#14 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وخمسين سنة أي قبل الهجرة بحوالي سنتين، أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلا من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى. وقد أجمع أهل الحق من سلف وخلف ومحدثين ومتكلمين ومفسرين وفقهاء على أن الإسراء كان بالجسد والروح وفي اليقظة، وهذا هو الحق. أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس على متن البراق وهو دابة من دواب الجنة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركب عليها ومعه جبريل عليه السلام فسار إلى طيبة حيث صلى ثم أكمل إلى طور سيناء وصلى هناك ثم أكمل إلى بيت لحم حيث ولد رسول الله عيسى عليه السلام وصلى هناك ثم دخل بيت المقدس فجمع له الأنبياء عليهم السلام فقدمه جبريل حتى صلى بهم إماما. الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صلّى الله عليه وسلّم أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى. أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمُحَدِّثِينَ وَمُتَكَلِّمِينَ أي علماء العقيدة، وَمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءَ وَفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَفِي الْيَقَظَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ أي الصعود إلى السماء فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ. قال الله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ ومعنى سبحان الله تنـزهَ الله عن مشابهةِ الخلقِ بأيِ وجهٍ من الوجوه. وتنزيهُ الله معناه نفيُ النقصِ عن الله. وَقَوْلُهُ: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ أَيْ بِمُحَمَّدٍ، قِيلَ: لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمِعْرَاجِ أَوْحَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ بِمَاذَا أُشَرِّفُكَ، قَالَ: بِأَنْ تَنْسُبَنِي إِلَى نَفْسِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ نِسْبَةَ النَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ غَايَةُ الشَّرَفِ لِلرَّسُولِ لِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ كَثِيرٌ فَلِمَ خَصَّهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِالذِّكْرِ، ذَلِكَ لِتَخْصِيصِهِ بِالشَّرَفِ الأَعْظَمِ. وأَرَادَ اللهُ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْلًا﴾ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَهُوَ هَذَا الَّذِي بِمَكَّةَ فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ أَيْ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ خُصَّ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَمُضَاعَفَةُ الأَجْرِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الأَقْصَى فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ معناه أنّ أرضَ الشام أرضٌ مباركة، فقد ثبت في صحيح البخاري أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: هناك الزلازل والفتن هناك يطلُع قرن الشيطان. فأرض الشام مباركة وفلسطين التي فيها المسجد الأقصى من الشام. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ أَيْ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ. والذي حصل في ليلة الإسراء أن جبريلَ جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلا وَهُوَ بِمَكَّةَ فَفَتَحَ سَقْفَ بَيْتِهِ وَلَمْ يَهْبِطْ عَلَيْهِمْ لا تُرَابٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَىْءٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ نَائِمًا حِينَهَا فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَيٍّ اسْمُهُ أَجْيَاد بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَجَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَيْقَظَهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَيْثُ شَقَّ صَدْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِأَلَمٍ وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيـمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَضَعَ فِيهِ سِرَّ الْحِكْمَةِ وَالإِيـمَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِثْلَمَا كَانَ وَذَلِكَ حَتَّى يَتَحَمَّلَ مُشَاهَدَةَ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ شُقَّ صَدْرُ النَّبِيِّ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا وَأُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ هِيَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنِ ابْنِ ءَادَمَ حَتَّى يَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ فَوَصَلا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْزِلْ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَصلّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِطُورِ سِينَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَوَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَهِيَ بَلَدُ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ فَقَالَ لَهُ انْزِلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صلّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، اللَّهُ جَمَعَهُمْ لَهُ هُنَاكَ كُلَّهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا عِيسَى فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ مَاتَ بَلْ كَانَ فِي السَّمَاءِ حَيًّا. ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى زَادَ نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا بِأَنْ رَفَعَ ثَمَانِيَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ هُمْ ءَادَمُ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفُ وَإِدْرِيسُ وَهَارُونُ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ إِلَى السَّمَوَاتِ فَاسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ. وَمِنْ عَجَائِبِ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الإِسْرَاءِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ سَيْرِهِ مَعَ جِبْرِيلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ، وَرَأَى إِبْلِيسَ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ وَكَانَ مِنَ الْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ فِى أَوَّلِ أَمْرِهِ ثُمَّ كَفَرَ لِاعْتِرَاضِهِ عَلَى اللَّهِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾. وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ طَاوُوسَ الْمَلائِكَةِ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ مَلَكًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ «إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ» وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ» فَتَبَيَّنَ أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْجِنِّ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ . وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ .والجهادُ في سبيلِ الله نوعانِ: جهادٌ بالسّنانِ أي بالسلاحِ، وجهادٌ في سبيلِ الله بالبَيَانِ، وثوابُ هذا كثوابِ من جاهَد بالسلاحِ، فاليومَ مَن أمرَ بالمعروفِ ونهَى عن المنكَرِ بجِدّ فهو مجاهدٌ في سبيلِ الله، والمجاهدونَ لهم درجةٌ عاليةٌ في الآخرةِ قالَ رسولُ الله: مَن أحيا سنتي عند فسادِ أمتي فله أجرُ شهيد. والمقصودُ بالسُّنةِ هنا الشريعةِ التي جاء بها رسول الله ، وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلالِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ. قالَ لهُ جبريلُ: هؤلاءِ خطباءُ الفتنةِ، يعني الذينَ يَخْطُبونَ للشرّ والفتنةِ، أي يَدْعُونَ الناسَ إلى الضلالِ والفسادِ والغَشّ والخيانَةِ. وَرَأَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْفَاسِدَةِ. رأى ثورًا يخرجُ مِنْ مَنْفَذٍ ضَيّقٍ ثم يريدُ أن يعودَ فلا يستطيعُ أنْ يعودَ إلى هذا المَنْفَذِ، فقالَ لَهُ جبريلُ: هذا الذي يتكلمُ بالكلمةِ الفاسدةِ التي فيها ضررٌ على الناسِ وفتنةٌ، ثم يريدُ أن يَرُدَّها فلا يستطيعُ، و رأى أناسًا يَسْرَحُونَ كالأنْعامِ على عَوْراتِهِمْ رِقاعٌ أي سُتَرٌ صغيرةٌ، قالَ لَهُ جبريلُ: هؤلاءِ الذينَ لا يؤدُّونَ الزكاةَ، و رأى قومًا تُرْضَخُ أي تُكسر رُءُوسُهُمْ ثم تَعُودُ كما كانتْ فقالَ جبريلُ: هؤلاءِ الذينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عنْ تأديةِ الصلاةِ، ورأى قومًا يَتَنَافَسُونَ على اللحمِ المُنْتِنِ ويتركونَ اللحمَ الجيّدَ المُشَرَّحَ فقالَ جبريلُ: هؤلاءِ أناسٌ مِنْ أمّتِكَ يتركونَ الحلالَ فلا يَطْعَمُونَهُ ويأتونَ الحرامَ الخبيثَ فيأكلونَهُ وهُمُ الزناةُ، و رأى أناسًا يشربونَ من الصَديدِ الخارجِ منَ الزناةِ، قالَ لَهُ جبريلُ، هؤلاءِ شاربو الخمرِ الْمُحرَّمِ في الدنيا، و رأى قومًا يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وصُدُورَهُمْ بأظفارٍ نُحاسِيَّةٍ، قالَ لَهُ جبريلُ: هؤلاء الذينَ كانوا يَغتابونَ الناسَ، وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشُطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أُولَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكَ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ: أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دَينِهَا، فَأَبَتْ، فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، مُتَنَاهِيًا فِي الْحَرَارَةِ، فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلادَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ ازْدَادَ خَوْفُهَا وَانْزِعَاجُهَا وَقَلَقُهَا، فَانْطَقَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّضِيعَ فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلا تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. فَتَجَالَدَتْ فَرَمَى الطِّفْلَ، فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا، فَقَالَ: لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِيهِ. ثم بعد إسراء النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى نصب المعراج والمعراج مرقاة شبه السلم فعرج بها النبي إلى السماء وهذه المرقاة درجة منها من فضة والأخرى من ذهب، ثم استفتح جبريل باب السماء فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه أي للعروج، قال: قد بعث إليه، فرأى صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى ءادم، وفي الثانية رأى عيسى ويحيى، وفي الثالثة رأى يوسف، وفي الرابعة رأى إدريس، وفي الخامسة رأى هارون، وفي السادسة رأى موسى، وفي السابعة رأى إبراهيم. ثم رأى سدرة المنتهى وهي شجرة عظيمة وبها من الحسن والجمال ما لا يستطيع أحد من خلق الله أن يصفه، من حسن هذه الشجرة وجدها يغشاها فراش من ذهب أوراقها كآذان الفيلة وثمارها كبيرة، أصلها في السماء السادسة وتمتد إلى السابعة وإلى ما فوق ذلك ، ورءاها الرسول عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة، ثم سار سيدنا محمد وحده حتى وصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ، ثم هناك أزال الله عنه الحجاب الذي يمنع من سماع كلام الله الذي ليس حرفا ولا صوتا فأسمعه كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقات وفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام الله الذاتي فرضية الصلوات الخمس. وفهم أيضا أنه يغفر لأمته كبائرُ الذنوب لمن شاء الله له ذلك. أما الكافر فلا يغفر له مهما كانت معاملتُه للناس حسنة، ولا يرحمُه الله بعد الموت ولا يدخلُه الجنة أبدا إن مات على كفره قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾. وفهم أيضا من كلام الله الأزلي الأبدي أن من عمل حسنة واحدة كتبت له بعشرة أمثالها وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ومن هم بسيئة وعملها كتبت عليه سيئة واحدة. وَأَمَّا مَا يُقَالُ إِنَّ الرَّسُولَ وَصَلَ وَجِبْرِيلُ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ جِبْرِيلُ جُزْ فَأَنَا إِنِ اخْتَرَقْتُ احْتَرَقْتُ وَأَنْتَ إِنِ اخْتَرَقْتَ وَصَلْتَ فَهَذَا وَنَحْوُهُ كَذِبُ وَبَاطِلٌ. واعلم رحمك الله أن المقصود من المعراج تشريف الرسول بإطلاعه على عجائب العالم العلوي، وتعظيم مكانته. و يجدر بنا أن نذكر بأن الله تعالى هو خالق السماوات السبع وخالق الأماكن كلها وأن الله كان موجودا قبل خلق الأماكن بلا هذه الأماكن كلها فهو موجود بلا مكان سبحانه، ولا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى يسكن في مكان أو في كل الأمكنة أو أنه يسكن في السماء أو يجلس على العرش أو حال في الفضاء أو أنه قريب منا أو بعيد عنا بالمسافة، ومن نسب المكان أو الجهة لله تعالى لا يكون مسلما، ويكون الدخول في الإسلام بالنطق بالشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله مع اعتقاد الصواب، أن الله موجود بلا مكان ولا يشبه شيئا من مخلوقاته سبحانه. رأى نبينا صلى الله عليه وسلم سيدنا جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى، فدنا جبريل من نبينا صلى الله عليه وسلم لشدة شوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان ما بينهما قدر ذراعين بل أقل، كما قال الله تعالى ﴿ ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ أي أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حين رءاه النبي صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى على صورته الأصلية وله ستمائة جناح، وكل جناح يسد ما بين الأرض والسماء. و من جملة ما رءاه صلى الله عليه وسلم في المعراج مالك خازن النار، ولم يضحك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل جبريل لماذا لم يره ضاحكا إليه كغيره. فقال: إن مالكا لم يضحك منذ خلقه الله تعالى، ولو ضحك لأحد لضحك إليك. ورأى في السماء السابعة البيت المعمور، وهو بيت مشرف، وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض، كل يوم يدخله سبعون ألف ملك يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبدا. والملائكة أجسام نورانية ذوو أجنحة ليسوا ذكورا ولا إناثا، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وعددهم لا يحصيه إلا الله. و من جملة ما رءاه صلى الله عليه وسلم في المعراج الجنة وهي فوق السموات السبع منفصلة عنها فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة الحور العين فطلب منه سيدنا جبريل أن يسلم عليهن بالقول فقلن له: نحن خيرات حسان، أزواج قوم كرام. ورأى فيها الولدان المخلدين وهم خلق من خلق الله ليسوا من البشر ولا من الملائكة ولا من الجن، الله تعالى خلقهم من غير أم وأب كاللؤلؤ المنثور ليخدِموا أهل الجنة، والواحد من أهل الجنة أقل ما يكون عنده من هؤلاء الولدان عشرة ءالاف بإحدى يدي كل منهم صحيفة من ذهب وبالأخرى صحيفة من فضة. ثم رأى العرش وهو أعظم المخلوقات من حيث الحجم، وحولَه ملائكةٌ لا يعلم عددهم إلا الله. وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعة من أعظم الملائكة، ويوم القيامة يكونون ثمانية. وقد وصف الرسول أحدهم بأن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام بخفقان الطير المسرع، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في أرض فلاة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِى جَنْبِ الْكُرْسِىِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ فِى أَرْضٍ فَلاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِىِّ كَفَضْلِ الْفَلاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ. وَالْعَرْشُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ الْمَاء فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَوَّلَ خَلْقِ اللَّهِ نُورُ مُحَمَّدٍ أَمَّا حَدِيثُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ مُخَالِفٌ لِلْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالإِجْمَاعِ وَفِيهِ رَكَاكَةٌ وَالرَّكَاكَةُ مِنْ عَلامَاتِ الْوَضْعِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. و قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ» رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ. فَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ. ومما أكرم الله به نبيه في المعراج أن أزال عن قلبه صلى الله عليه وسلم الحجاب المعنوي، فرأى الله بفؤاده، أي جعل الله له قوة الرؤية في قلبه لا بعينه لأن الله لا يرى بالعين الفانية في الدنيا ، وإنما يرى الله في الآخرة بالعين الباقية، يراه المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسله، لا يشبه شيئا من الأشياء بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا مُقَابَلَةٍ وَلا ثُبُوتِ مَسَافَةٍ وَلا اتِّصَالِ شُعَاعٍ بَيْنَ الرَّائِى وَبَيْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ. يَرَى الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «أَمَا إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ» أَىْ لا تَشُكُّونَ أَنَّ الَّذِى تَرَوْنَ هُوَ اللَّهُ كَمَا لا تَشُكُّونَ فِى قَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ وَلا يَعْنِى أَنَّ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْقَمَرِ مُشَابَهَةٌ فَالنَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا لِلَّهِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ.. قَالَ تَعَالَى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ «وَاللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِى الآخِرَةِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ بِلا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ وَلا كَمِيَّةٍ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ». أَمَّا الْكُفَّارُ فَلا يَرَوْنَ اللَّهَ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الآخِرَةِ وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ قَالَ تَعَالَى ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَانَ ذَهَابُهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَعُرُوجُهُ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى مَكَّةَ فِى نَحْوِ ثُلُثِ لَيْلَةٍ أَخْبَرَ أُمَّ هَانِئٍ بِذَلِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ الْكُفَّارَ أَنَّهُ أُسْرِىَ بِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ فَتَجَهَّزَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِى بَكْرٍ فَقَالُو لَهُ هَلْ لَكَ فِى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَ قَالَ ذَلِكَ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَأَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا فَتُصَدِّقُهُ بِأَنْ يَأْتِىَ الشَّامَ فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ قَالَ نَعَمْ إِنِّى أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَبِهَا سُمِّىَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. وَطَلَبَ الْكُفَّارُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِفَ لَهُمُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَرْحَلْ مَعَ أَهْلِ بَلَدِهِ إِلَى هُنَاكَ قَطُّ فَجَمَعَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ قَوْمَهُ فَحَدَّثَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانَ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ أَمَّا النَّعْتُ فَقَدْ وَاللَّهِ أَصَابَ. وهنا تنبيه مهم: عَلَى كُلِّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَأَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فِى مَكَانٍ أَوْ أَنَّهُ دَنَا مِنَ الرَّسُولِ بِذَاتِهِ أَوْ أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ الرُّجُوعُ عَنْ هَذَا وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُ يَكونُ بِذَلِكَ قَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَكَذَّبَ الْقُرْءَانَ قَالَ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ وليعلم يا أحبابنا أنه ليس صحيحا بالمرة قول بعض الكفار الجهال إن النبي وصل إلى مكان يسكن الله فيه فدخل عليه محمد فقال التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله فرد الله عليه قائلا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. هذا افتراء وكذب على الدين. فاحذروا هذه القصص الكاذبة ولا تأخذوا علم الدين إلا من الثقات الذين تعلموا علم الدين مشافهة وبسند متصل إلى رسول الله عبر الثقات الذين يخافون الله ولا يفتون بغير علم.