#17 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
نكلمكم الآن إن شاء الله عن غزوةِ بدرٍ الكبرى ويقالُ لها: العُظْمَى وهي التي أعزَّ اللهُ بها الإسلام وغَفَرَ لأهلِها، وكانت في السابِعَ عشرَ من رمضان يومَ الجُمُعَة. أَطَاعَ الْمُسْلِمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَهَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بَعْدَ أَنِ اشْتَدَّ الأَذَى وَالتَّعْذِيبُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكُوا مُمْتَلَكَاتِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِىَّ الصَّادِقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُعَوِّضُ عَنْهُمْ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ اللِّئَامِ إِلَّا أَنِ اسْتَوْلَوْا عَلَى هَذِهِ الأَمْوَالِ وَذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ لِيُتَاجِرُوا بِهَا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سُفيان مقبلًا من الشام في عِيِرٍ لقريش عظيمة فيها أموالٌ وتجارةٌ وفيها ثلاثونَ أو أربعونَ أو سبعونَ رجلًا من قريش وألفُ بعير فبعثَ طلحةَ بنُ عبيْدِ الله وسعيدَ بنَ زيد حتى يعرِفا خبرَ العِيِر ونَدَبَ المُسلمين وقال عليه الصلاةُ والسلام: “هذه عِيِرُ قريشٍ فيها أموالهم فاخْرُجوا لعلَ الله أنْ ينْفِلَكُمُوُها” فَخَرَجَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ جَيْشٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الأَبْطَالِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْجِهَادِ بِقُلُوبٍ قَوِيَّةٍ وَاثِقَةٍ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ عَدَدُهُمْ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَالأَعْلامُ وَالْبَيَارِقُ حَوْلَهُمْ تُرَفْرِفُ وَتَعْلُو. وكان اللواءُ أبيض مع مُصْعَبِ بنِ عميْر، ورايتان سوْداوان أمامه إحداهما مع عليٍّ والأخرى مع رجلٍ من الأنصار. لَكِنَّ خَبَرَ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ بَلَغَ الْقَافِلَةَ الَّتِى كَانَ عَلَى رَأْسِهَا أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ وَهُوَ أَحَدُ رُءُوسِ الْكُفْرِ فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ حِرَاسَةٌ كَافِيَةٌ لِتَمْنَعَ عَنْهُ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتَهُ فَبَعَثَ بِرَجُلٍ اسْمُهُ ضِمْضِم إِلَى مَكَّةَ يَسْتَنْجِدُ بِأَهْلِهَا. وَوَصَلَ ضِمْضِمُ إِلَى مَكَّةَ صَارِخًا مُوَلْوِلًا طَالِبًا النَّجْدَةَ فَأُرْعِبَت قريشٌ فلم يتخَلَف من أشرافِها أحدٌ إلا أبا لهب تَخَلَفَ وبَعَثَ مكانَه العاصَ بنَ هشام، ثم خافوا كِنَانة لِمَا بينهم فظَهَرَ لهُم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك فقال: أنا جارٌ لكم من أن تأتِيَكَم كنانةُ من خلْفِكم، فَأَسْرَعَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِتَجْمِيعِ قُوَاهُمْ وَجُنْدِهِمْ وَسِلاحِهِمْ وَمَضَوْا إِلَى مُحَارَبَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِى هَذِهِ الأَثْنَاءِ غَيَّرَ أَبُو سُفْيَانَ مَسِيرَةَ الْقَافِلَةِ بَيْنَ الشَّامِ وَمَكَّةَ وَابْتَعَدَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمَعْهُودِ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ خَرَجُوا لِمُسَاعَدَةِ الْقَافِلَةِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى وادي ذفيران مَا قَبْلَ بَدْرٍ وَهِىَ اسْمُ نَاحِيَةٍ فَنَزَلُوا هُنَاكَ وَأَرْسَلُوا ثَلاثَةَ أَشْخَاصٍ لِلِاسْتِكْشَافِ فَعَادُوا وَقَدْ قَبَضُوا عَلَى غُلامَيْنِ خَرَجَا لِجَلْبِ الْمَاءِ لِمُعَسْكَرِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَعَلِمَ عِنْدَهَا النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَصَحَابَتُهُ بِخُرُوجِ قُرَيْشٍ لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَأَنَّ عَدَدَهُمْ قَرِيبُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. اسْتَشَارَ النَّبِىُّ الأَعْظَمُ صَحَابَتَهُ فَقَامَ كِبَارُهُمْ وَتَكَلَّمُوا فَأَحْسَنُوا وَأَجَادُوا وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ خَيْرًا وَالأَنْصَارُ خَيْرًا وَكَانَ مِنْهُمْ سَيِّدُنَا سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ الَّذِى أَخْبَرَ النَّبِىَّ أَنَّ الأَنْصَارَ لَنْ يَخْذُلُوهُ أَبَدًا وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِخَوْضِ الْبَحْرِ لَخَاضُوهُ مَعَهُ وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَسَارَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَيْشِهِ وَهُوَ يَقُولُ «أَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» أَىْ إِمَّا أَنْ نَرْبَحَ الْغَنَائِمَ الَّتِى فِى الْقَافِلَةِ وَإِمَّا أَنْ نَهْزِمَ الْجَيْشَ الَّذِى خَرَجَ لِحِمَايَتِهَا وَنَزَلُوا قُرْبَ بَدْرٍ ذَاتِ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ. وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْقَافِلَةَ الَّتِى خَرَجُوا لِحِمَايَتِهَا قَدْ نَجَتْ وَوَصَلَتْ إِلَى مَكَّةَ وَمَعَ ذَلِكَ رَفَضُوا الْعَوْدَةَ وَأَصَرُّوا عَلَى مُقَاتَلَةِ النَّبِىِّ حِقْدًا مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى دَعْوَتِهِ الإِسْلامِيَّةِ الْعَظِيمَةِ وَكَرَاهِيَةً لِصَحابَتِهِ الْكِرَامِ. وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَطَرَ الْخَفِيفَ فَصَارَ التُّرَابُ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ جَامِدًا يَسْهُلُ الْمَسِيرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَقَدْ صَارَ الرَّمْلُ مِنْ تَحْتِهِمْ وَحْلًا مُزْعِجًا تَغُوصُ فِيهِ أَقْدَامُهُمْ وَأَقْدَامُ بَعِيرِهِمْ مِمَّا أَعَاقَهُمْ وَأَخَّرَهُمْ. وَأَحَاطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلالٍ مُطِلَّةٍ عَلَى بِرْكَةِ مَاءٍ كَبِيرَةٍ فِى بَدْرٍ وَجَاءَهَا الْكُفَّارُ لِيَشْرَبُوا مِنْهَا فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يَصْطَادُونَهُمْ الْوَاحِدَ تِلْوَ الآخَرِ وَتَقَابَلَ الْجَيْشَانِ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ الصَّحَابَةُ الأَفَاضِلُ الشُّجْعَانُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ إِعْلاءَ كَلِمَةِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَجَيْشُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَيُرِيدُونَ قَتْلَ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَى دَعْوَتِهِ الْمُبَارَكَةِ. وَكَانَتْ خِطَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَبْدَأُوا الْقِتَالَ حَتَّى يُحِيطَ بِهِمُ الْكُفَّارُ عِنْدَهَا يَظْهَرُ الرُّمَاةُ الْمُخْتَبِئُونَ عَلَى التِّلالِ الْمُحِيطَةِ بِمَكَانِ الْمَعْرَكَةِ وَيَرْمُونَ ظُهُورَ الْكُفَّارِ بِرِمَاحِهِمْ وَهَكَذَا كَانَ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَتَضَارَبَتِ السُّيُوفُ وَلَمَعَتِ الرِّمَاحُ وَتَطَايَرَ الْغُبَارُ وَعَلَتِ التَّكْبِيرَاتُ الصَّادِحَةُ وَكَانَ الْمَدَدُ الْكَبِيرُ. فَقَدْ أَمَدَّ اللَّهُ تَعَالَى جَيْشَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِئَاتٍ وَءَالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ أَتَوْا عَلَى خُيُولِهِمْ يُحَارِبُونَ وَيُقَاتِلُونَ يَتَقَدَّمُهُمْ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى فَرَسِهِ حَيْزُوم. وَكَانَ الْمُقَاتِلُ الْمُسْلِمُ يُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ وَكَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفِى نِهَايَةِ الْمَعْرَكَةِ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ وَرَمَى بِهَا قُرَيْشًا وَقَالَ «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ «شُدُّوا عَلَيْهِمْ» فَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ وَقُتِلَ مِنْهُمُ الْكَثِيرُ وَأُسِرَ الْكَثِيرُ. كَانَ بَيْنَ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ رَأْسُ الْكُفْرِ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ ، قال عبدُ الرحمن بن عوف رضي الله عنه: “إني لواقفٌ يوم بدرٍ في الصف وإذا أنا بينَ غُلامَيْن من الأنصار حديثةٍ أسنانهُما فتمنيتُ لو كنت بين أضلُعٍ منهما فغَمَزَنِي فقال أحدهما: هل تعرف أبا جهل؟ قلتُ: نعم فما حاجتُك، قال: بلغَنِي أنه يسبُّ رسولَ الله لَئِن رأيتُه لا يُفارِقُ سوادي سَوَادَه حتى يموتَ الأعْجَلُ منا، فغمَزَنِي الآخر فقال مِثلَها، فلم أنْشَب أن نَظَرْتُ أبا جهلٍ يجولُ في الناسِ فقلت: هذا صاحِبُكُما فابتدَرَاه بسَيْفِهما حتى قَتَلاه ثم انصرفا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه وقال كل منهما: أنا قَتَلْتُه، قال: “هل مسحتما سيْفيْكما” قالا: لا، فنظر فيهما فقال: “كِلاكُما قَتَلَه”، وهما معاذُ بنُ عمرو ومعاذُ بنُ عفراء رواه مسلم. وكَانَ بَيْنَ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ وَهُوَ الَّذِى كَانَ يُعَذِّبُ سَيِّدَنَا بِلالًا الْحَبَشِىَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَمَا أَرَادُوا طَرْحَهُ فِى بِئْرِ الْقَلِيبِ كَانَ قَدْ تَقَطَّعَ فَوَضَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ مَا طَمَرَهُ. وهكذا انتصر المسلمون المحمديّون في أولِ مُواجهةٍ عسكرية مع المشركين وَعَادَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتُهُ الأَجِلَّاءُ مُنْتَصِرِينَ مُعَزَّزِينَ وَلَهُمْ فِى غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى عِبْرَةٌ أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ قَدْ تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَشَهِدَ رَمَضَانُ نَصْرًا كَبِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ سَجَّلَهُ التَّارِيخُ بِسُطُورٍ مِنْ نُورٍ. وكانت غزوة بني القينقاع في السنة الثانية من الهجرة أيضا وكان من خبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وادع يهود المدينة على أن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه عدو بها نصروه. فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له الحسد والبغض وأظهروا نقض المعاهدة. فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بسوق قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم. ولكن اليهود عاندوا وتكبروا عن قبول الحق. قالوا: يا محمد لو حاربْتَنا لتعْلَمنَ أنا نحن الناس فنزَل فيهم: {قُلْ للذينَ كفروا ستُغلبونَ وتُحشرونَ} وكان يهود بني القينقاع أشجعَ يهود وكانوا من أغنياء المدينة، وكان لهم فيها حصون، ورغم نصح النبي استمروا في غيهم وتحرشهم إلى أن حدث ذات يوم أن امرأة من العرب قدمت ببضاعة لها فباعتها بسوق بني القينقاع وجلست إلى صائغ، فاجتمع حولها نفر من اليهود يتحرشون بها وطلبوا منها كشف شيء من بدنها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك اليهود منها وسخروا فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله فشدت اليهود على المسلم فقتلوه. وسرعان ما لجأ اليهود إلى حصونهم استعدادا للحرب واعتصموا فيها، فسار المصطفى إليهم يومَ السبت نصف شوالٍ على رأس عشرينَ شهرًا من الهجرة، وحمَل لواءَه حمزة وكان أبيض وخلَّف على المدينة أبا لبابة الأنصاري فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يطلَعُ منهم أحد، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلموا فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول وألح في الرغبة حتى حقن له رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم، ثم أمر عليه السلام بإجلائهم. وفي السنة الثالثة كان دخولُ المصطفى عليه السلام بحفصةَ بنتِ عمر القانتةِ الصوامةِ القوامة، وفيها كان دخولُه بالزينبين زينبَ بنت خُزيْمة الحارثية دخل بها في رمضان على رأسِ أحدٍ وثلاثينَ شهرًا من الهجرة وزينبَ بنتِ جحش التي قصَّ الله خبرَها في القرءان، وفيها بنى عُثمانُ بنُ عفان بأم ِكلثوم بنتِ المصطفى، وفيه أي هذا العام التقى الجَمْعان بأُحُد . بَعْدَ أَنِ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ انْتِصَارًا كَبِيرًا فِى مَعْرَكَةِ بَدْرٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَوْقَعُوا فِيهِمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْقَتْلَى عَادَ مَنْ بَقِىَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى مَكَّةَ حِينَ كَانَتْ مَكَّةُ تَحْتَ سُلْطَةِ الْمُشْرِكِينَ يَجُرُّونَ وَرَاءَهُمْ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ وَوَجَدُوا أَنَّ قَافِلَةَ أَبِى سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَتْ بِأَمَانٍ فَاتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بَضَائِعَهَا وَالرِّبْحُ الَّذِى سَيَجْنُونَهُ يُجَهِّزُوا بِهِ جَيْشًا لِمُقَاتَلَةِ النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْذِ الثَّأْرِ لِمَقْتَلِ ءَابَائِهِمْ وَإِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ حَارَبُوا النَّبِىَّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَالصَّحَابَةَ وَأَرَادُوا الْقَضَاءَ عَلَى الإِسْلامِ فِى بَدْرٍ. اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَبْعُوثَيْنِ إِلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْحَلِيفَةِ طَلَبًا لِلْمُقَاتِلِينَ فَاجْتَمَعَ ثَلاثَةُ ءَالافِ مُشْرِكٍ مَعَ دُرُوعِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ نَاقَةً عَلَيْهَا رُكِّبَتْ الْهَوَادِجُ وَهِىَ الْبُيُوتُ الصَّغِيرَةُ الَّتِى تُوضَعُ عَلَى ظُهُورِ الْجِمَالِ وَجَلَسَتْ فِيهِنَّ بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ لِيُشَجِّعْنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْهَزِيمَةِ فِى بَدْرٍ. وَفِى أَثْنَاءِ اسْتِعْدَادَاتِهِمْ طَلَبَ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الْعَبَّاسِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ الْخُرُوجَ مَعَهُ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ بِذَلِكَ وَأَرْسَلَ الْعَبَّاسُ سِرًّا إِلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُهُ مِنَ الْخَطَرِ الْمُحْدِقِ فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا أَىْ فِى الْمَنَامِ رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ وَرَأَيْتُ فِى ذُبَابِ سَيْفِى أَىْ حَدِّ سَيْفِى ثَلْمًا أَىْ كَسْرًا وَرَأَيْتُ أَنِّى أَدْخَلْتُ يَدَىَّ فِى دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ» وَكَانَ مَعْنَى هَذَا الْمَنَامِ الَّذِى رَءَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْبَقَرَ نَاسٌ يُقْتَلُونَ وَأَمَّا الثَّلْمُ فِى السَّيْفِ فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِىِّ يُقْتَلُ. خَرَجَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِجَيْشِهِمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى ضَوَاحِى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ قُرْبَ جَبَلِ أُحُدٍ حَيْثُ كَانَ النَّبِىُّ الأَعْظَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى صَلاةَ الْجُمُعَةِ بِالنَّاسِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالثَّبَاتِ وَخَرَجَ بِسَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ شُجَاعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ خَوْفًا مِنَ الْقِتَالِ. وَكَانَتْ خِطَّةُ الْحَرْبِ الَّتِى وَضَعَهَا النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ فِى وَجْهِهِ وَيَضَعَ خَلْفَهُ جَبَلَ أُحُدٍ وَحَمَى ظَهْرَهُ بِخَمْسِينَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَهَرَةِ صَعِدُوا عَلَى هَضَبَةٍ عَالِيَةٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ وَجَعَلَ قَائِدَهُمْ صَحَابِيًّا كَرِيمًا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ وَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ أَنْ يَبْقَوْا فِى أَمَاكِنِهِمْ وَأَنْ لا يَتْرُكُوهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ «ادْفَعُوا الْخَيْلَ عَنَّا بِالنِّبَالِ» وَقَسَّمَ الْحَبِيبُ الْمُصْطَفَى جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ جَعَلَ قَائِدًا لِكُلٍّ مِنْهَا وَتَسَلَّمَ هُوَ قِيَادَةُ الْمُقَدِّمَةِ. وَبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ فَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ الْبَتَّارَةُ بِقُوَّةٍ وَكَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ شُجَاعٌ مَشْهُودٌ لَهُ بِالثَّبَاتِ فِى وُجُوهِ الْكُفَّارِ اسْمُهُ أَبُو دُجَانَةَ سَلَّمَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفًا فَأَخَذَهُ وَرَبَطَ عَلَى رَأْسِهِ قِطْعَةً حَمْرَاءَ عَلامَةَ الْقِتَالِ ثُمَّ شَهَرَ سَيْفَهُ لا يَقِفُ شَىْءٌ أَمَامَهُ إِلَّا حَطَّمَهُ وَأَوْقَعَهُ أَرْضًا وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يَدَعُ جَرِيحًا مُسْلِمًا إِلَّا قَتَلَهُ فَلَحِقَ بِهِ أَبُو دُجَانَةَ لِيُرِيحَ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ حَتَّى الْتَقَيَا فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ ضَرْبَةً تَلَقَّاهَا الأَخِيرُ بِكُلِّ عَزْمٍ وَثَبَاتٍ ثُمَّ بَادَلَهُ بِضَرْبَةٍ قَوِيَّةٍ مِنْ سَيْفِهِ فَقَتَلَهُ. وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَفَعَلَ الرُّمَاةُ الْمُسْلِمُونَ فِعْلَتَهُمْ إِذْ كَانُوا مِنْ أَحَدِ أَسْبَابِ تَرَاجُعِ الْكُفَّارِ وَفِرَارِهِمْ وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ حَصَلَتْ حَادِثَةٌ أَلِيمَةٌ غَيَّرَتْ مِنْ مَسَارِ نِهَايَةِ الْمَعْرَكَةِ إِذْ إِنَّ الرُّمَاةَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ تَرْكِ أَمَاكِنِهِمْ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ تَرَكَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ مَكَانَهُ ظَنًّا أَنَّ الْمَعْرِكَةَ حُسِمَ أَمْرُهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَنَزَلُوا لِيَأْخُذُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَبَقِىَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ رُمَاةٍ أَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ وَقَالُوا نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا فَنَظَرَ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ وَكَانَ مَا زَالَ مُشْرِكًا إِلَى مَنْ بَقِىَ مِنَ الرُّمَاةِ فَتَوَجَّهَ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَتَسَلَّلُوا فَفَاجَئُوا الرُّمَاةَ الْقَلِيلِينَ مِنَ الْخَلْفِ وَقَتَلُوهُمْ بِمَا فِيهِمْ قَائِدُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ. عِنْدَهَا تَعَالَتْ صَيْحَاتُ الْمُشْرِكِينَ وَفُوجِئَ الْمُسْلِمُونَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا مُحَاصَرِينَ فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَاشْتَدَّ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ عِنْدَهَا عَادَ مَنْ هَرَبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهَجَمُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَجْمَةً شَرِسَةً وَرَفَعُوا عَنِ الأَرْضِ رَايَتَهُمُ الْمُتَّسِخَةَ. وَكَانَ عَدَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَدِ اتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مُهَاجَمَةِ النَّبِىِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَاسْتَغَلُّوا فُرْصَةَ ابْتِعَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِىِّ أَثْنَاءَ الْمَعْرَكَةِ وَانْقَضُّوا عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ جَبْهَتَهُ الشَّرِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَاهُ بِحِجَارَةٍ فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُةُ الْيُمْنَى وَهِىَ أَحَدُ أَسْنَانِهِ الأَمَامِيَّةِ وَشُقَّتْ شَفَتُهُ الشَّرِيفَةُ وَهَجَمَ ءَاخَرُ فَجَرَحَ وَجْنَةَ النَّبِىِّ أَىْ أَعْلَى خَدِّهِ الشَّرِيفِ بِالسَّيْفِ وَرَفَعَهُ فَرَدَّهُ النَّبِىُّ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ فَجُرِحَتْ رُكْبَتُهُ الشَّرِيفَةُ وَسَالَ دَمُهُ عَلَى الأَرْضِ ، وَأَقْبَلَ مُشْرِكٌ اسْمُهُ أُبَىُّ بنُ خَلَفٍ حَامِلًا حَرْبَتَهُ وَوَجَّهَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ مِنْهُ وَقَتَلَهُ بِهَا. وَلَمَّا جُرِحَ النَّبِىُّ الأَعْظَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ الشَّرِيفِ وهو يمسحُه ويقول: “كيف يُفلِح قوم خَضبُوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم” وَأَقْبَلَ لِحِمَايَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا وَرَكَضَ أَبو دُجَانَةَ وَجَعَلَ مِنْ ظَهْرِهِ تُرْسًا لِرَسُولِ اللَّهِ فَكَانَتِ السِّهَامُ تَنْهَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ يَحْمِى بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ أَعْظَمَ الْكَائِنَاتِ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَازْدَادَتِ الْمَصَائِبُ إِذْ قَدْ جَاءَ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ مُشْرِكٌ مَاهِرٌ بِالرِّمَايَةِ اسْمُهُ وَحْشِىٌّ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ بِقَتْلِ سَيِّدِنَا حَمْزَةَ وَوَعَدَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ حُرًّا إِنْ قَتَلَهُ وَبَقِىَ طِيلَةَ الْمَعْرَكَةِ يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ أَمَامَهُ فَرَفَعَ حَرْبَتَهُ وَهَزَّهَا ثُمَّ رَمَاهَا فَاخْتَرَقَتْ جَسَدَ سَيِّدِنَا حَمْزَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِى وَقَعَ شَهِيدًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ بِانْسِحَابِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ انْتَصَرُوا وَلا يُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَسِرَ بَلْ إِنَّ الَّذِينَ خَالَفُوا أَوَامِرَهُ خَابُوا وَسَبَّبُوا الْخَسَارَةَ لِأَنْفُسِهِمْ. ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف صَعِد صخرةً ثم صرخ بأعلى صوته فقال: إن الحربَ سِجَالٌ يوم بيوم بدرٌ بأُحُد، ثم قال أبو سفيان: أُعْلو هُبَل فقال المصطفى عليه السلام: “قل له يا عمر: الله أعلى وأجلُ لا سَواء فقتلانا في الجنة وقتلَاكُم في النار”. وفي الصحيح أن أبا سفيانَ قال: لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبيّ: “قولوا اللهُ مولانا ولا مَوْلى لكم”، فقال: أفي القومِ محمد، فقال: “لا تُجِيبوه”، فقال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافة، أفي القوم ابن الخطاب فلما لم يُجِبْه أحد قال: إن هؤلاء قُتِلوا فلو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبتَ يا عدوَ الله قد أبقى الله لك ما يُخْزيك، قال: هَلُم يا عمر فقال المصطفى: “ائْتِه فانظر ما شأنه” فجاءه فقال: أُنْشِدُك الله أَقَتَلْنا محمدًا قال: اللهم لا والله إنه ليَسْمَعُ كلامَك. وَدَفَنَ الْمُسْلِمُونَ شُهَدَاءَهُمْ فِى أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدُوا ولم يكن فيهم قتيلًا إلا ومثَّل به المشركون غير حنْظَلة فإن أباه كان مع الكفار. وخرج المصطفى عليه السلام يلتمسُ حمزة رضي الله عنه فوجَدَهُ بُقِرَ بَطْنُه عن كبِدِه، ومُثِّل به فبكى بكاءً شديدا وقال عليه السلام: “رحمةُ الله عليك قد كنت عَلِمْتُك فعولًا للخيْرِ وصولًا للرَحِم” ثم أمر فسُجِّيَ ببُرده ودُفِن. وكان يومُ أحُد يوم بلاءٍ أكرم الله فيه من أراد كرامَتَه بالشهادة، ونزَل من القرءان في شأنِ أحد ستونَ ءايةً من ءال عمران. واستشهد يومئذ خمسةٌ وستونَ رجلاً أربعةٌ من المهاجرين وباقيهِم من الأنصار، وقُتِل من المشركين اثنان وعِشرون رجلا. ثم رجَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من يومِه ءاخر النهار. وَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِى جَوٍّ حَزِينٍ جَاءَتْ إِحْدَى نِسَاءِ الأَنْصَارِ قَدْ قُتِلَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا شَهِيدَيْنِ. فَلَمَّا أُخْبِرَتْ قَالَتْ مَاذَا حَلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهَا هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ دَمَعَتْ عَيْنَاهَا فَرَحًا بِسَلامَتِهِ وَقَالَتْ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ هَيِّنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تُوَازِى مُصِيبَتَنَا بِفَقْدِكَ. وَهَكَذَا انْتَهَتْ مَعْرَكَةُ أُحُدٍ الَّتِى كَانَتْ دَرْسًا تَعَلَّمَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ أَهَمِيَّةَ الِالْتِزَامِ بِأَوَامِرِ النَّبِىِّ وَتَعَالِيمِهِ الشَّرِيفَةِ وَأَنَّ أَوَامِرَهُ كُلَّهَا فِيهَا الْخَيْرُ وَالْفَلاحُ.