وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
قَالَ الإِمَامُ الْهَرَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى ءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَءَالِ كُلٍّ وَالصَّالِحِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّنْ رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة].
فِى هَذِهِ الآيَةِ تَبْشِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِى ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِىَ أَنَّهُمْ رَاضُونَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ لا يَتَسَخَّطُونَ عَلَيْهِ وَلا يَتَضَجَّرُونَ مِنْ قَضَائِهِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبِ تُقْلِقُهُمْ وَتُحْزِنُهُمْ وَتُؤْذِيهِمْ فِى أَجْسَادِهِمْ لَكِنْ قُلُوبُهُمْ رَاضِيَةٌ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. هَؤُلاءِ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ تَنَالُهُمْ صَلَوَاتٌ مِنَ اللَّهِ أَىْ رَحَمَاتٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الرَّحْمَةِ فِى الدُّنْيَا تَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ إِنَّمَا الصَّلَوَاتُ هُنَا مَعْنَاهُ الرَّحَمَاتُ الْمَقْرُونَاتُ بِالتَّعْظِيمِ أَىِ الرَّحَمَاتُ الْخَاصَّةُ لِأَنَّ الرَّحَمَاتِ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ، الرَّحَمَاتُ الْعَامَّةُ فِى الدُّنْيَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.
مِنَ الرَّحَمَاتِ الْعَامَّةِ الِانْتِفَاعُ بِالْهَوَاءِ الْعَلِيلِ وَالصِّحَةِ وَالْمَالِ الْوَافِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَمَّا الرَّحَمَاتُ الْخَاصَّةُ لا يَنَالُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّابِرُونَ الْمُسَلِّمُونَ لِلَّهِ تَسْلِيمًا، وَأَوَّلُ شَرْطٍ لِهَذَا أَىْ فِى نَيْلِ اسْتِحْقَاقِ الرَّحَمَاتِ الْخَاصَّةِ هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَىِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا تَشْبِيهٍ وَلا تَكْيِيفٍ، وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كُلِّ مَا يَقْضِيهِ عَلَى الْعِبَادِ مِمَّا يَسُرُّهُمْ وَمِمَّا يَسُوؤُهُمْ، أَمَّا الإِيمَانُ بِرَسُولِهِ فَهُوَ التَّسْلِيمُ لَهُ ﷺ بِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْعِبَادِ فِى هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوْ كَانَ مِمَّا يَحْدُثُ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِى الْبَرْزَخِ وَفِى الآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ ﷺ بِمَا جَاءَ بِهِ بِلا اسْتِثْنَاءٍ، هَذَا هُوَ الإِيمَانُ أَمَّا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة] الْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُسَلِّمُونَ غَيْرُ مُعْتَرِضِينَ عَلَى رَبِّهِمْ بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَى الِاعْتِقَادِ الَّذِى هُمْ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ، مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الَّذِى هُمْ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ اعْتِقَادُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمَعْنَى الَّذِينَ قَالُوا (إِنَّا لِلَّهِ)، مَعْنَاهُ أَىْ عَرَفُوا وَاعْتَقَدُوا وَجَزَمُوا بِأَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يَشَاءُ (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَىْ أَنَّهُمْ مَآلُهُمْ إِلَى الْجَزَاءِ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بَدْؤُهُ فِى الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمُعْظَمُهُ فِى الآخِرَةِ، الْجَزَاءُ الَّذِى يَكُونُ فِى الْبَرْزَخِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَسُرُّهُمْ مَتَى مَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُوؤُهُمْ بَلْ هُمْ فِى حَالٍ كَحَالِ مَنْ كَانَ مَسْجُونًا وَكَانَ فِى قَحْطٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَخَرَجَ مِنَ الْقَحْطِ وَالْمَجَاعَةِ إِلَى الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ هَذَا الْقَبْرُ الَّذِى تَخَافُهُ النُّفُوسُ لَيْسَ مَا يَحْدُثُ فِيهِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بَلْ بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ الْقُبُورُ لَهُمْ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ لَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْقُصُورَ الْفَاخِرَةَ وَكَانَ عِنْدَهُمْ نَعِيمٌ كَثِيرٌ وَاسِعٌ، بَلْ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ رَاحَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَلَذُّ، يَكْفِى فِى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ كُلَّ يَوْمٍ مَقْعَدَهُمْ فِى الْجَنَّةِ أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً، هَذَا يَفُوقُ كُلَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا الَّتِى كَانُوا يُصِيبُونَهَا لَمَّا كَانُوا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ لا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ فِى قُبُورِهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ مِنْ هَوَامٍّ وَلا يَخَافُونَ مِنْ وَحْدَةِ الْقَبْرِ وَلا وَحْشَةِ الظُّلْمَةِ كُلُّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ. وَكَذَلِكَ تُرْفَعُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ أَىْ مَسَافَةُ الْقَبْرِ، وَهُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ كَتَنْوِيرِ الْقَبْرِ. وَأَمَّا فِى الآخِرَةِ فَمَا يَكُونُ مِنَ النَّعِيمِ أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ.
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ مَعْنَاهُ نَحْنُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ فِينَا مَا يُرِيدُ وَنَحْنُ رَاضُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِنَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُلائِمُ النُّفُوسَ أَوْ كَانَ مِمَّا لا يُلائِمُ طَبَائِعَ النُّفُوسِ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى النُّفُورِ مِنْ أَشْيَاءَ وَعَلَى الْمَيْلِ إِلَى أَشْيَاءَ، هَؤُلاءِ يُسَلِّمُونَ لِلَّهِ تَسْلِيمًا فِيمَا يُلائِمُ نُفُوسَهُمْ وَفِيمَا لا يُلائِمُ نُفُوسَهُمْ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ.
وَفِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِيمَا يُقَالُ فِى الصَّلاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَةِ وَالْقِرَاءَةِ «نَحْنُ لَكَ وَإِلَيْكَ» وَفِى مُرْسَلِ أَبِى دَاوُدَ فِى مَرَاسِيلِهِ أَىِ الْكِتَابِ الَّذِى أَلَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ فِى الْمَرَاسِيلِ أَىِ الأَحَادِيثِ الَّتِى يَذْكُرُهَا التَّابِعُونَ وَلا يَذْكُرُونَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ نَقَلُوا مِنْهُمْ هَذِهِ الأَحَادِيثَ، هَذِهِ يُقَالُ لَهَا الْمَرَاسِيلُ، أَبُو دَاوُدَ لَهُ كِتَابٌ اسْمُهُ الْمَرَاسِيلُ جَمَعَ فِيهِ مَا كَانَ مُرْسَلًا، كَثِيرًا مِنَ الْمُرْسَلاتِ جَمَعَ فِى هَذَا «اللَّهُمَّ إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ وَإِلَيْكَ» مَعْنَى «إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ» مَعْنَاهُ أَصْلُ وُجُودِنَا بِكَ أَىْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ فَلَوْلا مَشِيئَتُكَ وَقُدْرَتُكَ مَا وُجِدْنَا، فَكَذَلِكَ كُلُّ الصِّفَاتِ الَّتِى فِينَا فَهِىَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بِكَ أَىْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَعِلْمِكَ. لا شَىْءَ مِنَّا كَانَ أَىْ وُجِدَ إِلَّا بِكَ إِلَّا بِخَلْقِكَ وَقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَعِلْمِكَ، نَحْنُ ذَوَاتُنَا وَصِفَاتُنَا الدَّائِمَةُ وَالطَّارِئَةُ الَّتِى تَتَغَيَّرُ فِينَا كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِكَ وُجِدَ، بِمَشِيئَتِكَ وَعِلْمِكَ وَتَقْدِيرِكَ وَقَضَائِكَ وُجِدَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ فِى هَذَا الأَثَرِ الْمُرْسَلِ «وَإِلَيْكَ» مَعْنَاهُ أَىْ مَرْجِعُنَا إِلَيْكَ، أَىْ كُلُّ وَاحِدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ سَيَمُوتُ. إِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ عَلَى حَالَةٍ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ، يَكُونُ مَنْ مَاتَ عَلَى حَالَةٍ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْفَائِزِينَ، الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ لَهُمُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالآخَرُونَ الَّذِينَ هُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ يَكُونُ مَآلُهُمُ النَّكَدَ وَالْعَذَابَ الأَلِيمَ.
ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُصِيبَةَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ فِى هَذِهِ الآيَةِ لِيُفْهِمَنَا أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَإِنَّهَا تُفِيدُهُ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ الْمُؤْمِنَ إِنْ رَضِىَ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى كُلِّ مَا يُصِيبُهُ تُرْفَعُ لَهُ بِهَذِهِ الْمُصِيبَةِ دَرَجَةٌ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ أَىْ تُمْحَى عَنْهُ بَعْضُ ذُنُوبِهِ، لا تَمُرُّ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا هَذِهِ الْفَائِدَةَ وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ، بِهَذِهِ الْمُصِيبَةِ الَّتِى لا بَالَ لَهَا عِنْدَ النَّاسِ كَالشَّوْكَةِ الَّتِى يُشَاكُهَا الْمُسْلِمُ أَوِ الْهَمِّ الَّذِى يَسُوءُ الْمُسْلِمَ مِنَ الْهَمِّ الصَّغِيرِ الَّذِى هُوَ لَيْسَ ذَا تَأْثِيرٍ كَبِيرٍ. أَمَّا الْهَمُّ الَّذِى لَهُ تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ فَيَزْدَادُ اسْتِفَادَةً الْمُسْلِمُ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ عُظْمِ ذَلِكَ الْهَمِّ. ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ فِى أَيَّامِ الْهَرْجِ يُلازِمُونَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ بِقَدْرِ الإِمْكَانِ أَىْ لا يَعْصُونَهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِى، بَلْ هَؤُلاءِ يَلْزَمُونَ طَاعَتَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى أَوْقَاتِ الْهَرْجِ، وَالْهَرْجُ هُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِى ذَلِكَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «الْعِبَادَةُ فِى الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ» أَىِ الَّذِى يَلْتَزِمُ طَاعَةَ اللَّهِ فِى الْهَرْجِ أَىْ فِى أَيَّامِ كَثْرَةِ الْقَتْلِ، الَّذِى يَلْتَزِمُ طَاعَةَ اللَّهِ فِى أَيَّامِ الْقَتْلِ كَأَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا أَىْ فِى الْوَقْتِ الَّذِى كَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا. بَعْدَمَا هَاجَرَ الرَّسُولُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ كَانَتِ الْهِجْرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَرْضًا، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَلْحَقَ بِالرَّسُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَ بِالرَّسُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يُؤَازِرَ الدَّعْوَةَ الإِسْلامِيَّةَ بِوُجُودِهِ حَوْلَ الرَّسُولِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ عَلَى أُهْبَةِ الِاسْتِعْدَادِ إِنِ اسْتَنْفَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ لِيَنْفِرُوا وَيُسَاعِدُوهُ فِى نَشْرِ الدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ. لِهَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمِ كَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا، كَانَ عَلَى مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ وَبَقِىَ فِى بَلْدَتِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، هُوَ مُؤْمِنٌ وَأَهْلُ بَلْدَتِهِ مُشْرِكُونَ ذَنْبٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَبَائِرِ إِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا، أَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِأَنْ يَلْحَقَ بِالرَّسُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِىَ فِى مَكَانِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ مَا عَلَيْهِ ذَنْبٌ. الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ جَعَلَ الَّذِى يَلْتَزِمُ عِبَادَةَ اللَّهِ طَاعَةَ اللَّهِ فِى أَيَّامِ الْهَرْجِ كَالَّذِى هَاجَرَ إِلَيْهِ فِى وَقْتٍ كَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا. وَكَانَ ذَنْبُ مَنْ يَرْجِعُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَمَنْ يَتْرُكُ الْمَدِينَةَ وَيَرْجِعُ إِلَى بَلَدِهِ الَّتِى هِىَ بَعْدُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ذَنْبُهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ أَيْضًا، مِثْلُ ءَاكِلِ الرِّبَا وَمَانِعِ الزَّكَاةِ، مَانِعُ الزَّكَاةِ ذَنْبُهُ كَبِيرٌ عِنْدَ اللَّهِ، كَذَلِكَ الَّذِى يَأْكُلُ الرِّبَا، كَذَلِكَ هَذَا الَّذِى هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَرَكَ، قَطَعَ هَذِهِ الْهِجْرَةَ وَرَجَعَ عَادَ إِلَى أَهْلِهِ الْمُشْرِكِينَ. أَمَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ سَقَطَتْ فَرْضِيَّةُ الْهِجْرَةِ الْمُسْلِمُ أَيْنَمَا كَانَ يَعِيشُ يَتَّقِى رَبَّهُ، لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْهِجْرَةُ الَّتِى كَانَتْ فَرْضًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَبَبَ تَدَفُّقِ الْعَرَبِ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى الإِسْلامِ، بَعْدَ الْهِجْرَةِ تَدَفَّقُوا لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [سُورَةَ النَّصْر]، الرَّسُولُ ﷺ عَلِمَ أَنَّ دِينَهُ انْتَشَرَ وَسَيَزْدَادُ انْتِشَارًا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ أَتْبَاعًا، مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مَا وَجَدَ مِمَّنْ دَخَلَ فِى دِينِهِ كَعَدَدِ مَنْ دَخَلَ فِى دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِى دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ وَأَكْثَرُ وَأَكْثَرُ مِمَّنِ اتَّبَعَ مُوسَى عَلَى الإِسْلامِ وَمِمَّنِ اتَّبَعَ عِيسَى عَلَى الإِسْلامِ وَمِمَّنِ اتَّبَعَ إِبْرَاهِيمَ وَمِمَّنِ اتَّبَعَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، مَنْ تَبِعَ مُحَمَّدًا أَكْثَرُ مِمَّنْ تَبِعَ الأَنْبِيَاءَ الأَوَّلِينَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمِيعُهُمْ أَرْبَعِينَ صَفًّا وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ثَمَانِينَ صَفًّا؛ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مَنْ ءَامَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَمَاتُوا عَلَى الإِسْلامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَمَانُونَ صَفًّا وَأُمَمُ سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ جَمِيعُهُمْ يَكُونُونَ أَرْبَعِينَ صَفًّا، اللَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِأَنَّ الدِّينَ يَنْتَشِرُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الأَمِينِ وَءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ.