#16 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
وفي طريق الهجرة المباركة مر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على خيمةِ أم معبدٍ وهي على طريقِهم مُختبئةً بفَنَاءِ خيمتها تَسْقي المارة من الماءِ واللبن، بِمَرصَدٍ والمَرْصدُ الموضِعُ الذي يُرصد فيه أي يُقْعَدُ فيه ليُرصدَ من يمرُ عليه في الطريق ويُعرَف ذلك الموضِعُ الآن بخيمةِ أمِ معبد، ونظرَ النبيُّ عليه السلام عندها شاة قال: ما هذه؟ قالت: شاةٌ أضَرَ الجَهدُ بها وما بها قُوى أي ليس بها قوة تشتدُ بها حتى تلقى الغَنم ترعى معهم قال عليه السلام: هل بها من لبن، قالت: هي أجْهدُ من ذلك فمَسَحَ النبيّ عليه السلام منها ظَهْرها والضَرْعَ وسَمّى ودعا فحَلَبَت ما قد كفاهُم وُسْعًا أي ما تحتمله طاقتُهم من الريّ، وحَلبَ النبي عليه السلام بعد ذلك إناءً ءاخر ثانيًا وترك ذاك الإناءَ عندها مملوءًا وسافرَ بعد أن بايَعها على الإسلام واستمرت تلك البَرَكةُ فيها، ثم لما رَحلوا جاء زوجُها أكْثَمُ بنُ الجُون يَسوقُ أَعْنُزًا عِجافًا فلما رأى اللبن عَجِبَ وقال: من أينَ ولا حلوبَ في البيت؟ قالت: مرَ بنا رجل مباركٌ من حاله كذا، قال: صِفِيه، قالت: رجلٌ ظاهرُ الوضاءة أبلجُ الوجه حسنُ الخُلُق وصارت تعدّدُ له من مزاياه وخصاله عليه السلام، فقال أبو معبد: هو واللهِ صاحبُ قريشٍ الذي ذُكِرَ لنا من أمرِه. وكان المُهاجرون والأنصار يَفِيدون إلى قُباء ينتظرونَ قدومه صلى الله عليه وسلم في أولِ النهار فإذا أحرقتهُم الشمس رَجَعوا، فلما كان يومُ قدومه عليه الصلاة والسلام غدَوْا كعادتهم فلما أحرقتهمُ الشمس رجَعوا فإذا بيهوديٍّ يصيحُ على أطَمٍ: يا بني قيْلَةَ هذا صاحبُكم، فلبِسوا السلاحَ وتلقَوْهُ فقدِم حتى وصل إلى موضع قُباء نزَلها بالسعد والهناء في يومِ الاثنين لثنتي عشرةَ ليلةً خلَت من شهرِ مولده وهو ربيعُ الأول ، فنِعْمَ تلك الهجرةُ كانت، وجاء المسلمون يُسَلِّمون عليه وهو جالسٌ في ظلِّ نخلةٍ ومعه أبو بكرٍ وأكثرُهم لم يكن رأى المصطفى عليه السلام قبل ذلك، فلما زال الظِلُ عنه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكرٍ يظلُه بردائه فعرفوه وجعل الصبيانُ والنساءُ يقولون: أقبل البدر علينا * من ثنيات الوداع. وجب الشُكرُ علينا * ما دعا لله داع. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بنِ هَدْم وقيل على سعدِ بنِ خَيْثمة وجمَعَ بينهما بأنه كان إذا خرج من بيتِ كلثوم جلَس في بيتِ سعد لأنه كان عَزِبًا، وكان يُقال لبيته بيتُ العُزّاب وكان منزلَ المهاجرين منهم، ونزل أبو بكرٍ رضي الله عنه على خُبيْب بن إسافٍ وقيل على خارجةَ بنِ زيد، وأقام المصطفى في قُباء في بَني عمرو بنِ عوف أربعًا الاثنين والثُلاثاء والأربِعاء والخميس وأَسَّس المسجدَ الذي أُسِسَ على التقوى والمعروف إلى الآن بمسجد قباء، ثم طَلَع من بين أظهُرِهِم يومَ الجمعة فركِبَ راحلته ومشوْا حولَها فأدركَتْه الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطْنِ وادي رانُونَاء وبعد أولِ جمعةٍ صلاها في المدينة بمن معه من المسلمين وهم مائةٌ في مسجد الجمعة. وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء مسجدَه ولحِقَهُ علي بن أبي طالب وكان تأخر ثلاث ليالٍ لردِّ الودائع التي كانت عند المصطفى صلى الله عليه وسلم لأهلِها، ثم ارتحلَ لطيبة وهو اسمٌ للمدينة الشريفة سُمِيَت به لطيِبِها. ثم إنه لما ارتحل المصطفى عليه السلام قاصدًا المدينة أتاه عُتبانُ بنُ مالك في رجالٍ من بني سالم فأخذوا خُطامَ ناقته فقالوا: أقِم عندنا في العددِ والعُدة والْمَنَعَة فقال: “خلُوا سبيلَها فإنها مأمورة” فخلَوْها حتى إذا مرت بدار