الأربعاء ديسمبر 4, 2024

يهوذا التقي وفرطوس الشقي

   ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ الْعَدِيدَ مِنَ الأَمْثَالِ لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ بَعْضَ الْحِكَمِ فِى أَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَعَوَاقِبِ تَصَرُّفَاتِهِمْ.

   وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِى سُورَةِ الْكَهْفِ حَيْثُ وَرَدَتْ قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا تَقِيًّا وَالآخَرُ كَافِرًا غَنِيًّا شَقِيًّا فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدْلَهُ وَضَرَبَ مَثَلَهُمَا كَىْ لا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَيَنْسُوا الآخِرَةَ.

   وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا اسْمُهُ يَهُوذَا وَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ طَيِّبٌ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُكْثِرُ مِنْهُ وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْمُهُ فَرْطُوسُ وَكَانَ عَابِدًا لِلأَصْنَامِ كَافِرًا جَاحِدًا شَحِيحًا بَخِيلًا جَافِى الطَّبْعِ.

   وَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُمَا اقْتَسَمَا مَالَهُ فَأَنْفَقَ كُلٌّ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ فِى مَا يُلائِمُ طَبْعَهُ وَمَا يُحِبُّ. أَمَّا يَهُوذَا فَقَدِ اشْتَرَى عَبِيدًا مَمْلُوكِينَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَأَعْتَقَهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَحْرَارًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ اشْتَرَى ثِيَابًا بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكَسَا الْفُقَرَاءَ الْعُرَاةَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاشْتَرَى بِأَلْفٍ ثَالِثَةٍ طَعَامًا وَأَطْعَمَ الْجَائِعِينَ وَبَنَى الْمَسَاجِدَ وَأَكْثَرَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَأَعَانَ مَنِ اسْتَطَاعَ إِعَانَتَهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَالُهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ مَسْرُورًا بِمَا فَعَلَ رَاجِيًا الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

   وَأَمَّا فَرْطُوسُ الأَخُ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ مَا كَادَ يَسْتَلِمُ مَالَهُ حَتَّى وَضَعَ عَلَيْهِ الْمَفَاتِيحَ وَحَرَمَ الْفَقِيرَ السَّائِلَ وَشَتَمَ مَنْ قَصَدَهُ لِلإِعَانَةِ وَأَغْلَقَ أُذُنَيْهِ عَنْ سَمَاعِ أَنِينِ الْمُحْتَاجِينَ وَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَنْ رُؤْيَةِ الأَطْفَالِ الْجَائِعِين ثُمَّ تَزَوَّجَ مِنْ نِسَاءٍ غَنِيَّاتٍ وَاشْتَرَى بَقَرًا وَغَنَمًا فَتَوَالَدَتْ وَنَمَتْ نُمُوًّا مُفْرِطًا وَاشْتَغَلَ بِالتِّجَارَةِ بِبَاقِى مَالِهِ فَرَبِحَ رِبْحًا كَبِيرًا حَتَّى فَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ غِنًى.

   وَبَنَى لِنَفْسِهِ جَنَّتَيْنِ أَىْ بُسْتَانَيْنِ كَبِيرَيْنِ جِدًّا زَرَعَهُمَا أَعْنَابًا وَكُرُومًا فَأَوْرَقَا وَأَثْمَرَا وَأَحَاطَهُمَا بِشَجَرِ النَّخِيلِ ثُمَّ نَوَّعَ فِى الْمَزْرُوعَاتِ فَجَعَلَ فِيهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْخُضَارِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهَا شَيْئًا وَكَانَتِ الأَشْجَارُ مُتَوَاصِلَةً مُتَشَابِكَةً لا يَقْطَعُهَا وَيَفْصِلُ بَيْنَهَا إِلَّا النَّهْرُ الْجَارِى الَّذِى يَسْقِى الزُّرُوعَ بِمَائِهِ الرَّقْرَاقِ فَتَمَيَّزَ الْبُسْتَانَانِ بِالشَّكْلِ الْحَسَنِ وَالتَّرْتِيبِ الأَنِيقِ وَالطُّرُقَاتِ الَّتِى جَعَلَهَا ذَاكَ الْكَافِرُ فِيهِمَا لِلتَّنَزُّهِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِمَا.

   وَكَانَ الْجَدِيرُ بِفَرْطُوسَ أَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ الَّذِى مَنَحَهُ كُلَّ تِلْكَ النِّعَمِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا وَأَنْ يَشْكُرَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ وَيَحْمَدَهُ وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَفْتِنُهُمُ الأَمْوَالُ وَتَجْعَلُهُمْ يَتَكَبَّرُونَ وَهَكَذَا كَانَ فَرْطُوسُ الَّذِى لَمْ يَزْدَدْ إِلَّا كُفْرًا وَطُغْيَانًا.

   وَأَدْرَكَتْ يَهُوذَا الْمُؤْمِنَ الْحَاجَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ أَجِيرًا لِيَأْكُلَ فَقَالَ لَوْ ذَهَبْتُ إِلَى أَخِى لِأَعْمَلَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَنْ يُمَانِعَ فَجَاءَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ فَتْحِ الْعَدِيدِ مِنَ الأَبْوَابِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَأَلَهُ حَاجَتَهُ فَقَالَ فَرْطُوسُ الْكَافِرُ أَلَمْ أُقَاسِمْكَ الْمَالَ نِصْفَيْنِ فَمَا صَنَعْتَ بِمَالِكَ.

   فَأَجَابَهُ يَهُوذَا الْمُؤْمِنُ «تَصَدَّقْتُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى رَاجِيًا الأَجْرَ الْوَفِيرَ».

   فَقَالَ فَرْطُوسُ مُتَهَكِّمًا إِذَنْ أَنْتَ مِنَ الْمُتَصَدِّقِينَ، مَا أَرَاكَ إِلَّا سَفِيهًا مُضَيِّعًا لِمَالِهِ وَمَا جَزَاؤُكَ عِنْدِى عَلَى سَفَاهَتِكَ إِلَّا الْحِرْمَانُ انْظُرْ مَاذَا صَنَعْتُ بِمَالِى حَتَّى صَارَ عِنْدِى مِنَ الثَّرْوَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ مَا تَرَى وَذَلِكَ أَنِّى كَسَبْتُ وَأَنْتَ سَفِهْتَ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا.

   ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يُرِيهِ مَا عِنْدَهُ وَفِى نَفْسِهِ الْكِبْرُ وَالْكُفْرُ وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ وَفَنَاءَ دَارِهِ وَمَا زَرَعَ فِى الْبُسْتَانَيْنِ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَعَدَمِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَكُفْرِهِ بِالآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ إِنْ كَانَ هُنَاكَ بَعْثٌ وَقِيَامَةٌ كَمَا تَزْعُمُ فَلَنْ أَخْسَرَ شَيْئًا فَكَمَا أَعْطَانِى اللَّهُ هَذِهِ النِّعَمَ فِى الدُّنْيَا فَسَيُعْطِينِى أَفْضَلَ مِنْهَا فِى الآخِرَةِ لِكَرَامَتِى عِنْدَهُ.

   فَوَعَظَهُ أَخُوهُ يَهُوذَا وَحَذَّرَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ الَّذِى خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جَعَلَهُ رَجُلًا سَوِيًّا ثُمَّ يُمِيتُهُ وَيُحَاسِبُهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا مَثِيلَ وَلا شَبِيهَ وَلا مَكَانَ لَهُ خَالِقِ كُلِّ شَىْءٍ. وَقَالَ لَهُ إِنَّ الَّذِى تُعَيِّرُنِى بِهِ مِنَ الْفَقْرِ سَيَعُودُ عَلَيْكَ بِالْعِقَابِ فَإِنَّنِى أَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِى اللَّهُ فِى الآخِرَةِ جَنَّةً خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ هَذِهِ الْفَانِيَةِ ثُمَّ إِنَّكَ لا تَأْمَنْ عَلَى الْبُسْتَانَيْنِ مِنَ الْعَوَاصِفِ وَتَقَلُّبِ الرِّيَاحِ الَّتِى قَدْ تَجْعَلُ مِنْهَا أَوْرَاقًا جَافَّةً تَتَطَايَرُ هُنَا وَهُنَاكَ وَهَذَا الْمَاءُ الْعَذْبُ إِذَا غَارَ فِى الأَرْضِ فَكَيْفَ تَطْلُبُهُ وَمَنْ ذَا يَنْصُرُكَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَخْذُلَكَ.

   وَلَمَّا رَأَى يَهُوذَا أَنَّ أَخَاهُ الْكَافِرَ مَا زَالَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ يَمْرَحُ بَيْنَ أَزْهَارِهِ وَأَشْجَارِهِ تَرَكَهُ وَخَرَجَ.

   وَفِى اللَّيْلِ حَدَثَ مَا تَوَقَّعَهُ يَهُوذَا إِذْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا غَزِيرًا وَعَوَاصِفَ كَثِيرَةً أَحْرَقَتِ الْبُسْتَانَيْنِ وَهَدَمَتِ الْعَرَائِشَ وَابْتَلَعَتِ الأَرْضُ مَاءَ النَّهْرِ فَجَفَّ وَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ رَدِيئَةً لا نَبَاتَ فِيهَا وَلا شَجَرَ وَقَدْ مُلِئَتْ بِالْوَحْلِ فَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَمْشِىَ عَلَيْهَا. وَلَمَّا قَامَ فَرْطُوسُ صَبَاحًا ذَهَبَ كَعَادَتِهِ إِلَى الْبُسْتَانَيْنِ لِيَتَنَزَّهَ وَيَتَفَيَّأَ تَحْتَ ظِلالِ الْكُرُومِ وَلَمَّا رَأَى مَا حَلَّ بِهِمَا جَفَّ حَلْقُهُ وَأَخَذَ يَضْرِبُ كَفًّا بِكَفٍّ عَلامَةَ التَّحَسُّرِ وَالتَّأَسُّفِ وَنَدِمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِى كَفَرَ بِسَبَبِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَإِنْكَارِهِ لِلْبَعْثِ وَقَالَ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَتَرَكَهُ أَصْحَابُ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يُعِينُونَهُ عَلَى كُفْرِهِ وَتَجَبُّرِهِ لَمَّا صَارَ فَقِيرًا فَغَدَا وَحِيدًا لا نَاصِرَ لَهُ إِذْ إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِى تَكُونُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَوَابُهَا خَيْرٌ وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ.