#19 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
وفي السنة السادسة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فاستبشروا به وفرحوا فرحا عظيما وقد طال عهدهم بمكة والكعبة وتاقت نفوسهم إلى الطواف حولها. وكان المهاجرون أشدَهم حنينا إلى مكة فقد وُلِدوا ونشأوا فيها وأحبوها حبا شديدا وقد حيل بينهم وبينها فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تهيأوا للخروج معه. خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة في ذي القِعدة مع ألف وأربعمئة رجلا من المهاجرين والأنصار وساق معه الهديَ وأحرم بالعمرة ولم يحمل المسلمون معهم من آلات الحرب إلا السيوف لأنهم لم يريدوا قتال قريش. وبلغ قريشًا أنَّ المسلمين قد ساروا إليها فتجهزت للحرب وقسم زعماؤها أن لا يدخل المسلمون مكة. ثم نزل النبي وأصحابه عند قرية صغيرة قرب مكة تسمّى الحُديبية وبعث عثمان سفيرا إلى قريش ليخبرهم أن المسلمين جاؤوا لزيارة البيت الحرام ولم يأتوا للقتال فقالوا: “إن شئْتَ أن تطوفَ فَطُف” فقال: “ما أفعلُ حتى يطوفَ رسول الله”، فاحتبسته قريشٌ عندها، فبلغ المصطفى عليه السلام أنه قُتِل. وعندها جلس النبي في ظل شجرة ودعا أصحابه إلى البيعة وقال لا نبرح حتى نناجز القوم وقد سميت تلك البيعةُ بيعةَ الرِضوان. قال الله تعالى لقد رضيَ اللهُ عنِ المؤمنينَ إذ يُبايِعونك تحت الشجرةِ فعلمَ ما في قلوبهم فأنزَلَ السَكينةَ عليهم وأثابَهم فَتحًا قريبا. لكنّ عثمان رجع إلى المسلمين وبعثت قريشُ بعد ذلك سفيرَها سهيلَ بنَ عمرو ليفاوض النبي ويوقعَ معه وثيقةَ صلح الحديبية وكان من شروط الصلح: أن يرجع النبي ومن معه من المسلمين عن مكة هذا العام ثم يدخلوها في العام القادم ويقيموا فيها ثلاثة أيام ومن الشروط: يدخل المسلمون وقريش في هدنة وصلح أمده عشرُ سنين. حضر سيدنا علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله فقال المشركون لا تكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وإن كذبتموني، ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي: امحه ولكن عليا رضي الله عنه لم يفهم من النبي تحتيم المحو فقال: ما أنا بالذي أمحوه، ولو حتم صلى الله عليه وسلم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه ولما أقره النبي على المخالفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم كتب عليٌ محمدُ بنُ عبد الله. ومن جملة ما اشترط المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نردَه عليكم، ومن جاءكم منا بغير إذن وليه رددتموه علينا. قال العلماء: وافقهم النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة محمد بن عبد الله وترك كتابة رسولُ الله، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلينا دون من ذهب منا إليهم للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح. فالمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتحَ مكة، وإسلامَ أهلها ، ودخولَ الناس في دين الله أفواجا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، فلما حصل الصلح اختلطوا بالمسلمين وجاؤوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة فسمعوا منهم أحوالَ النبي صلى الله عليه وسلم مفصلةً بجزئياتها ومعجزاتِه الظاهرة وأعلامَ نبوته المتظاهرة وحسنَ سيرته وجميلَ طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فبادر قسم منهم إلى الإسلام العظيم قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح قام على هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه، فلما رأى المسلمون رسولَ اللهِ قد نحر وحلق نحروا وحلقوا. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل اللهُ تعالى: إنا فتحنا لكَ فتحًا مبينا. ليغفِرَ لكَ اللهُ ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ويُتِمَّ نِعمَتَهُ عليكَ ويهديكَ صراطًا مُستقيما. ويَنصُرَكَ اللهُ نصرا عزيزا. وكان صلح الحديبية فتحًا للمسلمين وكان له ثمرات ومكاسب كثيرة منها الدور الكبير في نشر الدعوة الإسلامية بين قبائل العرب إذ كان أصحاب رسول الله يتنقلون بين القبائل في أمنٍ وسلام. وبعد صلح الحديبية دخل خالد بن الوليد وعمرو بنُ العاص في دين الإسلام العظيم.كما بعث النبي في هذه الفترة برسائله إلى الملوك والأمراء داخل وخارج جزيرة العرب. رسائلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت عديدةً . أرسلَ إلى أصحمةَ النجاشي رسالةً مع عَمرو بن أميّةَ الضمَمي. فلما وصل الكتابُ إلى النجاشي أخذَه ووضعَه على عينيْه ثمّ نزَل عن سريرِه فجلسَ على الأرضِ تأدبًا مع رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الرسالة فأسلم وحسن إسلامه. وبعثَ النبيُّ إلى عظيمِ الروم هِرَقل رسالةً أيضًا فسألَ هرقلُ عن النبيِّ عن أحوالِه وعن أوصافِه وعرَف أنه نبيُّ آخِرِ الزمان، فأغلق الأبواب وقال لِمَن معه قد عرَفتُم أنّ هذا هو نبيُّ آخرِ الزمان وهو صادقٌ فيما يقول فإني أرى أنْ نتْبَعَه. فحصلَ منهم شىءٌ عجيبٌ من الضيق فخافَ على مُلكِه فقال إنما كنتُ أختبرُكم أردتُ أن أعرفَ مدى صلابتِكم في دينِكم أمّا الآن اطمأنَّ قلبي، فرضوا عنه ثم لم يتْبعْ رسولَ الله ولم يُسلِم. آثر المُلك والدنيا على الهداية، ووقعت بينه وبين المسلمين في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حروبٌ ومعارك، كان فيها ذهاب مُلكه وسُلطانه على بلاد الشام. وبعثَ الرسولُ عبدَ الله بنَ حذافة إلى ملِكِ الفرس كِسرى، فلمّا وصلَه كتابُ النبيّ مزّقَه. فلمّا عرَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: “مزّقَ اللهُ مُلْكَه”، وهذا ما حصل بعد ذلك. وبعثَ الرسولُ حاطِب بن أبي بلتعة إلى المقوقِس ملِك الإسكندرية، لما قرأ الرسالةَ قارب ولم يُسلم وأرسل إلى النبيّ بهدايا. وبعث الرسولُ صلى الله عليه وسلم عَمرو بنَ العاص إلى ملِكي عُمان كانا أخوَيْن جيْفر وعبد، فلما قرأتها في الرسالة أسلما وخلَّيا بين عَمرو بنِ العاص وبين الصدقة فبقيَ عمرو بنُ العاص عندهُما إلى أن ماتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبعثَ رسولُ الله شجاعَ بنَ وهب من الصحابة إلى ملِك غسان واسمه الحارث الذي كان تحت حكم الروم، فلما أتاه كتابُ النّبيّ رماه من يدِه وغضب وقال: أنا أسير إليه، ثم لم يفعل، ثم زالَ مُلكُه. وبعث النبيّ عليه الصلاة والسلام المهاجِر بنَ أمية إلى الحارثِ الحِميَري أحدِ ملوكِ اليمن فبعدما قرأ رسالةَ النبيّ أسلم. وبعث العلاءَ بنَ الحَضرميّ إلى المُنذِرِ بنِ ساوة العبدي ملِك البحرين. البحرين كانت ناحيةً واسعةً لها مَلِكُها بعدما قرأ الرسالة أسلمَ وصدّق. وبعث النبيّ أبا موسى الأشعري ومُعاذَ بنَ جبل إلى اليمن، بعثهما إلى ناحيتيْن قريبتيْن لكن مختلفتيْن وأوصاهُما النّبيّ بالدعوةِ إلى الله بالحكمةِ فذهبا فعمِلا بالدعوة إلى الله فأسلمَ على يديهِما خَلقٌ كثير من الملوك والعامة. وأرسلَ النبيُّ رسائلَ غيرَ هذه فأسلمَ بسببهِا خلقٌ كثير حتى إنه في السنةِ العاشرة والحاديةَ عشرةَ بعد الهجرة جاءت وفودٌ كثيرة إلى المدينة إلى النبيِّ الأعظم عليه الصلاة والسلام من نواحي شتى وقبائلَ شتى يُبايعونَه أحيانًا كان يأتي أربعمائة من الناحية، أحيانًا عشرة أحيانًا خمسون وهكذا. واحدٌ من الصحابة بعدما أسلمَ قال للنبيّ: أنا أرجعُ إلى قومي أدعوهم إلى الله وآتيكَ بألفٍ منهم قد أسلم. فرجَع فدعاهُم إلى الله وأسلم على يديه ألف. لما صاروا ألفا قال نذهبُ إلى النبيّ، فذهب معه تسعُمائة ومائةٌ كان عندهم ما يشغلُهم. في الطريق إلى النبيّ هو مات. هكذا كانت دعوتُهم إلى الله وهكذا انتشرَ الدِّينُ في أيامِهم بسرعةٍ بسبببِ هذه الهمةِ العالية والإخلاصِ والتواضع وبذلِ الجُهد وليس بسببِ كثرةِ المال ولا كثرةِ الوسائل، إنما بسبب حالِهم والتزامهم بالأحكام الشرعية الله وفّقهم، وكان همهم الآخرة. في خمسٍ وعشرينَ سنة انتشر الدِّين من حدود الصين إلى المغرب الأقصى. جزى الله نبينا الطيبَ الطاهرَ الصادقَ الأمين عنا خيرا وجزى الله الصحابة الكرام عنا خيرا وجمعنا معهم في الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ننتقل الآن للكلام عن فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة. مُنْذُ أَنْ بَدَأَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِظْهَارِ دَعْوَتِهِ كَانَ الْيَهُودُ لا يَتْرُكُونَ فُرْصَةً إِلَّا وَيَغْتَنِمُونَهَا لِإِيذَائِهِ وَإِيذَاءِ أَصْحَابِهِ عَلَنًا وَفِى الْخَفَاءِ يَكِيدُونَ الْمَكَائِدَ وَيُضْمِرُونَ الْخُبْثَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالْحِقْدَ وَيُعْلِنُونَهَا فِتَنًا وَحُرُوبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَكِنَّ غَزْوَةَ خَيْبَرَ الَّتِى حَصَلَتْ فِى السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ كَانَتْ حَرْبًا فَاصِلَةً أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا النَّصْرَ فِى تَفَوُّقِ الْمُسْلِمِينَ رَغْمَ قِلَّتِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمُ الْمُدَعَّمِ بِعُدَدِهِ وَعَتَادِهِ. سَبَقَ مَعْرَكَةَ خَيْبَرَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالَّذِى اتُّفِقَ فِيهِ أَنْ لا يُسَاعِدُوا أَحَدًا عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفْقَدَ الْيَهُودَ مُسَانَدَةً كَثِيرَةً مِنَ الْعَرَبِ فَكَانَ الْحَلُّ عِنْدَهُمْ بِأَنْ تَتَجَمَّعَ وَتَتَحَالَفَ كُلُّ قُوَاهُمْ لِتَقْوَى شَوْكَتُهُمْ فِى مُوَاجَهَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا مَا تَمَّ حَيْثُ تَحَصَّنَ كَثِيرٌ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ فِى نَاحِيَةٍ تُدْعَى خَيْبَرَ تَبْعُدُ نَحْوَ مِائَةِ مِيلٍ شَمَالَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ. وَخَيْبَرُ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْضٍ وَاسِعَةٍ ذَاتِ وَاحَاتٍ خِصْبَةٍ يَكْثُرُ فِيهَا النَّخِيلُ وَتَضُمُّ حُصُونًا مَنِيعَةً لِلْيَهُودِ مُقَسَّمَةً إِلَى ثَلاثِ مَنَاطِقَ قِتَالِيَّةٍ مُحَصَّنَةٍ وَمَعَ كُلِّ هَذِهِ الْقُوَّةِ الظَّاهِرَةِ فَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ جُبَنَاءَ أَثْنَاءَ الْمَعَارِكِ لا يُحَارِبُونَ إِلَّا مِنْ دَاخِلِ حُصُونِهِمْ وَمِنْ وَرَاءِ الْجُدْرَانِ وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الأَمْرِ فَوَضَعَ سَيَّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَّتَهُ عَلَى أَسَاسِ مُفَاجَأَتِهِمْ وَهُمْ فِى حُصُونِهِمْ وَأَثْنَاءَ شُعُورِهِمْ بِالأَمْنِ. خَرَجَ جَيْشُ الْمُجَاهِدِينَ بِقِيَادَةِ أَشْجَعِ الْخَلْقِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّجَاهِ خَيْبَرَ فِى أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ عَشِقُوا الشَّهَادَةَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَفِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ وَنَزَلُوا وَادِيًا اسْمُهُ الرَّجِيعُ لِيَمْنَعُوا قَبِيلَةَ غَطَفَانَ مِنْ مُسَاعَدَةِ الْيَهُودِ فِى حَرْبِهِمْ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ فِى خَيْبَرَ فَلَمَّا خَرَجَتْ قَبِيلَةُ غَطَفَانَ وَتَرَكَتْ دِيَارَهَا سَمِعُوا خَلْفَهُمْ حِسًّا فَظَنُّوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَتَوْهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ فَرَجَعُوا خَائِفِينَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَلَمْ يُحَارِبُوا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَكْمَلُوا سَيْرَهُمْ إِلَى خَيْبَرَ. وَأَثْنَاءَ الْمَسِيرِ الطَّوِيلِ شَغَلَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ الصَّحَابِىُّ الْجَلِيلُ عَامِرُ بنُ الأَكْوَعِ يُنْشِدُ لَهُمْ يُشَجِّعُهُمْ عَلَى الْمُضِىِّ لِلْجِهَادِ قَائِلًا: وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ، وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا. فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا. فَدَعَا لَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ عِنْدَمَا سَمِعَ مَا فِى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنَ الْحَمَاسِ وَالتَّشْجِيعِ. وَوَصَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ لَيْلًا إِلَى مَشَارِفِ خَيْبَرَ وَظَهَرَتْ حُصُونُهَا فَعَسْكَرُوا حَوْلَهَا وَوَقَفَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَفِى الصَّبَاحِ اسْتَيْقَظَ أَهْلُهَا لِيَجِدُوا أَنَّهُمْ مُحَاصَرُونَ وَمُحَاطُونَ بِعَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ فَدَبَّ فِى نُفُوسِهِمُ الرُّعْبُ وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ ثُمَّ نَادَى النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ ارْتَجَّتْ لَهُ حُصُونُ الْكُفْرِ وَقَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ» فَرَدَّدَهَا الصَّحَابَةُ خَلْفَهُ فَأَيْقَنَ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ. رُمِيَتِ السِّهَامُ كَشُهُبِ النَّارِ فَوْقَ أَوَّلِ الْحُصُونِ وَهُوَ يُدْعَى حِصْنَ نَاعِم مَا دَفَعَ بِأَهْلِهِ إِلَى الْهَرَبِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى مَا جَاوَرَهُ مِنْ حُصُونٍ وَقُتِلَ عِنْدَهُ الصَّحَابِىُّ الْجَلِيلُ مَحْمُودُ بنُ مَسْلَمَةَ قَتَلَهُ يَهُودِىٌّ اسْمُهُ مَرْحَب بِضَرْبَةٍ فِى رَأْسِهِ. وَفِى أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ أَمَرَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ الْمُحِيطِ بِالْحُصُونِ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْيَهُودُ إِذَا مَا هَجَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَغَاظَهُمْ هَذَا كَثِيرًا ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ تَسَلَّمَ الرَّايَةَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَغَارَ عَلَى بَعْضِ الْحُصُونِ وَتَبِعَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى غَارَاتٍ سَرِيعَةٍ فَأَسَرَ يَهُودِيًّا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْيَهُودَ خَرَجُوا مِنْ حِصْنِ النُّطَاةِ وَتَسَلَّلُوا إِلَى حِصْنٍ ءَاخَرَ اسْمُهُ الشَّقُ فَحَاصَرُوهُ وَتَرَامَى الطَّرَفَانِ فَأَخَذَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْنَةً مِنْ حَصَى وَرَمَى بِهَا الْحِصْنَ فَاهْتَزَّ بِأَهْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ غَرِقَ فِى الأَرْضِ فَدَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوهُ.بَقِىَ حُصُونٌ مِنْهَا الصَّعْبُ وَالْوَطِيحُ وَالسُّلالِمُ وَالْقَمُوصُ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِهَا الْيَهُودُ أَشَدَّ التَّحَصُّنِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَقْوِيَةِ الْحِصَارِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَحَابَتِهِ الْمُجَاهِدِينَ «لَأَعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرَّارٍ» ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ بِمَرَضٍ فِى عَيْنَيْهِ فَتَفَلَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا فَشُفِىَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ بِمَنْ مَعَهُ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَحَدِ الْحُصُونِ الْبَاقِيَةِ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْيَهُودِ فَقَاتَلَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ تَلَقَّى ضَرْبَةً فَوَقَعَ التُّرْسُ مِنْهُ عِنْدَهَا حَصَلَتْ لَهُ كَرَامَةٌ عَظِيمَةٌ كَوْنُهُ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَقَدْ تَنَاوَلَ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ وَجَعَلَهُ تُرْسًا أَبْقَاهُ فِى يَدِهِ يُقَاتِلُ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ أَلْقَى الْبَابَ وَجَاءَ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لِيَقْلِبُوا هَذَا الْبَابَ فَمَا اسْتَطَاعُوا. اسْتَمَرَّ الْقِتَالُ وَهَجَمَ الْمُسْلِمُونَ هَجْمَةً قَوِيَّةً عَلَى حِصْنِ الصَّعْبِ بِقِيَادَةِ الصَّحَابِىِّ الْفَاضِلِ حَبَّابِ بنِ الْمُنْذِرِ فَخَرَجَ مِنْهُ يَهُودِىٌّ مُتَعَجْرِفٌ هُوَ نَفْسُهُ مَرْحَب الَّذِى قَتَلَ الصَّحَابِىَّ مَحْمُودَ بنَ مَسْلَمَةَ وَنَادَى مَنْ يُبَارِزُنِى فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّحَابِىِّ مُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمَةَ شَقِيقِ مَحْمُودٍ لِيُبَارِزَهُ وَيَأْخُذَ بِثَأْرِ أَخِيهِ وَدَعَا لَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِلًا «اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ» فَتَقَاتَلا طَوِيلًا ثُمَّ عَاجَلَهُ مُحَمَّدٌ بِضَرْبَةٍ قَاصِمَةٍ قَتَلَتْهُ وَقِيلَ إِنَّ الَّذِى قَتَلَ الْيَهُودِىَّ مَرْحَب هُوَ سَيِّدُنَا عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَصْمُدْ حِصْنُ الصَّعْبِ طَوِيلًا حَتَّى فُتِحَ وَدَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مُنْتَصِرِينَ وَكَانَ فِى الْحِصْنِ الْكَثِيرُ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ حَاجَتَهُمْ مِنْهُ بَعْدَ مَا نَالَهُمُ الْكَثِيرُ مِنَ التَّعَبِ وَالْجُوعِ وَوَجَدُوا فِيهِ الْكَثِيرَ مِنَ السُّيُوفِ وَالدُّرُوعِ وَالنِّبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَتَادِ الْحَرْبِىِّ الَّذِى اسْتَعْمَلُوهُ فِى حَرْبِهِمْ فَنَفَعَهُمْ نَفْعًا كَبِيرًا. وَتَجَدَّدَ الْقِتَالُ إِذْ مَا زَالَتْ بَعْضُ الْحُصُونِ لَمْ تَسْقُطْ وَبَقِىَ الْيَهُودُ يَهْرُبُونَ إِلَى أَنْ وَصَلُوا إِلَى حِصْنٍ ءَاخَرَ هُوَ حِصْنُ الزُّبَيْرِ فَلَحِقَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَحَاصَرُوهُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ لِإِجْبَارِهِمْ عَلَى الْخُرُوجِ فَمَا كَانَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا أَنْ فَتَحُوا الْحِصْنَ وَخَرَجُوا مِنْهُ يُقَاتِلُونَ وَجْهًا لِوَجْهٍ فَقُهِرُوا وَكَانَ النَّصْرُ حَلِيفًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَتَدَاعَتْ حُصُونُ خَيْبَرَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَسَقَطَ حِصْنُ الْوَطِيحِ وَالسُّلالِمِ وَكَانَا ءَاخِرَ مَا افْتُتِحَ فَلَمَّا أَيْقَنَ الْيَهُودُ بِالْهَلاكِ سَأَلُوا النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوقِفَ الْحَرْبَ وَاسْتَسْلَمُوا عَلَى أَنْ لا يُقْتَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَيَتَخَلَوْا عَنْ حُصُونِهِمْ كُلِّهَا بِمَا فِيهَا مِنْ أَمْوَالٍ وَمَتَاعٍ. وَهَكَذَا غُلِبَ الْيَهُودُ وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُمْ وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ فِى مَأْمَنٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ إِلَى جِهَةِ بِلادِ الشَّامِ بَعْدَمَا أَصْبَحُوا فِى مَأْمَنٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوب. وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ حَدَثًا عَظِيمًا اهْتَزَّتْ لَهُ أَرْكَانُ قُرَيْشٍ فَقَدْ كَانَ نَبَأُ انْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ مُذْهِلًا وَمُرَوِّعًا عِنْدَ قُرَيْشٍ إِذْ كَانُوا لا يَتَوَقَّعُونَ انْهِيَارَ حُصُونِ خَيْبَرَ الْمَنِيعَةِ وَلا الْيَهُودُ أَنْفُسُهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ غَزْوَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ. فَانْظُرُوا كَيْفَ أَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا عَشَرَةَ أَضْعَافِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُمُ السِّلاحُ الْكَثِيرُ وَفِى حُصُونٍ مَنِيعَةٍ هُزِمُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْقَلِيلِى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِى أَرْضٍ مَكْشُوفَةٍ غَيْرَ مُحَصَّنِينَ وَلا يَمْلِكُونَ السِّلاحَ الْكَافِىَ وَلا الطَّعَامَ الْمَخْزُونَ وَهَذَا لَيْسَ إِلَّا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَنْصُرُونَ دِينَ اللَّهِ تَحْتَ لِوَاءِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَنْصُرْ دِينَ اللَّهِ فَاللَّهُ نَاصِرُهُ. وفي السنة السابعة أيضا كانت عمرةُ القَضاء وتُسمى عمرةَ الصُلْح.