السبت أبريل 5, 2025

عُمْدَةُ الرَّاغِبِ فِي مُخْتَصَرِ بُغْيَةِ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَةِ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ الْوَاجِبِ

لِخَادِمِ عِلْمِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ الْهَرَرِيِّ الْمَعْرُوفِ بالْحَبَشِيِّ

الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٤٢٩ هِجْرِيَّةِ فِي بَيْرُوتَ لُبْنَانَ

رَحِمَهُ اللهُ وَغَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ

شَرْحُ الشَّيْخِ جيل صادق رَحِمَهُ اللهُ

#1

بَابُ الْعَقِيدَةِ وَالرِّدَّةِ

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بَدَأ كِتَابَهُ بالبسملةِ اقْتِدَاءً بالقُرَءانِ الكَرِيم حَيْثُ إنَّ كلَّ سُورَةٍ في القُرءانِ الكَريمِ تَبْدأُ بالبسملةِ سِوَى سورَةِ بَراءَة (التوبة) التي نَزَلَت في الحَضِّ الشَّديدِ عَلى قِتَالِ الكُفَّارِ فَلا يَجوزُ قِراءَةُ البَسْمَلَةِ أوَّلَهَا. وَعَمَلًا بِمَا جَاءَ فيِ الحَدِيثِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ فَفِي رِوَايَةٍ “كلُّ أمْرٍ ذي بَالٍ (أيْ لَهُ شَرفٌ في الشَّرْع) لاَ يُبْدأُ فيه بِبِسْمِ اللهِ فَهُوَ أقْطَع” وَفي رِوَايَةٍ ثانِيَة “كُلُّ أمْرٍ ذي بَالٍ لا يُبْدأُ فيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أقْطَع” أيْ نَاقِصٌ عَنِ الكَمَالِ. والابْتِدَاءُ بِهَا سنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَذَلِكَ في كُلِّ أمْرٍ لَهُ شَرَفٌ شَرْعًا سِوَى مَا لَمْ يَرِد فيهِ ذلِكَ بَلْ وَرَدَ فيهِ غَيْرُهَا كالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فإنَّهُ لا يُشْرَعُ بَدأُهَا بالبَسْمَلَةِ بَلِ الصَّلاةُ بالتَّكبيرِ والدُّعَاءُ يُبْدأُ بِالحَمْدَلَةِ.

وليُعلَم أنَّ الْبَسْمَلَةَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ النَّوْمِ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ الْبَدْءِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَتِلاوَةِ الْقُرْءَانِ وَتَأْلِيفِ كِتَابٍ وَعِنْدَ الذَّبْحِ وَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِيَاكِ وَالِاكْتِحَالِ وَعِنْدَ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَسَفِينَةٍ وَدُخُولِ بَيْتٍ وَمَسْجِدٍ وَالْخُرُوجِ مِنْهُمَا وَعِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ مِنْبَرًا وَعِنْدَ دُخُولِ الْخَلاءِ وَلُبْسِ ثَوْبٍ وَنَزْعِهِ وَغَلْقِ بَابٍ وَإِطْفَاءِ مِصْبَاحٍ وَعِنْدَ تَغْمِيضِ عَيْنِ مَيِّتٍ وَعِنْدَ وَضْعِهِ فِى قَبْرِهِ. وَيَنْفَعُ لِتَيْسِيرِ الرِّزْقِ أَنْ تُكْتَبَ الْبَسْمَلَةُ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ خَمْسًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً وَتُعَلَّقُ فِى الْبَيْتِ أَوِ الدُّكَّانِ، نَفْعُهَا عَظِيمٌ.

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى (بِسْمِ اللَّهِ) أَبْتَدِئُ بِاسْمِ اللَّهِ (ذَاكِرًا لِاسْمِ اللَّهِ مُتَبَرِّكًا بِاسْمِ اللَّهِ. أَقْراُ بِاسْمِ الله أيْ أتَبَرَّكُ في قِراءَتي بِاسْمِ الله أوْ أسْتَعينُ بِاسْمِ الله. وَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ مُصَنَّفَهُ بِالْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ تَصْدِيرِ مُؤَلَّفَاتِهِمْ وَمَكَاتِيبِهِمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الْعَظِيمَةِ).

وَلَفْظُ الْجَلالَةِ (اللَّهُ) عَلَمٌ (أي اسمٌ) لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ (أي المستحقّ للعبادة) (الذَّاتُ إذا أُطْلِقَ عَلى اللهِ كَانَ بِمَعْنَى الحَقيقَةِ وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ اللهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الجِسْم) وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ أَيْ إِبْرَازِ الْمَعْدُومِ إِلَى الْوُجُودِ (هكذا قالَ الإمامُ أبو الحسنِ الأشعَرِيُّ) فَيَكونُ مَعْنَى لا إلهَ إلَّا الله لا أحَدَ يَقْدِرُ أنْ يَخْلُقَ إلَّا الله هَذَا أحَدُ التَّفْسيرَيْن، التَّفسيرُ الثَّانِي “لا أحَدَ يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ إلَّا الله” وكُلٌّ حَسَن، لكن تَفْسيرُ أبي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ أحْسَنُ لأنَّ فيهِ زِيادَةُ فَائِدَةٍ، فيهِ زِيادَةُ إظْهَارِ مَعْنَى أَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَخْلُقُ شَيْئًا إلَّا اللهُ، وَإِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الخَالِقُ لِكُلِّ شىءٍ إذًا اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ للعِبَادَة، لأنَّ “القُدْرَةَ عَلى التَّخْليِقِ تَقْتَضي اسْتِحْقَاقَ العِبَادَةِ” (فَيَكونُ تَفسيرُ أبُو الحَسَنِ كأنَّهُ جَمَعَ الأمْرَيْنِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أنَّ مَنْ زَعَمَ أنَّ أحَدًا غَيْرَ اللهِ يَخْلُقُ شَيْئًا فَهُوَ كَافِرٌ لأنَّهُ كَذَّبَ لا إلهَ إلَّا اللهُ). كَيْفَ عَرَفْنَا أنَّ اسْمَ الجَلالَةِ الله؟ مِنْ طَريقِ الأنْبياءِ. هُمُ الذِينَ أعْلَمونَا أنَّ اسْمَ الخَاِلقِ اللهُ.

وَ(الرَّحْمٰنِ) أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ. (كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالى ﴿وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ أيْ أنَّ رَحْمَةَ اللهِ وَسِعَتْ في الدُّنْيا كُلًّا مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالكَافِرِ (هذهِ الرَّحْمَةُ العامَّةُ) أمَّا في الآخِرَةِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بالمؤْمِنينَ، لِذَلِكَ جَاءَ في الآيَةِ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَيْ الذِين يَجْتَنِبُونَ الشِّركَ وَالكُفْرَ بِجَمِيعِ أنْوَاعِهِ). (والرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ)

وَ(الرَّحِيمِ) أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ (أَيِ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾) (فَائِدَةٌ: أَسْمَاءُ اللهِ الحُسْنَى يُقَالُ لَهَا صِفَاتُ اللهِ ويُقَالُ لَهَا أَسْمَاءُ اللهِ إِلَّا لَفْظَ الجَلَالَةِ الله. لَفْظُ الجَلَالَةِ اللهُ لَا يُقَالُ لَهُ صِفَةُ الله. ثمَّ إنَّ أسماءَ اللهِ تَعالى قِسْمَانِ: قِسْمٌ لا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ وقِسْمٌ يُسَمَّى بِهِ غَيرُه. اللهُ وَالإلـٰـهُ وَالرَّحمٰنُ وَالقُدُّوسُ وَالخالِقُ وَالبارِئُ وَالرَّازِقُ وَالرَّزَّاقُ وَمالِكُ الْمُلْكِ وَذُوْ الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ وَالْمُحْيِي وَالْمُمِيْتُ لَا يُسَمَّى بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ إلَّا اللهُ. أمَّا أَكثرُ الأَسْمَاءِ فَيُسَمَّى بِهَا غَيْرُ اللهِ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ الشَّخْصُ ابنَهُ رَحِيْمًا، وَالْمَلِكُ كَذَلِكَ، والسَّلامُ كَذَلِك. وأسماءُ اللهِ الحُسنى التِسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ مَنْ حَفِظَهَا وَءَامَنَ بِهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا فَالجَنَّةُ مَضْمُونَةٌ لَهُ. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ “إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِيْنَ اسْمًا، مِائَةً إلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجَنَّةَ” رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَسْمَاءُ اللهِ الحُسْنَى بِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ يَجِبُ احْتِرَامُهَا) وَمَعْنَى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) نُثْنِي عَلَى اللَّهِ (الثَنَاءُ مَعنَاهُ المدحُ) وَنَمْدَحُهُ بِأَلْسِنَتِنَا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا نُحْصِيهَا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ (الحَمْدُ هُوَ الـمَدْحُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَدْحٍ حَمْدًا، إِنَّمَا الحَمْدُ هُوَ مَدْحٌ مَخْصُوْصٌ. إِذَا كَانَ وَاحِدٌ صَوْتُهُ جَمِيْلٌ، تَمْدَحُهُ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَلَا تَقُوْلُ فِي لُغَةِ العَرَبِ حَمِدْتُ حُسْنَ صَوْتِهِ، لِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ لَيْسَ شَيْئًا هُوَ فِعْلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، إِنَّمَا إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ بِنَوْعٍ مِنَ الإِحْسَانِ تَقُوْلُ حَمِدْتُهُ عَلَى مَا فَعَلَ مَعِي، فَلَيْسَ كُلُّ مَدْحٍ حَمْدًا، إِنَّمَا الحَمْدُ مَدْحٌ مَخْصُوْصٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ) (وَلا يَحْصُلُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ الْخَالِقِ إِلَّا بِالإِسْلامِ أَيْ إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَالإِيـمَانِ بِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُ اللَّهُ، وَلا يَحْصُلُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ الْخَالِقِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِطْعَامِ الْمَسَاكِينَ وَإِغَاثَةِ الْمَكْرُوبِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ [أَيْ مِنْ دُونِ الإِيـمَانِ]). فَائِدَةٌ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ “الحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حَال” وَمَعْنَاهُ الحَمْدُ لِلَّهِ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ. بعْضُ النَّاسِ يَمْنَعُ وَهذا مِنَ الجَهْل.

وَ(رَبِّ الْعَالَمِينَ) مَعْنَاهُ مَالِكُ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ (هَذَا مَعْنَى الْعَالَمِينَ بِحَسَبِ الأَصْلِ، اسْمُ جَمْعٍ لِلْعَالَمِ وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ وَسُمِّيَ عَالَمًا لِكَوْنِهِ عَلامَةً أَيْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يَرِدُ هَذَا اللَّفْطُ بِمَعْنَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ هُنَا فِي هَذِهِ الآيَةِ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ العَالَمِيْنَ بِكُلِّ مَا سِوَى اللهِ لِأَنَّ النَّبِيَ ﷺ مَا جَاءَ لِيُنْذِرَ البَهَائِمَ وَلَا لِيُنذِرَ الجَمَادَاتِ وَلَا لِيُنْذِرَ الـمَلَائِكَةِ إِنَّمَا العَالَـمُونَ هُنا الإِنْسُ وَالجِنُّ).

وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ وَأَنْ يَقُولَ إِذَا اسْتَيْقَظَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ مَعْنَاهُ نَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ جَعَلَنَا نَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِنَا وَنَعِيشُ وَلَمْ يُمِتْنَا وَنَحْنُ نَائِمُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحْيِينَا بَعْدَ مَوْتِنَا لِلْبَعْثِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ إِذَا عَطَسَ أَوْ أَرَادَ الدُّعَاءَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَنْ يَقُولَ إِذَا رَأَى مَا يَسُرُّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَات أَىْ نَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِى بِفَضْلِهِ أَدَامَ عَلَيْنَا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَأَنْ يَقُولَ إِذَا رَأَى مَا يَسُوؤُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَىْ أَحْمَدُ اللَّهَ فِى حَالِ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَأَنْ يَقُولَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاءِ غُفْرَانَكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنِّىَ الأَذَى وَعَافَانِى أَىْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِى أَخْرَجَ مِنِّى مَا لَوْ بَقِىَ فِى جَوْفِى يُؤْذِينِى وَأَبْقَى عَلَىَّ الْعَافِيَةَ وَأَنْ يَقُولَ إِذَا رَأَى وَجْهَهُ فِى الْمِرْءَاةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِى فَحَسِّنْ خُلُقِى أَىْ كَمَا أَنَّكَ لَمْ تَجْعَلْ فِى خِلْقَتِى عَاهَةً فَجَمِّلْنِى بِالأَخْلاقِ الْحَسَنَةِ وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ إِذَا رَأَى مُبْتَلًى فِى جَسَدِهِ أَوْ دِينِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى عَافَانِى مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِى عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلا أَىْ أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِى عَافَانِى مِنَ الْبَلاءِ الَّذِى ابْتَلاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِى بِالنِّعَمِ الَّتِى أَنْعَمَ بِهَا عَلَىَّ وَلَمْ يَبْتَلِنِى بِمَا ابْتَلَى بِهِ خَلْقًا كَثِيرًا.

وَ(الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ) أَيِ الَّذِي قَدَّرَ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ (التَّدْبِيرُ وَالتَّقْدِيرُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ جَعْلُ كُلِّ شَىْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، التَّدْبِيرُ مَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ، وَالْقَدَرُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ تَدْبِيرُ اللَّهِ الأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيُوجِدُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ. الْمُدَبِّرُ لِـجَمِيعِ الـمَخْلُوْقِيْنَ أَيْ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. كُلُّ شَيْءٍ فِي العَالَمِ مَجْعُوْلٌ بِجَعْلِ اللهِ لَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ).

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالصَّلاةُ وَالسلامُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلانِ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّد وَعَلى ءالِهِ وَصَحْبِه.

الشَّرْحُ الصَّلاُة هُنَا مَعناهُ نَطْلُبُ مِنَ اللهِ تَعَالى أنْ يَزيدَ سَيِّدَنَا محمَّدًا تَعْظيمًا (وَشَرَفًا وَرِفْعَةً وَقَدْرًا) وأمَّا السَّلامَ فَمَعْناهُ نَطْلُبُ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ الأمَانَ مِمَّا يَخَافُهُ عَلى أُمَّتِهِ (لِأنَّهُ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ يُهِمُّهُ أَمْرُ أُمَّتِهِ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ فَالصَّلاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّبِىِّ تَعْظِيمٌ وَرِفْعَةُ قَدْرٍ وَالصَّلاةُ مِنَ الْمَلائِكَةِ دُعَاءٌ فَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ كَمَا نَحْنُ نُصَلِّى عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾ أَىْ يَرْحَمُكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يَسْتَغْفِرُونَ لَكُمْ. وَالصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا أَجْرٌ لَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ بِهَا بِلَفْظٍ صَحِيحٍ مَعَ إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى النَّبِى بِالتَّخْفِيفِ بِدُونِ تَشْدِيدِ الْيَاءِ فَلا ثَوَابَ لَهُ. وَ‏لَا يُقَالُ: “اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ”، أَيْ بِيَاءٍ، لِأَنَّ هَذِهِ اليَاءَ هِيَ يَاءُ الـمُؤَنَّـثَـةِ الـمُخَاطَبَةِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يُخَاطَبُ بِصِيْغَةِ التَّأْنِيْثِ. اللهُ تَعَالَى لَيْسَ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى وَاللهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، لَكِنْ لَمَّا يُخَاطِبُ العَبْدُ رَبَّهُ يَقُوْلُ أَنْتَ اللهُ وَلَا يَقُوْلُ أَنْتِ اللهُ، يَقُوْلُ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَلَا يَقُوْلُ اللَّهُمَّ ارْحَمِيْنِي لِأَنَّهُ لَا يَلِيْقُ بِاللهِ تَعَالَى أَنْ يُخَاطَبَ بِصِيْغَةِ التَّأْنِيْثِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَلْيَقُلْ: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ”، أَيْ مِنْ دُوْنِ يَاءِ التَّأْنِيْثِ، وَلَا يَقُلْ “اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ”، أَيْ بِيَاءٍ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَخَاصَّةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ ﷺ مَنْ صَلَّى عَلَىَّ عَصْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَمَانِينَ مَرَّةً غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُ ثَمَانِينَ سَنَةً، أَىْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ. وَيُسْتَحَبُّ الصَّلاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ ﷺ حَتَّى أَثْنَاءَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ فِى الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ وَتَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ وَمَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَنَيْلَ شَفَاعَةِ النَّبِىِّ ﷺ. وَوَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى كِتَابِ الدَّعَوَاتِ أَنَّ النَّاسَ إِذَا اجْتَمَعُوا فِى مَجْلِسٍ ثُمَّ فَارَقُوهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِىِّ يَكُونُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ فِى الآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ، أَىْ مِنْ غَيْرِ نَكَدٍ وَانْزِعَاجٍ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ حِينَ يَذْكُرُ هَذَا الْمَجْلِسَ إِنْ كَانَ فِى بَيْتِهِ أَوْ فِى الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُهَلِّلْ فِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِىِّ وَفَارَقَهُ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى مَا فَوَّتُّ هَذَا. وَمِنَ الصِّيَغِ الْمُجَرَّبَةِ لِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ ﷺ فِى الْمَنَامِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِىِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُرِّيَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى ءَالِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَتُقَالُ مِائَةَ مَرَّةٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ.

الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ مَنْ ذَكَرَنِى فَلْيُصَلِّ عَلَىَّ، رَوَاهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ فِى كِتَابِهِ الْقَوْلُ الْبَدِيعُ فِى الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ الشَّفِيعِ. الرَّسُولُ يَقُولُ مَنْ ذَكَرَنِى فَلْيُصَلِّ عَلَىَّ وَالْمُؤَذِّنُ ذَكَرَهُ. فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُ لِلصَّلاةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِىِّ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ مِنَ الأَذَانِ لِأَنَّ الأَذَانَ يَنْتَهِى بِقَوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّمَا هِىَ بَعْدَ الأَذَانِ فَهِىَ زِيَادَةٌ فِى الْخَيْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فَهُوَ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَإِذَا قَالَ الْوَهَّابِيَّةُ لِمَاذَا تَجْعَلُونَهَا عَادَةً نَقُولُ لَهُمْ إِذَا جَعَلَ الْمُؤْذِّنُ عَادَتَهُ أَنَّهُ كُلَّمَا أَذَّنَ وَانْتَهَى مِنَ الأَذَانِ الْتَفَتَ إِلَى إِخْوَانِهِ وَقَالَ لَهُمْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ كَانَ جَائِزًا، فَكَيْفَ يَكُونُ الدُّعَاءُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ جَائِزًا عِنْدَكُمْ وَلِمُحَمَّدٍ مُحَرَّمًا. الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ دُعَاءٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ (أَيْ قَلِيلُ الأَلْفَاظِ كَثِيرُ الْمَعَانِي، هَذَا حَالُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هَذَا مُرَادُهُمْ بِالِاخْتِصَارِ، أَنْ تَأْتِيَ بِالْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ، أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ قَلِيلًا وَمَعْنَاهُ وَاسِعًا) جَامِعٌ لِأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لا يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهَا مِنَ الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الْحَجِّ وَشَىْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلاتِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.

   الشَّرْحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَغْلَبُ أُمُورِ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مَعْرِفَتُهَا فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَوَاجِبَاتِ الْقَلْبِ وَمَعَاصِي الْجَوَارِحِ وَالتَّوْبَةِ. وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مَعْرِفَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ فَمَعْرِفَةُ نَسَبِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى عَبْدِ مَنَافٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ بَلْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ (أمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ) وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخْرَى فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاتِ (جَمْعُ مُعَامَلَةٍ وَهِيَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ).

   وَالْعِبَادَاتُ هِيَ الطَّهَارَةُ وَالصَّلاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ، أَمَّا الْمُعَامَلاتُ فَهِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقَرْضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

   وَأَمَّا الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ وَهُوَ قُرَشِيٌّ مُطَّلِبِيٌّ (أَجْمَعَ الْمُحَدِّثونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُوْدُ بِقَوْلِهِ ﷺ “عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلأُ طِبَاقَ الأَرْضِ عِلْمًا” لِأَنَّ الأَئِمَّةَ الثَّلاَثَةِ أبِي حَنِيفَةَ وَمَاِلكٍ وَأَحْمَد لَمْ يَكُونُوا مِنْ قُرَيْشٍ) وُلِدَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ لِلْهِجْرَةِ وَفِي أَجْدَادِهِ شَخْصٌ اسْمُهُ شَافِعٌ لِذَلِكَ لُقِّبَ بِالشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ يُقَالُ لَهُ (الْمَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ) وَمَنْ عَرَفَ مَذْهَبَهُ وَعَمِلَ بِهِ يُقَالُ لَهُ (شَافِعِيٌّ) (وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل فِي أَغْلَبِ الْمَسَائِلِ مَنْ أَخَذَ بِمَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيّ أَخَذَ بِالأَحْوَط فِي َأَمْرِ الدِّينِ وَلَكِنْ فيِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ الشَّيْخُ ذَكَرَ أنَّ الأَخْذَ بِغَيْرِ قَوْلِ الشَّافِعِيّ أَوْلَى مِثْلُ مَاذَا؟ الشَّافِعِيُّ قَالَ عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ للقُبُورِ “مَكْرُوهَةٌ” أَمَّا الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ عَنْهَا “سُنَّةٌ” وَالشَّيْخُ قَالَ الأَوْلَى الأَخْذُ بِقَوْلِ أَبي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ) (قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَالْمَذْهَبُ فِي اللُّغَةِ طَرِيقُ الذَّهَابِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ).

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ كَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ.

   الشَّرْحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أَيْ بَيَانُ ذُنُوبِ الْقَلْبِ وَذُنُوبِ الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ. (وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُونَ جَوَارِحَ سَبْعَةً، عَادَةً يَقُولُونَ الْجَوَارِحُ سَبْعَةٌ يَقُولُونَ اللِّسَانُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وَالْعَيْنُ وَالأُذُنُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَجَوَارِحُ الإِنْسَانِ أَعْضَاؤُهُ وَعَوَامِلُ جَسَدِهِ كَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَاحِدَتُهَا جَارِحَةٌ اﻫ) وَالْجَوَارِحُ جَمْعُ جَارِحَةٍ وَهِيَ أَعْضَاءُ الإِنْسَانِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ. (ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِي الْبَدَنِ أَيِ الْمَعَاصِي الَّتِي لا تَخْتَصُّ بِهَا جَارِحَةٌ بِعَيْنِهَا مِنْ جَوَارِحِ الْبَدَنِ لِيُخْتَمَ الْكِتَابُ بِفَصْلٍ عُقِدَ لِبَيَانِ التَّوْبَةِ) (أَعْمَالُ هَذِهِ الأَعْضَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْهَا مَا هُوَ حَرامٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَرضٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ وَمِنْهَا مَا هُو مُبَاحٌ، وَمِنْ أعْمَالِ القَلْبِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فإنَّ الإنْسانَ عَلَيْهِ مَسْئوليَّةٌ فيمَا أَعْطَاهُ اللهُ تَعالى مِنَ الجَوَارِح فَلا يَجوزُ أنْ يَسْتَعْمِلَهَا إلَّا في مَا أحَلَّ اللهُ تَعَالى لَهُ)

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأَصْلُ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَضْرَمِيِّينَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ ثُمَّ ضُمِّنَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ نَفَائِسِ الْمَسَائِلِ.

   الشَّرْحُ أَصْلُ هَذَا الْكِتَابِ (الأَصْلُ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمُؤَلِّفُ كِتَابَهُ الْمُخْتَصَرَ هُوَ كِتَابُ (سُلَّمُ التَّوْفِيقِ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ) كِتَابُ سُلَّمِ التَّوْفِيقِ هُوَ كِتَابٌ مُخْتَصَرٌ لِكِتَابٍ ءَاخَرَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابٍ ءَاخَرَ) لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ الْعَلَوِيِّ الْحَضْرَمِيِّ (نِسْبَةً إِلَى حَضْرَمَوْتَ فِي الْيَمَنِ) تُوُفِّيَ سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ. وَالْعَلَوِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى عَلَوِيِّ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ (وَالْعَلَوِيُّ هُنَا نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ يُقَالُ لَهُ عَلَوِيُّ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ. لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَلَوِيِّ هُنَا الْمَنْسُوبَ إِلَى سَيِّدِنَا عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، إِنَّمَا نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ اسْمُهُ عَلَوِيٌّ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَحْمَدَ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَاجَرَ إِلَى تِلْكَ النَّوَاحِيْ). ثُمَّ (كِتَابُ سُلَّمِ التَّوْفيق مَعَ اخْتِصارِهِ لَمْ يُفْرَدْ لِبَيَانِ عِلْمِ الدِّينِ الضَّروريِّ بَلْ كَانَ مَعَهُ أَشْيَاءَ أُخْرَى زَائِدَة عَلَى ذَلِكَ فَرَأَى الفَقِيْهُ الْمُحَدِّثُ الحَافِظُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحمَّدٍ الهَرَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى أَنْ يَحْذِفَ كَثيرًا مِنْ هذهِ الزَّوَائِدِ وَيُبْدِلَ بَعْضَ العِبَارَاتِ بِأَوْضَحَ مِنْهَا أَوْ بِأَقْوَى كَمَا) زَادَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى الأَصْلِ زِيَادَاتٍ جَيِّدَةً (فَاخْتَصَرَ كِتَابَ سُلَّمِ التَّوْفِيْقِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللهِ الهَرَرِيِّ الكَافِلَ بِعَلْمِ الدِّينِ الضَّرورِيّ) وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الِاخْتِصَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِينَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُلْتَزَمًا عِنْدَهُمْ أَنْ لا يُبْدِلَ الْمُخْتَصِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ بَعْضَ مَا فِي الأَصْلِ أَوْ أَنْ لا يَأْتِيَ بِزِيَادَةٍ.

   وَنَفَائِسُ الْمَسَائِلِ مَعْنَاهَا الْمَسَائِلُ الْحَسَنَةُ فَإِنَّ الشَّىْءَ الْحَسَنَ يُقَالُ لَهُ (نَفِيسٌ) (الْمُذَكَّرُ يُقَالُ لَهُ نَفِيسٌ وَمُؤَنَّثُهُ (نَفِيسَةٌ) كَقَوْلِهِمْ هَذِهِ خَصْلَةٌ نَفِيسَةٌ)

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعَ حَذْفِ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّصَوُّفِ (لَا ذَمَّا فِيهِ أَيْ لَا ذَمًّا فِي التَّصَوُّفِ بَلْ لِأَنَّ الْمُؤَلِّفَ أَفْرَدَ هَذَا الكِتَابَ لِعِلْمِ الدِّيْنِ الضَّرُوْرِيّ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ أَيِ التَّصَوُّفُ لَيْسَ مِنْهُ) وَتَغْيِيرٍ لِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِمَّا لا يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ (لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ هُوَ بَيَانُ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، تَغْيِيرُ بَعْضِ الْعِبَارَاتِ إِلَى عِبَارَاتٍ أَوْضَحَ لا يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ). وَقَدْ نَذْكُرُ مَا رَجَّحَهُ بَعْضٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ كَالْبُلْقِينِيِّ لِتَضْعِيفِ مَا فِي الأَصْلِ.

