الإثنين ديسمبر 23, 2024

يوسف عليه السلام لا يهم بالزنى

إنَّ الذي يجب أن يُعتقد أن الله تبارك وتعالى عصم نبيَّه يوسف عليه السلام ونزَّهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، كما صان وعصم سائرَ أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، إذ أجمع علماء الإسلام أنه تجب للأنبياء الصيانة، فيستحيل عليهم الرذائل والسفاهة والجبن، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في حَقّ يوسف عليه الصلاة والسلام نافيًا عنه السُّوء والفحشاء ومُطهّرًا إياه من قصد الفاحشة والهمّ بالزنى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

أقامَ يُوسف عليه السلام في بَيت عزيز مصر ووزيرها مُكرَّمًا، وكان فائق الحسن والجمال، فلمَّا شبّ وكبر أحبَّته امرأةُ العزيز حبًّا جمًّا وأُوْلعَتْ به وشغفها حبُّه لـما رأت من حُسنه وجمَاله الباهر. وذات يوم أرادت امرأةُ العزيز أن تحمله على مُواقعتها عَنوةً، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وغلّقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له وتَصَنعّت ولَبسِت أحسنَ ثيابها وأفخرها ودعته صراحة إلى نفسها من غير حياء وطلبت منه ما لا يليقُ بحاله ومقامه، والمقصودُ أنها دَعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحِرْص، ولكن هيهات هيهات وهو النبيُّ العفيفُ الطاهر المعصوم عن مثل تلك الرذائل والسَّفَاهات والفواحش، وهو نبيٌّ من سُلالة الأنبياء الذين يستحيلُ عليهم الرذائل والفواحش، لذلك أبى يوسف عليه السلام ما دعته إليه امرأة العزيز، وامتنع أشد الامتناع ولم يتردّدْ لحظةً في فعل الفاحشة ولم يتأثر بما هيّأته من خَلْوة وزينة؛ بل مال عنها قائلًا: مَعاذ الله، أي: أعوذُ بالله أن أفعل هذا، ثم قال لها: ما أخبر الله به: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، وقال الله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23].

وأمام إباء يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز، وأمام عفته وإصراره على عدم الوقوع معها في الحرام، ازدادت هي إصرارًا على الهمَّ بالرذيلة فأمسكت به تريدُ أن تجبره على مواقعتها وارتكاب الفاحشة معها من غير حشمة وحياء، فأخذ عليه السلام في مجانبتها فتنحَّى عنها وأفلتَ من يدها فأمسكت ثوبه من خَلف فتمزق قميصه، وظلت تلاحقه وهما يَستبقان الباب، هو يريدُ الوصول إليه ليفتحَه ليتخلَّصَ منها يدفعُه إلى ذلك الخوفُ من الله مولاه، وهي تريد أن تَحُول بينه وبين البابِ تدفعُها إلى ذلك الشهوة الجامحة والاستجابة لوساوس الشيطان، وفي تلك اللحظات وصل زوجُها العزيز فوجدهما في هذه الحالة، فبادرته بالكلام وحرّضته عليه وحاولت أن تنسبَ إلى يوسف عليه السلام محاولة إغوائها والاعتداء عليها، مدعية أنها امتنعت وهربت منه فنسبت إلى يوسف الخيانة وبَرّأت نفسها، وردّ نبيّ الله يوسف عليه السلام التهمة عن نفسه، يقولُ الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 25، 26]. فهو همَّ بأن يدفعها عنه ليتمكن من الخروج من الباب لكن لم يدفعها، لأن الله ألهمه أنه لو دفعها لكان ذلك حجَّة عليه عند أهلها بأن يقولوا: إنما دفعها ليفعل بها الفاحشة، وهذا معنى قول الله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، أي: لولا أنه رأى برهانًا من الله لدفعها، فلم يدفعها؛ بل أدار لها ظهره ذاهبًا إلى الباب فلحقته فشقت قميصه من خلف، فكان الدليلُ والحجة عليها ولو ضربها ودفعها لاتخذت من ضربِه ودفعه إياها حجة لها عليه، لأنها تقول: راودن فمنعته فضربني.

لذلك لا يصحُّ ولا يجوز اعتقاد ما يُروى عن بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام حلَّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وحلّ عَقْدَ نطِاقها([1])، فإن هذا باطل وكفر إذ لا يليق بنبيّ من أنبياء الله تعالى أن يحصل منه ذلك، فإنه لو كان حصل هذا من يوسف لكان فيه دليل على العزم على فعل الفاحشة، والأنبياء صلوات الله عليهم معصومون من العزم على الزنا والفاحشة ومقدماتها، قال الله سبحانه في بيان براءة نبيه يوسف عليه السلام: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].

قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ([2]): «ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا دل على العزم والأنبياء معصومون من العزم على الزنا»([3]).اهـ.

وقال الفخر الرازي في تفسيره: «إن يوسف عليه السلام كان بريئًا عن العمل الباطل والهمّ المحرّم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذبّ»([4]).اهـ.

وقال الشيخ الفقيه الخطيب الزاهد الورع الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي رضي الله عنه: «قال الإمام أبو الفضل بن الخطيب في كتاب الأربعين له: يجوز أن يكون لـمَّا همّ بدفعها في نفسه أراه الله برهانًا على أنه إن قدم على ما همّ به من دفعها أهلكه أهلها، وأنها تدعي عليه المراودة على القبيح وتنسبه على أنه دعاها إلى نفسه وضربها لأجل امتناعها منه، فأخبر الله تعالى أنه صرف عنه بالبرهان السوء والفحشاء وهو القول المكروه وظنّ القبيح واعتقاده فيه. انتهى ما قال الإمام. وهو قول حسن ويؤيده ما ظهر في الوجود من قدّ القميص من دبر في الفرار أمامها الذي ينبئ عليه قوله: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} وجعل الله تعالى قدَّ القميص من دُبُر حاكمًا له عليها، ولعله لو لم يفرّ أمامها ويترك ما همّ به من دفعها لكان قدّ القميص من قُبُل فتقوى الشبهة وتلحقه الإذاية والتهمة من أهلها، فأراه الله تعالى بالبرهان حجج تركه الانتصار فكان الأمر كذلك. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} وظهرت براءته، وثبتت الخطيئة عليها وقيل لها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} وله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]»([5]).اهـ.

[1])) ذكر سيد قطب المصريّ في كتابه المسمّى التصوير الفني في القرآن كلامًا كفريًّا في حق سيدنا يوسف واتهمه بأنه ضعف أمام امرأة العزيز والعياذ بالله. ومثله عبد الوهاب النجار المصريّ في كتابه المسمّى قصص الأنبياء، ومثل هذا موجود في كتاب الثعالبيّ النيسابوريّ المسمّى قصص الأنبياء، فليحذر.

[2])) ابن الجوزيّ هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزيّ القرشيّ البغداديّ (ت597هـ)، أبو الفرج، علّامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده ووفاته ببغداد، له نحو ثلاثمائة مصنف منها: (تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير)، و(الأذكياء وأخبارهم)، و(المدهش)، و(تلبيس إبليس)، و(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، و(دفع شُبَه التشبيه في الرد على المجسمة). الأعلام، الزركلي، (3/316، 317).

[3])) زاد المسير، ابن الجوزيّ، (4/205).

[4])) مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، (18/118).

[5])) المعيار المعرب والجامع المغرب، الطنجالي، (ص202، 203).