الجمعة يوليو 26, 2024

(180) مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِىِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾.

        يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْكَذِبِ أَمَّا مَا وَرَدَ فِى أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ فِى هَذِهِ الآيَةِ فَلَيْسَ كَذِبًا بَلْ هُوَ صِدْقٌ مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ وَالْحَقِيقَةُ فَقَوْمُهُ كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ فَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَفْعَلَ بِأَصْنَامِهِمْ شَيْئًا يُقِيمُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يُفِيقُونَ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ أَنْ يُقِيمُوا لَهُمْ عِيدًا خَارِجَ بَلَدِهِمْ فَلَمَّا حَلَّ عِيدُهُمْ خَرَجُوا فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى بَيْتِ الأَصْنَامِ فَوَجَدَ صَنَمًا كَبِيرًا وَأَصْنَامًا أُخْرَى صَغِيرَةً فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَأْسًا وَأَخَذَ يَهْوِى عَلَى الأَصْنَامِ الصَّغِيرَةِ يُكَسِّرُهَا وَيُحَطِّمُهَا حَتَّى جَعَلَهَا حِطَامًا وَعَلَّقَ الْفَأْسَ عَلَى عُنُقِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ حَتَّى إِذَا رَجَعَ قَوْمُهُ يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ الأَصْنَامَ لا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرَرًا وَبِذَلِكَ يُقِيمُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ الْكَافِرِينَ. قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿قَالُوا﴾ أَىْ قَوْمُهُ الْكُفَّارُ ﴿ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ فَقَالُوا ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ﴾. أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الأَصْنَامَ لا يَنْطِقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ضَرَرًا فَهُمْ عَاجِزُونَ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَهًا فَلا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ. وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ الْمَعْنَى الْمَجَازِىَّ أَىْ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِى تَعْظِيمِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُكَسِّرَ الأَصْنَامَ الصَّغِيرَةَ وَيُهِينَ الْكَبِيرَ أَىْ مِنْ شِدَّةِ اغْتِيَاظِهِ مِنْهُ كَمَا لَوْ قُلْتَ قَتَلَ الْمَلِكُ فُلانًا مَعَ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا لَيْسَ كَذِبًا فَقَدْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا أَىْ قُتِلَ بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُرِدْ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّ الصَّنَمَ الْكَبِيرَ هُوَ حَقِيقَةً كَسَّرَ الأَصْنَامَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّنَمَ الْكَبِيرَ لَيْسَ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ. فَلَمَّا غَلَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ قَرَّرُوا أَنْ يُحْرِقُوهُ بِالنَّارِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَجَّاهُ فَلَمْ تُحْرِقْهُ النَّارُ وَلا ثِيَابَهُ إِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْقَيْدَ الَّذِى قَيَّدُوهُ بِهِ.