#10 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
الحمد لله العزيز الجبار والصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار وعلى آله وأصحابه الأخيار. أما بعد، رَوَى أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْعِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ ءَادَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِى طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِى إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى بِى وَرُؤْيَا أُمِّى الَّتِى رَأَتْ وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ. وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ.قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ عَقِبَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ ءَادَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِى طِينَتِهِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِى قَضَاءِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اهـ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِىُّ بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ قَالَ «دَعْوَةُ أَبِى إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى بنِ مَرْيَمَ وَرَأَتْ أُمِّى أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ». وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «رَأَتْ أُمِّى حِينَ وَضَعَتْنِى سَطَعَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى». وَيُرْوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَضَعَتْهُ ءَامِنَةُ وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَخَرَجَ مَعَهُ نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ حَتَّى رَأَتْ أُمُّهُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى. أَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «دَعْوَةُ أَبِى إِبْرَاهِيمَ» فَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ثُمَّ قَالَ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ فِى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ الرَّسُولَ الَّذِى سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «وَبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» فَهُوَ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ بَشَّرَ قَوْمَهُ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْءَانُ الْكَرِيمُ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ . وليعلم أنه قد ظَهَرَتْ لِمَوْلِدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ءَايَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادِهِمْ إِلَى هَانِئٍ الْمَخْزُومِىِّ قَالَ «لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى أي اهْتَزَّ، وَسَقَطَ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً وَخَمَدَتْ نَارُ الْفُرْسِ وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَة أي جفت… » وَفِى سُقُوطِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا وَكَانَ ءَاخِرُهُمْ فِى خِلافَةِ عُثْمَانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا نَارُ فَارِسٍ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالَّتِى كَانَتْ تُوقَدُ وَتُضْرَمُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَانْطَفَأَتْ. وَأَمَّا بُحَيْرَةُ سَاوَةَ الَّتِى كَانَتْ تَسِيرُ فِيهَا السُّفُنُ فَقَدْ جَفَّ مَاؤُهَا. وَمِنَ الآيَاتِ الَّتِى ظَهَرَتْ لِمَوْلِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ رُمِيَتْ وَقُذِفَتْ بِالشُّهُبِ مِنَ السَّمَاءِ وَحُجِبَ عَنْهَا خَبَرُ السَّمَاءِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ وَالْمَحْفُوظَ أَنَّ قَذْفَ الشَّيَاطِينِ بِالشُّهُبِ كان عِنْدَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّ إِبْلِيسَ حُجِبَ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَصَاحَ وَرَنَّ رَنَّةً عَظِيمَةً كَمَا رَنَّ حِينَ لُعِنَ وَحِينَ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَحِينَ وُلِدَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَ نَزَلَتِ الْفَاتِحَةُ. وليعلم يا أحبابنا أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أمرٌ مشروع وجائزٌ في دين الله وهو عمل يحبه الله تعالى لاحتوائه أنواعا من الخيرات. فمن هذه الخيرات اجتماع الناس على الخير وهذا مما يقوي وينمي التكاتف والتآلف والتضامن والتعاون الذي لا بد منه لوحدة المسلمين. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يد الله مع الجماعة. أي البركة مع الجماعة. ومن الخيرات التي تحصل في المولد قراءة القرءان وقد قال الله تعالى: فاقرءوا ما تيسر من القرءان. ومن الخيرات التي تحصل في المولد ذكر الله وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا . ومن الخيرات التي تحصل في المولد الصلاة على النبي وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. ومن الخيرات التي تحصل في المولد توزيع الشراب الحلال والطعام الحلال وقد قال الله تعالى: و يطعمون الطعام على حبه. ومن الخيرات التي تحصل في المولد إعطاء درس ديني فيه تعليم وتذكير للناس بتقوى الله وقد قال الله تعالى: وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ومن الخيرات التي تحصل في المولد مدح الرسول لا سيما وقد مدح الله نبيه في القرءان الكريم في كثير من الآيات التي منها وإنك لعلى خلق عظيم. وقد أمرنا الله بتعظيم حبيبه محمد وتفخيمه واحترامه وتوقيره، يقول تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه. تعزروه أي تعظموه. ومن تعظيم النبي مدحه صلى الله عليه وسلم. وفي آية أخرى مدح الله الذين يعظمون الرسول فقال سبحانه وتعالى: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. هذا ما يحصل في المولد النبوي الشريف وليس فيما ذكرناه ما ينكره مسلم. فاحتفلوا بالمولد وأكثروا من الخطبِ والأناشيدِ والأشعارِ في مدحِ خيرِ البريةِ واعلموا أن هذه الاحتفالاتِ التي يقومُ بها المسلمونَ في شهرِ ربيعِ الأول من كلِ سنةٍ بمناسبةِ المولدِ الشريفِ في بلاد المغربِ العربي ومصرَ وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن وتركيا وبنغلادش والهند وباكستان وروسيا وأندونيسيا وغيرِها دليلٌ على أن المسلمين لا يعبأون بأفكار من يُحرّمُ المولد وأن هؤلاء منبوذون ممقوتون لا عِبرة بكلامهم ولو ملؤوا السهل والجبل.فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَفْظُهُ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ مَخْصُوصٌ بِدَلِيلِ قول النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ وقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَأَفْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «مَا لَيْسَ مِنْهُ» أَنَّ الْمُحْدَثَ إِنَّمَا يَكُونُ رَدًّا أَىْ مَرْدُودًا إِذَا كَانَ عَلَى خِلافِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُوَافِقَ لِلشَّرِيعَةِ لَيْسَ مَرْدُودًا. فَيُقَالُ إِنَّ مُرَادَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله وكلّ بدعة ضلالة مَا أُحْدِثَ عَلَى خِلافِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإِجْمَاعِ أَوِ الأَثَرِ. فمِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا الْعَمَلُ لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا فِيمَا يَلِيهِ إِنَّمَا أُحْدِثَ فِى أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ لِلْهِجْرَةِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَلِكُ إِرْبِلَ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الْمُظَفَّرُ. جَمَعَ لِهَذَا كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْعُلَمَاءُ فِى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ وَتِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُمْ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ فِى فَتَاوِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْمَوْلِدِ حَدَثَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ ثُمَّ لا زَالَ أَهْلُ الإِسْلامِ مِنْ سَائِرِ الأَقْطَارِ فِى الْمُدُنِ الْكِبَارِ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ وَيَتَصَدَّقُونَ فِى لَيَالِيهِ بِأَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ وَيَعْتَنُونَ بِقِرَاءَةِ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضْلٍ عَمِيمٍ. وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا حُسْنَ الْمَقْصِدِ فِى عَمَلِ الْمَوْلِدِ قَالَ «فَقَدْ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مَا حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ وَهَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ وَهَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ أَوْ لا وَالْجَوَابُ عِنْدِى أَنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِى هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَرِوَايَةُ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِى مَبْدَإِ أَمْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا وَقَعَ فِى مَوْلِدِهِ مِنَ الآيَاتِ ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ [وَهُوَ شَىْءٌ يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ] يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِى يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِل الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ كَوْكَبْرِى بنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِىُّ بنُ بَكْتَكِين أَحَدُ الْمُلُوكِ الأَمْجَادِ وَالْكُبَرَاءِ الأَجْوَادِ وَكَانَ لَهُ ءَاثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ الَّذِى عَمَّرَ الْجَامِعَ الْمُظَفَّرِىَّ بِسَفْحِ قَاسْيُون» اهـ. وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِى تَارِيخِهِ «كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ يَعْنِى الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ فِى رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. قَالَ وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِى الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ سَمَّاهُ التَّنْوِيرَ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِى الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفِرَنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ» اهـ. وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان فِى تَرْجَمَةِ الْحَافِظِ ابْنِ دِحْيَةَ «كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَمَشَاهِيرِ الْفُضَلاءِ قَدِمَ مِنَ الْمَغْرِبِ فَدَخَلَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَاجْتَازَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَوَجَدَ مَلِكَهَا الْمُعَظَّمَ مُظَفَّرَ الدِّينِ بنَ زَيْنِ الدِّينِ يَعْتَنِى بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ فَعَمِلَ لَهُ كِتَابَ التَّنْوِيرِ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَأَجَازَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ» اهـ. وقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ «وَقَدِ اسْتَخَرَجَ لَهُ أَىِ الْمَوْلِدِ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَنَا أَصْلًا ثَانِيًا… » اهـ. فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاحْتِفَالَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَلا وَجْهَ لإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى سُنَّةً حَسَنَةً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ» وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ وَارِدًا فِى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَنَّ جَمَاعَةً أَدْقَعَ بِهِمُ الْفَقْرُ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُمْ يَلْبَسُونَ النِّمَارَ مُجْتَبِيهَا أَىْ خَارِقِى وَسَطِهَا أي خَرَقُوا وَسَطَهَا ولبسوها لِيَسْتُرُوا بِهَا عَوْرَاتِهِمْ من شدة الفقر، فالصحابة الكرام جمعوا فَاجْتَمَعَ لَهُمْ شَىْءٌ كَثِيرٌ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ لِذَلِكَ فَقَالَ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ … » الْحَدِيثَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُكَابِرٌ. فإذن وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل وهو الموافق للعام الرومي 571 وأرضعته أمّه أول الأمر ثم أرضعته ثُوَيْبَة. وهذه ثويبة كانت جارية عند عمه أبي لهب الملعون ثم لما أخبرته أنه وُلِد لأخيه ولدٌ فرح فأعتقها، لكنَّ اللهَ ما شاءَ لهُ السعادة، وبعدَ أنْ نزَلَ الوحيُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عاداهُ عداءً شديدًا، وهنا يَجْدُرُ بنا أن نحذركم من أمر قد انتشر بين بعض الناس ويذكرونه وقت المولد النبوي الشريف وهو خبر لا يصح ولا يجوز اعتقاده. وهو أن أبا لهب الملعون يُخَفَّفُ عنه عذاب جهنم كل يوم اثنين على زعمهم لأنه أعتق ثويبة في يوم مولد الرسول وكان يوم الاثنين. يقولون على زعمهم يخرج من إبهامه ماءٌ بارد فيشربه فيُخفف عنه العذاب لأنه فرح بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يكون ولا يجوز اعتقاده فإن الله تعالى قال في القرءان الكريم: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا. العباسُ رُويَ عنهُ أنهُ رأى ذلك في رؤيا المنام، والرؤيا لا تَثْبُتُ فيها الأحكامُ الشرعية. فلينتبه لذلك ولا تجركم العواطف إلى تكذيب صريح القرءان ومعاندة الإجماع فإن الحق أحقُ أن يُتبَع. البعضُ يُورِدُ هذه القصةَ في مناسبةِ الموْلِدِ لِبيانِ فضلِ يومِ موْلِدِهِ وهذا في غيرِ محلِّهِ، وخارجٌ عنْ قانونِ الشرعِ لا يُوافقُ شرعَ اللهِ تعالى. فإذن وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل وهو الموافق للعام الرومي 571 وأرضعته أمّه أول الأمر ثم أرضعته ثُوَيْبَة، وأرْضَعَتْ معهُ حمزَةَ بنَ عبدِ المُطلِب عمَّه وعبدَ اللهِ بنَ عبدِ الأسدِ المَخْزوميّ، أرْضَعَت الثلاثة مع ولدِها مَسْروح، فهؤلاءِ الأربعة النبيّ وعمُّهُ حمزة والاثنان الباقيان كلُّهم إخوةٌ منَ الرَّضاع. وكان من عادة العرب أن يجلبوا المرضعات لأولادهم، وكان بنو سعد في ضيق من العيش فقدموا إلى قبيلة قريش ليأخذوا الأولاد للإرضاع بالأجرة، فعُرض النبي صلى الله عليه وسلم على المرضعات فلم ترض واحدةٌ منهن بأخذه لأنه كان يتيما، وكانت كلُ مرضعةٍ تأمل أن تحظى بولد من أولاد الأغنياء، فأخذت كلُ مرضعة ولدا ولم يبق سوى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذته حليمةُ بنتُ أبي ذُئَيْبٍ السّعديّة. وقد ذكرت حليمةُ أمرَ رَضاعه منها عليه الصلاة والسلام فقالت: خَرَجْتُ فِى نِسْوَةٍ مِنْ بَنِى سَعْدِ بنِ بَكْرٍ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ عَلَى أَتَانٍ لِى [وَهِىَ الأُنْثَى مِنَ الْحَمِيرِ] قَمْرَاءَ [الْقُمْرَةُ لَوْنٌ إِلَى الْخُضْرَةِ أَوْ بَيَاضٌ فِيهِ كُدْرَةٌ] فِى سَنَةٍ شَهْبَاءَ [يَعْنِى سَنَةَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ] لَمْ تُبْقِ شَيْئًا وَمَعِى زَوْجِى وَمَعَنَا شَارِفٌ لَنَا [أَىْ نَاقَةٌ مُسِنَّةٌ] وَاللَّهِ إِنْ تَبِضَّ لَنَا بِقَطْرَةٍ مِنْ لَبَنٍ وَمَعِى صَبِىٌّ لِى لا نَنَامُ لَيْلَتَنَا مِنْ بُكَائِهِ مَا فِى ثَدْيَـىَّ مَا يُغْنِيهِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ لَمْ يَبْقَ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ وَإِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو كَرَامَةَ الرَّضَاعَةِ مِنْ وَالِدِ الْمَوْلُودِ وَكَانَ يَتِيمًا وَكُنَّا نَقُولُ يَتِيمٌ مَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أَمُّهُ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ صَوَاحِبِى امْرَأَةٌ إِلَّا أَخَذَتْ صَبِيًّا غَيْرِى فَكَرِهْتُ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ ءَاخُذْ شَيْئًا وَقَدْ أَخَذَ صَوَاحِبِى فَقُلْتُ لِزَوْجِى وَاللَّهِ لَأَرْجِعَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ قَالَتْ فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُهُ وَرَجَعْتُ إِلَى رَحْلِى فَقَالَ زَوْجِى قَدْ أَخَذْتِهِ فَقُلْتُ نَعَمْ وَاللَّهِ وَذَلِكَ أَنِى لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ فَقَالَ أَصَبْتِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ خَيْرًا فَقُلْتُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ جَعَلْتُهُ فِى حِجْرِى فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَـىَّ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ اللَّبَنِ فَشَرِبَ حَتَّى رَوِىَ وَشَرِبَ أَخُوهُ تَعْنِى ابْنَهَا حَتَّى رَوِىَ وَقَامَ زَوْجِى يَلِى شَارِفَنَا مِنَ اللَّيْلِ فَإِذَا بِهَا حَافِلٌ [أَىْ مُمْتَلِئَةَ الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ] فَحَلَبْنَا مِنَ اللَّبَنِ مَا شِئْنَا وَشَرِبَ حَتَّى رَوِىَ وَشَرِبْتُ حَتَّى رَوَيْتُ وَبِتْنَا لَيْلَتَنَا تِلْكَ شِبَاعًا رِوَاءً وَقَدْ نَامَ صَبِيَّانَا. قَالَتْ قَالَ أَبُوهُ تَعْنِى زَوْجَهَا وَاللَّهِ يَا حَلِيمَةُ مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ أَصَبْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَدْ نَامَ صَبِيَّانَا. قَالَتْ ثُمَّ خَرَجْنَا قَالَتْ وَاللَّهِ لَخَرَجَتْ أَتَانِى أَمَامَ الرَّكْبِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ وَيْحَكِ كُفِّى عَنَّا أَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَتَانِكِ الَّتِى خَرَجْتِ عَلَيْهَا فَأَقُولُ بَلَى وَاللَّهِ وَهِىَ قُدَّامَنَا حَتَّى قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ حَاضِرِ بَنِى سَعْدِ بنِ بَكْرٍ فَقَدِمْنَا عَلَى أَجْدَبِ أَرْضٍ فَوَالَّذِى نَفْسُ حَلِيمَةَ بِيَدِهِ إِنْ كَانُوا لِيُسَرِّحُونَ أَغْنَامَهُمْ إِذَا أَصْبَحُوا وَيُسَرِّحُ رَاعِى غَنَمِى فَتَرُوحُ بِطَانًا لُبَّنًا [أَىْ غَزِيرَاتِ اللَّبَنِ] حُفَّلًا وَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ. قَالَتْ فَنَشْرَبُ مَا شِئْنَا مِنَ اللَّبَنِ وَمَا فِى الْحَاضِرِ أَحَدٌ يَحْلِبُ قَطْرَةً وَلا يَجِدُهَا فَيَقُولُونَ لِرِعَائِهِمْ وَيْلَكُمْ أَلا تُسَرِّحُونَ حَيْثُ يُسَرِّحُ رَاعِى حَلِيمَةَ فَيُسَرِّحُونَ فِى الشُّعَبِ الَّذِى نُسَرِّحُ فِيهِ فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا بِهَا مِنْ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِى لُبَّنًا حُفَّلًا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشِبُّ فِى الْيَوْمِ شِبَابَ الصَّبِىِّ فِى الشَّهْرِ وَيَشِبُّ فِى الشَّهْرِ شِبَابَ الصَّبِىِّ فِى سَنَةٍ فَبَلَغَ سَنَةً وَهُوَ غُلامٌ جَفْرٌ [أَىْ شَدِيدٌ] قَالَتْ فَقَدِمْنَا عَلَى أُمِّهِ فَقُلْتُ لَهَا أَوْ قَالَ لَهَا أَبُوهُ رُدِّى عَلَيْنَا ابْنِى فَلْنَرْجِعْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ قَالَتْ وَنَحْنُ أَضَنُّ شَىْءٍ بِهِ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ بَرَكَتِهِ. قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ حَتَّى قَالَتْ ارْجِعَا بِهِ فَرَجِعْنَا بِهِ فَمَكَثَ عِنْدَنَا.