وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ
الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.
وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا.
فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1].
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي »الْمَحْصُولِ« وَغَيْرُهُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ. وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ [وَهُوَ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ] وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ [أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، هَذَا أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ]، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ [أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ] وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ [أَيْ حَلِيبٍ] فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: »اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ« [أَيْ تَمَسَّكْتَ بِالدِّينِ] قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ… «إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ.
أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: »رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ«، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ: »رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ«، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، قَالَ: »رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ«.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: »الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ«، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ: رَءَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.