بني ساعِدة اعترضه سعدُ بن عُبادة في رجال فقالوا كالأول وأعاد صلى الله عليه وسلم مثلَه “خلُوا سبيلَها فإنها مأمورة”، حتى إذا وازَتْ دار بني الحارث بنِ الخزْرج اعترضه سعدُ بنُ الربيع وعبدُ الله بنُ رَواحة في رجال فقالوا مثلَه وأعاد صلى الله عليه وسلم مثلَه “خلُوا سبيلَها فإنها مأمورة”، حتى إذا مرَتْ بدارِ عُدَي من بنِ النجار وهم أخوالُه اعترضه سَليطُ بنُ قيس في رجال فقالوا: هُلَمَ إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمَنَعَة قال: “خلُوا سبيلها فإنها مأمورة” حتى دنت من دار بني مالك بنِ النجار بَرَكَت ناقتُه المأمورة أي التي أمرها اللهُ تعالى أن تَبْرُك بموضع المسجد أي مسجدِه عليه السلام وهو يومئذٍ مِرْبَدٌ لغُلامين يتيميْن من بني مالكِ بنِ النجار في حجرِ معاذِ بنِ عفْراء، فلما بَرَكَت وهو عليها لم يَنزِل وِثبت صلى الله عليه وسلم فسارت غير بعيدٍ والمصطفى عليه السلام واضعٌ لها زِمامَها لا يُثنيها به، ثم التفت خلفَها فرجِعت إلى مَبْرَكِها الأول فبرَكَت به ثم تحلْحَلَت ووضعت جِرَانها فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وذلك في وقتِ الظهيرة أي الهاجِرة، فاحْتمل أبو أيوبٍ خالدَ بنَ زيدٍ من بني النجار رَحْلَه وأدخل ناقتَه دارَه ونَزَل عنده صلى الله عليه وسلم لكونه من أخوالِ عبد المطلب ولما سألوه النُزول عليهم قال: “المرءُ مع رَحْلِه” وخرجت جَوارٍ من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن: نحن جوارٍ من بني النجارِ * يا حبذا مُحمدٌ من جارِ. فخرج إليهم رسول الله عليه السلام فقال: “أتُحبونني”، قالوا: إي والله، قال: “وأنا واللهِ أحبُكن” ثلاثًا ، قال زيدُ بنُ ثابت: وأولُ هديةٍ دخلتُ بها أنا قَصْعَةُ مَثرودٍ فيها خبزٌ وَسَمْنٌ ولبن فقلت: أرسلت بها أمي فقال: “بارك الله فيك” ودعا صحبَه فَأكَلُوا، فلم أَرُمِ البابَ حتى جاءت قصعةُ سعد ِبنِ عُبادة بثريدٍ وعِراقِ لحم وما كان من ليلةٍ إلا وعلى بابِ المصطفى عليه السلام الثلاثةُ والأربعةُ يحمِلون طعامًا كثيرًا ثم صارَ سعدُ بن عُبادة يُرسِل إليه كل يومٍ قصعة، فأقام بدار أبي أيوب حتى ابْتنى مسجدَه الرحيبَ الواسعَ بعد شرائه أرضَه من قَسِيم مالِكيه، فأسَّسَ المسجد وجعلَ طولَه مما يلي القِبلةَ إلى مؤخَرِهِ مائةَ ذراع وفي ذَيْنَكِ الجانبيْن مثلَ ذلك فهو مُرَبَّع، وجعل الأساسَ نحو ثلاثةِ أذرعٍ على الأرضِ بالحجارة ثم بنوْهُ باللَبِنِ وجعل رسولُ الله عليه السلام ينقُلُ معهم الحجارةَ بنفسه ويقول: “اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجِرة” وجعل قبلته لبيتِ المقدس وجعل له ثلاثةَ أبوابٍ بابًا في مُؤخِره وبابًا يقالُ له بابُ الرحمة وهو الذي يُسمى باب عاتِكة والبابَ الثالثَ الذي يدخلُ منه المصطفى وهو الذي يلي ءالَ عُثمان، وجعل عَمَدَهُ الجُذوع وسقفَه الجَريد وبنى بيوتَه بجنْبه باللَبِن. ثم إنه عليه السلام بنى حولَه منازلَ أي مساكنَ لأهله أي نسائِه ومَواليه ومن يَليه وبَعثَ زيدَ بنَ حارثة وأبا رافعٍ إلى مكة فقدِما عليه بفاطمةَ وأمِ كلثوم ابنتيْه وسوْدةَ زوجتِه وأسامةَ بنِ زيد وأمِه أمِ أيْمن، وجلس أبو العاصِ ابنُ الربيع مع بنتِه زينب، وخرج عبدُ الله بن أبي بكرٍ معهم بعيال أبي بكر وفيهم عائشة فقدِموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثةَ بنِ النُعمان، كلُ ذلك وهو في بيتِ أبي أيوب. و كان أصحابُه من المهاجرين والأنصار يبنون مساكنَهم حواليْه في ظلِّه أي في كنَفِه حتى إن من الأنصار من ترك مسكنَهُ البعيد وسكن بقربه عليه الصلاة والسلام. ولما هاجر المصطفى “طابت به طيْبة” بعد الرَدى أي صارت طيبةً بعدما كانت رديّة، و”أشرق” كلُ ما كان منها أسودَ منذُ دخلها فإنها “كانت لَمِن أوْبأ أرضِ الله فزال” عنها وَبَاؤُها ببركةِ هذا النبيّ العظيم الجاه والقدْرِ والمنْزلةِ عند الله، والمدينةُ لا يدخلها الدجالُ ولا الطاعون فلها منهما حرزٌ حصينٌ. لَقَدْ كَانَتِ الهِجْرَةُ إِيذانًا بِأَنَّ صَوْلَةَ البَاطِلِ مَهْمَا عظُمَتْ وَقُوَّتَهُ مَهْمَا بلغَتْ فَمَصِيرُهَا إِلَى الزَّوَالِ وَنِهَايَتُهَا إِلَى الفَشَلِ وَالبَوَارِ وإِيذَانًا بِأَنَّ الحَقَّ لا بُدَّ لَهُ مِنْ يَوْمٍ يُحَطِّمُ فِيهِ الأَغْلالَ وَتَعْلُو فِيهِ رَايَتُهُ وَتَرْتَفِعُ كَلِمَتُهُ، وَكَيْفَ لا وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ المُبِينِ وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فَرَجًا وَمِنَ العُسْرِ يُسْرًا وَمِنَ الضِّيقِ سِعَةً قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. وَلئِنْ كَانَتِ الهِجْرَةُ المُبَارَكَةُ حرَكَةً نَوْعِيَةً فِي تَارِيخِ المِنْطَقَةِ وَنُقْطَةَ تَحَوُّلٍ فِي حَيَاةِ الدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ سَبَقَ تِلْكَ الهِجْرَةَ الجَسَدِيَّةِ هِجْرَةٌ رُوحِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَمَثَّلَتْ بِقَبُولِ المُهْتَدِينَ لِلدَّعْوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَدُخُولِهِمْ فِي دِينِ اللهِ وَثُبُوتِهِمْ فِيهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الاِضْطِهَادِ وَالتَّنْكِيلِ وَكَافَّةِ المُحَاوَلاَتِ لِصَرْفِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الحَقِّ. بَعْدَ هَذِهِ الهِجْرَةِ مِنَ الضَّلالِ إِلَى الإِيمَانِ وَمِنْ ظَلامِ الجاهِلِيَّةِ إِلَى نُورِ الإِسْلامِ وَبَعْدَ هِجْرَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي تَسَامَتْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا وَهَجَرَتْ كُلَّ مَا أَلِفَتْ مِنْ عَادَاتٍ بَغِيضَةٍ وَتَقَالِيدٍ بَالِيَةٍ جَاءَتْ هِجْرَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى المَدِينَةِ لِتُشكِّلَ قِمَّةَ العَطَاءِ وَالاِسْتِعْدَادِ لِلتَّضْحِيَةِ بِكُلِّ شَىْءٍ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَأَرْضٍ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَجَاءَتْ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتُعْلِنَ نِهَايَةَ عَهْدِ الاِضْطِهَادِ وَالاِسْتِبْدَادِ وَبِدَايَةَ فَجْرٍ مُشْرِقٍ وَعَهْدٍ مَجِيدٍ. وَمِنْ هُنَاكَ مِنْ يَثْرِبَ انْبَثَقَ نُورُ الدَّعْوَةِ قويًا وَضَاءَ فَبَدَّدَ الظُّلْمَ وَجَازَ مَا اعْتَرَضَهُ مِنْ عَقَبَاتٍ. وَانْطَلَقَتْ كَلِمَةُ الحَقِّ تَحْمِلُهَا القَوَافِلُ وَالرُّكْبَانُ وَتُبَشِّرُ بِهَا أَصْوَاتُ الدُّعَاةِ إِلَى الصَّلاةِ فِي كُلِّ أَذَانٍ حَتَّى أَتَمَّ اللهُ عَلَى المُسْلِمِينَ النِّعْمَةَ وَجَابَ عَنْهُمْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ الحَقِّ فِي إِبَاءٍ وَعِزَّةٍ : اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. لمَ ْتَكُنْ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبًا مِنَ المُشْرِكِينَ ولا يَأْسًا مِنْ وَاقِعِ الحَالِ وَلَمْ تَكُنْ هِجْرَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا فِي الشُّهْرَةِ وَالجَاهِ وَالسُّلْطَانِ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْرَافُ مَكَّةَ وَسَادَاتها وَقَالُوا لَهُ: ” إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مالًا وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ إِيَّاهُ” ولَكِنَ النَّبِيَّ العَظِيمَ أَسْمَى وَأَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الدُّنْيَا وَالجَاهَ وَالسُّلْطَانَ. وَلَمْ تَكُنْ هِجْرَتُهُ الْتِمَاسًا لِلْهُدُوءِ وَطَلَبًا لِلرَّاحَةِ فَهُوَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهَا دَعْوَةُ حَقٍّ وَرِسَالَةُ هُدىً لا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَهَا كَمَا أَمَرَهُ اللهُ وَهُوَ لِهَذَا يَقُولُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ أَتَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الكَفَّ عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَوْمِهِ وَمَا يَعْبُدُونَ “وَاللهِ يَا عَمُّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ أهلِكَ دُونَهُ”. لَقَدْ كَانَتِ الهِجْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ صُرُوحِ العَدْلِ وَالحَقِّ وَبِنَاءِ دَوْلَةِ الإِيمَانِ وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ فِي كَافَّةِ أَرْجَاءِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ بَلْ فِي كَافَّةِ أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ. لَقَدْ كَانَتِ الهِجْرَةُ عَمَلِيَّةَ جَمْعٍ لِلْقِوَى المُؤْمِنَةِ بِالرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ وَتَوْحِيدٍ لِلطَّاقَاتِ الَّتِي اسْتَطَاعَتْ فِيمَا بَعْدُ بِفَضْلِ رَبِّهَا تَحْطِيمَ قِوَى الكُفْرِ وَالإِشْرَاكِ. لَقَدْ كَان لِهِجْرَةِ الفَارُوقِ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ قِصَّةً شَأْنُهَا شَأْنُ كُلِّ قَصَصِهِ وَأَخباره العَظِيمَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى حُبِّهِ لِدِينِ اللهِ وَاسْتِبْسَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاسْتِعْدَادِهِ لِلْمَوْتِ فِي سَبِيلِ نُصْرَةِ الحَقِّ. ذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَمَا جَاءَ دَوْرُ سَيِّدِنِا عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ خَرَجَ مُهَاجِرًا وَخَرَجَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ جَمَعَهُمْ عُمَرُ فِي وَضْحِ النَّهَارِ وَامْتَشَقَ سَيْفَهُ وَجَاءَ “دَارَ النَّدْوَةِ” وَقَالَ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ بِصَوْتٍ جَهِيرٍ “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ تُفْصَلَ رَأْسُهُ أَوْ تَثْكَلَهُ أُمُّهُ أَوْ تَتَرَمَّلَ امْرَأَتُهُ أَوْ يُيَتَّمَ وَلَدُهُ أَوْ تَذْهَبَ نَفْسُهُ فَلْيَتَّبِعْنِي وَرَاءَ هَذَا الوَادِي فَإِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى يَثْرِبٍ” فَمَا تَجَرَّأَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَحُولَ دُونَهُ وَدُونَ الهِجْرَةِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ذُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ فَعَلَ. رضي الله عن سيدنا وحبيبنا الفاروقِ عمرَ بنِ الخطاب وحشرنا معه وأماتنا على حبّه. و عِنْدَمَا وَصَلَ الرَّسُولُ العَظِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى يَثْرِبَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ خَرَجَ المُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِهَا مُرَحِّبِينَ بِقُدُومِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ وَصَاحِبِهِ الوَفِيِّ وَاسْتَبْشَرُوا بِقُدُومِهِمَا وَقُدُومِ الأَصْحَابِ كُلَّ خَيْرٍ. لَقَدْ جَمَعَهُمُ الإِسْلام وَوَحَّدَتْهُمُ العَقِيدَةُ وَأَلَّفَ النَّبِيُّ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى صَارُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ طَمَعٌ وَلا دُنْيَا ولا يُبَاعِدُ بَيْنَهُمْ حَسَدٌ ولا ضَغِينَةٌ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ البُنْيَانِ المَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بعضًا ، وَمَثُلُهْم فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى. لَقَدْ كَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَنْ تَرَكَ الدَّارَ وَالمَالَ وَالأَهْلَ وَالوَلَدَ وَالمَتَاعَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَمَاذَا قَدَّمَ الأَنْصَارُ؟ لَقَدِ اسْتَقْبَلَ الأَنْصَارُ إِخْوَانَهُمُ المُهَاجِرِينَ وَمَدُّوا لَهُمْ يَدَ المُسَاعَدَةِ وَالعَوْنِ حَتَّى كَانَ الأَنْصَارِيُّ يَقْسِمُ مَالَهُ وَمَتَاعَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ المُهَاجِرِ حبًا بالله ورسوله. إِنَّ الدُّرُوسَ المُسْتَفَادَةَ مِنَ الهِجْرَةِ النبويةِ الشريفةِ كَثِيرَةٌ وَمِنْ جُمْلَتِهَا ضَرُورَةُ الصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالبَلايا وَكَافَّةِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالاِسْتِبْدَادِ، ومن جملة الدُّرُوسِ المُسْتَفَادَةِ مِنَ الهِجْرَةِ النبويةِ الشريفةِ الصُّمُودُ فِي وَجْهِ البَاطِلِ وَالوُقُوفُ إِلَى جَانِبِ الحَقِّ فِي شَجَاعَةٍ وَحَزْمٍ وَصَرَامَةٍ وَعَزْمٍ واعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ المُبِينِ وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فَرَجًا وَمِنَ العُسْرِ يُسْرًا وَمِنَ الضِّيقِ سِعَةً قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتِ أبي أيوب شهرًا وفي هذه السنة بنى عليه السلام مسجده ومساكنه حول المسجد، وفي السنة نفسِها صَالَحَ اليهودَ وعاهدهم لمدةٍ معيّنةٍ محددة، وشرَط لهم واشترَط عليهم في كتابِه الذي كتبَه فيما بينهم وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار. وفي تلك السنة أيضا ءاخى رسولُ الله عليه السلام بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار وهي المؤاخاةُ الأولى وكانوا يتوارثون بها أوَّلًا ، ثم المؤاخاةُ الثانية بعد بدر وأخذ بيدِ عليٍّ فقال: “هذا أخي”. وفي هذه السنة أسلم عبدُ الله بن سَلام وكان من علماء اليهود وكان اسمه الحُصَيْن فسماهُ المصطفى عبدَ الله. وفيها شُرِع القتال وأنزل الله تعالى: {أُذِنَ للذينَ يُقاتَلونَ بِأنَّهُمْ ظُلِموا} . وفي العام الثاني من الهجرة كان فرْضُ صومِ رمضان والزكاةِ التي للفطر وذلك قبل فرضِ زكاة المال، وفيها نَزَل الأمرُ النَدْبِيُ بصلاة العيدين على الكيفية المعروفة، وفيها نزل الأمرُ بالأضحية في الأضحى، وكذا فُرِض زكاةُ مالِهم، وفيها تحوَلت القبلةُ من بيتِ المقدس إلى المسجد الحرام يومَ الثلاثاء نصفَ شعبان أو رَجب، وفيها تزوج عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنها ولم يتزوج بِكْرًا غيرها، وقال عليه السلام في شأنها: “فضْلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام” ، وحوت علمًا جمًا ومناقبُها كثيرة جدًا، ومات المصطفى عليه السلام في يومها ورأسُه في حجرها، ودُفِن في بيتها بالمدينة المنورة ، وكذا كان بناءُ عليٍّ رضي الله عنه بفاطمة الزهراء سُمِيَت بالزهراء لأنها زهرةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي أصغرُ بناته. وفيها غزوةُ بدرٍ الكبرى وغزوة بني قينقاع فهذا كلُّه في السنةِ الثانية من الهجرة. نقف هنا إن شاء الله لنخبركم في الحلقة القادمة عن غزوة بدر الكبرى فتابعونا وإلى اللقاء.