(مَعْنَى الْقَدَرِ وَالإِيمَانِ بِهِ)
(قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَدَرُ هُوَ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ) وَيُقَالُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْقَدَرُ هُوَ جَعْلُ كُلِّ الأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِىَ عَلَيْهِ (فَيُوجِدُهَا) اللَّهُ (فِى الْوَقْتِ الَّذِى عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ) فَالْمُرَادُ بِالْقَدَرِ هُنَا صِفَةُ اللَّهِ التَّقْدِيرُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْدُورَ الَّذِى يُوصَفُ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ (فَيَدْخُلُ فِى ذَلِكَ) أَىْ فَيُوجَدُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ (عَمَلُ الْعَبْدِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاخْتِيَارِهِ) فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً مِنَ السَّيِّئَاتِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الإِيمَانِ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ) أَرْكَانَ الإِيمَانِ هِىَ هَذِهِ السِّتَّةُ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ وَالإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالإِيمَانُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَىْ بِأَنَّ (الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِى قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى) عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ (وَفِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وُجِدَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ) فَالْمُرَادُ بِالْقَدَرِ[1] فِى هَذَا الْحَدِيثِ الْمَقْدُورُ أَىِ الْمَخْلُوقُ الَّذِى يُوجَدُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ وُصِفَ فِى الْحَدِيثِ بِأَنَّ مِنْهُ خَيْرًا وَمِنْهُ شَرًّا (وَأَمَّا تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بِالشَّرِّ بَلْ) يُقَالُ (تَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ) أَىِ (الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ لِلإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ حَسَنٌ مِنْهُ) وَ(لَيْسَ قَبِيحًا) فَالْعَمَلُ الْقَبِيحُ هُوَ مَا قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَمَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ لِحُصُولِ هَذَا الْعَمَلِ وَإِيجَادُهُ لَهُ فَلَيْسَ قَبِيحًا فَكَمَا لا يُقَبَّحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْدِيرُ الذَّوَاتِ الْقَبِيحَةِ وَتَخْلِيقُهَا كَذَلِكَ لا يُقَبَّحُ مِنْهُ تَقْدِيرُ الأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَتَخْلِيقُهَا (فَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِى جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا) لا تَتَخَلَّفُ (فَمَا عَلِمَ) فِى الأَزَلِ (كَوْنَهُ) فِى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ (أَرَادَ كَوْنَهُ فِى الْوَقْتِ الَّذِى) عَلِمَ أَنَّهُ (يَكُونُ فِيهِ) وَأَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ فَلا) يَكُونُ إِذْ لا (يَحْدُثُ فِى الْعَالَمِ شَىْءٌ) أَىْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ (إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلا يُصِيبُ الْعَبْدَ شَىْءٌ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلا يُخْطِئُ الْعَبْدَ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ وَشَاءَ أَنْ يُصِيبَهُ) وَهَذَا كَمَالٌ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِى مِلْكِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ مَغْلُوبًا وَهَذَا مُنَافٍ لِلأُلُوهِيَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَقَدْ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ﴾ وَ(وَرَدَ) فِى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ) أَنْ تَقُولَ صَبَاحًا وَمَسَاءً دُعَاءً مِنْ جُمْلَتِهِ (مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) اﻫ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى السُّنَنِ ثُمَّ تَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ) كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ (وَ)عَلَى هَذَا جَرَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ (رَوَى الْبَيْهَقِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَخْلُصَ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ) أَىْ يَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا لا يُخَالِجُهُ رَيْبٌ (أَنَّ مَا أَصَابَهُ) أَىْ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ وَيُقِرَّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ) اﻫ (أَىْ) فَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَمْرًا مِنَ الأُمُورِ يَجْرِى فِى هَذَا الْعَالَمِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ (لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْقَدَرِ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ) فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ فَقَدْ جَانَبَ الإِيمَانَ[2] وَحَالَفَ الضَّلالَةَ[3].
(وَرَوَى) الْبَيْهَقِىُّ أَيْضًا (بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ وَهِىَ أَرْضٌ مِنَ الشَّامِ فَقَامَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِىَ لَهُ وَكَانَ عِنْدَهُ كَافِرٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ بَلُغَتِهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا) أَىْ لا يَشَاءُ الضَّلالَ لِأَحَدٍ وَلا يُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ وَلا يَخْلُقُهُ فِيهِ (فَقَالَ عُمَرُ لِلتَّرْجُمَانِ مَاذَا يَقُولُ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا فَقَالَ عُمَرُ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ) أَىْ لَعَامَلْتُكَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّ (هُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ) اﻫ أَىْ إِنْ شَاءَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى ضَلالِكَ. (وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ) الأَصْبَهَانِىُّ بِإِسْنَادِهِ (عَنِ ابْنِ أَخِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَمِّهِ) ابْنِ شِهَابٍ (الزُّهْرِىِّ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يُحِبُّ قَصِيدَةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (الَّتِى مِنْهَا هَذِهِ الأَبْيَاتُ) مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ (وَهِىَ
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَـــــــــــــــــا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِى وَعَجَـــــــــــــــــلْ
أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِــــــــــــــــــــدَّ لَـــــــــــــــــهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَــــــــــاءَ فَعَلْ
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ)
وَكَانَ لَبِيدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ لَكِنَّهُ تَرَكَ قَوْلَ الشِّعْرِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ إِلَّا مَا نَدَرَ كَهَذِهِ الأَبْيَاتِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ وَقَوْلِهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْ لَمْ يَأْتِنِى أَجَلِى حَتَّى لَبِسْتُ مِنَ الإِسْلامِ سِرْبَالًا
وَكَانَ يَقُولُ أَبْدَلَنِى اللَّهُ مِنَ الشِّعْرِ خَيْرًا مِنْهُ يَعْنِى الْقُرْءَانَ الْكَرِيمَ (وَمَعْنَى قَوْلِهِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ أَىْ) تَقْوَى اللَّهِ (خَيْرُ مَا يُعْطَاهُ الإِنْسَانُ) لِأَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ كُلِّهَا وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا (وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِى وَعَجَلْ أَىْ) إِنَّ إِبْطَائِى وَإِسْرَاعِى كِلاهُمَا بِإِذْنِ اللَّهِ أَىْ (أَنَّهُ لا يُبْطِىءُ مُبْطِىءٌ وَلا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ) فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَأَخُّرَ مَنْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْخَيْرِ وَإِسْرَاعَ مَنْ يُسْرِعُ إِلَى الشَّرِّ وَإِبْطَاءَ مَنْ يُبْطِئُ عَنِ الشَّرِّ وَمُبَادَرَةَ مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْخَيْرِ كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ (وَقَوْلُهُ أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ أَىْ لا مِثْلَ لَهُ) وَلا عَدِيلَ وَلا كُفْءَ (وَقَوْلُهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ أَىْ) هُوَ مَالِكُ الْخَيْرِ أَىْ (وَالشَّرُّ) فَلا يَحْصُلانِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَتَخْلِيقِهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أَىْ وَالشَّرُّ (وَإِنَّمَا) ثَنَى لَبِيدٌ الْيَدَ تَعْظِيمًا وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ وَ(اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ) دُونَ الشَّرِّ (مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ) وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يُذْكَرُ فِيهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ اكْتِفَاءً بِأَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿سَرَابِيلَ﴾) أَىْ قُمْصَانًا (﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ أَىْ وَالْبَرْدَ لِأَنَّ السَّرَابِيلَ تَقِى مِنَ الأَمْرَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْحَرِّ فَقَطْ) وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ وَلَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِذِكْرِ الْبَرْدِ (وَقَوْلُهُ مَا شَاءَ فَعَلْ أَىْ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ) فَعَلَهُ أَىْ (لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ) بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ (وَمَا أَرَادَ أَنْ لا يَحْصُلَ فَلا يَحْصُلُ وَقَوْلُهُ مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى أَىْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِيمِ اهْتَدَى) بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ (وَقَوْلُهُ نَاعِمَ الْبَالِ أَىْ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ أَىْ مَنْ شَاءَ) اللَّهُ (لَهُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا أَضَلَّهُ) بِعَدْلِهِ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيَخْتَارُ هَذَا الْعَبْدُ الْكُفْرَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِتَقْدِيرِهِ وَتَخْلِيقِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجَبُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ وَأُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَخَالِصِ التَّوْحِيدِ (وَ)عَلَى وِزَانِ مَا قَالَهُ لَبِيدٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ) الإِمَامِ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ (الشَّافِعِىِّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَـــــــــــــــــــأْ وَمَا شِـئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَـادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِى الْعِلْمِ يَجْرِى الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَـَذا خَذَلْـــــــــتَ وَهَـــذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِــــــــــــــــــــــنْ
فَمِنْهُمْ شَـِقىٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيــــــــــدٌ وَهَـذَا قَبِيـحٌ وَهَـذَا حَسَـــــــــــــــــــنْ)
فَفِى هَذِهِ الأَبْيَاتِ يَقُولُ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَا رَبِّ مَا سَبَقَتْ بِهِ مَشِيئَتُكَ فِى الأَزَلِ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وُجُودَهُ لِأَنَّ مَشِيئَتَكَ نَافِذَةٌ وَمُرَادُكَ لا يَتَخَلَّفُ حُصُولُهُ وَأَمَّا مَا أَرَدْتُ أَنَا حُصُولَهُ فَلا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شِئْتَ أَنْتَ ذَلِكَ وَأَنْتَ يَا رَبَّنَا خَلَقْتَ الْعِبَادَ أَىْ أَبْرَزْتَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِى عِلْمِكَ الأَزَلِىِّ وسَعْىُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ سَوَاءٌ كَانَ فَتًى أَوْ مُسِنًّا لا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِكَ فَبَعْضُهُمْ مَنَنْتَ عَلَيْهِ فَوَفَّقْتَهُ لِلإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالصَّلاحِ أَىْ جَعَلْتَهُ يَصِرُفُ اخْتِيَارَهُ إِلَى ذَلِكَ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ خَذَلْتَهُمْ فَلَمْ تُوَفِّقْهُمْ لِلْحَقِّ بَلْ جَعَلْتَهُمْ يَصِرُفُونَ قُدْرَتَهُمْ وَاخْتِيَارَهُمْ لِلشَّرِّ وَأَعَنْتَ فَرِيقًا مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا يُرْضِيكَ مِنَ الأَعْمَالِ وَلَمْ تُعِنِ الْفَرِيقَ الآخَرَ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ النَّاسُ مَا بَيْنَ شَقِىٍّ وَسَعِيدٍ وَقَبِيحٍ وَحَسَنٍ وَمُوَفَّقٍ وَمَخْذُولٍ عَلَى حَسَبِ عِلْمِكَ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِكَ الأَزَلِيَّةِ وَتَقْدِيرِكَ الَّذِى لا يَتَغَيَّرُ (فَتَبَيَّنَ بِهَذَا) الَّذِى سَبَقَ كُلِّهِ (أَنَّ الضَّمِيرَ) الْمُسْتَتِرَ (فِى) فِعْلِ يَشَاءُ مِنْ (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ﴾ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ) أَىْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُ الضَّلالَةَ يَجْعَلُهُ ضَالًّا وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى يَجْعَلُهُ مُهْتَدِيًا وَ(لا) يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ (إِلَى الْعَبْدِ كَمَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ (إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى) لَمَّا اخْتَارَ سَبْعِينَ شَخْصًا لِيَأْخُذَهُمْ لِلتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَبَدَ قِسْمٌ مِنْ قَوْمِهِ الْعِجْلَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا (إنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ) أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ يَا رَبِّ مَا حَصَلَ مِنْ أَمْرِ السَّامِرِىِّ وَالْعِجْلِ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَامْتِحَانٌ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا الْقِسْمَ الَّذِى شِئْتَ أَنْ يَضِلَّ وَهَدَيْتَ الْقِسْمَ الَّذِى شِئْتَ أَنْ يَهْتَدِىَ فَهَذِهِ الآيَةُ تَرُدُّ تَفْسِيرَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلآيَةِ السَّابِقَةِ وَتُبْطِلُهُ فَإِنَّ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ تَتَعَاضَدُ وَلا تَتَنَاقَضُ (وَكَذَلِكَ) أَىْ بِمِثْلِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ (قَالَتْ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى) رَجُلٍ كَانَ شُرْطِيًّا أَيَّامَ الِاحْتِلالِ الْفَرَنْسِىِّ يُدْعَى (أَمِينُ شَيْخُو) تَبِعَهُ أُنَاسٌ تَلَقَّى بَعْضُهُمُ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَلَقَوْا عِلْمَ الدِّينِ فَرَاجَ عَلَيْهِمْ مَا أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ السُّمِّ كَقَوْلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كُفْرَ الْكُفَّارِ فِى الأَزَلِ وَإِنَّمَا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْكُفْرُ فِى قَلْبِ أَحَدِهِمْ يَعْلَمُ بِهِ وَكَقَوْلِهِ إِنَّ جَهَنَّمَ لَيْسَتْ دَارَ عَذَابٍ وَقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ حُصُولَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى مِنَ الْعِبَادِ وَقَوْلِهِ إِنَّ الْبُخَارِىَّ وَمُسْلِمًا كَانَا يَهُودِيَّيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَتْبَاعُهُ هَؤُلاءِ هُمُ (الَّذِينَ زَعِيمُهُمُ الْيَوْمَ عَبْدُ الْهَادِى الْبَانِىُّ الَّذِى هُوَ بِدِمَشْقَ) اﻫ وَهَذَا الْكَلامُ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ فَإِنَّ عَبْدَ الْهَادِى الْبَانِىَّ جَازَاهُ اللَّهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ تُوُفِّىَ مُنْذُ بِضْعِ سَنَوَاتٍ وَصَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِرَقًا تَجْمَعُهَا ضَلالَةُ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ (فَقَدْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ) وحَرَّفُوا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ﴾ (حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى الآيَةِ عِنْدَهُمْ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الِاهْتِدَاءَ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ أَنْ يَضِلَّ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَكَذَّبُوا بِالآيَةِ) الَّتِى فِى سُورَةِ التَّكْوِيرِ (﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾) فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِى كَوْنِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ اللَّهِ لا الْعَكْس (فَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِآيَةٍ) أُخْرَى (مِنَ الْقُرْءَانِ لِضِدِّ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ لَهُ الْقُرْءَانُ يَتَصَادَقُ وَلا يَتَنَاقَضُ فَلَيْسَ فِى الْقُرْءَانِ ءَايَةٌ نَقِيضَ ءَايَةٍ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) أَىْ لا يُقَالُ بِأَنَّ إِحْدَى هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ تَنْسَخُ الأُخْرَى (لِأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ الْعَقَائِدَ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِى كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ (وَ)هُوَ (لَيْسَ مُوجِبًا لِلتَّنَاقُضِ) أَىْ لا يَقْتَضِى تَنَاقُضًا بَيْنَ ءَايَةٍ وَأُخْرَى (فَالنَّسْخُ لا يَدْخُلُ فِى الأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ) دَاخِلٌ (فِى الأَمْرِ وَالنَّهْىِ) فَلا يَقْتَضِى حُصُولُهُ كَذِبَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ (إِنَّمَا النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمِ ءَايَةٍ سَابِقَةٍ) أَوْ حَدِيثٍ سَابِقٍ (بِحُكْمِ ءَايَةٍ لاحِقَةٍ) أَوْ حَدِيثٍ لاحِقٍ (عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ لا تُؤْمِنُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) شُذُوذًا مِنْهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ. (وَمِنْ غَبَاوَتِهِمْ) أَىْ غَبَاوَةِ أَتْبَاعِ أَمِين شَيْخُو (الْعَجِيبَةِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ لَوْ كَانَتِ الأَسْمَاءُ هِىَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَمْ يَقُلِ اللَّهُ) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَيْضًا (﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ بَلْ لَقَالَ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِى انْقَطَعُوا لَكِنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْقُرْءَانِ) أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ وَوَكِيعٌ وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَّمَهُ اسْمْ الصَّحْفَةِ وَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ اﻫ وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ اﻫ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ عَلَّمَ ءَادَمَ مِنَ الأَسْمَاءِ أَسْمَاءَ خَلْقِهِ اﻫ وَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَّمَ اللَّهُ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَهِىَ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الَّتِى يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَبَحْرٌ وَسَهْلٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَرُوِىَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ السَّلَفِ. وَفِى هَذَا كِفَايَةٌ لِبَيَانِ انْحِرَافِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ.
(وَ)هَذِهِ الْعَقِيدَةُ أَىْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ يَحْصُلُ فِى هَذَا الْعَالَمِ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَمْ شَرًّا جِسْمًا أَمْ فِعْلًا هِىَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ بِمَنْ فِيهِمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الرِّجْسِ عَلَيْهِمْ سَلامُ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَى الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلِىَّ الرِّضَا بنَ مُوسَى الْكَاظِمِ) بنِ جَعْفَرِ الصَّادِقِ بنِ مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ بنِ عَلِىٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بنِ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ (كَانَ يَقْعُدُ فِى الرَّوْضَةِ وَهُوَ شَابٌّ مُلْتَحِفٌ بِمُطْرَفِ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ (خَزٍّ) أَىْ رِدَاءٍ مِنْ خَزٍّ ذِى أَعْلامٍ (فَيَسْأَلُهُ النَّاسُ وَمَشَايِخُ الْعُلَمَاءِ فِى الْمَسْجِدِ فَسُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ) أَىْ فِى سُورَةِ الْقَمَرِ (﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ثُمَّ قَالَ الرِّضَا كَانَ أَبِى يَذْكُرُ عَنْ ءَابَائِهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىَّ بنَ أَبِى طَالِبٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ) أَىْ بِتَقْدِيرِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِ الأَشْيَاءِ (حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ) أَىْ حَتَّى الضَّعْفَ فِى الْفَهْمِ وَالذَّكَاءَ وَالْفَطَانَةَ (وَإِلَيْهِ الْمَشِيئَةُ) أَىْ لَهُ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ الْعَامَّةُ الَّتِى لا تَتَغَيَّرُ وَالْغَالِبَةُ لِلْمَشِيئَاتِ كُلِّهَا (وَبِهِ الْحَوْلُ) أَىِ التَّحَوُّلُ وَالِابْتِعَادُ عَنِ الشَّرِّ (وَالْقُوَّةُ اﻫ) أَىْ عَلَى الْخَيْرِ كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ الْبَزَّارِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَعْرِفُ مَعْنَاهَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ اﻫ (فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ) أَىْ بِمَشِيئَةٍ صَادِرَةٍ عَنْهُمْ قَائِمَةٍ بِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ (لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ) أَىْ فَلَيْسَ فِعْلُهُمْ حَاصِلًا مِنْهُمْ بِلا اخْتِيَارٍ وَمَيْلٍ فَلَيْسُوا (كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ) الَّتِى (تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً) بِلا اخْتِيَارٍ مِنْهَا (كَمَا تَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ) الشَّاذَّةُ فَإِنَّ الْجَبْرِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِعْلَ الإِنْسَانِ كُلَّهُ هُوَ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ الأَوَّلُ يَحْصُلُ بِلا اخْتِيَارٍ مِنَ الإِنْسَانِ كَمَا يَحْصُلُ الثانِى بِلا اخْتِيَارٍ مِنَ الْمَاءِ وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْعِبَادِ فِى هَذِهِ الآيَةِ الْمَشِيئَةَ الْخَاصَّةَ بِهِمْ وَالْقَائِمَةَ فِيهِمْ وَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا تَخْرُجُ عَمَّا عَلِمَ اللَّهُ وَشَاءَ وَقَدَّرَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِى لا مَحِيدَ عَنْهُ فَإِنَّ كُلًّا مِنَّا يُحِسُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَحْرِيكِ يَدِهِ بِإِرَادَتِهِ لِلْمُصَافَحَةِ مَثَلًا أَوْ لِلْكِتَابَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ ارْتِجَافِهَا مِنَ الْبَرْدِ وَيَعْرِفُ كُلٌّ مِنَّا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّوْعَ الأَوَّلَ مِنَ الْحَرَكَةِ صَاحَبَهُ مَشِيئَةٌ حَدَثَتْ فِى الْقَلْبِ وَمَيْلٌ إِلَى الْفِعْلِ حَصَلَ فِيهِ ثُمَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةُ الْحَادِثَةُ وَالْمَيْلُ الْحَاصِلُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَا بِخَلْقِ خَالِقٍ لِأَنَّهُ لا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ تَرَجُّحُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلا مُرَجِّحٍ كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ هُوَ خَالِقَ مَشِيئَتِهِ وَمَيْلِ قَلْبِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَّا يَعْرِفُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَحْدُثُ فِيهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ فِيهِ بِتَخْصِيصِ وَتَخْلِيقِ خَالِقٍ عَالِمٍ مُرِيدٍ قَادِرٍ وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ لَوْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لإِرَادَتِهِ الْحَادِثَةِ لَاحْتَاجَ هَذَا التَّخْلِيقُ فِى وُجُودِهِ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى سَابِقَةٍ تُوجَدُ فِيهِ وَلَاحْتَاجَ تَخْلِيقُ هَذِهِ الإِرَادَةِ مِنْهُ إِلَى إِرَادَةٍ سَابِقَةٍ وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّلٍ وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى التَّسَلْسُلِ وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَمَا أَفْضَى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. وَإِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَهِىَ عَمَلُ قَلْبِهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَعْمَالِ بِالأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ أَمِيرُ الْجَوَارِح ِوَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَمِنْ هُنَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْوَصِيَّةِ وَالْعَبْدُ مَعَ أَعْمَالِهِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ مَخْلُوقًا فَأَفْعَالُهُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقًةً اﻫ فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ يَصْدُرَانِ مِنَ الْعَبْدِ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ هَذِهِ وَأَعْمَالَهُ وَيُبْرِزُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ بِاسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ وَبِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ (وَلَوْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ عِصْيَانَ الْعُصَاةِ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةَ الطَّائِعِينَ لَمَا خَلَقَ الْجَنَّةَ) دَارًا لِأَهْلِ النَّعِيمِ قَبْلَ وُجُودِ أَهْلِهَا (وَ)لَمَا خَلَقَ (النَّارَ) وَشَاءَ أَنْ تَكُونَ دَارًا يُعَذَّبُ فِيهَا أَهْلُ الْجَحِيمِ الَّذِينَ تَبِعُوا الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ قَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَكَّنَهُمْ مِنَ الإِغْوَاءِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الضَّلالَةَ وَرَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ بنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لا يُعْصَى لَمَا خَلَقَ إِبْلِيسَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ.
