الخميس نوفمبر 21, 2024

#13 سيدنا محمد رسول الله ﷺ

لقد أوذيَ النبيُّ عليه السلام من كفارِ قُريش ما لم يُؤْذَ به أحدٌ من النبيين وذلك مما يضاعفُ اللهُ به الأجور ويضاعفُ به العذابَ على أهل الفجور، ولو يشاءُ الله دُمِروا تدميرًا أي أُهْلكوا هلاكًا فظيعًا، فقد بعثَ الله له ملَكَ الجِبال فقال له: إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخْشبين أي الجبَلين، فقال صلى الله عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم مَنْ يعبدُهُ  وقد كانوا يُضْمِرون له الضَغائن في قلوبهم لكنهم لم يُمَكَّنوا من إيقاع ما أضْمروه، فاستضْعَفوا مَنْ ءامنَ بالله وبرسوله. وممن أوذيَ من المُستضعفين عمارُ بنُ ياسر فعذبوهُ حتى تكسرت بعضُ أضلاعه، وعذبوا أمه سُميَةَ بنتَ حاطب وطعنها أبو جهل بحربَةٍ فماتت فكانت أولَ شُهداء الإسلام، وعَذبوا أباهُ وهو ياسرُ بنُ عامر الصابر، ومرَّ عليهم رسول الله عليه الصلاةُ والسلام وهم يُعذبون فقال: صبرًا ءال ياسر موعِدُكم الجنة. وممن عُذِب في الله وابتاعَهُم أبو بكرٍ الصديق ثم أعْتَقهم سبعة فالأول والثاني منهم أمُ بلال وابنُها بلال بن رباح المؤذِن عتيقُ الصديق واسمُ أمِه حَمامة، وهذان عذبهُما أُميةُ بنُ خلف وبالغَ في تعذيبهما وبلالٌ مع ذلك يقول أحدٌ أحد، والثالثُ منهم جاريةُ أمِ عَمْرو، والرابع منهم زِنْبَرَةُ الرومية كانت لبَنِي عبدِ الدار فلما أسلمت عَمِيَت فقال الكفارُ أعمتها اللاتُ والعزى فردَّ الله عليها بصرَها، الخامس أم عَنْبَسٍ فتاةٌ لبَنِي تَمِيم بنِ مُرَةَ أسْلَمت فعُذبت، السادسُ ابنتُها، السابع عامرُ بن فُهيْرة عبدٌ لطُفَيْل، فهذه السبعةُ ابتاعَها الصديق ثم أعتقهُم جميعَهُم لله وقد برَّ وصدَق في كونه فعلَ ذلك لله تعالى. ثم إنّه لما طلَبَتْ قُريشٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أن يُريَهُم علاماتٍ على صدقِه في دعواهُ النُبوة أراهمُ انشقاقَ القمرِ بمكة ليلةَ أربعَ عَشْرة، فصار فِرقتَيْن فرقةً فوقَ جبلِ أبي قُبَيْس وفرقةً دونَه، ووقع انشقاقه كما رواهُ الترمذيُّ وغيره ، وهذا أمرٌ بالإجماع لا نِزاع فيه لثبوتِه بنصِ القرءانِ والسُنة قال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر، وبلغ هذا الخبرُ حدَّ التواتُر وحصل به العِلمُ اليقينيُّ السَماعي أي بالسماعِ من الجمِّ الغَفير، فزاد انشقاقُ القمرِ الذين ءامنوا إيمانًا وحصلَ به لأبي جهل ومن معهُ طُغيانًا، وقالوا هذا سحر فابعثوا إلى الآفاق لتنظروا أرأوْا ذلكَ أم لا؟ فأخبروا أنّهم رأوْا ذلك، وجاءَ المسافرون من الآفاق كلٌ منهم مصدِّقٌ مُقِرٌ بانشقاقه فقالوا رأيناهُ عِيانًا. ومع ذلك بقي أهل الكفر من قريش على كفرهم وذلك لأن المعجزات لا تخلق الهداية إنما الهادي هو الله والله يفعل في ملكه ما يشاء، من يهد اللهُ فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له وليا مُرشدا. ثم لما اشتد على من أسلم البلاء والتعذيب قال لهم النبيُّ عليه الصلاةُ والسلام: تفرقوا في الأرض فسَيجْمَعَكُمُ الله، قالوا: إلى أينَ نذهب، قال: هاجِروا إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكًا لا يُظلمُ عنده أحد وهي أرضُ صِدقٍ حتى يجعلَ اللهُ لَكُم فرجًا فخرجَ عند ذلك المسلمون فِرارًا بدينهم إلى الله وهي أولُ هجرةٍ كانت في الإسلام فمنهم من هاجرَ بأهلِه ومنهم من هاجر بنفسِه، فقَدِموا على أصْحَمة وهو النجاشي في شهرِ رَجب سنةَ خمسٍ من النُبوة وَعِدَّتُهم سبعةَ عشر، خمسٌ من النساء واثنا عَشَر من الرجال. وأولُ من هاجرَ إليها عثمانُ ومعه زوجُه رُقيَة بنتُ الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. وممن هاجرَ بنفسِه مُصْعَبُ بنُ عُميْر والزُبير بنُ العوّام وعبدُ الرحمن بن عوف وحاطبُ بنُ عمْر، وكذا عددٌ ممن هاجر بنفسه عثمانُ بنُ مَظْعون وعبدُ الله بنُ مسعود، وهاجر أبو سَلَمة بنُ عبدِ الأسد المخزوميّ، ومعه زوجتُه أمُ سَلَمة هندُ بنتُ أبي أُمَية. وممن هاجر بنفسه وأهله أبو حُذَيْفة واسمه هاشم وأبو هاشم عُتْبة ومعه زوجتُه وهي بنتُ سُهيْل ابن عمرو واسمُها سهْلة، ومنهم مُصْعب بنُ عميْر ابنِ عبد مناف وعامرُ بنُ ربيعة حليفُ ءال الخطاب واسمُ زوجةِ عامر ليلى بنتُ أبي خَيْثَمَة العدويّة، وأبو سَبْرَة ابنُ عبد العُزى العامري ومعه زوجته أمُ كلثوم بنتُ سهيْل بن عمرو. وخرجت كفارُ قريش في ءاثارِ المهاجرين فلم يُدركوهم ولم يَصِلُوا منهم لأخذِ الثَأْر، وتَلَقَاهُم النجاشي بالإكرام فجاوَرُوهُ على أتمِ حَال وعَبدوا الله جَهْرًا وهُمْ في أمان، ثم إنّ المسلمين المهاجرين إلى الحبشة الهجرة الأولى عادوا إلى مكة ثم رجعوا إلى الحبشة الهجرةَ  الثانية وعِدتُهُم مائةُ نَفْس اثنتان وثمانونَ رجلًا وثمانيَةَ عَشرةَ امرأة، وقيل: أكثر، وقيل: أقل، فنزَلوا عند النجاشي على أتمِ حال فلَما علِمَت ذلك قُرَيْش بعثَتْ عمرو بن العاص وعبدَ الله بن أبي ربيعة بهديةٍ إلى النجاشي وبَطارقَتِه وسألوهم ردّهم إليهم، وابتدرا النجاشي فجلس أحدهُما عن يمينه والآخر عن يساره وقالا: أيّها الملك إنه قدْ ضوى إلى بلادك منا جماعةٌ سفهاء فارقوا دينَ قومِهم ولم يدخلوا في دينِك وجاءوا بدينٍ ابتدعوه، وقد بَعَثَنا إليك أشرافُ قومِهم من ءابائِهم وأعمامِهم وعشائرهم لتردَهم عليهم فهُم أعلمُ بهم عيبًا وأعلم بما عابوا منهم وعاينوهم فيه، فغضِب النجاشي وقال: لا والله لا أسلِّمُهم إليكما حتى أدعُوَهم فأسْأَلَهم فإن كانوا كما تقولون رددتُهُم إلى قومهم وإلا منعتُهُم منهم وأحسنتُ جِوارَهم، فدعاهم فلما جاءَهم رسولُه ائْتمروا فيما يقولون له فقالوا: نقولُ ما عُلِّمْنَاه وما أمَرَنا به نبيُّنا كائنًا في ذلك ما هو كائِن، فسألهم وقد دعا أساقِفَتَه فكان الذي كلَّمه جعفرُ بنُ أبي طالب فقال: أيُّها الملك كنا أهلَ جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكلُ المَيْتة ونأتي الفواحش ونقطعُ الأرحام ونُسيءُ الجِوار ويأكلُ القويُّ الضعيفَ حتى بعثَ الله إلينا رسولًا  منا نعرفُ نَسَبَه وصِدقه وأمانته وعفافَه فدعانا إلى الله لنوَّحِدَه ونخلَعَ ما كان يعبد ءاباؤنا من الحجارةِ والأوثان، وأمرَنا بصِدق الحديث وأداءِ الأمانة وصلةِ الارحام وحُسْنِ الجوار والكفِ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقولِ الزور وأكْلِ مال اليتيم وقذفِ الْمُحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وبالصلاةِ والزكاةِ والصيام، فآمنّا به واتَبَعْناه فَعَدا علينا قومُنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليرُدونا إلى عبادة الأوثان واستحلال الخبائث، فلما قَهرونا وحالوا بيننا وبين دينِنا خرجْنا إليك واخترناك على من سواك ورَجوْنا أن لا نُظلَمَ عِنْدَك، فقال النجاشي: هل معك مما جاء به نبيكم عن الله شيء قال: نعم فقرأ شيئا من القرءان الكريم العظيم فَبَكى النجاشيُ وبكتْ أساقفَتُهُ حتى أخْضَلوا لحاهم أي بَلُوها بالدموع ثم قال النجاشي: واللهِ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مِشْكَاةٍ واحدة، انطلِقا فلا أُسَّلِمُهم أبدًا، فلما خرج قال عمرو بنُ العاص: لآتِيَنَهُ غدًا بما استأْصَلَ به خضراءَهم، ثم غَدا عليه فقال: إنهم يقولون في عيسى قولًا عَظيمًا فأرْسل إليهم فسَألهم فقال جعفر: نقولُ الذي جاء به نبيُّنا هو عبدُ الله ورسولُه وكلمته ألقاها إلى مريمَ العذراءِ البتول، فقال النجاشيُ عندها: رُدوا عليهما هداياهُما فلا حاجةَ لي بها، ثم قال للمسلمين مرحبًا بكم وبمن جئْتُم من عنده، فخَرَج الكافران مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقام الْمُسلمون عند النجاشيِ بخير واستمروا حتى قدِموا على المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ بخير. وليعلم أن أصحمة النجاشي أسلم بعد ذلك بمدة، عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم له رسالة مع عمرو بنِ أميّة الضمَمي يدعوه إلى الإسلام، فلما وصل الكتابُ إلى النجاشي أخذَه ووضعَه على عينيْه ثمّ نزَل عن سريرِه فجلسَ على الأرضِ وقرأ الرسالة وأسلم لله تعالى وحسن إسلامه، ولَمّا ماتَ قالَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: “ماتَ اليوم أخوكُمُ النجاشي فصَلّوا عليه”. فصَلَّوا عليه صلاةَ الغائب. تغيَّظ الْمَلأُ من قريشَ على النبيّ عليه السلام وعلى أصحابه في هلالِ الْمُحَرم سنةَ سبعٍ منَ البعثة لما بلغهم إكرامُ النجاشي لأصحابه وردُ هديَتِهم عليهم، وكتبوا كتابًا على بني هاشم وعُلِقَ في الكعبة وكان كاتبَ الصحيفة البَغِيضُ ابنُ عامر بنِ هاشم بنِ عبدِ منافٍ بن عبدِ الدار بن قُصَي، فكان مما كتب: أن قريشًا لا تُناكحُهم ولا تُبايعهُم ولا تُخالطُهُم إلا أن يُسَلِّمُوا مُحمدًا ليُقْتَل، فأبى بنو هاشم وظاهرَهُم بنو الْمُطلب، وأجمع المشركونَ على إخراجهم من مكةَ إلى شِعْبِ أبي طالب فحَصَروا بني هاشمٍ وبني المطلّبِ فيه مؤمنَهم وكافرَهم فالمؤمنُ دينًا والكافرُ حَمِيَّةً، وكان دخولهُم فيه حينَ أهلَّ هلالُ الْمُحرم عامَ سبعٍ من البِعثة، وخرج أبو لهبٍ إلى قريش فظاهَرهم على أهلِه وقطعوا عنهمُ الْمِيرَة والمارة ومنعوا عنهم الأسواق وأصّروا على أن لا يقبلوا منهم صُلحًا أبدًا ما لم يُسّلِموا محمدًا ليُقتل، وصار الْمُحْصَرون لا يخرجون إلا من الموسم إلى الموسم فقاسَوْا بذلك جهدًا أي مشقةً وبلاء، ومكثوا فيه ثلاثَ سنين مع ضيقِ العَيْشِ والجُوعِ والأَذَى. وسَمِعَ كُفارُ قُريش أصْواتَ صِبيانِهم يتضاغَوْنَ من وراءِ الشِعْب من شدةِ الجوع فساءَ ذلك بعضَهم وَتَلاوَمَ قومٌ من قُصَيٍ ممن ولدته بنو هاشم ومن سواهُم، فمشى العاصُ بنُ هشام والْمُطْعِم بن عَدِي وهشامُ بنُ عمر بن الحارث العامري وزُهيْر بن أُمَية في نقْضِ ذلك فلبِسوا السلاح وأخرجوهم من الشِعب مُرغمين لمن خَالَفهم في ذلك، هذا ما حكاه بعضُ أهلِ السيَّر، وساقَ أبو الفَتْحِ بنُ سيِّد الناس القصةَ على وجهٍ ءاخر وهو أنه لما اشتدَّ عليهمُ البلاء أطْلَع الله رسوله عليه السلام على أنّ الأَرَضَةَ أَكَلَتْ جميعَ ما في الصحيفة من ظلمٍ وشرك وقطيعةِ رحم وبُهتان