قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحَيًا وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِر/26].
الشَّرْحُ أَنْزَلَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَحْيًا وَالْوَحْىُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَأْتِى بِهِ الْمَلَكُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى النَّبِىِّ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُنْزِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ النَّبِىِّ بِلا وَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ الْكَلامُ الذَّاتِىُّ كَمَا سَمِعَ مُوسَى وَكَمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بَعْدَ أَنْ وَصَلَ إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِى كَانَ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ كُلُّ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ وَحْىٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَإِنَّ الْقُرْءَانَ كَلامُ اللَّهِ» إِلَى قَوْلِهِ «أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ» ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى حَادِثٌ لِأَنَّ كَلِمَةَ «مِنْهُ بَدَا» تُوهِمُ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُ عَقِيدَةَ الصَّوْتِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ كَلامُ اللَّهِ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ وَلا يَعْتَقِدُونَ لِلَّهِ كَلامًا غَيْرَ ذَلِكَ هَؤُلاءِ مُشَبِّهَةٌ لَكِنَّ الطَّحَاوِىَّ نَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا» فَنَفَى أَنْ يَكُونَ كَلامُ اللَّهِ الذَّاتِىُّ حَرْفًا وَصَوْتًا لِأَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّةٌ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ «مِنْهُ بَدَا» قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِأَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ حَادِثًا وَإِنَّمَا الْحُدُوثُ لِسَمَاعِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فَسَمَاعُ أُولَئِكَ حَادِثٌ أَمَّا مَسْمُوعُهُمْ لَيْسَ حَادِثًا كَمَا أَنَّهُ يُرِى الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَاتَهُ الأَزَلِىَّ الأَبَدِىَّ وَرُؤْيَتُهُمْ لَهُ حَادِثَةٌ أَمَّا الْوَهَّابِيَّةُ حِينَ يَقْرَءُونَ هَذَا الْكِتَابَ يُعْجِبُهُمْ مِنْهُ قَوْلُهُ «مِنْهُ بَدَا» وَلا يَفْهَمُونَ مَعْنَى «بِلا كَيْفِيَّةٍ» عَلَى حَسَبِ مُرَادِ الْمُؤَلِّفِ وَيُعْجِبُهُمْ أَيْضًا قَوْلُهُ «بِالْحَقِيقَةِ» فَيُقَالُ لَهُمْ مُرَادُهُ بِالْحَقِيقَةِ أَنَّ الْقُرْءَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِىِّ وَعَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا إِطْلاقًا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ كِلا الإِطْلاقَيْنِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِى قَوْلَهُ السَّابِقَ «بِلا كَيْفِيَّةٍ» فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ فِيهَا غُمُوضٌ الْوَهَّابِىُّ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِجِهَتِهِ وَالسُّنِّىُّ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِجِهَتِهِ الْوَهَّابِىُّ يَقُولُ «مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا» هَذَا هُوَ اللَّفْظُ وَيَقُولُ الإِنْزَالُ لا نَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهُ لَكِنْ هُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ «بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا» يَعْنِى تَكَلُّمُهُ بِهِ بِلا حَرْفٍ وَصَوْتٍ لِأَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّةٌ وَهُوَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ذَكَرَ فِى بَعْضِ رَسَائِلِهِ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ لا كَتَكَلُّمِنَا يَتَكَلَّمُ بِلا حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَالطَّحَاوِىُّ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ أَلَيْسَ قَالَ فِى ابْتِدَاءِ الْكِتَابِ «عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِى حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ… ».