(وَمَنْ يَنْسُبُ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقَ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ) لِزَعْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ حُصُولَ الْخَيْرِ فَقَطْ وَلَمْ يَشَأْ حُصُولَ الشَّرِّ بَلْ حَصَلَ الشَّرُّ فِى الْعَالَمِ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَرُغْمًا عَنْهُ (فَقَدْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَجْزَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ) لَمَا كَانَ دِينُ الْمَجُوسِ بَاطِلًا وَلَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَ(لَكَانَ لِلْعَالَمِ مُدَبِّرَانِ) أَوْ أَكْثَرُ (مُدَبِّرُ خَيْرٍ وَمُدَبِّرُ شَرٍّ) أَوْ أَكْثَرُ (وَهَذَا كُفْرٌ وَإِشْرَاكٌ) كَمَا لا يَخْفَى (وَهَذَا الرَّأْىُ السَّفِيهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِى مُلْكِهِ مَغْلُوبًا) أَىْ نَاقِصَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَمَكْسُورَ السُّلْطَانِ (لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ) أَىِ اعْتِقَادِ الْمُخَالِفِ الَّذِى يَنْفِى عُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ (اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْخَيْرَ فَقَطْ فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ الشَّرُّ مِنْ عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ الْكُفَّارِ رَغْمَ إِرَادَتِهِ) وَذَلِكَ يَعْنِى قَصْرَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَقَصْرَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَكَوْنَ غَيْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفَذَ مِنْهُ مَشِيئَةً وَأَتَمَّ قُدْرَةً وَأَعْلَى سُلْطَانًا (وَ)إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا صَرِيحَ الْعَجْزِ وَوَاضِحَ الْمَغْلُوبِيَّةِ فَأَىُّ شَىْءٍ يَكُونُ الْعَجْزُ إِذًا وَلِذَلِكَ (يَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْىَ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ الأَكَابِرُ سَلَفًا وَخَلَفًا كَمَا سَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (لِمُخَالَفَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ يُوسُفَ (﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَىْ) يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَ(لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَتِهِ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ فِى قَوْلِهِ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ قَالَ فَعَّالٌ اﻫ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىُّ فِى التَّأْوِيلاتِ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَىْ لا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ إِذَا قَضَى أَمْرًا كَانَ لِقَوْلِهِ أَىْ فِى سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ اﻫ
هَذَا حُكْمُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ يُشَارِكُهُ سُبْحَانَهُ فِى صِفَةِ التَّخْلِيقِ (وَ)أَمَّا (حُكْمُ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَيَنْسُبُ إِلَى الْعَبْدِ الشَّرَّ أَدَبًا) أَىْ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ أَوْ قَوْلِ إِنَّهُ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّهِ (أَنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ) كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ خَيْرٍ فِينَا فَمِنَ اللَّهِ وَمَا يَنْزِلُ بِنَا مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِينَا أَوْ كَأَنْ قَالَ الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّنَا نَقُولُ يَا رَبِّ الْخَيْرُ مِنْكَ وَلا نَقُولُ يَا رَبِّ الشَّرُّ مِنْكَ فَإِنَّ إِفْرَادَ الشَّرِّ بِالذِّكْرِ إِسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ وَذَلِكَ كَمَا نَقُولُ اللَّهُ خَالِقُ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالشَّيَاطِينِ وَالْبَهَائِمِ النَّافِعَةِ كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبَهَائِمِ الضَّارَّةِ كَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَلا نُفْرِدُ الشَّيَاطِينَ وَالْخَنَازِيرَ وَالْقِرَدَةَ بِالذِّكْرِ فَنَقُولَ مَثَلًا اللَّهُ خَالِقُ الشَّيَاطِينِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ فَإِنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ كَمَا لا يَخْفَى (أَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ) الْقَائِلُ (أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ) الْحَسَنَ دُونَ الْقَبِيحِ وَ(الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ فَحُكْمُهُ التَّكْفِيرُ) قَطْعًا كَمَا سَلَف.
(وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ الْعَاصِىَ) الَّذِى شَاءَ لَهُ الْوُقُوعَ فِى الْمَعْصِيَةِ وَقَدَّرَهَا عَلَيْهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ (فَبِعَدْلِهِ) يُعَذِّبُهُ (مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ) لَهُ بِذَلِكَ (وَإِذَا أَثَابَ الْمُطِيعَ) الَّذِى مَنَّ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِلطَّاعَةِ (فَبِفَضْلِهِ) يُثِيبُهُ (مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ) وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ التَّصَرُّفُ فِى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ (وَلا ءَامِرَ لِلَّهِ وَلا نَاهِىَ لَهُ فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ) لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ وَهُوَ (خَالِقُ الأَشْيَاءِ) كُلِّهَا (وَمَالِكُهَا) الْحَقِيقِىُّ إِذِ الْعِبَادُ أَنْفُسُهُمْ وَمَا يَمْلِكُونَ مِلْكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ فَيَفْعَلُ عَزَّ وَجَلَّ فِى مِلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَلا يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا وَلا خِلافًا لِلْحِكْمَةِ (وَ)مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِى مَا (قَدْ جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِى رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ) عَبْدِ اللَّهِ بنِ فَيْرُوز أَنَّهُ (قَالَ أَتَيْتُ أُبَىَّ بنَ كَعْبٍ) صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ حَدَثَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ) أَىْ خَطَرَ بِبَالِى خَاطِرٌ خَبِيثٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ (فَحَدِّثْنِى لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِى) بِمَا تَقُولُ (قَالَ) أُبَىٌّ (إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ) مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (وَسَمَاوَاتِهِ) أَىِ الْمَلائِكَةَ (لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ) أَىْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الأَزَلِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ عِبَادِهِ الطَّائِعَ وَالْعَاصِىَ لَمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَىْءٌ قَالَ (وَلَوْ رَحِمَهُمْ) مِنَ الْعَذَابِ (كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) أَىْ أَنَّ مَنْ يرَحَمُهُ اللَّهُ فَيُنَعِّمُهُ فِى الآخِرَةِ يَكُونُ تَنَعُّمُهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ لا شَيْئًا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ بَلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَ كُلَّ عِبَادِهِ الطَّائِعَ مِنْهُمْ وَالْعَاصِىَ وَلا يُعَذِّبَ مِنْهُمْ أَحَدًا فِى الآخِرَةِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا مِنْهُ تَعَالَى وَلا مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ فَالأَمْرُ كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وُجُوبًا عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا مَنْ يَدْخُلُهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ قَالَ أُبَىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) لِلْجِهَادِ (فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ) مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا) الِاعْتِقَادِ لَمُتَّ كَافِرًا وَ(دَخَلْتَ النَّارَ قَالَ) ابْنُ الدَّيْلَمِىِّ (ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ) لَكِنْ (عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اﻫ وَلَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَالثَّلاثَةِ الَّذِينَ قَبْلَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
(وَرَوَى مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الْقَدَرِ) وَغَيْرُهُمَا (عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ الدُّؤَلِىِّ) وَيُقَالُ أَيْضًا الدِئَلِىّ وَالدِّيلِىّ وَاسْمُهُ ظَالِمُ بنُ عَمْرٍو (قَالَ قَالَ لِى عِمْرَانُ بنُ الْحُصَيْنِ) الْخُزَاعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَوْلِيَائِهِمْ (أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ) أَىْ يَسْعَوْنَ (فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ) أَىْ قُدِّرَ عَلَيْهِمْ حُصُولُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ (أَوْ) هُوَ (فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ) أَىْ شَىْءٌ جَدِيدٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ عِلْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى ولا تَقْدِيرٌ أَجِبْ عَنْ ذَلِكَ ءَاخِذًا (مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَ)عَلَى حَسَبِ دِينِهِ الَّذِى (ثَبَتَتِ الْحُجَّةُ) بِهِ (عَلَيْهِمْ) قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ (قُلْتُ بَلْ شَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ) خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَضَى عَلَيْهِمْ) بِتَقْدِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ (قَالَ فَقَالَ) عِمْرَانُ مُمْتَحِنًا (أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا قَالَ) أَبُو الأَسْوَدِ (فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ) فَلا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ظُلْمٌ وَلا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِى مِلْكِهِ (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ مَأْمُورُونَ وَمَنْهِيُّونَ (قَالَ) أَبُو الأَسْوَدِ (فَقَالَ لِى) عِمْرَانُ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّى لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ) أَىْ أُقَدِّرَهُ وَأَمْتَحِنَ فَهْمَكَ (إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ) قَبِيلَةِ (مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَلْ شَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) أَىْ فِى سُورَةِ الشَّمْسِ (﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾) أَىْ وَمَنْ خَلَقَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (﴿فَأَلْهَمَهَا﴾) أَىِ اللَّهُ (﴿فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾) اﻫ فَأَقْسَمَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّ الْفُجُورَ الَّذِى يَحْصُلُ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَالتَّقْوَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ خَلْقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْعِبَادُ يَكْتَسِبُونَهَا اكْتِسَابًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا فَبِفَضْلِ اللَّهِ (وَ)مَنْ عَمِلَ غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ عَلَى مَا اكْتَسَبَ كَمَا (صَحَّ حَدِيثُ) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) الَّذِى وَفَّقَهُ لِذَلِكَ (وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَمَّا الأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِ بِالإِيجَادِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ فَلْيَحْمَدِ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَى تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِ أَمَّا الثَّانِى وَهُوَ مَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْرَزَ بِقُدْرَتِهِ) الأَزَلِيَّةِ (مَا كَانَ) أَىْ وُجِدَ (مِنْ مَيْلِ الْعَبْدِ السَّيِئِ) إِذْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَأَظْهَرَ بِقُدْرَتِهِ مَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَعِدًّا لَهُ (فَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَبِعَدْلِهِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَظْلِمُ أَحَدًا وَيَفْعَلُ فِى مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ (وَمَنْ هَدَاهُ فَبِفَضْلِهِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ وَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِى خِذْلانِ مَنْ خَذَلَهُمْ وَتَعْذِيبِ مَنْ يُعَذِّبُهُمْ كَمَا أَنَّهُ لا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى خَلْقِهِ الأَلَمَ فِى الأَطْفَالِ الصِّغَارِ وَفِى الْبَهَائِمِ الَّتِى تُذْبَحُ لِانْتِفَاعِنَا بِهَا وَلَيْسَ يَتِمُّ أَمْرُ هَذَا الدِّينِ وَلا تَثْبُتُ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِى الإِسْلامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلامِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَتْ أَعْمَالُنَا إِلَّا أَعْلامَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَىْ هِىَ عَلامَاتٌ عَلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ الْعَبْدِ فِى الآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلَيْسَتْ مُوجِبَةً شَيْئًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَ)لَمْ يَبْعَثِ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ ثُمَّ (أَدْخَلَ فَرِيقًا الْجَنَّةَ) لِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ (وَ)أَدْخَلَ (فَرِيقًا النَّارَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لَكَانَ شَأْنُ الْمُعَذَّبِ مِنْهُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ) فِى سُورَةِ طَه (﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ فَأَرْسَلَ اللَّهُ) قَطْعًا لِعُذْرِ الْكُفَّارِ (الرُّسُلَ) مُبَلِّغِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَ(مُبَشِّرِينَ) مَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ (وَمُنْذِرِينَ) مَنْ أَبَى بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ (لِيُظْهِرَ) اللَّهُ (مَا فِى اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ) أَىْ مَا فِى اسْتِعْدَادِ قِسْمٍ مِنَ الْعَبِيدِ (مِنَ الطَّوْعِ وَ)مَا فِى اسْتِعْدَادِ الْقِسْمِ الآخَرِ مِنَ (الإِبَاءِ فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) قَامَتْ عَلَيْهِ وَدَلِيلٍ (وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أَقَامَهَا اللَّهُ لَهُ وَحُجَّةٍ اسْتَرْشَدَ بِهَا (فَأَخْبَرَنَا) اللَّهُ (أَنَّ قِسْمًا مِنْ خَلْقِهِ مَصِيرُهُمُ النَّارُ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِى يَعْمَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَكَانَ تَعَالَى عَالِمـًا بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فَشَاءَ بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَهُمْ عَدَمَ الإِيمَانِ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ مُؤْمِنِينَ لَكَانُوا كَذَلِكَ كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ السَّجْدَةِ (﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَّنَمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِى الأَزَلِ) بِكَلامِهِ الأَزَلِىِّ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسِ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ أَىْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَهْتَدِىَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ لَكَانُوا جَمِيعُهُمْ مُهْتَدِينَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْتَدِىَ الْكُلُّ وَإِنَّمَا شَاءَ الْهِدَايَةَ لِقِسْمٍ وَالضَّلالَ لِقِسْمٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ وَشَاءَ أَنْ يَمُوتَ هَؤُلاءِ عَلَى الضَّلالِ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَمْلَؤُونَهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وَقَوْلُهُ صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ أَىِ التَّغَيُّرَ) فِى خَبَرِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ (كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ فِى حَقِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَ(قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَىْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ جَمِيعِكُمْ إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ) وَالْمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، حَكَى الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ الْكَلامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ[4] فِى حَرْفَيْنِ يُقَالُ لَهُمْ هَلْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا فَإِنْ قَالُوا لا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ جَهَّلُوا رَبَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا عَلِمَ يُقَالُ لَهُمْ هَلْ شَاءَ خِلافَ مَا عَلِمَهُ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ قَالُوا شَاءَ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا وَإِنْ قَالُوا لا رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا اﻫ وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَدَرِىُّ إِذَا سَلَّمَ الْعِلْمَ خُصِمَ اﻫ[5] (فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ) سَوَاءٌ كَانَ إِيمَانًا أَمْ كُفْرًا طَاعَةً أَمْ مَعْصِيَةً (بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ) وَذَلِكَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَلَيْسَ الْعِبَادُ مُجَرَّدِينَ مِنَ الِاخْتِيَارِ كَالرِّيشَةِ الَّتِى تَتَقَاذَفُهَا الرِّيَاحُ وَلا هُمْ خَالِقُونَ لِأَعْمَالِهِمْ بَلِ الْعِبَادُ مُخْتَارُونَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ لَيْسَ مِنَ الْخَوْضِ الَّذِى نَهَى النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا) اﻫ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ لِأَنَّ هَذَا) الْكَلامَ الَّذِى تَقَدَّمَ (تَفْسِيرٌ لِلْقَدَرِ الَّذِى وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) وَأُمِرْنَا بِالتَّصْدِيقِ بِهِ (وَأَمَّا الْمَنْهِىُّ عَنْهُ فَهُوَ الْخَوْضُ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى) مَعْرِفَةِ (سِرِّهِ) فَهُوَ أَمْرٌ لا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُنَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِىٌّ مُرْسَلٌ وَلِذَلِكَ (فَقَدْ) نُهِينَا عَنْ تَكَلُّفِ التَّوَصُّلِ إِلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا (رَوَى) الإِمَامُ (الشَّافِعِىُّ وَالْحَافِظُ) أَبُو الْقَاسِمِ (بنُ عَسَاكِرَ عَنْ) سَيِّدِنَا (عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفْ) مُحَاوَلَةَ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْقَدَرَ أَىِ التَّقْدِيرَ صِفَةٌ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عِلْمُنَا بِالْخَالِقِ عِلْمَ إِحَاطَةٍ (فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ) السَّائِلُ (قَالَ لَهُ أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ) اﻫ أَىْ لَيْسَ الْعَبْدُ مُجْبَرًا عَلَى أَفْعَالِهِ بِلا اخْتِيَارٍ مِنْهُ بَلْ تَحْصُلُ أَفْعَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ مُفَوَّضًا إِلَيْهِ بِحَيْثُ تَخْرُجُ مَشِيئَتُهُ عَنْ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى.
(وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَمَّ الْقَدَرِيَّةَ وَهُمْ فِرَقٌ) أَوْصَلَهَا الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ إِلَى مَا يَزِيدُ عَنْ عِشْرِينَ فِرْقَةً [6] (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَبْدُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِىِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ) مِنْ أَفْعَالِهِ (دُونَ الْخَيْرِ) فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهُ (وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ) لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شَرِيكًا فِى التَّخْلِيقِ فَلَمْ يُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِذَلِكَ (قَالَ) فِيهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَبْلَ ظُهُورِهِمْ تَنْبِيهًا لِأُمَّتِهِ وَتَحْذِيرًا (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ) اﻫ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا (وَفِى رِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَر) اﻫ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَإِنَّمَا شَبَّهَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا فِى الْخَالِقِيَّةِ كَالْمَجُوسِ (وَفِى كِتَابِ الْقَدَرِ لِلْبَيْهَقِىِّ وَكِتَابِ تَهْذِيبِ الآثَارِ لِلإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِى لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِى الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ) اﻫ (فَالْمُعْتَزِلَةُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَالْعَبْدَ سَوَاسِيَةً بِنَفْىِ الْقُدْرَةِ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا يُقْدِرُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ فِى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَثْبَتَ الْمَجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا لِلْخَيْرِ هُوَ عِنْدَهُمُ النُّورُ وَخَالِقًا لِلشَّرِّ هُوَ عِنْدَهُمُ الظَّلامُ) وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَكَانُوا يَقُولُونَ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَاتَ بِلا تَوْبَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ. وَسُمِّىَ الْقَدَرِيَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِنَفْيِهِمُ الْقَدَرَ وَسُمِّىَ الْمُرْجِئَةُ مُرْجِئَةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِرْجَاءِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُؤْمِنِ أَىْ بِتَأْخِيرِهِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ عَلَى الإِطْلاقِ.
وَجَمَعَ الْمُعْتَزِلَةُ بَيْنَ ضَلالَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْقُدَمَاءِ بِنَفْىِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ لِلشَّرِّ إِلَى ضَلالاتٍ أُخْرَى شَذُّوا بِهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهَا مَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْكُفْرِ وَمِنْهَا مَا لا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ بِدْعَةٌ فِى الِاعْتِقَادِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا عَذَابَ النَّارِ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الصَّوَابَ الَّذِى لا يَصِحُّ غَيْرُهُ تَكْفِيرُ الْقَدَرِيَّةِ بِبِدْعَتِهِمْ وَذَلِكَ لِنَصِّ الْقُرْءَانِ عَلَيْهِ وَلِمَا صَحَّ مِنْ نُصُوصٍ حَدِيثِيَّةٍ فِيهِ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَلِقِيَامِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ وَمَعَ الصَّحَابَةِ أَئِمَّةُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ كَالإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ وَالإِمَامِ مَالِكٍ وَالإِمَامِ الشَّافِعِىِّ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ وَالإِمَامِ الأَوْزَاعِىِّ وَالسُّفْيَانَيْنِ[7] وَإِمَامِ أَهْلِ الْبَيْتِ مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ وَغَيْرِهِمْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ تَبَعِ الأَتْبَاعِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَكَابِرُ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ إِلَى أَيَّامِنَا. وَأَمَّا مَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ تَصْحِيحِ عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ سَاقِطٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلٌ فِى مُقَابِلِ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلْ كُلُّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَرْدُودٌ يُطْرَحُ فِى كُلِّ سَهْلٍ وَحَزَنٍ.