  الشَّرْحُ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَوُّفِ مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ (مَعَ كَوْنِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْرَدَ فِي مُخْتَصَرِهِ أُمُورًا لَيْسَتْ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ لِفَائِدَةٍ رَءَاهَا) وَضَعَّفَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي الأَصْلِ وَذَكَرَ مَا رَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بنُ رَسْلانَ وَكَانَ فِي عَصْرِهِ عَالِمَ الدُّنْيَا (كَانَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسٍ. وَالْبُلْقِينِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى بُلْقِينَةَ بَلْدَةٍ فِي مِصْرَ).

(تَنْبِيْهٌ: ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا رَجَحَّهُ الْبُلْقِينِيُّ لِتَضْعِيفِ مَا فِي الأَصْلِ حَتَّى لا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَ سُلَّمِ التَّوْفِيقِ أَخَذَ بِتَرْجِيحِ النَّوَوِيِّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ وَمَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِتَرْجِيحِ النَّوَوِيِّ إِذَا اخْتَلَفَ تَرْجِيحُهُ وَتَرْجِيحُ الرَّافِعِيِّ، يُقَدِّمُونَ تَرْجِيحَ النَّوَوِيِّ عَلَى تَرْجِيحِ الرَّافِعِيِّ لِهَذَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْبُلْقِينِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَعَّفَ أَحْيَانًا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْمَهَارَةِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ إِنَّ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ وَتَرْجِيحُ الرَّافِعِيِّ يُقَدَّمُ فِيهِ تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ قَالُوا هَذَا لَيْسَ عَلَى الإِطْلاقِ إِنَّمَا مِنْ حَيْثُ الْغَالِبُ، بَعْضُ الأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الأَصْلِ الَّذِي هُوَ سُلَّمُ التَّوْفِيقِ ضَعِيفَةٌ وَهِيَ مِنِ اخْتِيَارَاتِ النَّوَوِيِّ، وَالشَّافِعِيَّةُ لَهُمْ قَاعِدَةٌ يَمْشُونَ عَلَيْهَا يَقُولُونَ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْوُجُوهُ وَالأَقْوَالُ فِي الْمَذْهَبِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَاحِدًا مِنْهَا فَمَا رَجَّحَاهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَإِنِ اخْتَلَفَ تَرْجِيحُهُمَا فَالْمُعْتَمَدُ تَرْجِيحُ النَّوَوِيِّ وَلَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ قَاعِدَةً تَنْطَبِقُ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ إِنَّمَا فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ قَدْ يَكُونُ الْمُعْتَمَدُ مَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ أَوِ النَّوَوِيُّ لَكِنْ بِمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ لِلْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِذَا سَمِعُوا هَذَا الْكَلامَ قَدْ يَقُولُونَ كَيْفَ تَحْذِفُ مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ؟ فَبِذِكْرِ شَيْخِنَا رحمه اللهُ أَنَّ الْبُلْقِينِيَّ هُوَ مَنْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ وَالْبُلْقِينِيُّ أَعْلَى رُتْبَةً فِي الْمَذْهَبِ مِنَ النَّوَوِيِّ يَكُونُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ قَدْ سَدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ لِيَقْبَلُوا الْقَوْلَ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ وَلَوْ كَانَ تَرْجيِحُ النَّوَوِيِّ خِلافَهُ)

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَنْبَغِي (أَيْ عَلَى الْمُكَلَّف) عِنَايَتُهُ بِهِ (أيْ بالْمُخْتَصَرِ بأنْ يَتَلَقَّاهُ وَيَدْرُسَهُ وَيُعيدَ مَسائِلَهِ إلى أنْ يَحْفَظَ الْمَعَانِي وَحِفْظُ الْمَتْنِ يُساعِدُ عَلى حِفْظِ الشَّرْحِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا في نِيَّتِهِ) لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ أَسْمَيْنَاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِيِّ الْكَافِلَ بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ (أيْ الجَامِعَ لِعِلْمِ الدِّينِ الضَّروريّ).

   الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (فِي شُعَبِ الإِيـمَانِ) وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ (كَمَا فِي التَّنْقِيحِ فِي مَسْئَلَةِ التَّصْحِيحِ لِلسُّيُوطِيِّ). (وَلا يَعْنِي ﷺ بِقَوْلِهِ “مُسْلِم” الرَّجُلَ الذَّكَرَ فَقَطْ بَلْ أرادَ مَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، فَطَلَبُ العِلْمِ فَرْضٌ مُؤكَّدٌ لِأَنَّ أَمْرَ الإِسْلَامِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الدَّينِ وَالعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَكونَ مِنَ النَّاجِينَ عِنْدَ اللهِ تَبارَكَ وَتَعَالى) وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِلمُ الدّينِ الضَّرُورِيُّ الشامِلُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ (وَلْيُعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلَهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الإيِمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ “أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إيِمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالإيِمَانُ شَرْطٌ لِقَبُولِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلا ثَوَابَ لَهُ أَبَدًا فِي الآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾) وَالشَّامِلُ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الصَّلاةِ وَالطَّهَارَةِ شُرُوطًا وَأَرْكَانًا وَمُبْطِلاتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ عِلْمِ الدِّينِ (وَلَيْسَ الْمُرادُ أنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ مَسَائِلِ الدَّينِ بِتَفَاصَيلِهَا إنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ هُنَاكَ قَدْرًا مِنْ عِلْمِ الدِّين يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ ذَكرًا كَانَ أوْ أنْثَى. كُلُّ ذلِكُ أُخِذَ مِنَ الحَديث “طَلَبُ العِلْمِ فَريضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِم” بِقَوْلِهِ ﷺ “طَلَبُ العِلْم” عَنَى بِذلِكَ عِلْمَ الدِّينِ الضَّرورِيَ، وَبِقَوْلِهِ “عَلى كلِّ مُسْلِم” شَمَلَ الذَّكَرَ والأُنْثَى، وبِقَوْلِهِ “فَرِيضَةٌ” عَنَا بِذلِكَ الْمُكَلَّفَ لأنَّ مَنْ لَيْسَ مُكلَّفًا لا يَجِبُ عَلَيْهِ شىءٌ) وَتَحْصِيلُ هَذَا الْعِلْمِ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ لا بِطَرِيقِ الْمُطَالَعَةِ فِى الْكُتُبِ لِلأَمْنِ مِنَ الْغَلَطِ وَالتَّحْرِيفِ لِقَوْلِهِ ﷺ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَعَلَّمُوا فَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ، مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَىْ رِفْعَةً فِى الدَّرَجَةِ رَزَقَهُ الْعِلْمَ بِأُمُورِ دِينِهِ. وَالْجَهْلُ بِعِلْمِ الدِّينِ لَيْسَ عُذْرًا، لَوْ كَانَ الْجَهْلُ عُذْرًا لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَلَوْ كَانَ الْجَاهِلُ يُعْذَرُ لِجَهْلِهِ عَلَى الإِطْلاقِ لَكَانَ الْجَهْلُ أَفْضَلَ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُخْتَصَرُ حَاوِيًا لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ مُشْتَمِلًا عَلَيْهَا كَانَ يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ مَا فِيهِ وَيُخْلِصَ النِّيَّةَ فِيهِ لِلَّهِ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ. (لِيَكُونَ الْعَمَلُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ لا بُدَّ مِنْ أَمْرَيْنِ: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ وَمُوَافَقَةُ الشَّرْعِ. وَهَلْ يَعْرِفُ الإِنْسَانُ أَنَّ عَمَلَهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ؟! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ أَيْ مَرْدُودٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ أَيْضًا إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ)

   وَالْكَافِلَ (أي الذي يَتَكَفَّلُ) بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ مَعْنَاهُ الْجَامِعُ لِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ.

