه يـخسر حسناته السابقة (فلا تـحسب له ذرة من حسنة كان سبق له أن عملها من صدقة أو حج أو صيام أو صلاة ونـحوها إنـما تـحسب له الـحسنات الـجديدة التـى يقوم بـها بعد تـجديد إيـمانه) أى بعد رجوعه إلـى الإسلام (قال) اللـه (تعالـى ﴿ومن يكـفر بالإيـمان فقد حبط عمله﴾) ولا ترجع إليه حسناته التـى خسرها بعد رجوعه إلـى الإسلام وأما ذنوبه التـى عملها أثناء الردة وقبل ذلك فلا تـمحى عنه برجوعه إلـى الإسلام إنـما الذى يغفر له هو الكـفر فقط وأما الكافر الأصلـى فإن ذنوبه تـمحى بإسلامه لـحديث مسلم الإسلام يهدم ما قبله أى يـمحو ما كان قبله من السيئات الكفر وما سواه.

     (وإذا قال) المرتد (أستغفر اللـه قبل أن يـجدد إيـمانه) أى قبل أن يرجع إلـى الإسلام (بقوله أشهد أن لا إلــٰه إلا اللـه وأشهد أن مـحمدا رسول اللـه وهو على حالته هذه) أى لا يزال على كـفره (فلا يزيده قوله أستغفر اللـه إلا إثـما وكـفرا لأنه يكذب قول اللـه تعالـى ﴿إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللـه ثـم ماتوا وهم كـفار فلن يغفر اللـه لـهم﴾ وقوله تعالـى ﴿إن الذين كفروا وظلموا لـم يكن اللـه لـيغفر لـهم ولا لـيهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا﴾) و(روى ابن حبان عن عمران بن الـحصيـن) رضى اللـه عنه أنه قال (أتى رسول اللـه رجل فقال يا مـحمد) جدك (عبد المطلب خيـر لقومه منك كان يطعمهم الكبد والسنام) أى سنام الإبل أى أعلى ظهرها (وأنت تنحرهم) أى تقتلهم فـى الـجهاد (فقال رسول اللـه) ﷺ (ما شاء اللـه) له أن يقول من الكلام فـى الرد عليه (فلما أراد أن ينصرف قال ما أقول) أى علمنـى شيئا أقوله (قال قل اللهم قنـى شر نفسى واعزم لـى على أرشد أمرى) أى احفظنـى من شر نفسى ودلنـى على ما فيه خيـرى وصلاحى (فانطلق الرجل ولـم يكن أسلم ثـم) عاد بعد مدة و(قال لرسول اللـه) ﷺ (إنـى أتيتك فقلت علمنـى فقلت قل اللهم قنـى شر نفسى واعزم لـى على أرشد أمرى فما أقول الآن حيـن أسلمت قال قل اللهم قنـى شر نفسى واعزم لـى على أرشد أمرى اللهم اغفر لــى ما أسررت وما أعلنت وما عمدت وما أخطأت وما جهلت) فهذا الـحديث الصحيح فيه دليل على أن الإنسان ما دام كافرا لا يـجوز له أن يقول أستغفر اللـه بدليل أن الرسول ما علمه الاستغفار اللفظى إلا بعد أن أسلم.

     (ومن أحكام الردة أن) الكافر (المرتد يفسد صيامه وتيممه). (و)يبطل (نكاحه) إن ارتد عن الإسلام بعد العقد و(قبل الدخول) بالزوجة ولا تـحل له ولو عاد إلـى الإسلام إلا بنكاح جديد (وكذا) يبطل نكاحه إن ارتد عن الإسلام (بعده) أى بعد الدخول بـها (إن لـم يرجع إلـى الإسلام فـى) مدة (العدة) وهى ثلاثة أطهار لمن تـحيض وثلاثة أشهر قمريـة لمن لا تـحيض وأما الـحامل فعدتـها تنتهى بوضع الـحمل فإن عاد المرتد إلـى الإسلام قبل انتهاء العدة فلا يـحتاج إلـى تـجديد العقد. فإن جامع المسلم امرأته المرتدة وهو لا يعلم بردتـها فلا إثـم عليه وينسب الولد المنعقد من هذا الـجماع إلـيهما وأما إن كان المرتد هو الزوج وجامع امرأته المسلمة من غـيـر أن تعرف بردته فلا إثـم عليها ولا ينسب الولد إلـيه إنـما ينسب إلـيها أما الكفار الأصليون فإن نكاحهم فيما بينهم نكاح يثبت به نسب الولد فيقال مثلا عمر بن الـخطاب فينسب إلـى أبيه مع أنه ولد من نكاح الـجاهلية. (و)المرتد (لا يصح عقد نكاحه لا على مسلمة ولا) على (كافرة ولو) كانت (مرتدة مثله). والردة فـى مذهب أبـى حنيفة تعد فسخا وإذا حصلت من الزوجة تـجبـر على الإسلام وعلى تـجديد العقد.

(عود إلـى تقسيم الكفر لزيادة فائدة)

     (واعلم أن الكفر ثلاثة أبواب إما تشبيه أو تكذيب أو تعطيل أحدها الـتشبيه) كما تقدم (أى تشبيه اللـه بـخلقه كمن يصفه بالـحدوث) أى الوجود بعد عدم لذاته أو لصفاته الـثابتة له (أو) يـجوز (الفناء) عليه (أو) يصفه بصفات (الـجسم) كالـحركة (أو اللون أو الشكل أو الكميـة أى مقدار الـحجم) فمن شبه اللـه بـخلقه كأن اعتقد أن اللـه جسم قاعد فوق العرش فهو كافر مكذب لـلا إلــٰه إلا اللـه معـنـى ولو قالـها لـفظا لأنه نسب الألوهية إلـى هذا الـجسم الذى تصوره وهو ليس اللـه فلا يكون أقر بألوهية اللـه ولا عبده بل عبد شيئا تـخيله وتوهـمه. (أما ما ورد فـى الـحديث) الذى رواه مسلم (إن اللـه جـميل) يـحب الـجمال (فليس معناه جـميل الشكل وإنـما معناه جـميل الصفات) أى صفاته كاملة (أو مـحسن) أى منعم على العباد. ومعنـى يـحب الـجمال يـحب من عـبده أن يكون على حال حسن أى أن يكون نظيفا من الرذالات متصفا بالصفات التـى ينبغـى أن يتخلق بـها المؤمن كالـتقوى وحسن الـخلق وليس معناه يـحب جـمال الشكل لأن جـمال الشكل يتصف به المؤمن والكافر واللـه تعالـى لا يـحب الكافرين كما قال تعالـى ﴿فإن اللـه لا يـحب الكافرين﴾.