فلمْ يبْقَ منه شيءٌ وبَقِيَ ما فيها من ذكرِ الله ورسوله كما كُتِب لم يتغيَّر منه شَيْء، فأخبر المصطفى عليه السلام بذلك عمَّه أبا طالب فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كَذَّبْتَني، فانطلقَ في عصابةٍ من بني عبدِ المطلب حتى أتوْا المسجد فَظَنت قريشُ أنهم خرجوا من شدةِ البلاء ليُسَّلموا رسولَ الله إليهم ليُقْتل، فقال أبو طالب: يا معشرَ قريش قد جرت أمورٌ بيننا وبينَكم لم نذْكُرْها فائْتوا بالصحيفةِ التي فيها مواثيقُكم فلعلَّ أن يكون بيننا وبينكم صُلْح فأتوْا بها مُعجبين لا يَشكُونَ أن محمدًا يُدْفَعُ إليهم، فَوَضَعُوها بينهم وقالوا لأبي طالب: قد ءانَ لكم أن تَرْجِعوا عما أحْدَثْتُم علينا وعلى أنفُسِكم فقال: إنما أتَيْتُكم في أمرٍ هو نصفٌ بيننا وبينَكم أخبرَني ابنُ أخي أن هذه الصحيفةَ بَعثَ اللهُ عليها دابةً فلم تترُك فيها إلا ذكْرَ الله ورسولِه فإن كان كما قال فلا واللهِ لا نُسَّلِمُه حتى نموتَ من عندِ ءاخرِنا، وإن كان باطلًا دفعْناهُ إليكم فقتلتُم أو استحيَيْتُم، قالوا: رضينا بالذي تقول ففتحوها فوجدوا الصادقَ الْمَصْدوق أخْبَرَ بخَبَرِها قبل فتْحِها فقالوا: هذا سِحْر، هذا سحرُ ابنِ أخيك وزادهُم بَغْيًا وعُدوانًا، ولما وَقَعَ ذَلِكَ في يَدَي البَغِيض كاتبِ الصَحيفة شُلَّت يدُه، وكان خروجُهم من الشِعب في عام عشَرةٍ مَضَتْ من البِعثة.   وفي تلك السنة توفي أبو طالب عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم ثم توفيت خديجة زوجةُ الرسول صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما –واللفظ للبخاري- عن سعيد بن المُسيَّب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرَتْ أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدَ الله بن أبي أُمَية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عَم، قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبدُ الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغبُ عن ملةِ عبد المطلب؟ فلم يَزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعرِضُها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالبٍ ءاخرَ ما كلمهم أنّه على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فلما مات نالتْ قريشٌ من المصطفى ما لم تكن تناله ولا تَطْمعُ فيه، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا فدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيتَه والترابُ على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلتْ تغسِلُ عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بُنَيَة فإن اللهَ مانعُ أباك، ويقول بيْنَ ذلك: ما نالت مني قريشٌ شيئًا أكرهُه حتى مات أبو طالب ، ثم قال أبو جهل: أعاهدُ الله لأجلِسَن له غدًا بحجر ما أطيقُ حمله فإذا سجدَ في صلاته رضخْتُ به رأسه فأسلِموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: لا نُسلِمُك أبدًا فامضِ لما تريد، فلما أصبح أخذ حجرًا كما وصف ثم قعد ينتظره، وغدا رسول الله عليه السلام كما كان يغدو فلما جلس احتمل أبو جهلٍ الحجر حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونُه مرعوبًا قد يبِست يداه على حجرِه حتى قذفه من يدِه وقامتْ إليه رجالٌ قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم قال: قمتُ إليه لأفعل ما قُلْت فلما دنوت منه عَرَض لي دونه فحلٌ من الإبل ما رأيتُ مثل هامته فهمّ بيَ أن يأكلَني فقال المصطفى عليه السلام: ذاك جبريل لو دنا لأَخَذَه. ثم انضم إلى ذلك موتُ خديجةَ أمِ المؤمنين فإنه تلا موتَ أبي طالبٍ بثلاثة أيام وهي المرْضِيَةُ عند المصطفى عليه السلام فقد كانت وزيرَ صدق على الإسلام وكان المصطفى يسْكُنُ إليها. وعَسُرَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقْدُ هذين الشفوقين المُساعدين القائمين معه، ونالت قريشٌ منه من الأذى ما لم تطمع فيه من قبل، وحزِن لموتهما حُزنًا شديدًا ، وأقلّ الخروج ولزِمَ بيته، ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف ومعه زيد بن الحارث يلتمسُ النُصْرة والْمَنَعَة من ثَقِيف فأقام بالطائف عشرة أيام فما ترك أحدًا من أشرافهم إلا اجتمعَ به، فلم يُجيبوه وسلطوا سُفهاءهم وصِبيانهم عليه فقَعَدوا له بالطريق صفين يضربونه بالحجارة في رجليْه حتى أدْموْهما وزيدٌ يقيهِ بنفسه حتى شُجَّ في رأسه، فلما خلُصَ عمَدَ إلى حائطٍ فاستظل في ظلِّ حَبَلَةِ شجرةِ عِنَب وكان فيه عُتبة وشيْبة ابنا ربيعة فَكَرِهَ مكانهما لما يعلم من عدواتهما له فقال: اللهم إليك أشكو ضَعف قوتي وقِلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت ربُّ الْمُستضعفين وأنت ربي فأرسل الله جبريل ومعه ملك الجبال فقال: إن شئت أطبقت عليهم الاخشبين فقال: لا بل أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبدُ الله، فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحِمُهما فبعثا قِطَفًا من عنبٍ مع غلام لهما نصراني اسمه عَدّاس فلما وضَعَهُ بين يديه قال: بسم الله ثم أكل فنظر عَدَاسٌ في وجهه ثم قال: إن هذا الكلام لا يقولُه أهلُ هذه البلاد فقال له المصطفى عليه السلام: ومن أيّ البلاد أنت قال: نصرانيٌ من أهل نينَوَى قال: أمِن قرية الرجل الصالح يونسَ بنِ متى؟ قال: وما يُدريك ما يُونُس قال: ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبيّ فأسلم عداس وانكب عليه فقبَلَ رأسه ويديه فلما جاءهما قالا: ما لك تُقَبِّلُ رأسه ويديه قال: ما في الأرضِ خيرٌ منه قد أعلمني بأمرٍ لا يعلمُه إلا نبيّ. ولما انْصرف المصطفى عليه السلام من الطائف راجعًا إلى مكة نَزَل إلى نخْلة فقام يُصلي من الليل وكان إذ ذاك مضى له من عُمُره خمسونَ سنة وثلاثةُ أشهر، جاءه جنُّ نَصِيبِين من نِينَوَى  وهم تِسْعَة وكان يُصلي فاستمعوا لقراءتِه فلما فرَغ أسْلَموا وولَّوْا إلى قومهم مُنذرين فأنزل الله: {وإذْ صَرَفْنا إليكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ}  إلى آخر الآية. وروي من حديث أبي الْمُعلّى عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله عليه السلام قبل الهجرة إلى نواحي مكة فخط ليَ خطًا وقال: لا تُحْدِثنَّ شيئًا حتى ءاتِيَك ثم قال: لا يُروِعَنَّكَ شيءٌ تراه ثم جلس فإذا رجالٌ سود كأنهم رجالٌ الزِط –وهو جبلٌ أسوَد من الهند- وكانوا كما قال الله: {كادوا يكونونَ عليهِ لِبَدًا} فلَوِددت أن أقومَ فأذِبُّ عنه بالغًا ما بلغتُ ثم ذكرتُ عهده فمَكَثْت ثم تفرقوا فسمعتهم يقولون: يا رسول الله شُقَّتُنا بعيدةٌ ونحن مُنطلقون فزوِّدْنا إلى أخر الحديث، وفيه: فلما ولّوْا قلت: من هؤلاء؟ قال: جنُ نَصِيبين.