(وَفِي الْحَدِيثِ (مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ، الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي خَرَجَ فِي طَلَبِ عِلْمِ الدِّينِ فِي بَلَدِهِ أَوْ إِلَى غُرْبَةٍ ثَوَابُهُ كَثَوَابِ الْخَارِجِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَهَذَا الَّذِي خَرَجَ يَطْلُبُ عِلْمَ الدِّينِ مِثَالُهُ كَمِثَالِ هَذَا الَّذِي خَرَجَ حَامِلًا سِلاحَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ لِيُقَاتِلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ الدِّينِ سِلاحٌ يُدَافِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الشَّيْطَانَ وَيُدَافِعُ بِهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَيُدَافِعُ بِهِ هَوَاهُ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الآخِرَةِ وَمَا يَضُرُّهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ الْمَرْضِيِّ لِلَّهِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَى فَاعِلِهِ.

قالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهَ عَنْ عِلْمِ الدّينِ: علمُ الدِّيْنِ حَيَاةُ الإِسْلَامِ أَيْ قُوَّةُ الإِسْلَامِ. قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. رواهُ البُخاريُّ)

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ بِتَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ فَهُوَ دَلِيلُ الْعَمَلِ وَطَرِيقُ تَصْحِيحِهِ فَالْعَلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحَصَّلُ لِلْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ بِلا عِلْمٍ لا يُنْجِي صَاحِبَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّحْرِيمِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، أَىْ عِلْمَ الدِّينِ لِأَنَّ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالْخَيْرِ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى جَوَارِحِهِ فَيَنْطِقُ بِالْخَيْرِ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ. عِلْمُ الدِّينِ حَيَاةُ الإِسْلامِ مَنْ أَهْمَلَهُ كَانَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَاسِقًا أَىْ وَاقِعًا فِى ذَنْبٍ كَبِيرٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِسَبَبِ جِهْلِهِ فِى الدِّينِ فَلا نَجَاةَ إِلَّا بِتَعَلُّمِ عِلْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ، مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا أَىْ رِفْعَةً فِى الدَّرَجَةِ رَزَقَهُ الْعِلْمَ بِأُمُورِ دِينِهِ. مَنْ عَرَفَ قَدْرَ عِلْمِ الدِّينِ أَحَبَّهُ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْهُ فَهُوَ بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ عَظِيمٌ نَافِعٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَالْعَاقِلُ الْفَطِنُ لا يَشْبَعُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ مَهْمَا تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُهُ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِىُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لا يَشْبَعُ مُؤْمِنٌ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّة، أَىْ حَتَّى يَتَرَقَّى فِى الدَّرَجَاتِ فَيَصِلَ إِلَى أَعَالِى الْجَنَّةِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمَ الدِّينِ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمَ الدِّينِ كَيْفَ يَضْمَنُ صِحَّةَ إِيمَانِهِ وَعِبَادَاتِهِ، إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ مَا هُوَ الْكُفْرُ كَيْفَ يَضْمَنُ بَقَاءَهُ عَلَى الإِسْلامِ، إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ مَا هِىَ الْمُحَرَّمَاتُ كَيْفَ يَجْتَنِبُهَا وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا كَيْفَ يَتُوبُ مِنْهَا. فَهَذَا سَيِّدُنا عَبْدُ القَادِرِ الْجِيلانِىّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعبُدُ اللَّهَ فِى خَلْوَةٍ فَجَاءَهُ الشَّيطانُ عَلَى هَيْئَةِ نُورٍ عَظِيمٍ وَقَالَ لَهُ يَا عَبدِى يَا عَبْدَ القَادِر قَدْ أَسْقَطْتُ عَنْكَ الفَرَائِضَ وَأَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا عَبْدُ القَادِرِ خَسِئْتَ يَا لَعِين أَىْ فَشِلْتَ وَخَابَ سَعْيُكَ أَىْ مَا تَسْعَى إِلَيْهِ فَاخْتَفَى الضَّوْءُ وَبَقِىَ الصَّوْتُ وَقَالَ لَهُ الشَّيطَانُ لَقَدْ غَلَبْتَنِى بِعِلْمِكَ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ وَإِنِّى قَدْ أَغْوَيْتُ أَرْبَعِينَ عَابِدًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة. سَيِّدُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلانِىّ عَرَفَ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ الشَّيْطَان لِأَنَّهُ كَانَ تَعَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ بَلْ هُوَ خَالِقُ النُّورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور﴾ أَىْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور، وَالَّذِى كَلَّمَهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتٍ واللَّهُ تَعَالَى كَلامُهُ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً لا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ لَيْسَ شَيْئًا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. عَرَفَ الْحَقَّ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلانِىُّ بِعِلْمِ الدِّينِ فَغَلَبَ الشَّيْطَانَ. وليُعلم أنّ مَنْ أَهْمَلَ تَعَلُّمَ عِلْمِ الدِّينِ قَدْ يَقَعُ فِى التَّشْبِيهِ فَيَخْلُدَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ مَاتَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِى مُخَيِّلَتِهِ وَأَوْهَامِهِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ، أَىْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ بَلْ يُشَبِّهُهُ بِخَلْقِهِ بِالضَّوْءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِى السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ يَصِفُهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَهَذَا عِبَادَتُهُ تَكُونُ لِشَىْءٍ تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِى مُخَيِّلَتِهِ فَيَكُونُ مُشْرِكًا بِاللَّهِ فَلا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ.