     و(ثانيها الـتكذيب) أى ثانـى أبواب الكفر هو الـتكذيب (أى تكذيب ما ورد فـى القرءان الكريـم أو ما جاء به الرسول ﷺ على وجه ثابت وكان مـما علم من الدين بالضرورة) أى كان معلوما عند العالـم والـجاهل من المسلميـن (كاعتقاد فناء الـجنة والنار) أو إحداهـما فإنه تكذيب لقوله تعالـى فـى سورة البينة والأحزاب ﴿خالدين فيها أبدا﴾ وقوله ﷺ إنه يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح (أى يصور الموت بـهيئة كبش أملح) فيذبح ثـم ينادى مناد يا أهل الـجنة خلود فلا موت ويا أهل الـنار خلود فلا موت رواه الـبخارى (أو) اعتقاد (أن الـجنة لذات غـيـر حسية وأن الـنار ءالام معنويـة) أى غـيـر حسية وهو كـفر بالإجـماع لأنه تكذيب لقول اللـه تعالـى ﴿كلوا واشربوا هنيئا بـما أسلفتم فـى الأيـام الـخالـية﴾ وقوله تعالـى ﴿كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غـيـرها لـيذوقوا العذاب﴾ (أو إنكار بعث الأجساد والأرواح معا) فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿كما بدأنـا أول خلق نعيده﴾ (أو إنـكار وجوب الصلاة) المفروضة فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنيـن كتابـا موقوتا﴾ وقوله ﷺ خـمس صلوات كتبهن اللـه على العباد (أو) إنكار وجوب (الصيام) فـى رمضان فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿يـا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ (أو) إنـكار وجوب (الزكاة) فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة﴾ (أو اعتقاد تـحريـم الطلاق) على الإطلاق أو تـحريـمه بغـيـر رضى الزوجة فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿يا أيها الـنبـى إذا طلـقتم الـنساء فطلـقوهن لعدتـهن﴾ (أو تـحليل) شرب (الـخمر) فإنه تكذيب لقوله تعالـى ﴿إنـما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والـبغضاء فـى الـخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللـه وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ وقوله ﷺ إن اللـه لعن الـخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربـها وءاكل ثـمنها وحاملها والمحمولة إليه وساقـيها ومستـقيها رواه أحـمد. وكذلك يكـفر من ينكر (غـيـر ذلك مـما ثبت بالقطع و)اليقيـن (وظهر بـيـن المسلميـن وهذا بـخلاف من يعتـقد بوجوب الصلاة عليه مثلا لكنه لا يصلـى فإنه يكون عاصيا لا كافرا كمن يعتقد عدم وجوبـها عليه) وهذا هو مذهب أهل السنة والـجماعة أن مرتكب المعصية الكبيـرة لا يكفر إذا لـم يستحلها.

     و(ثالثها الـتعطيل) أى ثالث أبواب الكفر هو الـتعطيل (أى نفى وجود اللـه وهو أشد الكفر) على الإطلاق. ومن أشد أنواع الكـفر كـفر الوحدة المطلقة وهو اعتقاد أن اللـه هو العالـم وأن أفراد العالـم أجزاء منه تعالـى وكـفر الـحلول وهو اعتقاد أن اللـه يـحل فـى غـيـره كاعتقاد الشاذلـية اليشرطـية أن اللـه داخل فـى كل شخص ذكر أو أنثى. (وحكم من يشبه اللـه تعالـى بـخلقه الـتكفيـر قطعا) أى بلا خلاف لأنه لـم يعرف اللـه ولـم يعبده إنـما يعبد شيئا تـخيله وتوهـمه ومن عبد غـيـر اللـه لا يكون مسلما (والسبيل إلـى صرف الـتشبيه) أى إلـى طرد خواطر الـتشبيه والمحافظة على الـتنزيه (اتـباع هذه القاعدة القاطعة) أى الـثابتة قطعا ويـقينا (مهما تصورت ببالك فاللـه بـخلاف ذلك) أى لا يشبه ذلك لأن ما يتصوره الإنسان بباله خيال واللـه منزه عنه (وهى مـجمع عليها عند أهل الـحق) ذكرها الإمام ذو الـنون المصرى والإمام أحـمد بن حنبل رضى اللـه عنهما (وهى مأخوذة من قوله تعالـى ﴿ليس كمثله شىء﴾ وملاحظة ما روى عن الصديق شعر من البسيط) أى لاحظ ما يؤيد ما قلناه من قول أبـى بكر الصديق فـى الـنهى عن الـتفكر فـى ذات اللـه وهو شعر من بـحر البسيط

العجز عن درك الإدراك إدراك              والبحث عن ذاته كـفر وإشراك)

     أى أن الإنسان إذا اعتقد أن اللـه موجود لا كالموجودات وأنه لا يـمكن تصويره فـى الـنفس واعتـرف بالعجز عن إدراكه أى عن معرفة حقيقته فلم يبحث عن ذاته للوصول إلـى حقيقته فإنه عرف اللـه وأدرك حقيقة الإيـمان به وسلم من الـتشبيه أما الذى لا يكتفى بـهذا العجز ويريد بزعمه أن يعرف حقيقته ويبحث عن ذاته فيتصوره كالإنسان أو ككتلة نورانية أو يتصوره جسما مستـقرا فوق العرش أو نـحو ذلك فهو كافر باللـه عز وجل (وقول بعضهم لا يعرف اللـه على الـحقيقة إلا اللـه تعالـى) كقول ابن جزى فـى الـتسهيل معناه اللـه وحده عالـم بذاته على الـحقيقة (و)أما (معرفتنا نـحن باللـه تعالـى) فهى (ليست على سبيل الإحاطة بل بـمعرفة ما يـجب للـه تعالـى) من الصفات (كوجوب القدم له) أى أنه لا بداية لوجوده (وتنزيهه عما يستحيل عليه تعالـى) أى ما يستحيل عقلا فـى حقه (كاستحالة الشريك له و)معرفة (ما يـجوز فـى حقه تعالـى كخلق شىء وتركه) فاللـه تعالـى يـجوز أن يـخلق ما يشاء ويتـرك ما يشاء أى لا يـخلقه (قال الإمام) أحـمد (الرفاعى) رضى اللـه عنه المتوفـى سنة خـمسمائة وثـمان وسبعيـن (غاية المعرفة باللـه الإيقان بوجوده تعالـى بلا كيف ولا مكان) أى أقصى ما يصل إليه العبد من المعرفة باللـه الإيقان أى الاعتقاد الـجازم بوجوده تعالـى بلا كـيف ولا مكان ولا جهة أى مع تـنزيه اللـه عن كل صفات الـخلق فمن أيقن بأن اللـه موجود بلا كـيف ولا مكان ولا جهة فقد وصل إلـى غاية ما يبلغه الإنسان من معرفة اللـه عز وجل.

     (فائدة. قال) الإمام (الغزالــى فـى) كتابه (إحياء علوم الدين إنه أى اللـه أزلـى ليس لوجوده أول) أى لـم يسبق وجوده عدم (و)أبدى (ليس لوجوده ءاخر) أى لا يطرأ عليه العدم (وإنه ليس بـجوهر) فرد (يتحيز) فـى مكان أو جهة والـجوهر الفرد هو الـجزء الذى لا يتجزأ من تناهيه فـى القلة (بل يتعالـى) ربنا (ويتقدس عن مناسبة الـحوادث) أى يتنزه عن مشابـهة المخلوقات (وإنه ليس بـجسم مؤلف من جواهر) أى أجزاء والـجسم ما تركب من جوهرين فأكثر (ولو جاز أن يعتقد أن صانع) أى خالق (العالـم جسم لـجاز أن تعـتقد الألوهية للشمس والقمر أو لشىء ءاخر من أقسام الأجسام) فالـجسم يستحيل أن يكون إلــٰها لأن له حدا أى حجما ومقدارا فهو مـحتاج إلـى من جعله بذلك الـحد والمقدار والمحتاج إلـى غيـره لا يكون إلــٰها (فإذا لا يشبه) ربنا (شيئا) من خلقه (ولا يشبهه شىء بل هو الـحى القيوم الذى ليس كمثله شىء وأنـى يشبه المخلوق خالقه) أى لا يصح عقلا ولا شرعا أن يشبه المخلوق خالقه (والمقدر) بـمقدار (مقدره والمصور مصوره) الذى أنشأه على هذا الشكل والصورة إذ لو أشبه المخلوقات بوجه من الوجوه لكان حادثا أى مـخلوقا، (فليس هذا) الذى ذكره الغزالـى هو (الكلام الذى عابه) أى ذمه (العلماء وإنـما عاب السلف) أى العلماء من أهل القرون الثلاثة الأولـى (كلام المبتدعة فـى الاعتقاد كالمشبهة) الذين يصفون اللـه بصفات البشر (والمعـتزلة) القائليـن بأن العبد يـخلق أفعاله الاختيارية أى يـحدثها من العدم إلـى الوجود (والـخوارج) القائليـن بتكفيـر مرتكب الكبيـرة (وسائر الفرق التـى شذت عما كان عليه الرسول والصحابة) وهذا ما عناه الشافعـى بقوله الذى رواه عنه الـحافظ أبو بكر بن المنذر فـى الأوسط لأن يلقى اللـه العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خيـر من أن يلقاه بشىء من الأهواء أى العقائد التـى مال إلـيها المخالفون لأهل السنة (الذين افتـرقوا إلـى اثنتيـن وسبعيـن فرقة كما أخبـر الرسول بذلك فـى حديثه الصحيح الثابت الذى رواه ابن حبان بإسناده إلـى أبـى هريرة) أنه (قال قال رسول اللـه ﷺ افتـرقت اليهود) على (إحدى وسبعيـن فرقة وافتـرقت الـنصارى على اثنتيـن وسبعيـن فرقة وستفتـرق أمتـى إلـى ثلاث وسبعيـن فرقة كلهم فـى الـنار إلا واحدة وهى الـجماعة أى السواد الأعظم) وهم جـمهور الأمة الذين لـم يـخرجوا فـى أصول العقيدة عما كان عليه الرسول وأصحابه.

     (وأما علم الكلام الذى يشتغل به أهل السنة من الأشاعرة والماتريديـة) أى العلم الذى يعرف به ما يـجب للـه من الصفات وما يستحيل فـى حقه (فقد عمل به) العلماء (من قبل) الإمام (الأشعرى و)الإمام (الماتريدى كأبـى حنيفة فإن له خـمس رسائل فـى ذلك والإمام الشافعـى كان يتقنه حتـى إنه قال) فيما رواه البيهقـى فـى مناقب الشافعـى (أتقنا ذاك قبل هذا أى أتقنا علم الكلام قبل) فروع (الفقه). والإمامان أبو الـحسن الأشعرى وأبو منصور الماتريدى هـما إماما أهل السنة ظهرا فـى القرن الثالث الـهجرى فقاما بنصرة عقيدة أهل السنة والدفاع عنها والرد على أهل البدع كالـخوارج والمعتزلة والمشبهة وغيـرهم.

(الوقاية من الـنار)

     (قال اللـه تعالـى ﴿يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا﴾) أى جنـبوا أنفسكم وأهليكم الـنار التـى (﴿وقودها الـناس والـحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد﴾) أى أقوياء لا يرحـمون الكافر و(﴿لا يعصون اللـه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ وجاء فـى تفسيـر) هذه (الآية) عن سيدنا علـى بإسناد قوى رواه الـحاكم فـى المستدرك (أن اللـه) تعالـى (يأمر المؤمنيـن أن يقوا أنفسهم وأهلهم الـنار التـى وقودها الـناس والـحجارة بتعلم الأمور الدينية وتعليم أهليهم ذلك أى معرفة ما فرض اللـه فعله أو اجتنابه أى) معرفة (الواجبات والمحرمات) ونص كلامه رضى اللـه عنه علموا أنفسكم وأهليكم الـخيـر أى أمور الدين (وذلك كى لا يقع) من أهـمل تعلم علم الدين (فـى الـتشبيه والتمثيل والكـفر والضلال) فيخلد فـى نـار جهنم إن مات عليه ويكون وقودا لـها و(ذلك لأنه من يشبه اللـه تعالـى بشىء ما) فهو كافر (لـم تصح عبادته لأنه يعبد شيئا تـخيله وتوهـمه فـى مـخيلته وأوهامه قال) الإمام (أبو حامد الغزالـى) رحـمه اللـه (لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود) أى أن من لـم يعرف اللـه بل يشبهه بـخلقه بالضوء أو غيـره أو يعتقد أنه ساكن فـى السماء أو أنه جالس على العرش أو يصفه بصفة من صفات البشر فهذا عبادته تكون لشىء تـخيله فـى مـخيلته فيكون مشركا باللـه فلا تصح عبادته.

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/QkiBgwnjyXo

للاستماع إلى الدرس:    https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/sirat-2

الموقع الرسمي للشيخ جيل صادق: https://shaykhgillessadek.com