قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا شَىْءَ مِثْلُهُ.
الشَّرْحُ أَىْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ يُمَاثِلُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَهِىَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الإِطْلاقِ وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهِىَ الْمُرَادَةُ بِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ وَهِىَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ مِثْلُ فُلانٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يُمَاثِلُهُ فِى بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهَذِهِ مُمَاثَلَةٌ جُزْئِيَّةٌ أَمَّا الإِطْلاقُ الْوَارِدُ بِحَيْثُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ يُقَالُ فُلانٌ مِثْلُ فُلانٍ وَهَذِهِ مُمَاثَلَةٌ مُطْلَقَةٌ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فَلا يُقَالُ اللَّهُ يُمَاثِلُ كَذَا فِى كَذَا. أَمَّا الِاتِّفَاقُ بِاللَّفْظِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثَلَةً فَلَيْسَ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يُقَالَ عَنِ اللَّهِ حَىٌّ وَعَنِ الْمَخْلُوقِ حَىٌّ أَوِ اللَّهُ مَوْجُودٌ وَفُلانٌ مَوْجُودٌ فَاللَّهُ تَعَالَى وُجُودُهُ لَيْسَ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ وُجُودُهُ بِذَاتِهِ لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ وَكُلُّ شَىْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَالْمِثْلِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنِ اللَّهِ الْمِثْلِيَّةُ فِى الْمَعْنَى فَبَطَلَ قَوْلُ الْفَلاسِفَةِ إِنَّهُ لا يُقَالُ عَنِ اللَّهِ حَىٌّ وَلا دَائِمٌ وَلا قَادِرٌ وَلا سَمِيعٌ وَلا بَصِيرٌ وَلا مُتَكَلِّمٌ وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِى الْمُمَاثَلَةَ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُمَاثَلَةً بَلْ اتِّفَاقٌ بِاللَّفْظِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مَوْجُودٌ حَىٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ مُرِيدٌ عَالِمٌ وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ فِى اللَّفْظِ لا فِى الْمَعْنَى فَلا يَقْتَضِى الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُشَارَكَةَ.
تَنْبِيهٌ الْمِثْلانِ هُمَا الأَمْرَانِ الَّذِى يَسُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسَدَّ الآخَرِ وَهَذَا فِى الإِطْلاقِ الْغَالِبِ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ عَالِمَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الآخَرِ يُقَالُ عَنْهُمَا مِثْلانِ.
فَائِدَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ يُقَالُ لَهُ عِلْمُ الْكَلامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُبْحَثُ فِيهِ فِى الْمَاضِي مَسْئَلَةُ الْكَلامِ لِأَنَّهُ صَارَتْ مَعَارِكُ كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ أَخَذَ بِكَلامِهِمْ فَصَارَ يَقُولُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ وَمَنْ لَمْ يَقُلِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ يُعَذِّبُهُ وَذَلِكَ مِمَّا أَخَذَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمْ غَيْرَهَا كَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ.
الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا يَقُولُونَ بِنَفْىِ الْكَلامِ الذَّاتِىِّ، وَالْحَشَوِيَّةُ وَهُمُ الْمُجْسِمَّة كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَأَسْلافِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ اللَّهُ لَهُ كَلامٌ وَكَلامُهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِى وَلا يَزَالُ عَلَى هَذَا الْحَالِ فَبِزَعْمِهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ مِثْلَ الْبَشَرِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَأَهْلُ الْحَقِّ ثَبَتُوا عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَأَنْزَلَ كُتُبًا عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ تُقْرَأُ بِحُرُوفٍ هِىَ عِبَارَاتٌ عَنْ كَلامِهِ الذَّاتِىِّ الَّذِى لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا لِأَنَّهُ لَوْلا هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلامِ الَّذِى هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ وَالْكَلامِ الَّذِى هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ لَكَانَ مَنْ سَمِعَ هَذَا اللَّفْظَ كَلِيمَ اللَّهِ كَمَا أَنَّ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وَهَذَا لا يَجُوزُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/6] أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهَ بِأَنَّهُ إِنِ اسْتَجَارَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَسْمَعَ الْقُرْءَانَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُسْلِمْ يُبَلِّغْهُ مَأْمَنَهُ أَىْ نَاحِيَتَهُ.
ثُمَّ عِلْمُ الْكَلامِ عِلْمٌ يُقَرِّرُهُ أَهْلُ الْحَقِّ وَلَيْسَ مَذْمُومًا كَمَا تَظُنُّ الْمُجَسِّمَةُ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَغَلَ بِهِ تَأْلِيفًا وَتَعْلِيمًا وَتَفْهِيمًا وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ تَأْلِيفًا وَتَفْهِيمًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ لِلتَّأْلِيفِ فِى أَيَّامِهِ كَانَتْ أَقَلَّ ثُمَّ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ تَأْلِيفًا وَتَفْهِيمًا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّينِ، وَهُوَ أَشْرَفُ عُلُومِ الدِّينِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ الأَزَلِيَّةِ الَّتِى افْتَرَضَ اللَّهُ مَعْرِفَتَهَا عَلَى عِبَادِهِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مَعَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ النُّبُوَّةِ وَأُمُورِ الآخِرَةِ. وَقَدْ أَلَّفَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى عِلْمِ الْكَلامِ خَمْسَ رَسَائِلَ وَكَانَ يَذْهَبُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِمُنَاظَرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمَلاحِدَةِ حَتَّى إِنَّهُ تَرَدَّدَ إِلَيْهِمْ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَكَذَا الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُتْقِنُ هَذَا الْعِلْمَ وَالَّذِى ذَمَّهُ لَيْسَ هَذَا الْعِلْمَ بَلْ كَلامَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا سِوَى الشِّرْكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ».
وَالأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَهُوَ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ نُفُوسُ الْمُبْتَدِعَةِ الْخَارِجِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِىِّ بِالأَهْوَاءِ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِى هُوَ فَرْضٌ تَعَلُّمُهُ. كَذَلِكَ اشْتَغَلَ بِهَذَا الْعِلْمِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ وَعَمِلَ رِسَالَةً يُبَيِّنُ فِيهَا مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ وَيَدْحَضُ بِهَا رَأْىَ الْمُعْتَزِلَةِ كَذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِىُّ الَّذِى هُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِ الإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فَلا يَلْحَقُ شَىْءٌ مِنْ ذَمِّ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِى يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَقَدْ أَحْسَنَ فِى ذَلِكَ مَنْ قَالَ
عَابَ الْكَلامَ أُنَاسٌ لا عُقُولَ لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِ إِذَا عَابُوهُ مِنْ ضَرَرِ
مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى فِى الأُفْقِ طَالِعَةً أَنْ لا يَرَى ضَوْءَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ
وَالإِمَامُ أَحْمَدُ لَيْسَ كَمَا يَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بَلْ هُوَ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنْ يُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظُ «الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ» وَلا أَنْ يُقَالَ «لَفْظِى بِالْقُرْءَانِ مَخْلُوقٌ» لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْقُرْءَانَ مَخْلُوقٌ أَىِ الْكَلامَ الذَّاتِىَّ مَخْلُوقٌ أَىْ وَصْفَ الْكَلامِ الذَّاتِىِّ بِالْمَخْلُوقِيَّةِ أَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ فَهُوَ بَرِىءٌ مِنْ ذَلِكَ فَحَذَرًا مِنْ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الأَمْرَيْنِ.