ضَرُورِيَّاتُ الِاعْتِقَادِ

   الشَّرْحُ أَنَّ (ضَرُورِيَّاتُ) جَمْعُ ضَرُورِيٍّ وَهُوَ هُنَا مَا لا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ جَهْلُهُ أَيْ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ مَا يَلْزَمُ وَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ. (فَالشَّىْءُ الَّذِي لا يُسْتَغْنَى عَنْهُ يُقَالُ لَهُ ضَرُورِيٌّ وَيُقَالُ أَيْضًا الضَّرُورِيُّ لِلشَّىْءِ الَّذِي يُفْهَمُ بِلا تَفَكُّرٍ كَكَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ وَكَوْنِ النَّارِ حَارَّةً (وَكَعِلْمِكَ بِأَنَّ هَذَا الحَائِطَ أبيَضٌ، بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَى الحَائِطِ تَعْرِفُ أَنَّهُ أَبْيَضٌ. هَذَا العِلْمُ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عِنْدَكَ فِي قَلْبِكَ يُقَالُ لَهُ عِلْمٌ ضَرورِيٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى مُقدِّمَاتٍ وَنَتِيْجَةٍ. هَذَا هُوَ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ. الَّذِي يَحْصُلُ لِلإِنْسَانِ بِهِ الجَزْمُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ. يُوْجَدُ أُمُورٌ الْجَزْمُ فِيهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ أَمَّا إِذَا نَظَرَ الوَاحِدُ إلى الحَائِطِ لا يَعْمَلُ مُقَدِّمَةً أُوْلَى هَذَا حَائِطٌ، وَمُقَدِّمَةً ثَانِيَةً كَذا لِيَطْلَعَ بِنَتِيجَةٍ أَنَّ هَذَا الحَائِطَ لَوْنُهُ أَبْيَضٌ لِأَنَّ هَذَا العِلْمَ، العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَحصُلُ لَهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُرتَكِزًا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتيجَةٍ) كَمَا يُطْلَقُ عَلَى عِلْمِ كَوْنِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ حَرَامًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَوَامُّ وَالْخَوَاصُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (العَوامُّ والخَواصُ مِنَ الـمُسْلِمِيْنَ يَعْرِفُوْنَ أَنَّ شُرْبَ الخَمْرِ حَرَامٌ وَأَنَّ السَّرِقَةَ حَرَامٌ فَيُقَالُ عَنْ حُرْمَةِ شُرْبِ الـخَمْرِ مَعْلُوْمٌ مِنَ الدِّيْنِ بِالضَّرُورَةِ. لَكِنْ كَيْفَ يُسَمُّوْنَهُ مَعْلُوْمٌ مِنَ الدِّيْنِ بِالضَّرُوْرَةِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ، لَيْسَ كَمَا يُعْلَمُ لَوْنُ الـحَائِطِ؟ الـجَوَابُ: مِنْ بَابِ التَّشْبِيْهِ، لِكَثْرَةِ انْتِشَارِه بَينَ النَّاسِ الآنَ، مَعْرِفَةُ هَذَا الأَمْرِ مُنْتَشِرٌ بَيْنَ الـمُسْلِمِيْنَ، صَارَ إِذَا سُئِلَ الوَاحِدُ مِنْهُم عَنْهُ يـُجِيْبُ فَوْرًا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ فَشَابَهَ مَا يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ كَلَوْنِ الـحَائِطِ. لِذَلِكَ سَمَّوْهُ مَعْلُوْمًا بِالضَّرُوْرَةِ مِنْ بَابِ التَّشْبِيْهِ وَإِلَّا هُوَ لَيْسَ هَكَذَا، لَا بُدَّ أَنْ يَكُوْنَ سَمِعَ حَتَّى يَعْرِفَهُ، هَذَا بِالسَّمَاعِ، بِالنَّقْلِ يُعْرَفُ. انْتَشَرَ هَذَا العِلْمُ فَصَارَ إِذَا سُئِلَ الشَّخْصُ عَنْهُ أَجَابَ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَصَارَ يُشْبِهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ فَسَمَّوْهُ مَعْلُوْمًا بِالضَّرُوْرَةِ مِنْ بَابِ التَّشْبِيْهِ. أَنْتَ كَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّ الخَمْرَ حَرَامٌ إِلَّا لِأَنَّكَ سَمِعْتَ؟ لِذَلِكَ يَسْتَثْنُوْنَ حَدِيْثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَصَلَ لَهُ ذَاكَ السَّمْعُ مِنْ غَيرِه لَا يُكَفَّرُ، أَمَّا العِلْمُ الضَّرُوْرِيُّ الَّذِي هُوَ حَقِيْقَةً ضَرُوْرِيٌّ هَذَا يَسْتَوِي فِيْهِ الكُلُّ)). (وَلْيُعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ العَقِيْدَةِ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنْ عِلْمِ الأَحْكَامِ لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّتِ العَقِيْدَةُ صَحَّتِ الأَعْمَالُ مِنَ الْمُسْلِمِ إِنْ أدَّاها صَحِيْحَةً وَبِنِيَّةٍ صَحِيْحَةٍ أَمَّا إِنْ لَمْ تَصِحَّ العَقيدَةُ لَمْ تَصِحَّ الأَعْمَالُ وَلَوْ أدَّاهَا صُوْرَةً بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوْطِهَا)

فَائِدَةٌ: أَفْضَلُ الْعُلُومِ عَلَى الإِطْلاقِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِى يُعْرَفُ بِهِ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَمَا لا يَلِيقُ بِهِ وَمَا يَلِيقُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ قَدَّمَ الأَمْرَ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ عَلَى الأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَفِى ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ هُوَ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَعْلاهَا وَأَوْجَبُهَا وَقَدْ خَصَّ النَّبِىُّ ﷺ نَفْسَهُ بِالتَّرَقِّى فِى هَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، فَكَانَ هَذَا الْعِلْمُ أَهَمَّ الْعُلُومِ تَحْصِيلًا وَأَحَقَّهَا تَبْجِيلًا وَتَعْظِيمًا وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، رَوَاهُ الإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِىُّ فِى تَفْسِيرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْكَمْنَا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ، أَىْ أَتْقَنَّا عِلْمَ التَّوْحِيدِ قَبْلَ فُرُوعِ الْفِقْهِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ التَّوْحِيْدَ هُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِى ذَاتِهِ وَوَاحِدٌ فِى صِفَاتِهِ وَوَاحِدٌ فِى فِعْلِهِ فَذَاتُهُ لا يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ، وَصِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةُ لَا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لَهَا، وَفِعْلُهُ لا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ أَزَلِىٌّ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّحْلِ ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ أَىْ لِلَّهِ صِفَاتٌ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْرِهِ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِعْلُهُ تَعَالَى (أَىْ تَخْلِيقُهُ) صِفَةٌ لَهُ فِى الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ (أَىِ الْمَخْلُوقُ) حَادِثٌ. وَأَمَّا تَوْحِيدُ اللَّهِ فِى الْفِعْلِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَفْعَلُ بِمَعْنَى الإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلا فَاعِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا اللَّهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ) يَجِبُ عَلَى كَافَةِ الْمُكَلَّفِينَ الدُّخُولُ فِي دِينِ الإِسْلامِ (أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُكَلَّفُ مُسْلِمًا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ في الإسْلاَمِ) وَالثُّبُوتُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ (أَيْ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ قَالَ تَعَالَى ﴿واعْبُد رَبَّكَ حَتَّى يأتِيَكَ اليَقِين﴾ مَعْنَاهُ اثْبُت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَمُوتَ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَآ أَيُّهَا الذِّينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُون﴾ وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ أَيْ أَنْ يَعْمَلَ بِشَريعَةِ الإِسْلَامِ. أَنْ يُؤدِّيَ الوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ. هَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّف لِذَلِكَ قَالَ أهْلُ العِلْم الصَّبِيُّ أَوَّل مَا يَبْلُغ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ الوَاجِبَاتِ وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ الْمُحَرَّمَاتِ)

