بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ.
الشَّرْحُ مَعْنَى «بِسْمِ اللَّهِ» أَيْ أَبْتَدِئُ بِاسْمِ اللَّهِ، وَلَفْظُ الْجَلالَةِ «اللَّهُ» عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ، وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِيَ الْقُدْرَة ُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ أَيْ إِبْرَازِ الْمَعْدُومِ إِلَى الْوُجُودِ. وَاسْمُ اللَّهِ عَلَمٌ غَيْرُ مُشْتَّقٍ قَالَ الْخَلِيلُ بنُ أَحْمَدَ الْفَرَاهِيدِيُّ: اسْمُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ اللَّهُ لَيْسَ مُشْتَّقًا بَلْ مُرْتَجَلٌ وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الأَكَابِرُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ.
وَ«الرَّحْمٰنِ» أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ، وَ«الرَّحِيمِ» أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَمَعْنَى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» نُثْنِي عَلَى اللَّهِ وَنَمْدَحُهُ بِأَلْسِنَتِنَا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا نُحْصِيهَا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، وَ«رَبِّ الْعَالَمِينَ» مَعْنَاهُ ماَلِكُ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ، هَذَا مَعْنَى الْعَالَمِينَ بِحَسَبِ الأَصْلِ، وَقَدْ يَرِدُ هَذَا اللَّفْطُ بِمَعْنَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/1]. وَ«الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ» أَيِ الَّذِي قَدَّرَ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَم،ِ قَدَّرَ لِلْخَلْقِ أَرْزَاقَهُمْ وَتَطَوُّرَاتِهِمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ وَكُلَّ مَا يَطْرَأُ أَوْ يَحْدُثُ فِيهِمْ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ لِأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لا يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهَا مِنَ الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَشَىْءٍ مِنْ أَحْكَام ِ الْمُعَامَلاتِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.
الشَّرْحُ أَنَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَغْلَبَ أُمُورِ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مَعْرِفَتُهَا فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَوَاجِبَاتِ الْقَلْبِ وَمَعَاصِي الْجَوَارِحِ وَالتَّوْبَةِ. وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مَعْرِفَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، فَمَعْرِفَةُ كُلِّ نَسَبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ وَمَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ لَيْسَا مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ بَلْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ [أمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ]، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخْرَى فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاتِ وَالْعِبَادَاتُ: الطَّهَارَةُ وَالصَّلاةُ وَالْحَجُّ وَالصِّيَامُ وَالزَّكَاةُ، أَمَّا الْمُعَامَلاتُ فَهِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقَرْضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ وُلِدَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ لِلْهِجْرَةِ، وَفِي أَجْدَادِهِ شَخْصٌ اسْمُهُ شَافِعٌ لِذَلِكَ لُقِّبَ بِالشَّافِعِيِّ، وَمَذْهَبُهُ يُقَالُ لَهُ «الْمَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ»، وَمَنْ عَرَفَ مَذْهَبَهُ وَعَمِلَ بِهِ يُقَالُ لَهُ «شَافِعِيُّ».
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِح ِ كَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانَ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أَيْ بَيَانَ ذُنُوبِ الْقَلْبِ وَذُنُوبِ الْجَوَارِحِ، وَالْجَوَارِحُ جَمْعُ جَارِحَةٍ وَهِيَ أَعْضَاءُ الإِنْسَانِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأَصْلُ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَضْرَمِيِّينَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ ثُمَّ ضُمِّنَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ نَفَائِسِ الْمَسَائِلِ.
الشَّرْحُ أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْكِتَابِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ الْعَلَوِيِّ الْحَضْرَمِيِّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَالْعَلَوِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى عَلَوِي بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ، ثُمَّ زَادَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى الأَصْلِ زِيَادَاتٍ جَيِّدَةً وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الِاخْتِصَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِينَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُلْتَزَمًا عِنْدَهُمْ أَنْ لا يُبْدِلَ الْمُخْتَصِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ بَعْضَ مَا فِي الأَصْلِ أَوْ أَنْ لا يَأْتِيَ بِزِيَادَةٍ .
وَالشَّىْءُ الْحَسَنُ يُقَالُ لَهُ «نَفِيسٌ» الْمُذَكَّرُ يُقَالُ لَهُ نَفِيسٌ وَمُؤَنَّثُهُ «نَفِيسَةٌ» كَقَوْلِهِمْ هَذِهِ خَصْلَةٌ نَفِيسَةٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعَ حَذْفِ مَا ذكَرَهُ فِي التَّصَوُّفِ وَتَغْيِيرٍ لِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِمَّا لا يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ. وَقَدْ نَذْكُرُ مَا رَجَّحَهُ بَعْضٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ كَالْبُلْقِينِيِّ لِتَضْعِيفِ مَا فِي الأَصْلِ.
الشَّرْحُ تَرَكْنَا مِنَ أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَوُّفِ وَضَعَّفْنَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي الأَصْلِ وَذَكَرْنَا مَا رَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الشَّيْخُ عُمَرُ بنُ رَسْلانَ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسٍ وَكَانَ فِي عَصْرِهِ عَالِمَ الدُّنْيَا. وَالْبُلْقِينِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى بُلْقِينَةَ بَلْدَةٍ فِي مِصْرَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَنْبَغِي عِنَايَتُهُ بِهِ لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ أَسْمَينَاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِيِّ الْكَافِلَ بِعْلِمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ.
الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» [أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيـمَانِ وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ كَمَا «فِي التَّنْقِيحِ فِي مَسْئَلَةِ التَّصْحِيحِ» لِلسُّيُوطِيِّ] أَيْ عِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ الشَّامِلِ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ، وَالشَّامِلِ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الصَّلاةِ وَالطَّهَارَةِ شُرُوطًا وَأَرْكَانًا وَمُبْطِلاتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ عِلْمِ الدِّينِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُخْتَصَرُ حَاوِيًا لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ كَانَ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ أَيْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهَا.
فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ وَيُخْلِصَ النِّيَّةَ فِيهِ لِلَّهِ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ.
وَالْكَافِلُ مَعْنَاهُ الْجَامِعُ لِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [فِي سُنَنِهِ]، الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي خَرَجَ فِي طَلَبِ عِلْمِ الدِّينِ فِي بَلَدِهِ أَوْ إِلَى غُرْبَةٍ ثَوَابُهُ كَثَوَابِ الْخَارِجِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَهَذَا الَّذِي خَرَجَ يَطْلُبُ عِلْمَ الدِّينِ مِثَالُهُ كَمِثَالِ هَذَا الَّذِي خَرَجَ حَامِلًا سِلاحَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ لِيُقَاتِلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلْمَ الدِّينِ سِلاحٌ يُدَافِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الشَّيْطَانَ وَيُدَافِعُ بِهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَيُدَافِعُ بِهِ هَوَاهُ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الآخِرَةِ وَمَا يَضُرُّهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ الْمَرْضِيِّ لِلَّهِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَى فَاعِلِهِ.