(وَ)إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ (الْهِدَايَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ) أَىِ الأَمْرُ بِهِ (وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ) تَعَالَى (كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾) أَىْ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّكَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الْقَصَصِ ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أَىْ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ الِاهْتِدَاءَ فِى قَلْبِ مَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ هَدَى مَنْ يَشَاءُ أَىْ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قَلْبِ مَنْ شَاءَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ فِى الأَزَلِ. (وَ)جَاءَتِ الْهِدَايَةُ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى تَبْيِينِ الْحَقِّ وَالدِّلالَةِ عَلَيْهِ فِى (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ (﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾) أَىْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِثَمُودَ طَرِيقَ الْهُدَى وَأَرْسَلَ فِيهِمْ نَبِىَّ اللَّهِ صَالِحًا فَكَذَّبُوهُ وَاخْتَارُوا الضَّلالَ وَلَمْ يَقْبَلُوا الإِيمَانَ فَأَمَرَ اللَّهُ سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ فَصَاحَ بِهِمْ فَهَلَكُوا (وَالثَّانِى) مِنْ مَعَانِى الْهِدَايَةِ مَا يَكُونُ (مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ) عَلَى مَعْنَى إِيجَادِ (أَىْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِى قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾) أَىْ أَنْ يَجْعَلَهُ مُهْتَدِيًا (﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾) وَيُزَيِّنْهُ لَهُ (﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وَالإِضْلالُ) هُوَ (خَلْقُ الضَّلالِ فِى قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ) فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِيمَانِ فَيَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْهُ وَيَنْفُرُ قَلْبُهُ عَنْ قَبُولِهِ (فَالْعِبَادُ) مَخْلُوقُونَ مُحْتَاجُونَ مَقْهُورُونَ فِى قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْتَ سُلْطَانِهِ (مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ) لا غَالِبَةٌ لَهَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الإِنْسَانِ (﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى ضَلالِ) الْقَدَرِيَّةِ وَمِنْهُمْ (جَمَاعَةُ أَمِين شَيْخُو لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الضَّلالَ يُضِلُّهُ اللَّهُ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِى هَذِهِ الآيَةِ) الَّتِى تَقَدَّمَتْ (﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِى سَبْقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (نَسَبَ الْمَشِيئَةَ إِلَيْهِ وَمَا رَدَّهَا إِلَى الْعِبَادِ فَأُولَئِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ يُرِدِ الْعَبْدُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ) فَجَعَلُوا مَشِيئَةَ الْعَبْدِ سَابِقَةً عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَىْ غَالِبَةً لَهَا (ثُمَّ قَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾) يَشْهَدُ لِمَا نَقُولُ (فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِى يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ إِلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْقُرْءَانَ رَكِيكًا ضَعِيفَ الْعِبَارَةِ وَالْقُرْءَانُ) فِى (أَعْلَى) دَرَجَاتِ (الْبَلاغَةِ لا يُوجَدُ فَوْقَهُ بَلاغَةٌ فَبَانَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمُ الْعَمِيقُ وَغَبَاوَتُهُمْ) أَىْ بَلادَةُ ذِهْنِهِمْ (الشَّدِيدَةُ وَ)كَمَا قَدَّمْنَا (عَلَى مُوجَبِ كَلامِهِمْ يَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِى يُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْهُدَى وَهَذَا عَكْسُ اللَّفْظِ الَّذِى أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَهَكَذَا كَانَ اللَّازِمُ عَلَى مُوجَبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ وَالْعَبْدُ الَّذِى يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ اللَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا وَ)حَمْلُ الآيَةِ عَلَى (هَذَا) الْمَعْنَى (تَحْرِيفٌ لِلْقُرْءَانِ لإِخْرَاجِهِ) بِذَلِكَ (عَنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ الْقُرْءَانَ عَلَى مُوجَبِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ) أَىِ الصَّحَابَةَ (يَفْهَمُونَ الْقُرْءَانَ عَلَى خِلافِ مَا تَفْهَمُهُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ) الْمُحَرِّفَةُ (اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) يَقُولُهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مِنْهُمْ بِلا نَكِيرٍ وَلا دَفْعٍ مِنْ أَحَدٍ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.
(82) أَىِ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْقَدَرِ الَّذِى يَرْجِعُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ فِى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »خَيْرِهِ وَشَرِّهِ« هُوَ الْمَقْدُورُ.
(83) أَىْ تَرَكَ الإِيمَانَ وَنَحَّاهُ عَنْهُ.
(85) الْقَدَرِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الشَّرِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ.
(86) أَىْ يُقَالُ لِلْقَدَرِىِّ هَلْ يَكُونُ خِلافَ مَا عَلِمَ اللَّهُ كَوْنَهُ فَإِنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَافَقَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنَّهُ
يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَشَاءُ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَشَاءُ خِلافَ مَا عَلِمَهُ وَإِلَّا لَآلَ الأَمْرُ إِلَى مَا
حَذَّرَ مِنْهُ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.
(87) عَدَّهَا الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ وَفَصَّلَ عَقَائِدَهَا فِى كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ.
(88) أَىْ سُفْيَانِ الثَّوْرِىِّ وَسُفْيَانِ بنِ عُيَيْنَةَ.