   الشَّرْحُ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْبَالِغُ (وَيَكُونُ الْبُلُوغُ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّكَرِ بِحُصُولِ أَمْرٍ مِنَ اثْنَيْنِ رُؤْيَةِ الْمَنِيِّ أَوْ بُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً وَبِالنِّسْبَةِ لِلأُنْثَى بِحُصُولِ أَمْرٍ مِنْ ثَلاثَةٍ رُؤْيَةِ الْمَنِيِّ أَوْ رُؤْيَةِ دَمِ الْحَيْضِ أَوْ بُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً) الْعَاقِلُ الَّذِي بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (سَوَاءٌ بِطَرِيقِ السَّمْعِ أَمْ غَيْرِهِ كَالْقِرَاءَةِ كَيْفَمَا بَلَغَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ بِمَا يُعْطِي مَعْنَاهُ) فَهَذَا هُوَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي هُوَ مُلْزَمٌ بِأَنْ يَدِينَ بِدِينِ الإِسْلامِ (فورًا إِنْ كَانَ كافِرًا) وَيَعْمَلَ بِشَرِيعَتِهِ أَيْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ. أَمَّا مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَسْئُولِيَّةٌ فِي الآخِرَةِ (لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ أَوْ يَعْقِلَ) وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّصَلَ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ (أي مَنْ جُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَاتَّصَلَ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ) فَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا (لَوْ كَفَرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَهُ ثُمَّ اتَّصَلَ جُنُونُهُ مِنْ قَبْلِ الْبُلُوغِ إِلَى مَا بَعْدَهُ فَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ هَذَا نَاجٍ مَا عَلَيْهِ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجُنَّ وَاسْتَمَرَ جُنُونُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَهَذَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، انْظُرْ شَرْحَ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ) وَكَذَلِكَ الَّذِي عَاشَ بَالِغًا وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ أَصْلُ الدَّعْوَةِ (وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَاهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾). وَلَيْسَ شَرْطًا لِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ أَنْ تَبْلُغَهُ تَفَاصِيلُ عَقَائِدِ الإِسْلامِ بِأَدِلَّتِهَا بَلْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِ أَنْ يَبْلُغَهُ أَصْلُ الدَّعْوَةِ وَلا يَكُونُ لَهُ عُذْرًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَّرَ فِي حَقِيَّةِ الإِسْلامِ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ (لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَا كَانَ يُمْهِلُ الْكُفَّارَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ لِيُفَكِّرُوا بَعْدَ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ دَعْوَةَ الإِسْلامِ فِي حَقِّيَّتِهَا يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ وَلا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ كَافِيًا فِي انْتِفَاءِ الْعُذْرِ عَنْهُمْ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا الإِسْلامَ، (لِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ إِعْطَاؤُهُ مُدَّةً. النَّبِيُ ﷺ أَرْسَلَ إِلَى هِرَقْلَ الرِّسَالَةَ وَفِيْهَا أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيْسِيِّيْنَ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ أَيْ فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ. الأَرِيْسِيِّيْنَ أَيِ الفَلَّاحِيْنَ. الفَاءُ فِي فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيْسِيِّيْنَ تُفِيْدُ التَّعَاقُبَ مَعَ نَفْيِ الـمُهْلَةِ. الرَّسُوْلُ مَا قَالَ لَهُ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ إِنَّمَا قَالَ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيْسِيِّيْنَ) وَكَانَ يَكْتَفِي بِأَنْ يُسْمِعَ الْعَرَبَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَوْسِمِ أَيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ حِينَ يَجْتَمِعُونَ مِنْ نَوَاحٍ شَتَّى أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَانَ يَمُرُّ فِيهِمْ مُرُورًا؛ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ كَانَ يُحَارِبُ كُلَّ مَنِ اسْتَطَاعَ مُحَارَبَتَهُ مِنْ كُلِّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمْ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ (بَعْدَ تَجْدِيْدٍ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا النَّبِيُّ ﷺ. يَكُوْنُ التَّجْدِيْدُ بِالقَوْلِ لَهُمْ مَثَلًا أَسْلِمُوا فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ يَكُوْنُ لَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا. يُرَغَّبُوْنَ فِي الإِسْلَامِ) أَوْ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدٍ (مِنْ غَيْرِ تَجْدِيْدٍ لِأَنَّهُ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ) إِلَّا مَنْ بَدَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي مُصَالَحَتِهِمْ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا لِلْأَبَدِ (يَعْنِي كَانَ ﷺ يُحَارِبُ كُلَّ مَنِ اسْتَطَاعَ مُحَارَبَتَهُ إِلَّا قِسْمًا صَالَحَهُمْ لِمُدَّةٍ. أَمَّا الصُّلْحُ لِلْأَبَدِ لَا يَجُوْزُ لِأَنَّ فِيْهِ إِقْفَالُ بَابِ الِجهَادِ)، لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ بِلا إِيْجَابٍ أَمَامَ الْقِتَالِ (يُسْتَحَبُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنَ وَاجِبًا. لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَجَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ مَرَّةٍ)، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّهُ ﷺ قَاتَلَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ (وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ العَرَبِ) وَهُمْ غَارُّونَ (أَيْ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيْدِ دَعْوَةٍ) أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ فَلَوْ كَانَ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ أَنْ يُعْطَوْا مُهْلَةً لِلتَّفْكِيرِ فِي صِحَّةِ الإِسْلامِ وَحَقِّيَّتِهِ فَالرَّسُولُ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْهِلُهُمْ بُرْهَةً لِلتَّفْكِيرِ بَلِ اكْتَفَى لِقِتَالِهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ بَلَّغَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلَ الدَّعْوَةِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ فِي الأَذَانِ الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ مُكَلَّفٌ) فَإِنَّ مَنْ (الْكَلَامُ هُنَا عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ) سَمِعَ فِي الأَذَانِ الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ مُكَلَّفٌ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمِ اسْتَحَقَّ عَذَابَ اللَّهِ الْمُؤَبَّدَ فِي النَّارِ.

   ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الثُّبُوتِ عَلَى الإِسْلامِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُهُ عَنْ أَيِّ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِ الإِسْلامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْكُفْرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَفَرَ فِي الْحَالِ (الْعَازِمُ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَلْبُهُ الآنَ لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَى الإِيـمَانِ الصَّحِيحِ. قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ (أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَّقَهُ بِشَىْءٍ كَقَوْلِهِ إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ أَوْ تَنَصَّرْتُ أَوْ تَرَدَّدَ هَلْ يَكْفُرُ أَوْ لا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الإِيـمَانِ وَاجِبَةٌ فَإِذَا تَرَكَهَا كَفَرَ) اهـ).

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/lrSIYYibvA0

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-1