قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلا يُزَادُ فِى ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
الشَّرْحُ الْجُمْلَةُ الأُولَى الَّتِى فِيهَا بَيَانُ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ تَفْصِيلًا وَبِعَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ تَفْصِيلًا وَأَرَادَ الْمُؤَلِّفُ بِهَا أَنْ يُبَيِّنَ مَا قُرِّرَ مِنْ أَزَلِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ كَمَا قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ «مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ» بَيَانًا لِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ لا يُقَدَّرُ بِمَعْلُومِ الْخَلائِقِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشَّكِّ فِى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنَ الضَّعْفَةِ أَىْ ضَعْفَةِ الأَفْهَامِ وَدَفْعًا لِتَلْبِيسِ أَوْهَامِ الْقَدَرِيَّةِ أَىِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْعَوَامِّ حَيْثُ زَعَمُوا «كَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ عَلَى مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ» فَبَيَّنَ الطَّحَاوِىُّ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ وَيُطِيعُونَ عَنِ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ وَعَلِمَ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ وَيُخَالِفُونَ أَوَامِرَهُ عَنِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ عِنْدَ وُجُودِهِمْ وَكَوْنِهِمْ بِصِفَةِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لا عَنْ جَبْرٍ وَاضْطِرَارٍ يَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ لا يَعْلَمَ مَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِمْ إِذْ ذَاكَ جَهْلٌ وَالْجَهْلُ فِى حَقِّ الْقَدِيمِ مُحَالٌ فَثَبَتَ سَبْقُ عِلْمِهِ فِى الأَزَلِ بِمَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
أَمَّا قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ «وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» هَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ صَحِيحِ الإِسْنَادِ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُدِّرَ لَهُ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَوُفِّقَ لِذَلِكَ وَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قُدِّرَ لَهُ خِلافُ ذَلِكَ فَأَتَى بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا حَتَّى طَوَى عَلَيْهِ صَحِيفَةَ عُمْرِهِ.