الخميس نوفمبر 21, 2024

نصيحة عامة في بيان من له حق التصحيح والتضعيف

أيها القراء هاكم ميزانًا يُعرف به من له حق التصحيح والتضعيف في الحديث ومن ليس له ذلك ومن هو الحافظ.

التصحيح والتضعيف من وظيفة الحافظ، فلنقدم تعريف الحافظ الذي له أهلية ذلك ثم لنتبعه بنصوص علم الحديث القاضية باختصاص الحافظ بذلك دون من سواه.

ففي “التدريب شرح التقريب مختصر علوم الحديث” عن الحافظ تقي الدين السبكي ما لفظه [187]: “أنه سأل شيخ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ؟ قال: يرجع إلى أهل العُرف، فقلت: وأين أهل العرف؟ قليل جدًا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب، فقلتُ له: هذا عزيز في هذا الزمان” ا.هـ. ثم ذكر [188] عن الحافظ ابن سيد الناس أن الحافظ مَنْ توسع في معرفة الحديث رواية ودراية وجمع الروايات والاطلاع على كثير من الرواة والروايات في عصره بحيث يكون ما يعرفه من شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة أكثر مما يجهله منها.

ثم قال السيوطي [189]: “وسأل شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر شيخه أبا الفضل العراقي فقال: ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظًا، وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟ فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت ءاخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك، وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رءاه بهذا الوصف إلا الدمياطي وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه وما فوق” ا.هـ.

ثم قال السيوطي [190]: “ومن ألفاظ الناس في معنى الحفظ قال ابن مهدي الحفظ: الإتقان” ا.هـ، ثم قال [191]: “ومما روي في قدر حفظ الحفاظ قال أحمد بن حنبل: انتقيت المسند من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث” ا.هـ، ثم قال [192]: “وقال البخاري: احفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وقال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة” ا.هـ.

ثم قال عن الحاكم [193]: “وسمعت أبا بكر –يعني ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة- يقول: كتبت بأصابعي عن مطين مائة ألف حديث” ا.هـ.

ثم من المهم في هذا العلم التلقي كما ذكر الحافظ السلفي فقال في أبيات له منها هذان البيتان:

 

بادِر إلى حِفظِ الحديثِ وكَتْبهِ *** واجهَدْ على تصحيحه من كُتْبهِ

واسمعْهُ من أشياخه نقلاً كما *** سمعوه من أشياخهم تسعدْ بهِ

 

وقال ابن الصلاح في علوم الحديث [194]: “وأما التصحيف فسبيل السلامة الأخذ من أفواه أهل العلم أو الضبط، فإن من حُرِمَ ذلك وكان أخذه وتعلمه من بطون الكتب كان من شأنه التحريف ولم يفلت من التبديل والتصحيف” ا.هـ.

أخبِرنا هل ينطبق عليك هذا الوصف، وهل يُعرف لك شيوخ في الحديث وسماع من ألفاظهم، ولا أراك إلا مطالعًا من المطالعين، وهل قرأت في ترجمة لحافظ أو محدث أنه اقتصر على المطالعة من غير أن يدور على الشيوخ ويسمع منهم كما سمعوا ممن قبلهم على عادة أهل الإسناد.

ثم لنقارن بين ما يوجد من كتب الحديث على اختلاف أنواعها في تلك العصور وما يوجد بين أيدينا اليوم منها ليعلم بُعد البون بين من يتسور مرتبة صناعة التصحيح والتضعيف ممن هو بين أظهرنا اليوم وبين أهل الحفظ والصناعة الصادقين المحققين الذين هم أهلها.

ذكر الحافظ ابن حجر في “التلخيص الحبير” أنه مرّ لاستقصاء طرق حديث: “إنما الأعمال بالنيات” على أكثر من ثلاثة ءالاف جزء من الأجزاء الحديثية [195]. وهذه الأجزاء في عرفهم ما عدا الجوامع والمسانيد والمعاجم والمشيخات والأطراف ولا يوجد اليوم بين أظهرنا أكثر من خمسين جزءًا.

سلوا عصرينا هذا الذي نحن بصدد الرد عليه كم عنده من هذه الأجزاء وكم رأت عيناه منها؟.

فالسنن الستة من قبيل الجوامع، ومسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى من قبيل المسانيد، والمعاجم ما كان من قبيل معجم الطبراني.

وأجمع كتاب للمتون يوجد بين أظهرنا اليوم “الجامع الكبير” للسيوطي، قال عنه بعض تلاميذه أنه يحتوي على ثمانين ألف حديث. وهو عزيز الوجود اليوم توجد نسخة كاملة بزبيد، ونسخة بعكا، ونسخة هنا بدمشق بيد رجل، ونسخة بمصر ولم يطبع بعد فيما بلغنا [196].

وأما “سنن البيهقي” وهو أكبر كتاب حجمًا في الحديث يقتنيه الواحد منا لكنه لا يحتوي على نصف ما يحتوي عليه “الجامع الكبير”.

فإذا وضح هذا وتقرر فلنشرع في إيراد نصوص كتب الحديث على أن التصحيح والتضعيف على الاستقلال من وظيفة الحافظ لا غير، وهذا هو المقصود الأولي من النصيحة.

قال الحافظ السيوطي في ألفيته [197] في علم الأثر:

 

وخُذه حيثُ حافظٌ عليه نص *** ومِن مُصنَّفٍ بجمعه يُخصّ

 

وقال الحافظ سراج الدين البلقيني كما في “التدريب” [198]: “الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر كان شيئًا ينقدح في نفس الحافظ، وقد تقصر عبارته عنه كما قيل في الاستحسان فلذلك صعب تعريفه وسبقه إلى ذلك ابن كثير” ا.هـ.

ففيه كما ترى اشتراط الحفظ في التحسين وأنه من خصائص الحافظ وبالأولى التصحيح [199].

وقال النووي في مختصر علوم الحديث [200]: “وقولهم: حديث حسن الإسناد أو صحيحه دون قولهم حديث صحيح أو حسن، لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة، فإن اقتصر على ذلك حافظ معتمد فالظاهر صحة المتن وحسنه” ا.هـ.

وقال السيوطي من التدريب تفريعًا على قول النووي في المتن المذكور ءانفًا ما نصه: “من رأى في هذه الأزمان حديثًا صحيح الإسناد في كتاب أو جزء ولم ينص على صحته حافظ معتمد، قال الشيخ: -يعني ابن الصلاح-: لا يُحكم بصحته لضعف أهلية أهل هذه الأزمان، والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته” انتهى كلام النووي [201] ما نصه [202]: “ولم يتعرض المصنف ومن بعده كابن جماعة وغيره ممن اختصر ابن الصلاح، والعراقي في الألفية، والبلقيني، وأصحاب النكت إلا للتصحيح فقط وسكتوا عن التحسين” ا.هـ.

ثم قال [203]: “ثم تأملت كلام ابن الصلاح فرأيته سوى بينه وبين التصحيح حيث قال: “فآلَ الأمر إذًا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في كتبهم” وقد منع فيما سيأتي، ووافقه عليه المصنف وغيره، أن يجزم بتضعيف الحديث اعتمادًا على ضعف إسناده لاحتمال أن يكون له إسناد صحيح غيره. ولا شك أن الحكم بالوضع أولى بالمنع قطعًا إلا حيث لا يخفى كالأحاديث الطوال الركيكة التي وضعها القصاص أو ما فيه مخالفة للعقل أو الإجماع” ا.هـ.

فهذا صريح في دفع ما صنع هذا الكاتب من الإقدام على التضعيف للأحاديث المذكورة من غير أن يكون له في ذلك سلف صرح بذلك، وهو يعلم من نفسه أنه ليس بحافظ بل ولا عشر الحافظ في المعنى، ألا فاعجبوا له، ثم اعجبوا.

ثم حاصل بحثنا أن الذي تعطيه القواعد الحديثية أن حديث: “نعم المذكر السبحة” ضعيف بهذا السند لكنه لا يمنع العمل به، وإنما يمنع العمل بالضعيف –سوى الموضوع- إذا كان شديد الضعف وهو الذي ينفرد به كذاب، أو متهم بالكذب، أو مَنْ فحش غلطه، فهذا السند لا يعلم فيه أحد من هؤلاء، ولا نص أحد من الحفاظ بهذا التفرد فيه وينطبق عليه الشرط الآخر وهو الدخول تحت أصل عام.

والأصل العام هنا ما يؤخذ من حديث التسبيح بالحصى من صحة الاستعانة على الضبط للعدد بكل ما هو في معناها، فلا مانع من جهة الحديث من العمل على أنه قد جوز العمل بالحديث الضعيف من غير قيد بعض أهل الحديث كأحمد بن حنبل وأبي داود وابن مهدي وابن المبارك كما في التدريب [204] وغيره من كتب الاصطلاح.

 

الهوامش:

[187] تدريب الراوي [ص/20].

[188] تدريب الراوي [ص/20].

[189] تدريب الراوي [ص/21].

[190] تدريب الراوي [ص/21].

[191] تدريب الراوي [ص/21].

[192] تدريب الراوي [ص/22].

[193] مقدمة ابن الصلاح [ص/108].

[194] قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير [1/55]: “تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة ءالاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقًا” ا.هـ.

[195] أي في وقت تأليف هذا الكتاب وهو سنة 1374هـ – 1956ر، وقد طبع حديثًا في القاهرة في مجلدين ضخمين، وفي بيروت طبعة دار الفكر.

[196] ألفية السيوطي في علم الحديث [ص/12].

[197] تدريب الراوي [ص/99].

[198] ادّعى الألباني جهلاً منه بقواعد الحديث أنه لا يشترط الحفظ إنما تكفي الأهلية، انظر رسالته التي ألفها في الرد على التعقب [ص/55-60]، وكفاه بهذا جهلاً.

[199] التقريب والتيسير: النوع الثاني، الحسن [ص/25].

[200] التقريب والتيسير: النوع الأول: الصحيح، المسئلة السادسة [ص/24].

[201] تدريب الراوي [ص/91].

[202] تدريب الراوي [ص/91-92].

[203] تدريب الراوي: النوع الثاني والعشرون، المقلوب [ص/196].

[204] قال البخاري في “الأدب المفرد” [ص/231]: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا المطلب بن زياد، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله الأصفهاني، عن محمد بن مالك بن المنتصر، عن أنس بن مالك: أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير”.